أحمد عبدالعزيز
( موسكو)

(1)

أحمد عبدالعزيزحين تفاجئنا الكتابة عن شخص رحل دون سابق إنذار-بجسده فقط- عنا، لا نستطيع القيام بهذه المهمة الصعبة بمعزل عن الآخرين. الآخرون-المعاصرون له، والذين ارتبطوا معه بعلاقات حميمة. في هذه الحالة تأتي الكتابة-ربما-على شكل شهادات أو ذكريات، وربما استطعنا العثور على صاحبنا الراحل في دفاتر يوميات ومذكرات الآخرين، هؤلاء الذين أحبوه. وبالذات الذين أحبوه، لأننا أحوج من أي زمن مضى إلى "الحُب" بعد أن استغرقنا فغرقنا في استخدام أدوات التفضيل، وتضخم الذات، والأنانية المفرطة، والاستعلاء المجَّاني-الناتج عن الإحساس بالدونية-بالسطو على الآخرين وعلى أنفسنا.

كانت دائرة معارف فلاديمير مايكوفسكي وأصدقائه واسعة بشكل يثير الدهشة. والأسماء الواردة في فهرس الأعلام بأعماله الكاملة تعطى انطباعا مدهشا بذلك العدد الهائل من الناس الذين كان يعرفهم الشاعر. وأحيانا ينقلب ذلك الانطباع بالاندهاش إلى عدم تصديق حينما نتذكر العمر القصير الذي عاشه مايكوفسكي (37 سنة). إلا أن هذا الموضوع ليس هو الوحيد الذي يدهش القارئ وخصوصا إذا عرفنا أن سيرة حياته لم تكتب حتى الآن بشكل كامل!!
بالرغم من العلاقات الضخمة والمتعددة لمايكوفسكي مع عدد هائل من البشر الذين كانوا يتوزَّعون على المراكز والوظائف ومجالات الفنون والإبداعات المتنوعة، إلا أن علاقته بأسرة شيختِل تعتبر أهم العلاقات التي نسجها الشاعر في حياته وبعد رحيله حيث لعبت علاقته مع فيرا شيختِل دورا في غاية الأهمية بالنسبة لتجميع العديد من الآثار التي تركها مايكوفسكي واحتفظت بها فيرا لتسلمها بعد ذلك إلى المتحف الذي أُطلِق عليه اسمه.

(1)

كتبَ أحد النقاد الروس: "القارئ-الروسي الحالي ينظر الآن إلى مايكوفسكي ببرود شديد لأن هذا القارئ قد نسى مهمة الشعر. وفي ظل تبدُّل كل شئ وانقلاب المفاهيم والمعايير، أصبحت لديه قناعة عجيبة بأن الشعر هو تلك "الجماليات" التي تخدم عملية "المتعة والأناقة والشياكة"، وهو-القارئ-ينتظر دائما من الشعر تلك المتعة والأناقة والشياكة لا أكثر. ولكن كل تلك الأشياء (المتع) في شعر مايكوفسكي لا توجد إلا بالقدر الذي توجد به-أو كانت توجد به-في الطبيعة البدائية الشرسة ".

الناقد لديه حق من وجهة النظر العامة والشاملة التي تحرص على الحركة الثقافية كمنظومة نشاط إنساني يجب أن تقوم بمهامها في حركة المجتمع ككل. ولديه أيضا حق من زاوية النظر إلى حالة الانحطاط الثقافي العام وتدني الذوق وترديه في روسيا الآن. ومع ذلك يبقى مايكوفسكي راسخا في أرواح البسطاء الذين يقرأونه بشكل صحيح وسط أكوام القاذورات الثقافية والفكرية التي تنهال يوميا على رؤوسهم.

في بداية سقوط "روما السوفيتية" ومع ترسيخ ما يسمى بالإصلاحات الجديدة حاولوا وضع سيرجي يسنن وفلاديمير مايكوفسكي على كفتى ميزان وبنظرة تتماشى جيدا مع العصر الجديد بقيمه وأخلاقياته، وتتناسب تماما مع النعرات القومية الخاوية والمتطرفة ومحو كل ما أنجزه المجتمع الروسي، وقام التجار والمرابون العاملون في مجال الثقافة بصرف الكثير من الجهد والمال لإعلاء كفة يسنن. وسخر الناس لأن مايكوفسكي ويسنن كانا يعرفان قيمة بعضهما البعض، ويعشقان قصائد بعضهما البعض، ويعشقهما الجميع رغم اختلاف عالم كل منهما عن الآخر، واختلاف انتماء كل منهما إلى القصيدة الروسية في مطلع القرن العشرين.

أحمد عبدالعزيزوُلِدَ سيرجي يسنن عام 1895، بعد ميلاد مايكوفسكي بعامين. وانتحر عام 1925، فنعاه مايكوفسكي-صديقه بقصيدة يلومه فيها ويعاتبه على تخلصه من الحياة.

وبعد خمس سنوات بالتمام والكمال كرر الصديق-مايكوفسكي-عام 1930 ما فعله صديقه منذ خمس سنوات فقط.
كان كل من مايكوفسكي ويسنن طفلا على طريقته، يلهو بالكلمات والقصائد، وبالزمـن، وبنفسه. وفي خمس سنوات رحلا. أنهى كل منهما حياته بنفسه، لتتقاطع المصائر، مصائرهما مع مصائر العديد من المبدعين الروس ومبدعي العالم كله، الذين مثَّلوا ظواهر خالدة بكل المقاييس. ومع ذلك فلا شك أن كلا منها كان ثديا-خصيبا-على صدر القرن، وعلى صدر روسيا. كانا ثديين أرضعا العديد من بسطاء العالم وشعرائه لبن الأم السري الذي تبقى رائحته عالقة بالروح. من هنا تحديدا فشل تجار الثقافة الجدد بروسيا في وضع الشاعرين كمعادل لأجولة البطاطس والألماظ والنفط. وظل مايكوفسكي حفيد الرمزية الذي واصل تقاليدها في البداية بكل ملامحها الأصيلة، ثم أخذ يحطمها تدريجيا إلى أن وصل إلى مايكوفسكي-الطفل المستقبلي الذي نعرفه. وإذا كانت الرمزية قد سعت إلى بناء معبد شعري وشكل من أشكال الميستريا الشعرية، فالمستقبلي الطفل-مايكوفسكي سعى إلى هدم ذلك المعبد وتوسيع ونشر حدود تلك الأشكال من أجل بناء جمهورية شعرية كاملة.

