هدية حسين

لميعة عباس عمارةنحن لا نمتلك بالتأكيد آلة الزمن، وهي ليست حقيقية، إنها مجرد حلم داعب وما يزال يداعب رؤوس الفنانين والحالمين، واستفادت السينما من فكرتها فرسمتها على شكل آلة دائرية أو أسطوانية معقدة التركيب، نادراً ما تذهب إلى الماضي، وغالباً ما تنطلق إلى المستقبل، ويحاول المخرج من خلالها إقناعنا بكثير من المبالغة بما كان عليه العالم أو بما سيكون عليه.

لكن الأدباء، والناس بشكل عام، يستعيرون فكرة تلك الآلة ليس بشكلها الذي رأيناه في السينما، وإنما على شكل استرجاعات تسطع بها المخيلة، فيهربون إلى الماضي ليحموا أنفسهم من أنياب الحاضر، أو ليستذكروا أياماً عزيزة على النفس لعلها تسقي واحة العمر التي أوشكت على الجفاف.

الذكريات إذن هي آلتنا، وها أنا أمتطي صهوتها وأعود لأيام لها طعم الأحلام الجميلة، وأحط في الإعدادية المركزية للبنات في شارع الجمهورية وسط بغداد.
كان صباحاً خريفياً، والسنة الدراسية في أيامها الأولى.. أخبرتنا مدرّسة اللغة العربية التي نعرفها من السنة الماضية، أن مدرّسة جديدة ستحل محلها، ولأننا نحب مدرّستنا فقد حدث هرج واحتجاج ، حاولت تهدئتنا بأنها ستأخذ حصة درس الدين، لكننا لم نهدأ لأن هذه الحصة تدرَّس مرة واحدة في الأسبوع، وهذا يعني أننا سنُحرم من مدرستنا المحبوبة خمسة أيام أسبوعياً.

اقترحت إحدى الطالبات أن يكون الدين من حصة المدرّسة الجديدة، لكن مدرّستنا قالت إننا نطلب المستحيل، لأن المدرّسة الجديدة صابئية، وبذلك أُسقط في يدنا.. وقررت أكثر من طالبة بأنها ستطفش المدرّسة الجديدة، ليس بسبب اختلاف الدين طبعاً، وإنما بسبب تعلُّقنا بمدرّستنا.

في صباح اليوم التالي، ساد بيننا وجوم وحزن، وبعد دقائق أطلّت المدرسة الجديدة.. امرأة فارعة الطول، واسعة العينين، أنيقة بشكل مفرط.. ألقت تحية الصباح وراحت تتحدث إلينا..كان لها صوت ساحر، تتحرك برقة وتتكلم بعذوبة.. لم تُحْدث طوال وقت الدرس أية جلبة، بل كنا منصتات بشكل عجيب ومأخوذات بهذه المرأة.. طرحت علينا طريقتها في التدريس التي لا تشبه أية طريقة عرفناها، فأخبرتنا أن درس الإنشاء سيكون كتابة بحوث عن الأدباء والمفكرين طيلة النصف الأول من العام الدراسي لكي يتسنى لنا تقوية ملكتنا اللغوية.. وحينما أعلن الجرس نهاية الدرس قالت: اسمي لميعة عباس عمارة.
وما إن خرجت، حتى رحنا ننظر إلى بعضنا بعضاً إعجاباً بهذه الشخصية التي سحرتنا، والتي أصبحت في ما بعد مثلنا الأعلى في كل شيء، بل بتنا نقلد طريقتها في الحكي، ونتسابق لإبراز أفضل ما لدينا.
كنت الوحيدة في ذلك الوقت التي عقدت معها صداقة امتدت إلى ما بعد الثانوية بسنوات طويلة لم يقطعها سوى تغرب الشاعرة.. كانت تدعوني إلى بيتها وتقرأ على مسامعي الشعر وتحدّثني عن قصص الشعراء وتستمع إلى قصائدي.. وكان لتشجيعها لي ما دفعني للمشاركة في مسابقة الشعر التي أقامتها وزارة التربية لثانويات بغداد من البنين والبنات، ففزت بالجائزة الأولى.
أتذكر بيتها المرتَّب بكل تفاصيله وأركانه وحديقته الغناء، وتلك الزاوية التي أعدتها ابنتها طيبة تحت الدرج، وخصصتها لصور أمها وقصائدها، وأطلقت عليها الزاوية الخالية ، وهو اسم المجموعة الأولى للشاعرة.. لا أدري كيف هي الآن، هل ما يزال الشعر ينبض في جنباتها، أم إنها شاخت حزناً على فراق صاحبته؟ وكيف هي شجرة التين وأزهار الجوري والرازقي، أم تراها ذبلت ولم يعد من أثر لها؟.

