ترجمة وتقديم: خالد الريسوني
(المغرب)

شاعر من الجيل الخمسيني
يتفق عدد كبير من نقاد الشعر الإسباني أن أهم شاعر إسباني خلال النصف الثاني من القرن الماضي هو خوسيه أنخيل بالينطي لتميز صوته الشعري بالعمق والشفافية في مساءلة الذات والوجود والأشياء، هذا بالإضافة إلى افتتانه باللغة في مختلف أبعادها وتجلياتها، فأعماله الشعرية فتحت أفقا جديدا لإضاءة الأسئلة الجوهرية للشعر كممارسة إبداعية منفلتة وكصراع مفتوح على سديم الكينونة اللامتناهي؛ إن رحلة بالينطي الشعرية التحمت في بداياتها بعنفوان لهب اكتوى به جيل بكامله، جيل صعقته الحرب الأهلية وجردته من معنى إنساني شفيف هو براءة الطفولة، فجيل بالينطي الشعري هو جيل أطفال الحرب الأهلية من الجماعة الشعرية الخمسينية التي ضمت شعراء أساسيين في المشهد الشعري الإسباني المعاصر وهم: أنخيل كريسبو، كارلوس بارال، خوسيه أغوسطين غويتيصولو، خايمي خيل دي بيدما، خوسيه مانويل كباييرو بونالد، أنخيل غونثاليث، أنخيل بالينطي، ألفونصو كوسطافريدا، كلاوديو رودريغيث وفرانسيسكو برينيس. إن هذه الجماعة من الشعراء وعيا منها بالجرائم التي ارتكبت بحق الشعب الإسباني وبحق نخبته من المثقفين المتنورين قررت أن تعلن من كوليور بمناسبة الذكرى العشرين لوفاة الشاعر الإسباني أنطونيو ماشادو فتح جبهة للمقاومة وللصراع مع النظام الديكتاتوري الفرنكوي. ففي افتتاح أعمال المؤتمر الذي عقدته مؤسسة كاباييرو بونالد سنة 1999 بمدينة شريش، وتحت شعار»جماعة الشعراء الخمسينيين بعد مضي خمسين عاما »صرح أحد أبرز الوجوه الشعرية لهذه الجماعة ويتعلق الأمر بخوسيه مانويل كاباييرو بونالد: »من الأشياء غير القابلة للدحض أن العامل الأول في صهر جماعة الشعراء الخمسينيين هو النظام السياسي أو بالأحرى الأخلاقي، وهذا ما يتلاشى الآن مع انصرام الزمن، لكني أكرر الآن ما قلته. فالعمل ضد النظام الفرنكوي في مرات عدة كان عامل ربط جماعي أساسي والذريعة الجماعية الأخرى كانت أيضا دار النشر »سيكس بارال« التي انطلقت حينها في عملها، على الأقل خلال ذلك العقد( أي من 1955 إلى 1965) والذي يؤشر الى فترة الإذعان لذلك التحالف بين السياسة والأدب والذي قلما كان مخصبا، ومنذ ذلك الحين بدأت الواقعية الاجتماعية أو الواقعية النقدية تدخل فترة انحطاطها ثم ماتت موتا طبيعيا، وهو ما يحدث في كل حين مع أي تيار أدبي إذ يخبو ليفسح المجال لتيار آخر يكون له من الناحية المنطقية تفاعل مع الدينامية التاريخية، ومن الواضح أيضا تأثير التعب واليأس والإخفاق السياسي والانتصارية المفرطة وظهور أزمة جماعية أتت كتحصيل لسلسلة من الأزمات الفردية. والواقع أن هذه الفكرة المثالية الجميلة المتمثلة في رغبة تغيير المجتمع والحياة والتاريخ عبر الشعر المقاتل، كانت فكرة مغتربة بين أشياء أخرى لأنه قد يبدو ساذجا للغاية الحديث عن فعالية الشعر- الذي لا يتجاوز سحب الكتاب منه ألف نسخة- اجتماعيا، هذا بالإضافة إلى أن جميع المنتسبين لجماعة الشعراء الخمسينيين يدافعون بصفاء عن الشعر كمعطى لساني ينقل المعرفة قبل اعتباره أداة للتواصل، أي أن الأمور لم تكن تشتغل دائما بشكل تبسيطي أو دونما لبس.