(2)

في عام 1914 قامت الشاعرة أنَّـا أخماتوفا بوضع أشعار فلاديمير مايكوفسكي في ترتيب عجيب خضع في المقام الأول إلى درجة ولوج روح الشاعرة وتغلغلها في جوهر أشعار مايكوفسكي الشاب الذي جاء إلى موسكو قبل سنوات من قرية نائية في جورجيا يحمل في حقائبه ورأسه كتبا كثيرة وأفكارا لهيجل وماركس وإنجلز وديستويفسكي وتولستوي، ولم تستطع أخماتوفا التعامل مع قصائد مايكوفسكي حسب ترتيبها الزمني، وهو الأمر الذي كانت تريد في البداية أن تقوم به.
كانت أخماتوفا تكبر مايكوفسكي بأربعة أعوام فقط (مواليد 1889)، ولكنها نَفَذَتْ ببصيرتها الفنية-الشعرية إلى جوهر إبداعات هذا الشاب الموهوب. أما المثير للدهشة، فهو تقاطع المصائر. لقد تمكنت الشاعرة أنَّـا أخماتوفا في غفلة من الزمن من إنهاء حياتها عام 1966 عن عمر يناهز سبعة وسبعين عاما. ومع ذلك فقد حفظ لنا الزمن كلمات أخماتوفا التي تزامنت معها من طرف الأرض الآخر كلمات فرجينيا وولف: "لقد بدأ القرن الجديد عام 1911 لأنه في ذلك الوقت بالذات حدث تغيُّر ما في روح الزمن، وظهر أناس ما جدد".
في عام 1911 بدأوا الحديث في روسيا عن أزمة الرمزية، بل وحتى موتها، وكان بريوسوف هو الوحيد الذي رفض أن يصدِّق ما حدث. في ذلك العام كان لقاء مايكوفسكي مع بورليوك في موسكو حيث كتب الأول بعد سنوات مشيرا إلى أهمية هذا اللقاء التاريخي: "لقد وُلِدَتْ المستقبلية الروسية". وبالفعل كان يجب، بشكل أو بآخر، أن يتجسد شئ ما جديد بعد انسحاب أو تداعى الجديد الذي سبقه. وعليه فقد جاء الجديد الذي تجسَّد في اللغة الشعرية الجديدة. وكما قال الناقد والأديب الروسي ميرسكي: "إن المستقبلية الروسية هي أعظم حركة وطنية في تطور الأدب الروسي". ويبدو أن ميرسكي قد قام بتأسيس مقولته هذه على أسس غاية في الواقعية، إذ أن المستقبلية الروسية بتراكيبها اللغوية تعتبر أهم نزعة شعرية طفولية وسط العديد من النزعات الشعرية الأخرى التي سبقتها أو تلتها خلال مسيرة الشعر الروسي، وخاصة في تلك المرحلة آنذاك. وقد كانت تلك النزعة طفولية أيضا بصلفها وقطعيتها، بحسمها وقسوتها، ولكن الرئيسي في هذه الطفولية ليس غزارة الطاقة الكامنة فيها، وليس مظهرها الخارجي: الدمى المحطَّمَة، والكتب الممزقة، وبوشكين المُلقَى خلف الجدران والأشياء، وإنما الإحساس الداخلي المرهف، مثل الروح، بتيار الزمن.

لقد استطاع المستقبليون الروس بالذات مثل فليبنيكوف، وبالطبع على رأسهم مايكوفسكي، أن يقوموا بما لم يستطع القيام به الرمزيون: ليس فقط بعث وإحياء الجنس الملح في الشعر الروسي، ولكنهم إلى جانب ذلك أدخلوا الحوار النشط والحديث الفعَّال إلى القصيدة الشعرية، وأعطوا الشارع الملتهب حياة نشطة موَّارة، وآفاق ملحمية رحيبة. وبالتالي قام ذلك الامتلاء الملحمي للمستقبليين بتحطيم التراكيب الشعرية الروسية من داخلها، وبالرغم من الابتعاد عن الولوج إلى داخل تلك التراكيب، إلا أن هذا الامتلاء الخلاق قد امتلك إمكانية عالية-تحققت فعليا-لإظهار وبلورة أهمية الكلمة وأبعادها الموجية والذي أدى في النهاية إلى صياغة صورة شعرية داخلية للكلمة.

(3)

أحمد عبدالعزيزُولِدَ فلاديمير فلاديميروفيتش مايكوفسكي في 19 يوليو 1893 ولا يزال تمثاله يقف شامخا في ميدان ضخم باسمه، ومازال الناس أيضا يزورون متحفه ومسرحه. وفي عام 1998 رأيناه يظهر في فيلم جديد بعنوان "مايكوفسكي يضحك"، ويخرج أيضا إلى خشبة المسرح في عرض مسرحي رائع من فصل واحد بعنوان "مايكوفسكي في
المتحف". ولكن الأهم من هذا وذاك كان افتتاح معرض فيرا شيختِل "أنا-الطفل المستقبلي" في نفس العام. وأقيم المعرض في أكبر قاعات متحف مايكوفسكي، وضم العديد من أشياء فيرا وفلاديمير، وخاصة تلك الأشياء التي لها علاقة بزيارة مايكوفسكي لمنزل شيختِل، مثل رسوماتهما وصورهما والهدايا المتبادَلَة بينهما.

فيرا شيختِل، تلك الفتاة الصغيرة، ابنة الفنان التشكيلي الروسي فيدور شيختِل التي كان لقاؤها مع الشاعر يمثِّل أعظم حدث في حياتها حتى أن اسم "مايكوفسكي" سوَّدَ كل صفحة من صفحات دفتر يومياتها. ففي الطابق الثاني من منزل شيختِل قام أخوها ليف شيختِل ومايكوفسكي وصديقهما فاسيا تشيكريجين بالترتيب لديوان مايكوفسكي "أنا" عام 1913 ليظهر بذلك أحد أهم شعراء القرن العشرين الذي يمثل فاصلة بين قرنين، وعلامة نقشها الزمن على الحدود الفاصلة بين نهاية نزعات وبداية أخرى.
رأت الفتاة الصغيرة فيرا، الشاعر مايكوفسكي لأول مرة في حياتها يوم الثلاثاء 5 مارس 1913 وكانت قد أكملت لتوها عامها السادس عشر، فكتبت في دفتر يومياتها: "كان مايكوفسكي في بيتنا، بدا لي التعرف إليه أمرا مدهشا وغريبا. عادة ما أقابله في الترامواي، حتى اليوم قابلته هناك. يعجبني. إنه من أنصار المستقبليين-إنسان علماني متمدن.