@@@

هذه المرأة الصابئية، هي التي جعلتنا نبحث عن الجمل المفيدة ونستخرجها من القرآن، وليس على طريقة: ذهب فلان وجاء فلان، واشتريت كذا وكذا.
كانت تقول: اقرأوا قرآنكم وتعلموا منه، واقرأوا نهج البلاغة وتعلموا كيف تُكتب الجملة وكيف تُقرأ.

أسترجع تلك الأيام الممزوجة بتطلعاتنا نحو مستقبل كنا نظن أننا نحدد شكله ونبنيه بالشعر والتجارب العاطفية المتوهجة، وبمثلنا العليا التي لا نراها على شاشة السينما، وإنما داخل أسوار المدرسة.

لميعة عباس عمارة ليست شاعرة مثل كثير من الشاعرات، وليست مدرّسة تتقيد بمنهاج معدٍّ سلفاً قد لا يرضي طموحنا ولا يلبي رغباتنا، إنها المرأة التي فتحت عيوننا على حياة أوسع من صفحات الكتب، وجعلتنا نعشق الشعر ونقرؤه بإحساس مختلف، إحساس من فتح قلبه للحياة وتأمل سرّ جمالها.

كانت تكتب القصيدة على اللوح لنقرأها، ثم حين تطلب قراءتها ثانية فإنها تقوم بحذف الشطر الثاني من البيت قبل أن تقع العين عليه لكي تمرّن ذاكرتنا على الحفظ.
أهدتني ديوانها أغاني عشتار ، وكتبت عليه إذا قُدّر لك أن تكوني شاعرة معروفة فليرحمك الله ولتكوني أحسن حظاً من مدرّستك ، ويومها استغربت وتساءلت: كيف يمكن لهذه المرأة الشاعرة الجميلة المعشوقة الأنيقة أن تكون غير محظوظة؟.
كلٌّ منا، نحن الطالبات، كانت تتمنى أن تكون مثل لميعة عباس عمارة، برقتها وشاعريتها وشخصيتها القوية، لكن لم يتوفر لأية واحدة منا أن تكونها.

@@@

لميعة عباس عمارة تكتب الشعر الشعبي بالرقة نفسها التي تكتب فيها الشعر الفصيح، ولها مجموعة في ذلك، غنى لها المطرب فاضل عواد أغنية أشتاق إلك يا نهر لخصت فيها حنينها لنهر دجلة.. وغنى لها سعدون جابر أرقّ كلمات الغزل.

@@@

طُلب منها المقارنة بين شعرها وشعر ابن خالها عبد الرزاق عبد الواحد فقالت: هو أقوى وأجزل، وأنا أرق وأغزل.

لم تتسلم وسام الأرز الذي مُنح لها، فقد كانت الحرب الأهلية في لبنان قائمة فقالت:

على أي صدر أحط الوسام
ولبنان جرح بقلبي ينام؟ .

@@@

دعتني مرة إلى بيت ابنها زكي، وكانت في زيارة لبغداد، وأعدّت وجبة نباتية لم أعرفها من قبل ولا أتذكر ما اسم ذلك النبات الذي يشبه الزهرة ذات الرؤوس الإبرية، التقطتْ إحدى الزهرات بالملعقة وأصرت على أن تطعمني بيدها، قالت إنه مفيد لخلايا البشرة، فابتلعته وكدت أغص، لكنني لم أُشعرها بذلك خجلاً منها.

في الملتقى الذي دعتني إليه العام الماضي الأديبة كوليت خوري، كان من المقرر أن تحضر لميعة عباس عمارة، وكان قد مر ثمانية عشر عاماً على آخر لقاء بيننا، فقررت أن أقدم عنها هذه الحزمة من الذكريات، غير أنها بعثت برسالة اعتذار بعد أن كانت تعد العدة للسفر.. قالت في الرسالة: في طفولتي كنت ممنوعة من السفر بسبب الفقر.. وفي شبابي مُنعت من السفر بأمر الحكومة.. وأنا ممنوعة الآن من السفر بأمر الطبيب .

@@@

كانت ذات مرة على موعد مع الشاعر نزار قباني، وحين حضرتْ قالت له: جاءتك ثلاث مراهقات ، كانت تقصد أن عمرها في ذلك الوقت يساوي عمر ثلاث مراهقات، لكن الشاعر راح يتلفت من حوله.

@@@

أيتها الجميلة، يا أميرة العشق والعذوبة، يا نخلة العراق السامقة، الحاضرة في الغياب، ستبقى زاويتك خالية حتى تعودي مثل عودة الربيع تغنين لبغداد أغاني عشتار بنكهة عراقية ، وهذه المرة سينبئك العراف بأن تلميذة من تلميذاتك، ورغم البعد الأخير ، ما تزال تشعر بالدفء كلما تذكرتك وأنت على هذا البعد الشاسع وبرودة سان دييغو.

(التعابير بين الأقواس في الفقرة الأخيرة عناوين مجموعات للشاعرة)

الرأي
1 ايار 2009