جاءت بعد نجوميته
جون بيتجمان 1906 - 1984

إبراهيم درويش

جون بيتجمان في مثل هذا اليوم 28 آب (أغسطس) ولد الشاعر الانكليزي المعروف جون بيتجمان، احب الشعراء لقلوب البريطانيين وليس أفضلهم، بل الشعر بالنسبة للشاعر الذي صار شاعرا وطنيا كان ثانويا، طغت عليه اهتمامات أخرى. وشعبية الشاعر لأنه ظل حاضرا في الحياة الانكليزية كمعلق وناقد للأفلام ومدافع قوي عن التراث الوطني من خلال حماية البنايات والبيوت القديمة، وبهذه المثابة كان بيتجمان اكثر شاعر يعرف بريطانيا في قراها ومدنها وبيوتها القديمة ومعمارها المتميز، يضاف إلى ذلك أن بيتجمان الذي تحتفل بريطانيا بمئوية ولادته كان قريبا من الناس ويرد علي رسائل المعجبين والمستفسرين بنفسه وهو عمل واظب علي القيام به حتى وفاته عام 1984، وكانت وصيته لكتاب سيرته التأكيد علي انه مجرد ظريف/نديم مارس هواية الترفيه عن الناس، وفكرة الترفيه والنجومية وان منحته إياها الوسائط الإعلامية، الراديو والتلفزيون فقد كشفت عنها سنوات دراسته في اوكسفورد، والتي لم يكمل فيها دراسته الجامعية عندما فشل في امتحان الدين الذي كان يدرسه الكاتب المعروف سي اس لويس، وفي واحدة من رسائله التي لم يبعثها للأديب المعروف افرغ مخزون حقده علي لويس حيث لم يكن يحب فيه شربه للبيرة الايرلندية وقسوة قلبه ، وبعد خروجه من أكسفورد مارس بيتجمان حياته ككاتب ومراجع للكتب وناقد للأفلام ومراسل لمجلة معمار تهدف للحفاظ علي التراث القومي البريطاني، وكان في قلب الحياة الاجتماعية بكل تنوعاتها، الارستقراطية والمتوسطة وعلي علاقة بالكثير من الرموز السياسية والثقافية التي شكلت الوعي البريطاني في فترة ما بين الحربين العالميتين وما بعد الحرب العالمية الثانية .

ولكن حياة بيتجمان التي كانت في مظهرها العام عامة، ساخرة، صاخبة، يحرص صاحبها علي اقتناء الكتب المطبوعة طباعة صقيلة والتي ظل يراكمها حتى وفاته حيث منحت بعد ذلك إلى جامعة اكستر التي تحتفظ بمكتبة بيتجمان، وخلف صورة الشاعر المرح، الظريف كانت هنالك قصة أخرى، عن القلق والرهاب والخوف من الموت، عن العلاقة المتوترة مع والده وشعوره بالذنب عندما رحل الأب عن الحياة، وقلقه من عدم اندماجه او تقبله من الطبقة الارستقراطية. كل هذه المخاوف طبعت مراحل حياته، فعندما كانت عائلته تعيش في شمال لندن عبر في أشعاره عن الأماكن التي عاش فيها والصداقات التي كونها والتي تقترح في بعض منها حبا للشباب، ووحدته كونه الابن الوحيد في العائلة جعلته يتحدث مع لعبته ارتشيبالد او حسبما كان يناديه بـ ارتشي وحضر في احدي قصصه التي كتبها للأطفال .
في مئوية بيتجمان هناك العديد من المناسبات التي ستعقد في أماكن مختلفة من البلاد، ولكن الحدث في طياته كان مناسبة لصدور العديد من الكتب والأفلام الوثائقية، خاصة تلك التي تتحدث عن علاقته المتوترة مع ابنه بول الذي يعيش في أمريكا وكان بيتجمان يناديه كما ينادي علي الحيوانات والجمادات ففي الانكليزية يفرض الخطاب بين هو للإنسان وهو للحيوان، وبيتجمان كان ينادي ابنه . كان بيتجمان شاعرا محافظا عبر عن هذا في شعره وحياته، ولكنه كان ظاهرة أدبية فعندما نشر مجموعته الشعرية أشعار مجموعة عن دار موراي عام 1958 أصبح ديوانه اكثر الكتب مبيعا، حيث عكس نجاح المجموعة نجاحا آخر حققته الدار الناشرة قبل مئة عام عندما تحولت أشعار لورد بايرون إلى ظاهرة شعرية في وقتها .