باختصار: من معسكري. أنا أحب الناس المدهشين

كانت فيرا تعشق فلاديمير مايكوفسكي، حتى أنها بعد حوالي عشرة أيام من تعارفهما، وتحديدا في 17 مارس، أثناء نزهة ثلاثية: فيرا ومايكوفسكي وليف، قاموا بالتقاط بعض الصور، وكان مايكوفسكي يرتدى يومها رابطة عنق حمراء، ويدخِّن سجائر (لف)، وبعد سنوات طويلة أهدت فيرا شيختِل متحف مايكوفسكي رابطة عنق حمراء، وبعض أوراق (البفرة) المكتوب عليها أشياء غاية في الروعة والجمال، وكذلك بعض علب السجائر الفارغة التي كانت تحتفظ بها إذا كان عليها أشياء تخصها، أو تخصهما معا. أهدت فيرا كل شئ: الصور، والأشياء، والكتب الممهورة بإهدائه، والرسائل القصيرة، والرسوم، والشخبطات. أهدت كل شئ بعد أن نقشت ما نقشته على روحها لتستمد منه الطاقة على الحياة فيما بعد. أهدته لكي يفرح البسطاء الذين عشقوا مايكوفسكي كما عشقته هي، ولكي يعرفوا أي إنسان كان ذلك الطفل المستقبلي. ولكن من هي فيرا شيختِل في الحقيقة؟

(4)

وُلِدَتْ فيرا فيدوروفنا شيختِل عام 1896، ودرست بقسم الفن التشكيلي في مدرسة رجيفسكي الخاصة. بعد عام 1913 شاركت في أربعة معارض للفنانين التشكيليين المستقبليين: جمعية سانت بطرسبورج "اتحاد الشباب"، مجموعة لاريونوف رقم (4)، في معرض "1915"، في "المعرض الأول لاتحاد الفنانين التشكيليين والرسامين المحترفين". وقامت في سنوات العشرينات بتدريس الفنون التطبيقية، وعملت في تصميم العروض المسرحية برياض ومعسكرات الأطفال. وفي الثلاثينات قامت بتصميم أحد أجنحة المعرض الزراعي لعموم الاتحاد السوفيتي، إضافة إلى قيامها بتصميم العديد من الملصقات والبوسترات الخاصة بوسائل الوقاية من أخطار العمل. وفي الأربعينات عملت فيرا كفنانة تشكيلية "سينوجرافي" بمسارح موسكو. وبسبب المرض الخطير في بداية الخمسينات كان عليها أن تترك العمل بالمسارح لتقضي السنوات الأخيرة من حياتها لا تخرج من منزلها. وظلت تمارس زخرفة النسيج وأوراق الحائط حتى توفيت عام 1958. وفي معرضها الذي أُقيم في عام 1998 (أي في الذكرى الأربعين لوفاتها، والذكرى المائة وخمس لميلاد مايكوفسكى) كان دفتر يومياتها هو البطل الرئيسي لذلك المعرض الضخم، إذ أنه تضمَّن تاريخ أهم حدث في حياتها: تعارفها علي مايكوفسكي. بل ويُعتَبَر أحد أهم الوثائق التي تشهد على نشاطات وإبداعات مايكوفسكي في الحقبة الأولى من هذا القرن. أما إبداعات فيرا شيختِل فكانت متنوِّعة وأصيلة ومثيرة للاهتمام. وعلى ضوء ما جاء في دفتر يومياتها، كانت فيرا تحلم بأن تصبح من المستقبليين. ومن هذا المنطلق تحديدا كانت تستخدم مسوغات حلمها للحكم على أعمالها وأعمال الآخرين عن طريق جمل وملاحظات قصيرة مركزة: "هذا ليس فيه أي شئ من المستقبلية"، أو "إن ذلك ليس بعد مستقبلية"… وهكذا. ولكن الحلم لم يتحقق كاملا، ولم تتمكن تلك الطاقة المستقبلية لدى فيرا شيختِل أن تشعل عالمها الإبداعي. وبعيدا عن كل ذلك فالكلمات والملاحظات والأحلام غير كافية لتحقيق هدف مثل هذا، خاصة وأن حلم فيرا قد تزامن مع صعود نجوم تلك النزعة الذين تمكنوا بشكل أو بآخر من وضع أقدامهم على الطريق.

لقد كتب أبرام إفروس في زمن ما أن المستقبلي تمتلك وجهين:
"أحدهما مُوَجَّه إلى الداخل، جواني، منزلي مهدِّئ ومُسَكِّن، مشحون في الهمس وصخب الحياة، يتنصت على الحياة الخاصة ويراقبها في الغرف… والآخر: مُوَجَّه إلى الخارج، يتسكَّع في الشوارع ويدور فيها (شوارعي)، ضخـم ومقعقع، وهو الأول-أ ليس كذلك؟-وهو الأكثر انتشارا لأن شهرة المستقبليين قد جاءت منه". أما فيرا شيختِل فقد كان من الواضح أنها منجذبة إلى النوع الأول من المستقبلية وفي نفس الوقت كانت تنظر باختلاج ورعشة إلى النوع الثاني دون أن تتمكن من تجسيد مبادئه في أعمالها، وفي نهاية الأمر استطاعت أن تحافظ على روحه في الحياة (في حياتها)، وفي أرشيفها الخاص فقط.

(5)