إن هذه الجماعة الشعرية بدأت مشوارها أكثر انفتاحا كجيل شعري لكنها ستتقلص إلى جماعة صغيرة ومنسجمة لا تتجاوز العشرة إذ ستتلاشى أسماء وتلتحق أخرى ومن بين الذين سيلتحقون فرادى فيما بعد كارلوس ساهاغون وكارلوس بوسونيو ومانويل بادورنو وإينريكي بادوسا ولورينثو غوميس...وغيرهم، أما خوسيه أنخيل بالينطي فرغم انتمائه للجماعة الصغيرة إلا أنه كان دائما يردد بإصرار وبروح نقدية صارمة:» يولد الكاتب حينما تنقرض الجماعة« ولذلك ستكون مشاكساته للجماعة الصغيرة بل وجلده بقساوة لها وإقصائه لبعض أعضائها الأساسيين من الأنطولوجيا الشعرية الشهيرة للنصف الثاني للقرن العشرين المعنونة »الجزر الغريبة«

موضع جدل وانتقاد من باقي الشعراء الحاقدين عليه خصوصا بعد موته، بل إن الشاعر أنطونيو غامونيدا أحد أعز أصدقاء بالينطي بعد التذكير بعمق تجربة الشاعر، تأسف كثيرا لهذه الصراحة الجارحة والعنيفة التي كان ينتقد بها مجايليه من جماعة الشعراء الخمسينيين وعملية تصفية الحساب التي مارسها ضده هؤلاء بعد موته، يقول غامونيدا:» تذكر خوسيه أنخيل بالينطي بالنسبة لي ممارسة ذات وقع حزين جدا في نفسي، وبشكل معكوس، فبعد موته ولتلطيخ الاعتراف الواسع بقامته الشعرية ينبغي أن أنبه إلى بعض التحفظات الحاقدة التي سببتها على مايبدو أساليب وتوجهات آرائه المتعلقة بشعراء آخرين. ربما كان سيصير مريحا أكثر بعد موته لو أنه ادخر تلك الآراء لنفسه، ربما كانت في حالات معينة مفرطة وإن يحتمل أنها مصيبة، فالمؤكد أن التعبيرات الانتقامية لمابعد الموت ووفرتها النسبية تحولت إلى خمار عديم الذوق بل يمكن تصنيفها ضمن البؤس الذاتي لعالم الأدب« ولعل بالينطي كان قاسيا جدا مع الجماعة التي انتسب إليها في بداياته الشعرية وخصوصا بعض الوجوه الشعرية الإسبانية كأنخيل غونثاليث وخوسيه ييرو اللذين أقصاهما من تلك الأنطولوجيا الشعرية الاسبانية التي كلف بإنجازها من طرف جامعة قلعة ييناريس بصحبة ثلاثة شعراء تربطه بهم علاقة صداقة وثيقة وتأثير المعلم الواضح وهم الإسباني أندريث سانشيث روباينا والبيروفية بلانكا باريلا والأوروغوايي إدواردو ميلان وهي الأنطولوجيا التي أثارت جدلا حادا في أوساط الشعراء الاسبانيين لما صدرت سنة ٢٠٠٢ سنتان بعد موت خوسيه أنخيل بالينطي وأهمية هذه الأنطولوجيا تكمن في كونها تعتبر حسب العديد من النقاد تجميعا لحصيلة نصف القرن الأخير من الشعر الاسباني.

من هو خوسيه أنخيل بالينطي
شاعر وباحث وأستاذ جامعي، ولد بـ أورينسي (جليقية) سنة 1929 بدأ دراسته القانونية بجامعة سانتياغو كومبوسطيلا، انتقل لاحقا إلى مدريد حيث حصل على الإجازة بميزة تقديرية في شعبة الآداب الرومانية سنة 1954 وفي السنة التالية سيغادر إسبانيا وخلال سنوات عديدة سيلقي محاضراته في اللغة والآداب الإسبانية بجامعة أوكسفورد التي سبق وأن نال فيها شهادة الماجستير في الفن، ومنذ 1958 سيقيم في جنيف حيث سيشتغل كمدرس ثم كموظف دولي في هيئة الأمم المتحدة، مابين سنتي 1982 و1985 سينتقل للعيش في باريس حيث سيدير قسم الترجمة الإسبانية في هيئة اليونيسكو. وفي 1986 سيستقر بألميرية وهي الإقامة التي زاوجها مع إقامتيه السابقتين بجنيف وباريس، لقد استمر بالينطي دائما على ارتباط بالتدريس،يلقي محاضراته كأستاذ زائر في عدد من الجامعات مثل جامعة إرفين بكاليفورنيا وغيرها.
لقد عاش بالينطي تجربة المنفى القسري في سنة 1972 في آخر سنوات النظام الفرنكوي، فقد خضع لمحاكمة غيابية من طرف المجلس الحربي بعد اتهامه بقذف وإهانة طبقة معينة من الجيش في مجموعته القصصية »رقم13« التي صودرت و تم تقديم الناشر إلى المحاكمة بنفس التهمة، وبما أن أنخيل بالينطي كان مستقرا خارج إسبانيا فقد تحمل كتابة مسؤولية نشر الكتاب لإعفاء ناشره من مسؤولية المساءلة القضائية. لقد أصدر بالينطي على امتداد سنوات عمره عدة دواوين شعرية أهمها:

- في صيغة أمل 1954
- قصائد لاثارو 1960
- الذاكرة والعلامات 1966
- سبع تمثلات 1967
- صوت طفيف 1968
- البريء 1970
- سبع وثلاثون شذرة 1971
- باطن بأشكال 1976

وهي الأعمال التي جمعت تحت عنوان » نقطة الصفر«
و:
- مادة الذاكرة 1979
- خمسة دروس للضباب 1980
- الهالة 1982
- لمعان 1974
- إلى رب المكان 1989
- لا يستيقظ المغني 1992

وهي الأعمال التي جمعت تحت عنوان »مادة الذاكرة« وآخر عمل أصدره بالينطي هو »شذرات من كتاب آت« الذي نشر بعد موت الشاعر.

المسار الشعري لبالينطي وكتاب الشذرات
لعل أهم خاصية ميزت التجربة الشعرية لخوسيه أنخيل بالينطي في مجمل أعماله هو ذلك العمق الصوفي الذي كان يتجه نحو الانسداد، لأن التجربة الوجودية للذات كلما اتسع أفقها كلما وجد الشاعر ذاته أمام هول اللغة وفداحة الصمت وفجيعة البياض الذي يمتد ويغدو مستحيل الاختراق، فتغدو الكلمات رمادا متناثرا أو حروفا متوترة السؤال عن امتدادات القلق الشعري وعن الكثافة اللغوية وحدود اللغة والفكر، وسؤال الشعر السرمدي عن الوجود والعدم ولحظات انفلاته كفوضى فاتنة باعتباره الأفق الفكري للذات المسكونة بالظلال وبالتماعات الزمن المتناثر في حضن الغيابات القاسية، فالزمن يشعل مسافات المستحيل ويلغي الآتي بل إنه أحيانا يعمق الشرخ بين أجراس الفناء كأجراس للمطلق وبين لذة المحسوسات كإيقاع متواصل لليومي في رحلتنا باتجاه هذه الصيرورة إلى عدم، يقول بالينطي في إحدى قصائده الأولى التي تعود بنا إلى بداياته، القصيدة التي تتصدر أعماله الكاملة والمعنونة بـ»ستغدو رمادا«:

»أعبر الفلاة ووحشتها
السرية اللاتسمى.
يحمل
القلب يبس الحجر
والانفجارات الليلية
لهيولاه ولعدمه.
مع ذلك ثمة ضوء ناء،
وأعلم أني لست وحيدا
وإن بعد هذا وذاك لن يوجد
تفكير وحيد
قادر على مواجهة الموت،
فلست وحيدا.
ألامس في الأخير هذه اليد التي تقاسمني الحياة
وفيها أثبت ذاتي
وأتحسس كم أحب،
أرفعها نحو السماء
وإن كانت رمادا أعلنها: رماد.
وإن كانت رمادا فلكَم أملك حتى الآن،
لكم مدت لي في صيغة أمل «

فالذات في رحلتها القصيرة ترسم بالحبر السري ذاكرتها وملامحها، امتداداتها وآثارها خوفا من هذا الغياب المحتوم وهذا النسيان الذي يمحو اللحظات ويموه على الظلال والوجوه والشهود ليمنح الذاكرة أسرار غيابها أو هذيانها، انطفاءها أو تلاشيها أو حتى بياضها واستحالتها ضمن لعبة الانكشاف والإخفاء، لعبة الكتابة والصمت، يقول بالينطي:

لربما كان يجب علينا
أن نعيد في أناة كتابة
حيواتنا
أن نجري عليها تحويرات
في الامتداد والتأريخ،
أن نمحو عن وجوهنا كل خبر
عن ذواتنا
في الألبوم الأمومي.
كان يجب علينا أن نترك
شهودا مزيفين
ظلالا مموهة
آثارا مهشمة
شهادات تعميد غير محررة
أو في كل ذاكرة
نافذة مشرعة،
إطارا فارغا، خلفية
بيضاء لامحالة لأجل اللعبة اللامتناهية
لكشاف الظلال
لا شيء.
الممكن، لاشيء.