مظهر آخر من مظاهر الخيبة والقلق في حياة بيتجمان هي انه ينتمي لعائلة من أصل هولندي هاجرت إلى بريطانيا هربا من الاضطهاد الديني وكان والده يمثل الجيل الثالث من عائلة احترفت مهنة النجارة وصناعة الخزائن وعندما ولد جون طار والده من الفرح لاعتقاده ان تجارة العائلة أمنت بولادة جون ولكن الفرح تحول للخيبة عندما أدار جون ظهره لتجارة الأب وصناعة امتهنتها ثلاثة أجيال من آل بيتجمان وأبنائهم. وكان يتوقع ان يقوم بيتجمان بالتفرغ وإدارة أعمال العائلة بعد وفاة والده وهو ما لم يحدث. وتعكس رسائل بيتجمان التي نشرتها ابنته كانديدا لايست غرين، عام 1994 قلقا دائما للحصول علي المال، وما يميز ذكرياته عن والده هي الأيام التي كانت العائلة تقضيها علي الشاطئ في كرومويل والجولات التي كان يقوم بها مع والده الذي كان يدخن غليونه لمصنع العائلة او التجول في الغابات والأحراش القريبة من بيته. ولان والده كان يعاني من مشكلة ثقل في السمع كان بصره اقوي ويعتمد علي الإشارة لكي يشير إلى هذا البناء او ذاك مما فتح عين بيتجمان علي جماليات المعمار الكنسي والبيوتات الانكليزية القديمة. ولكن العلاقة توترت بين الأب والابن ولم يبق منها الا الحسرة والندامة، بعد ان أيقن الوالد ان ابنه الجيل الرابع لن يحمي تجارة وصناعة العائلة المتوارثة. كتابات بيتجمان بيعت بالملايين ووصلت قراء لم يكونوا يحفلون بالشعر المعاصر. وسبب شهرة بيتجمان انه كتب الشعر في إطاره التقليدي الموزون وكتب عن انكلترا التي يحبها ابن الشارع البسيط، حيث برزت انكلترا في شعره في إطار نوستالجي، عاطفية ومليئة بالكآبة والقنوط، وزواج هذا الحب لانكلترا العادية، او انكلترا المحافظة بحسه الحماسي الكبير للأبنية وحفظ التراث القومي، وجهد دائب للكتابة، فما يطبع بتيجمان هو انه ظل يكتب ويراجع، وظل مسكونا بهاجس المثقف وليس بحس الشعر، وهذا الهم هو ما كان يجعله حاضرا في كل فرصة تلوح له للتعليق او المداخلة، وكم كان يفخر بظهوره علي التلفزيون، ومن هنا يعتقد ان ما أدى إلى تراجع حالته الصحية بعد إصابته بمرض الباركنسون، هو إفراطه الشديد في البحث عن مناسبة لكي يظهر فيها علي التلفزيون. في أواخر عمره، وبعد ان فقد القدرة علي المشي، ودهمه المرض والوحدة والشيخوخة، عاد إليه رهابه القديم، الخوف من الموت، وعقد الطفولة والوحدة، ففي عام 1958 اسر لأحد أصدقائه قائلا لا شيء يخيفني اكثر من التفكير بالموت .

كان عمره 52 عاما وعاش بعدها 25 عاما أخرى، الا ان بيتجمان كما يقول معلق غرف من الحياة علي اتساعها وعندما ظهر الضوء الأحمر شعر بالخوف والرهاب وهاجس النهاية. ودارسو حياته وما أكثرهم، خاصة بفيس هيللير الذي قضي اكثر من ربع قرن وهو يدرس وينقب في رسائل ومقالات وأشعار بيتجمان، واصدر أول كتاب في ثلاثيته عام 1984 بيتجمان الشاب ، وكتاب جون بيتجمان: شهرة جديدة، حب جديد عام 2004، يعتقدون ان الفترة ما بين عام 1933 ـ 1958 هي الفترة التي أصبح فيها بيتجمان وعلي حد تعبير الشاعر لاركين بيتجمان . كان الشاعر، في حياته موزعا بين الإيمان والإثم، فهو ملتزم بشكل كبير بدينه المسيحي الا انه كان زير نساء، وفي الجزء الثاني من كتاب بفيس يتحدث عام 1933 عندما كانت زوجة الشاعر بينلوب تشتوود في ألمانيا وكيف انه أقام علاقة مع سيدة احضرها لسيدة كانت تساعده في عمل البيت، ومنذ هذه الفترة وحتى النهاية كان بيتجمان أسير حبه للنساء، ويبدو ان الشاعر كان كما تحدث في احدي قصائده عن ناد للتنس، كان يبحث عن الأشياء الممتلئة، الصلبة، الواقفة، مثل بناية، امرأة جميلة ذات جسد صلب يقول أتحسس بأصابعي داخل ثيابك.. تتفاعلين مع لمساتي.. وربما شعرت بنفس الشيء . وتظهر النساء في شعره، لاعبات تنس، مجدفات في قارب، ممرضات نصف قديسات او المرأة العادية التي لقيها في غرفة للشاي في مدينة باث. بعد ان ترك اوكسفورد عمل في مدرسة إعدادية، حيث وجد فرصة لإغراء احدي طالباته كاميلا راسل والتي منعها والدها من الاحتكاك به بعد ان أعطاها بيتجمان رواية بعنوان أولاد ، ولكن عمله في التدريس انتهي بعد ان انضم لمجلة مراجعات في المعمار .
ومع حبه للنساء، كان بيتجمان يبحث عن الأسماء اللامعة، الأسماء القريبة من الارستقراطية، خاصة انه كان يشعر بنوع من الدونية أمام أي شخص كان يحمل لقب لورد وغير ذلك. لكن بيتجمان لم يكن قادرا علي الوصول إلى أصحاب الذوات العليا والي النساء الراقيات بدون سلطته وقدرته علي الإمتاع والإثارة، ولهذا السبب استطاع بيتجمان كما تشير السيرة الذاتية الجديدة التي صدرت في مئويته من تأليف أي ان ويلسون بيتجمان ان يعيش حياة مزدوجة بين رجل البيت المتزوج، وبين الأعزب الحر في علاقاته مع النساء، والراهب المتوحد مع دينه وأدبه. وقد أثرت هذه الحياة في تنوعاتها وتداعياتها علي شعره الذي لم يرق في معظمه للشعر العظيم، فقد كان الشعر منحة من المنح التي حملها الشاعر الا ان ظرفه وحضوره واهتماماته كانت اكبر من الشعر وهمومه. وكمثال عن هذا الانفصام الذي كان يعيشه، فهو من جهة كان يحب زوجته بينلوب ويحب في نفس الوقت عشيقته اليزابيث كافنديش، ابنة دوق ديفونشاير، ووصيفة الأميرة مارغريت، وظل موزعا بينهما فقد كتب عام 1973 في هذه العاصفة من الألم الرهيب ، فان الشيء الوحيد الذي أتمسك به هو حبي لبنيلوب وحبي لاليزابيث ..