مصائر مدهشة تجمع بينها خطوط كثيرة ويفرقها خط الموت العجيب. مصائر شهدت على نهاية قرن وبداية آخر، وشهد عليها قرنان غَيَّرا وجه حياة البشرية. أنَّـا أخماتوفا، فلاديمير مايكوفسكي، سيرجى يسنن، وُلِدوا معا-تقريبا، فصلت بينهم سنوات قليلة، وودعوا الحياة بعد أن رأوا أنها أصبحت غير جديرة بهم، بعد أن تيقنوا أن مكانهم فيها قد تقلَّص إلى حد الرغبة في الانتحار!! ولكن ماذا عن تلك المصائر الأخرى البريئة التي تقاطعت مع مصائرهم، أو مع مصير مايكوفسكى بالذات ؟ فيرا شيختِل توفيت عام 1958 على أثر مرضها الخطير. كان مايكوفسكي قد سبقها في لحظة خارجة عن الزمن فلم يشهد معاناتها. وكانت أليسا خفاس هي الشاهد الوحيد على نهاية فيرا-صديقتها الحميمة التي تعرَّفت إليها عن طريق مايكوفسكي. عرَّفهما مايكوفسكي على بعضهما البعض وكأنه كان يقرأ الآتي. كان يعرف أنه سيترك فيرا شيختيل، وكان يدرك أنها ستكون بمفردها، فادَّخَر لها صديقة حميمة-مشتركة: أليسا خفاس التي كانت مع فيرا حتى الساعات الأخيرة قبل رحليها الأبدي.
تقول خفاس عن تلك الأيام في مذكراتها: "لقد تحمَّلت فيرا ببطولة رائعة أثار مرضها الخطير، وظلت على سابق عهدها: تحب العمل، نشيطة حية، وساخرة أيضا. لم تفقد خفة ظلها وطاقتها. وعندما حُكِم عليها بالحركة على عكازين، صممت على العمل وهي واقفة. وظلت العمود الفقري للأسرة إلى أن قابلت اللحظة الحاسمة بشجاعة غريبة. كنتُ أزورها في الأيام الأخيرة. ورأيتها قبل الموت بساعات. قالت فيرا قبل الرحيل بيومين: "قال الطبيب عندما يظهر الدم على الأسنان يتبقى يومان فقط". وهذا ما حدث. ولكنها استعدادا للحظة الحاسمة راحت تصنع عصافير من أوراق بيضاء، وفي لحظة الموت أعطتها جميعا للأطفال من حولها، ثم أعطتني رسائلها الخاصة طالبة مني إحراقها بمجرد الرحيل. وعندما حدث ذلك دخلتُ إلى غرفتي، وأغلقتها جيدا وظللتُ لفترة طويلة أحرق الأوراق وأبكي. ومن خلال الدخان والدموع وصوت طقطقات الأوراق من حولي رحتُ أطالع شباب فيرا وشبابي".
هذه كلمات أليسا خفاس التي كانت بلا شك تتذكر أيضا شباب مايكوفسكي الذي عرَّفها على فيرا شيختِل لتتقاطع مصائرهم جميعا بشكل أو بآخر. المدهش أيضا أن أليسا خفاس هي الشاهد الوحيد الذي ظل على قيد الحياة حتى عام 1975. فهي قد وُلِدَتْ في نفس عام يسنن، بعد مايكوفسكي بعامين وقبل فيرا بعام واحد. ومع ذلك فقد توقَّفَتْ حياتها ليس عام 1975، وإنما بعد القبض على زوجها وإعدامه عام 1937. عاشت أليسا- جسديا فقط - لمدة ثمانية وثلاثين عاما وهبت خلالها ما تبقى من الشعلة الروحية لابنتها وحفيدة أختها "إدَّا".

وُلِدَتْ أليسا ياكوفليفنا خفاس عام 1895 في موسكو. اتجهت إلى الرسم منذ سنوات الطفولة وكانت تحلم-مثل فيرا شيختِل-بالدراسة في مدرسة موسكو للرسم والتصوير. أنهت السنة الرابعة عام 1912 بمدرسة داخلية للبنات ثم بدأت العمل ببعض الورش الفنية ومنها ورشة ليونيد باسترناك (والد الشاعر بوريس باسترناك). بمجرد نشوب الحرب العالمية الأولى تخبَّط مصيرها، وتغيَّر مجرى حياتها تماما، فابتعدت عن الرسم والتصوير، وإلى الأبد. وفي أبريل عام 1916 أنهت دورة لمدة ثلاثة أشهر في فرق "أخوات الرحمة" بمدرسة الدكتور ليفنسون الطبية وأصبحت مؤَهَّلَة للعناية بالمرضى والجرحى. بعد عام واحد بالضبط منحتها كلية الطب بجامعة موسكو شهادة طبيب أسنان. وفي السنوات التالية عملت أليسا في العديد من المؤسسات الطبية. ومن عام 1918 إلى عام 1936 عملت في مستشفى الكرملين إلى أن تم القبض على زوجها.

في يومي السبت والأحد من كل أسبوع كان الشعراء والفنانون التشكيليون يجتمعون في منزل أسرة خفاس. كانوا عادة يأتون من أعمالهم مباشرة، وكان التشكيليون يأتون في الغالب من معارضهم التي أفتُتِحَتْ لتوها. الجميع في حالة تعب وإرهاق، وفي الحال يطلبون من إدَّا أخت أليسا العزف على الكمان. وكانت الفتاة الشابة تعزف لهم سكاريابين وشوبان وفاجنر ورخمانينوف، وخاصة "بحيرة البجع" لتشايكوفسكي التي كانت تعجبهم كثيرا. بعدها يستعيدون نشاطهم وحيويتهم، ويبدأون معاركهم الأبدية حول الشعر والفن التشكيلي.