سوف يقطع بالينطي مسارات عميقة سوف تصل قمة فرادتها في محاورة الوجود والزمن والموت بعد وفاة ابنه ثم مع صراعه المرير مع الموت بعد استفحال الداء وهي التجربة التي أنتجت ديوان »شذرات من كتاب آت« الكتاب الذي رافق الشاعر في آخر محطات حياته، فبناؤه ككتاب تعمد الشاعر أن يجعله على شكل يوميات أو مشروع كتاب أو كما قال بالينطي نفسه »هو كتاب مفتوح ستكون نهايته مع أفول الحياة ذاتها« فعناوين القصائد وضعت في آخر النصوص وبين قوسين كما لو كانت تحمل معاني الريبة، بل إن الكتاب يعمق الإحساس بالأفول وبالنهاية والموت، فكلمة خريف تعتبر من الكلمات المفاتيح في هذا العمل الشعري الذي يسافر في فضاء فلسفة ميتافيزيقية ووجودية عميقة وكثيفة تستعير من التصوف الشرقي والغربي مختلف مفاهيمه ومعانيه الروحية وقد خص الكاتب الإسباني خوان غويتيصولو هذا العمل بقراءة متميزة نجتزئ منها هذه الفقرات التي يقول فيها عن بالينطي:

» في شذرات من كتاب آت ـ المنتهي فقط بانتهاء حياته ـ لايزال بالينطي يحملنا نحو الأبعد: نحو لاجدوى »البكاء على ما ضاع، حينما لاتخلف القدم أثرا على الرمال التي لن يمحوها التعاقب الثابت للمياه« في مواجهة يقين »السقوط عموديا« من »الحلم اللانهائي للسقوط« فقط بالإمكان أن نسجل الابتعاد التدريجي وغير القابل للتلافي عن الأشياء والكائنات، عن الارتباطات الأكثر ضآلة أكثر من قبل مع الواقع الذي يتضاءل ويغدو شفيفا إلى حد أن لامرئيا، مثل سيفيرو صاردوي في عمله الخالد: »انفجار الفراغ« (الباييس14/08/93) فبالينطي يحضر بلا شكوى مسار خرابه الجسدي ـ الطريق القاسي نحو العزلة والصمت والتلاشي ـ مشكلا قصائد قصيرة وكثيفة في الآن ذاته والتي يصل لهبها واشتعالها إلى أقاصي النور الشعري«.

ويخلص غويتيصولو إلى أن » قراءة بالينطي تحثنا على إعادة قراءة سان خوان دي لا كروث وهذه الأخيرة على إعادة قراءة بالينطي. فحدود اللغة الشعرية هي حدود الصمت، بل إن القدر المحتوم للصعود لا يثبط عزيمة سيزيف، هل سيحمل الشاعر أبدا الصخرة اللعينة؟ أينطفئ الشعر كما يخبو وجود وصوت من يكتبه؟ نور غير مجد يرافقنا إلى الهوة. أنا أرى ذاتي في بالينطي و» بعد الخبطة القاسية للحظ« سوف يكون هو من يراني، هكذا أعيد مسبقا أبياته في عدم استقرار أيامي:

دع كلماتك تهرب
حررها منك
واعبر في أناة
بلا ذاكرة وأعمى،
تحت القوس المذهب
الذي يمده الخريف الفسيح في الأعلى
احتفاء بالظلال بعد الموت

(قوس نصر)

رحل الشاعر وأزهرت القصائد: قصائد هذا الكتاب المضيء بأحرفه اللماعة، كما أزهرت قصائد أصدقاء الشاعر الذين رثوا غيابه المفجع بكلمات تعبق حبا ووفاء وألما، فقد كتب برنار نويل قصيدة طويلة يقول في أحد مقاطعها:

»رماد وماذا يكون غبارك
كدِّر لذة الحياة
فنحن نكسر الشكوى
إذ نحني أعناقنا
الآن فضلة هي الصداقة
والزمان الذي غدا مرا«

لقد غدا الزمان مرا في غياب الشعراء ومع كل غياب نعيد بصيغة ما سؤال بالينطي وبعض قلقه الكبير حينما في إحدى شذراته، تلك المعنونة بـ»غياب« قال:
»هذا الحلم الذي انتهيت من رؤيته والذي في حافته الدقيقة صرت لامرئيا،
يتاخم العدم .«
أو حينما يصف احتضاره الطويل بآلامه وأسئلته الميتافيزيقية في شذرة أخرى فيقول:

»صارت العزلة آهلة بأشباح من ورق وقش ، بصور لا أحد،
بصفائح معدنية، بصفحات عارية حيث لا شيء قد كُتِبَ. يدمر
البرد الذاكرة وبعدها نبدأ لا وجودنا، البرد الذي ينحدر

من الجهة الأكثر شؤما من الليل حيث يبدأ التلاشي ولا نستطيع
تذكر حتى من أحببناه . أسأل: أين أنت؟ لكن أنا نفسي لست أدري
من يستطيع أن يجيب. أطرق كل الأبواب. الباب الوحيدة التي تنفتح
هي الوحيدة التي لا تعرف الصفح«.

نزوى- 44