ملمح آخر، من حياة بيتجمان انه عمل كسكرتير صحافي في مكتب الملحق البريطاني في ايرلندا، وبحسب بعض التقارير، كان الجيش الايرلندي الحر قد وضعه علي قائمة الشخصيات البريطانية للتصفية باعتباره جاسوسا، ولكن عندما اكتشفت الجماعة انه شاعر، تركته. وهناك تقارير تتحدث عن انه كان جاسوسا كتب تقارير عن نشاطات الايرلنديين. وفي هذا نوع من السخرية، فعندما كان صبيا في المدرسة اتهم بيتجمان بأنه عميل للألمان لان اسمه الالماني يشي بأصوله، ولهذا قرر بيتجمان حذف نون من اثنتين كانتا في آخر اسمه، ومنح نفسه هوية انكليزية .

نشر بيتجمان العديد من الأعمال الأولى قبل أعماله المجموعة الأشهر عام 1958، ففي عام 1937 نشر مجموعة ندي مستمر ولم تحظ باهتمام ما، كما نشر مجموعة أخرى بعنوان جبل صهيون وغيرها من الأعمال. وصار عام 1972 الشاعر الوطني بعد وفاة جون ماسفيلد. تحتفل بريطانيا إذا بشاعرها المحبوب، وتتساءل ان بقي من شعره والآثار التي خلدها، عن لندن التي دافع عنها الكثير.. لكن ما يثير في حياة الشاعر التي جاءت سيرة هيللر في اكثر من ألفي صفحة مع رسائله ومقالته هو انه عاش في خداع النجومية وآمن بها وعندما بدأت الأضواء تختفي او تعتم حوله بدأ يشعر بالوحدة وعادت إليه المخاوف والشياطين القديمة. من الكتب التي صدرت في احتفالية جون بيتجمان كتاب أي ان ويلسون بيتجمان الصادر عن دار هتشنسون، وسيرة مختصرة للأجزاء الثلاثة التي أعدها بيفس هيللر وتحت عنوان جديد جون بيتجمان: السيرة الذاتية الصادرة عن دار موراي. وطبعة جديدة من ديوانه الذي تحول لظاهرة وباع اكثر من مليوني نسخة أشعار مجموعة وبمقدمة كتبها الشاعر الوطني اندرو موشين. كما صدرت بهذه المناسبة مجموعة من أحاديث بيتجمان في إذاعة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) قطارات وخبز محمص بالزبدة ، و كتاب جون بيتجمان في القطارات حرره جوناثان غلانسي، حيث يقدم مجموعة من تقارير كتبها بيتجمان في القطارات وهو يوثق للحياة والمعمار والفضاء الانكليزي، إضافة لطبعة جديدة من رسائل بيتجمان رسائل 1926 ـ 1951 ، والجزء الثاني رسائل 1951 ـ 1984 وهي التي حررتها ابنة بيتجمان، كانديدا لايست غرين. وتعتبر رسائل بيتجمان إضافة للسيرة المفصلة التي كتبها هيللر من مصادر دراسة حياة الشاعر المهمة، مع ان هيللر الذي كرس حياته لكتابة سيرة الشاعر بناء علي طلب الأخير لم يكن معنيا بتقديم دراسة عن شعر الشاعر ونقده، بل البحث في كتابات ورسائل وذكريات معاصريه ولهذا راكم كمية من المعلومات في بيتجمان الشاب 1984، جون بيتجمان: شهرة جديدة، حب جديد (2003)، جون بيتجمان: ضحك زائد (2005 ( .

القدس العربي
2006/08/28