كانت أليسا وإدَّا تجوبان المعارض مع صديقاتهما، وفي مساء يوم الافتتاح يبدأ الحفل في منزلهما. في أحد تلك المعارض حدث ما حدث. تقول أليسا في مذكراتها: "في أحد المعارض التي كنا نواظب على حضورها أسبوعيا، كنتُ أقف مع أختي إدَّا وصديقتها الشاعرة فاريا مامونفا، وفجأة أقبل نحونا شاب لا نعرفه بخطى واسعة. وبدون توقُّع، وبوقاحة شديدة، توجَّه ذلك الشاب الذي لا نعرفه، إلى أختي إدَّا طالبا بصوت عال دعوته في ضيافتها على أساس أنه يعرف جيدا أن هناك حفلا سيقام في بيتها اليوم ويجب أن يكون هو أيضا من بين المدعوِّين، لأنه- هو أيضا- إنسان موهوب جدا. وفي الحال توجَّه إلى الشاعرة فاريا مامونفا مطريا على جمال أسنانها البيضاء مثل الثلج. انزعجت أختي وأصابتها حالة الاشمئزاز من تلك الوقاحة وقلة الحياء، ولكنها تحت ضغطه وإلحاحه أعطته العنوان.
في تلك اللحظة تذكَّرتُ أنني رأيتُ هذا الشخص الذي لا نعرفه بصحبة ليف شيختِل وفاسيا تشيكريجين… لحسن الحظ، ولسعادة إدَّا لم يأت مايكوفسكي (فقد كان بالفعل هو) في ذلك اليوم. ولكنه ظهر فجأة في اليوم التالي للحفل. وبدون حتى أن يتصل أو يعلن عن موعد مجيئه، حضر إلى بيتنا. كانت درجة حرارتي مرتفعة، وكنتُ ألزم الفراش. استقبلته أختي بامتعاض وبرود، أما هو فقد أصابته حالة من الضيق وأخذ يعتذر، وأراد الانصراف. فأخبرته إدَّا أنه طالما جاء فليس عليه إلا أن يبقى. منذ تلك اللحظة أصبح (فولوديا مايكوفسكي) ضيفنا الدائم، وبالتدريج صار أقرب الأصدقاء".
هذا جزء بسيط من مذكرات أليسا خفاس. وهناك أشياء أخرى ممتعة في مذكراتها تلقى الضوء على جوانب هامة وعديدة من شخصية مايكوفسكي الذي يوجد اسمه بشكل مدهش في مذكرات الذين عاصروه، بل وفي حياة الذين جاءوا بعده. إن تلك العلاقات، وخصوصا الكتابة عنها، تحيل حياة الشاعر إلى صورة من صور ألف ليلة وليلة.
فبمجرد أن نبدأ في حكاية ما، نجد أنفسنا قد دخلنا إلى أخرى، وكل منها يكشف عن أحد جوانب حياة الشاعر التي استمرت فقط 37 عاما. وسوف يكون هناك كلام آخر عندما تُكتَب حياة فلاديمير مايكوفسكي كاملة وبجدية. سيكون هناك كلام آخر عن هؤلاء البشر الذين-ربما-كانوا يمثلون ظواهر علمية بالمعنى الأكاديمي-العلمي أكثر منها ظواهر فنية. ومايكوفسكي بلا شك هو أحد هذه الظواهر التي أثارت ولا تزال تثير الخلاف من حولها، وحول ماهية الشعر ووظيفته ومهامه. لقد عاش فولوديا مايكوفسكي في مثل هذه الأيام منذ قرن مضى. عاش تغيرات مشابهة لما يحدث الآن وإن اختلفت الدرجات، فهل سيحفظ لنا القرن القادم أسماء شعراء آخرين مثله؟

(6)

وأخيرا يظهر اسم ليليا بريك. يظهر أخيرا على صفحات الجرائد، وأين؟ في روسيا!
ليليا يوريفنا بريك (1891-1978) معروفة جيدا في أوروبا وروسيا. العامة يعرفونها مثل بوشكين وجوجول وتورجينيف وديستويفسكى، يعرفونها مثل تشيخوف وجوركي ويسنن ولينين وستالين. يطلقون عليها في روسيا لقب "المرأة الأسطورة/اللغز"، اقترن اسمها قبل كل شئ بالشاعر الروسي فلاديمير مايكوفسكي (1893-1930). عندما يُذكَر اسم ليليا بريك تجد اسم الشاعر مايكوفسكي يقفز تلقائيا إلى الذاكرة، وحينما يأتي ذكر مايكوفسكي تجد اسم ليليا بريك ملتصقا به على نحو ما.
عاشت ليليا بريك 87 عاما بحق. عاشت حياة ممتلئة إلى النهاية. أحد جوانب شخصيتها الأسطورية يظهر في قدرتها الفائقة على أن تصبح راقصة وممثلة سينمائية وموديل وكاتبة سيناريو ومخرجة سينمائية-استطاعت أن تقوم بكل ذلك على مستوى رفيع يضعها في مصاف الأوائل في كل مجال من هذه المجالات. الجانب الأسطوري الثاني: ارتباطها بالعديد من رجال الفن والأدب والجيش والسياسة والمخابرات في الحقبة الستالينية. مات العديد منهم إما بالانتحار أو الإعدام أو… وظلت هي موجودة حتى عام 1978. الجانب الثالث: كيف استطاعت تلك المرأة أن تقوم بتجسيد ذلك الدور الصعب طوال نصف قرن بعد رحيل مايكوفسكي؟ وكيف ظلت تحافظ على التوازنات والعلاقات لتفلت من تقلبات الأنظمة المتتالية التي عاشت في ظلها؟ جوانب عديدة في شخصية تلك المرأة الأسطورية بحق تجعلنا نتوقف كثيرا أمام شخصيتها وعلاقاتها وقدراتها الجبارة، خاصة وأنها استطاعت أن تصمت لمدة نصف قرن، ولم يستطع أحد أن يزحزحها عن صمتها سوى الصحفي الروسي سولومون فولكوف عام 1975. ولكي يكلل الصحفي سبقه بكل أسباب النجاح قام بإخفائه لمدة 23 عاما ليظهر فقط على صفحات "ليتيراتورنايا جازيتا" (الجريدة الأدبية) الروسية قبل أيام من الاحتفال بالذكرى 105 لميلاد مايكوفسكي، والذكرى العشرين على رحيل ليليا بريك.

أما مايكوفسكي فقد عاش 37 عاما فقط استطاع خلالها أن يقف على رأس جمهورية شعرية كاملة. نسج خلالها مجموعة ضخمة من العلاقات الشبيهة بعلاقات ودهاليز ألف ليلة وليلة. ومن ضمن عشرات ومئات وآلاف العلاقات، وصلتنا أخباره مع فيرا شيختِل، ومع أليسا خفاس وأختها إدَّا. ولكن أهم وأخطر علاقات الشاعر كانت بلا شك مع ليليا بريك لدرجة أن اسمها يكاد يكون مقترنا بكل إنتاجه الشعري، علاوة على أنه قد قام بإهداء جميع قصائده العاطفية إليها. وفي الملحق الموجود في نهاية أعماله الكاملة يكاد يكون اسمها موجودا في كل صفحة. كان مايكوفسكي يحب ليليا بريك على طريقة الشعراء العرب في العصر الجاهلي: نجد اسمها ومكان منزلها، واسم الحارات والشوارع التي عاشت فيها، والمدن التي زارتها أو عاشت فيها أحيانا، ملابسها وعلاقاتها… الخ

عاش مايكوفسكى مع ليليا بريك وزوجها. لم يستطع الزوج الانفصال عنها عندما صرَّحت له بحبها لمايكوفسكي. فرضخ. وأثناء رضوخه اكتشف أنه يحب هو الآخر مايكوفسكي.. فعاشوا معا في بيت واحد. انتحر مايكوفسكي عام 1930، ولا أحد يدرى السبب. ظل هذا الاحتمال سائد طوال نصف قرن، ولكن العامة كانوا يهمسون بأنها كانت السبب حين انفصلت عنه جسديا وظلت في نفس الوقت تعيش معه ومع زوجها في بيت واحد. وعندما حدث هرج ومرج البيرسترويكا قاموا بتحليل الجثة مرة أخرى، وحاول أصحاب الموجة الجديدة والأفكار الجديدة "الحرة" أن يؤكدوا للناس أن مايكوفسكي مات مقتولا وليس منتحرا، ولكن التحقيقات أثبتت عكس ذلك ونفت هذا الاحتمال بشكل مطلق. وفي عام 1978 انتحرت ليليا بريك. أطلقتْ الرصاص على نفسها كما فعل مايكوفسكي بالضبط. انتحرت بعد ثلاث سنوات فقط من إدلائها بذلك الحديث الهام للصحفي سولومون فولكوف لتظهر علامات استفهام جديدة ليس حوا انتحار مايكوفسكي، وإنما عن حياته.

******

حوار: سولومون فولكوف

المرأة الأسطورة والطفل المستقبلي
ليليا بريك ومايكوفسكي.. حياة بحياة وموت بموت
وحوار ظل 23 عاما طي الكتمان

سولومون فولكوف: حدثونا من فضلكم كيف بدأت قصتكم مع مايكوفسكي. ولكن في البداية حدثونا عن أنفسكم..

ليليا بريك: لدىَّ كما مألوف أب وأم. الأم كانت موسيقية. أنهتْ كونسرفتوار موسكو ولكنها لم تتسلم الشهادة النهائية لأن والدي كان يرى أنه لا يصح للمرأة أن تمتلك وظيفة أو صنعة. كان يجب على المرأة أن تكون أُمَّا وربة بيت فقط. ولكن كل ذلك تغيَّر فيما بعد. وأبى أيضا تغيَّر تماما. وعموما فكل ذلك كان منذ زمن بعيد. أما والدي فقد كان محاميا متخصصا بشكل رئيسي في قضايا اليهود.

س. ف: هل كنتم تشغلون أنفسكم كثيرا في المنزل بالحديث عن اليهود والقضايا اليهودية؟

ل. ب: لا. تقريبا لا. كان والدي يحكى أحيانا عن قضية ما كسبها. وعلى أية حال كان والداي مناهضين للصهيونية. كانا ضد إقامة دولة يهودية. وكانا من أنصار عملية الاندماج. كان والدي ووالدتي أنهما ألمانيان-ألمان بلطيقيون، حتى أننا كنا غالبا ما نتحدث في المنزل بالألمانية.. بالروسية والألمانية.

س. ف: في الكلية الداخلية التي درستم بها، هل حدثت مشاكل ما بسبب كونكم يهودية؟

ل. ب: لا، لا. في الكلية لا. ولكن حدث ذلك فيما بعد عندما عرف بعض المعجبين بي فجأة أنني يهودية. كانوا يخافون جدا.

س. ف: إلى هذا الحد كان ذلك يفزعهم؟ وهل كانت الفتاة اليهودية في روسيا ما قبل السوفيتية "مثيرة للاشمئزاز"؟

ل. ب: عرَّفتني مدرستي الفرنسية بأحد الضباط من أصحاب زوجها. ذهبنا جميعا إلى قاعة المعارض. وهناك ذهبنا إلى البوفيه لنشرب ليمونا أو مياها معدنية. وعندما فهم الضابط بشكل ما أنني يهودية، هب واقفا وانصرف من دون حتى أن يدفع ثمن ما شربه. كان منهارا تماما. بعدها قلتُ لمدَرِّسَتي: "لماذا تعرِّفينني على مثل هؤلاء الناس؟"، فأخذت تقنعني بأن هناك سوء تفاهم، وأن الأمر كان مفاجأة له… وهكذا. وفي مرة أخرى بعدما عرف أحد الضباط أنني يهودية، قال: "ومع ذلك فالأمر لا يزال سهلا بالنسبة للمرأة-مازالت لديكم إمكانية بعد للزواج من روسي".

س. ف: ولكن في علاقتكم مع مايكوفسكي، هل كانت يهوديتكم تسبب لكم مشكلة ما؟

ل. ب: إطلاقا. كانت هناك عبارة واحدة مفاجئة "ملكة صهيون اليهود الباهرة" في قصيدة "مزمار- عمود فقري". أتَذَكَّر أن ذلك قد أثار دهشتي بشدة آنذاك لأن مايكوفسكي لم يكن معاديا للسامية. كان عضوا في "جمعية الرفاق اليهود لاستصلاح الأراضي" التي تأسست في زمن السوفييتات من أجل تنظيم استغلال الأراضي لليهود. كان يعلِّق شارة جمعية الرفاق اليهود لاستصلاح الأراضي، وسافر معي لتصوير فيلم لدعم الجمعية.

س. ف: ولكن كيف حدث أن مايكوفسكي شارك في فيلم عن اليهود؟

ل. ب: روى لي شخص ما عن المعسكرات الزراعية لليهود في القرم. فسافرتُ إلى هناك، وسافر أيضا مايكوفسكي. وهكذا صنعنا هذا الفيلم معا.

س. ف: وهل كانت أفكار جمعية الرفاق اليهود لاستصلاح الأراضي منتشرة آنذاك في أوساط الإنتلجنسيا السوفيتية؟

ل. ب: لا، لا. ومع ذلك فقط كتب مايكوفسكي في ذلك الوقت قصيدة شعرية بعنوان "اليهودي" وأهداها إلى رفاقه في الجمعية. لقد كان مايكوفسكي بشكل عام مناهضا لمعاداة السامية، ولكنه لم يكن مهتما على وجه الخصوص بهذه القضية. ولو كان قد عرف ما سوف يحدث بعد رحيله بخصوص تلك الضجة المعادية للسامية بشأن علاقتنا لأطلق الرصاص على كل هؤلاء الأوغاد، أو خنقهم جميعا بيديه. إلا أن مايكوفسكي لم يكن يتعارك أبدا، ولقد سأله أحد ما عن سبب ذلك، فأجاب: "لا أتعارك لأنني أخشى أن أقْتُل". فقد كان في غاية القوة.

س. ف: ولكن كيف ظهر المستقبليون في دوائر معارفكم؟

ل. ب: ظهر المستقبليون عن طريق أختي إلزا. فقد تعرَّفتْ إلزا على مايكوفسكي عند أقاربنا.

س. ف: معنى ذلك أن إلزا هي التي تعرَّفتْ على مايكوفسكي أولا؟

ل. ب: نعم، هي. هي التي تعرَّفَتْ عليه أولا.

س. ف: وكيف التقيتم أنتم بمايكوفسكي؟

ل. ب: هذه حكاية طويلة. صار مايكوفسكي يأتي إلى إلزا في المنزل. كان ذلك في موسكو. أما أنا فكنتُ أعيش في بطرسبورج. بعد ذلك اشتد المرض على والدي الذي كان مريضا بالسرطان. وقضى الوالدان مع إلزا صيف 1915 في ضواحي موسكو. حضرتُ من بطرسبورج لكي أطمئن على والدي، وذات مساء كنتُ جالسة على أحد المقاعد الطويلة أتحدث مع إلزا. فجأة برز من الظلام شخص ضخم بسيجارة "لف"، وقال:
"إليتشكا، هيا نتمشى". عرَّفَتنى إلزا: "هذا-مايكوفسكي". لم أتطلَّع حتى إليه. أدركتُ فقط أن صوته كان حلوا للغاية. انصرفتْ إلزا مع مايكوفسكي، بدأ المطر يهطل وكنتُ لا أستطيع العودة إلى البيت من دون أختي. ولأن إلزا ذهبت مع أحد هؤلاء المستقبليين إلى الغابة في وقت متأخر من المساء، كان علىَّ أن أجلس مثل الحمقاء تحت المطر.

قمتُ بتوبيخ إلزا عندما عادت هي ومايكوفسكي. أما هو فقد قلتُ له: "هه، انظروا، يا فلاديمير فلاديميروفيتش، لقد كنتُ أعرف ذلك، أعرف أنه لن يحدث أي خير، لقد قلتُ ذلك منذ البداية". بعد ذلك كان هناك لقاء آخر. حضر مايكوفسكي وكان في غاية الوقاحة. قال: "أنتم لا تفهمون شعري، وعلى الأرجح فأنتم لا تستطيعون حتى قراءته". أجبته: "ربما". كنتُ سيدة رقيقة وعلى مستوى عال من التربية. وكنتُ أظن أنه من غير اللائق سب الشعراء. قال مايكوفسكي: عندي قصيدة بعنوان "ماما والمساء الذي قتله الألمان". أعطاني تلك القصيدة، فقرأتُها بشكل صحيح. قال في كبرياء: "لا تعجبك؟". أجبته في هدوء: "ليس كثيرا". من هنا بدأ على وجه الخصوص تعارفنا. ثم مات والدي. احتملتُ موته بصعوبة بالغة حتى أنني أُصِبتُ بالهزال الشديد. فجأة حضر مايكوفسكي. في تلك المرة نظر إلىَّ بعطف واهتمام شديدين. كان شخصا آخر تماما-غير مشاكس أو مؤذ. قال: "لقد أصابكم الهزال بشكل مفزع". أما الشئ الرئيسي فقد كان فيما بعد. جاءت إلينا إلزا من موسكو، وحضر مايكوفسكي مرة أخرى أيضا. كان يعيش آنذاك في فنلندا. وكان قد قرأ قصيدته "غيمة في بنطلون" على مكسيم جوركي، آنذاك كنتُ متزوِّجة من أوسيب بريك منذ ثلاث سنوات. وعندما ظهر مايكوفسكي همسنا إلى إلزا: "أهم شئ ألا تطلبي منه أن يقرأ شعره". لأننا كنا نرى أن جميع هؤلاء المستقبليين أصحاب مشاكل وصداميين. كانوا في لقاءاتهم وندواتهم يقذفون بعضهم البعض بالدوارق والأكواب، ولا تمر الأمور إلا باستدعاء الشرطة. لهذا السبب لم نكن نحضر ندوات المستقبليين. ومع ذلك لم تستمع إلينا إلزا. اندفعت قائلة لمايكوفسكي: فلاديمير فلاديميروفيتش، اقرأ "غيمة في بنطلون". وألقى مايكوفسكي الـ "غيمة". في تلك اللحظة تولَّدت عندي تلك الأحاسيس التي لا يمكنني نسيانها إلى يومنا هذا. لقد كان يقرأ بشكل رائع، وكان هو أيضا في غاية الروعة والجلال. كان يقف بالباب متجها إلينا، وكما كان يقرأ ليس شعرا، وإنما نثرا-بصوت منخفض: "هل تظنون أن ذلك هو هذيان الملاريا؟ ذلك كان في أوديسا". هكذا بدأ ثم راح يقرأ بصوت جهوري كما لو كان في قاعة ضخمة. كان يقرأ بشكل مدهش لدرجة أنني كنتُ مشدوهة تماما!

قال أوسيب بريك لمايكوفسكي: "حتى إذا كنتم لن تكتبوا سوى هذه القصيدة، فأنتم على أية حال شاعر عظيم!". كان مايكوفسكي في غاية السعادة. جلس إلى المائدة مع إلزا يشرب الشاي مع المربى. ثم قال لي: "هل يمكنني أن أهدى إليكم الـ "غيمة"؟". لا أذكر بماذا أجبت. عندئذ كتب مايكوفسكي في دفتره إهداء إلى-"ليليا يوريفنا بريك".
سألتُ مايكوفسكي: "أنتم تتحدثون في قصيدتكم عن حبكم لماريا. كيف يمكنكم أن تهدوا إلى امرأة ما هو مكتوب لامرأة أخرى؟". أجاب مايكوفسكي: "لا، هذه ليست قصيدة عن ماريا، إنها قصيدة غير موجهة إليها". وقال إن الحديث في القصيدة يدور حول نساء كثيرات، وإنه قد أحال جميع النساء في حياته إلى اسم واحد في تلك القصيدة. اسم أكثر أنثوية، اسم ما إنجيلي: ماريا. وقال لي: "بهـذا الإهداء- إليكم- أكون قد أصبحتُ طاهرا تماما أمام نفسي".

من الضروري هنا القول إن مايكوفسكي لم يكن أبدا يكذب. أنا لا أقول كلاما فارغا، وإنما هذه في الواقع هي الحقيقة. مايكوفسكي لم يكن يكذب لأن الكذب بالنسبة له لم يكن ضروريا أو ممتعا على الإطلاق. كان لا يحب الإجابة بـ "قولوا بأنني لستُ موجودا في المنزل"، وإنما كان يقول:
"يقولوا بأنني لن أرد على التليفون". أي أنه كان يقول ما يفكر فيه في تلك اللحظة نفسها.

س. ف: كيف تحوَّل تعارفكم مع مايكوفسكي إلى حب؟

ل. ب: شعر فولوديا تجاهي بالحب في الحال، فجأة . هذا الشعور المفاجئ بالحب لم ينته أبدا حتى بعد ذلك عندما أصبحنا لا نلتقي جسديا.
عندما التقيتُ بمايكوفسكى، ظللتُ لمدة عام كامل لا أعيش كزوجة مع بريك على الرغم من أننا بقينا متزوجين. كنتُ حرة تماما. وإذا بي ذات يوم أقول لبريك: "أوسيا، انظر.. ها أنا وفولوديا نحب بعضنا، فما العمل؟". قال بريك: "أعرف. فكيف يمكن للإنسان ألا يحب فولوديا؟ لكن تعالى نتفق على ألا ننفصل أبدا". وهكذا لم ننفصل أبدا. أصبح مايكوفسكي وبريك أصدقاء. كان بريك يحب مايكوفسكي بشدة! كانا قريبين من بعضهما جدا.
وعندما مات مايكوفسكي لم يكن بريك هو الذي هدَّأني (على الرغم من أنني كنتُ منهارة تماما)، وإنما أنا التي رحتُ آخذ بيده. كنتُ أقول له: "لا يمكن إعادة مايكوفسكي، فهم لا يعودون من هناك. وعموما فعلينا أن نعيش على نحو ما". فقال لي بريك ذلك الشئ: "تصوري-اثنان من المهرجين لاعبي الأكروبات يؤديان نمرة قاتلة تحت قبة السيرك، ولكن أحدهما يتهشَّم، فماذا يبقى للآخر عمله؟".

س. ف: هل يمكنكم أن تحكوا عن حياتكم الأسرية الثلاثية؟ أنتم وبريك ومايكوفسكي؟

ل. ب: لقد كنا نعيش فعلا على هذا النحو. ومهما كان لدى مايكوفسكي من قصص حب، فقد كان يعود دائما وبشكل ثابت إلى المنزل في المساء. كان يحرص دائما على العودة بينما لم نكن لا أنا ولا بريك قد نمنا بعد. وفي الصباح كان مايكوفسكي يستيقظ أولا. يظل يروح ويجئ أمام الباب وهو يحث بريك بنفاذ صبر على العجوز! هيا قم!". كان مايكوفسكى يحب الجلوس النهوض: "انهض، انهض أيها الحنتوس بسرعة إلى المائدة.

وكالعادة كان يقوم بصنع ساندوتشات كثيرة، كمخزون كامل. وخلف المائدة كنا نقرأ الصحف. كنا نعيش بشكل عام في هدوء ووئام تام. بعد ذلك… ظللتُ في الواقع أعيش مع مايكوفسكي حتى سفره إلى أمريكا عام 1925. عندما سافر إلى هناك كنتُ قد قلتُ لنفسي: "إذا حدث وكانت هناك ادِّعاءات ما ضدي عند عودة مايكوفسكي من أمريكا فسوف أكون مضطرة إلى الانفصال"، وذلك على الرغم من أنني لم أكن أستطيع مقاومة شعره-إطلاقا! كنتُ أحبُ قصائده إلى درجة مخيفة وأحفظها كلها عن ظهر قلب.
شعر مايكوفسكي بأن هناك شيئا ما قد تغيَّر في علاقتنا. فبمجرد عودته من أمريكا قال لي: "لقد قطعتُ على نفسي عهدا بألا أتدخَّل في شؤونك. أنا أعرف أنني لو ضايقتك أكثر فسوف تهجرينني". عند ذلك الحد انتهتْ علاقتنا الجسدية وبدأت علاقة منفردة: كانت لديه علاقاته، وكانت لدىَّ علاقاتي. ومع ذلك فقد واصلنا الحياة معا-أنا وبريك ومايكوفسكي. نستيقظ في وقت واحد، ونذهب للنوم في وقت واحد. نتنزَّه كثيرا. نلعب على الدوام في شئ ما-كنا نلعب الورق أو أي شئ آخر حتى الصباح أحيانا. ولم تمكن أية امرأة أخرى أن تعوق ذلك.

س. ف: كثيرا ما تحدَّث مايكوفسكي في أشعاره عن غيرته الشديدة عليك من الرجال الآخرين. وعلى سبيل المثال في قصيدة "مزمار- عمود فقري"…

ل. ب: أنا لا أحب هذه القصيدة كثيرا، لأنها لم تكن عادلة على الإطلاق. عندما كتبها كنتُ مُتَيَّمة به جدا. لم تكن لديه أية أسباب للغيرة، ولكنه كشاعر كان من الضروري له أن يكتب مثل تلك القصيدة الغيورة. هل تدركون ما أقصده؟ فهو لكي يكتبها كان لابد وأن يملأ روحه تماما بالغيرة.

س. ف: حكتْ أنَّـا أخماتوفا عن مايكوفسكي أنه كان يحب العبث بالمسدس-يجلس والمسدس في يده ويظل يديره إلى أن يقولوا له: "أبعدوه، أخفوه، هذا ليس لعبة، لماذا هو لديكم؟". وكان مايكوفسكي يقول: "ربما قد يجدي". فهل هذا حقا ما كان يدور؟ وهل فعلا كان يعبث دائما بالمسدس؟

ل. ب: ليس دائما، وإنما بين الحين والآخر… كان لدينا جميعا سلاح. فبعد الثورة امتلكنا ترخيصا بحمله. في حقيبة يدي كان هناك "والتر" صغير لم يتيسر لي على أية حال استخدامه أبدا. وكان لدى مايكوفسكي خمسة أو ستة مسدسات. كان يحب الأسلحة ويُصَوِّب ببراعة. ولأن مايكوفسكي كان في الواقع أعسر فقد أطلق النار على نفسه بيده اليسرى. هل تعرفون أنه آنذاك في عام 1930 لم تكن المرة الأولى التي يطلق النار فيها على نفسه؟ المرة الأولى كانت في عام 1916، ومرة أخرى كان السبب مجرد بعض الأوهام. كنا آنذاك قريبين من بعضنا البعض بالمعنى العضوي، ولكننا لم نكن نعيش بعد معا. اتصل مايكوفسكي هاتفيا: "وداعا، يا ليلوك، أنا أطلق النار على نفسي!". صرختُ في الهاتف: "انتظرني!".

لم أكن لحظتها مرتدية ملابسي. كنتُ في قميص نومي فقط. ألقيتُ على جسدي معطفا وانطلقتُ إلى أسفل. أوقفتُ كارتة في الحال ورحتُ أدفع الحوذي من ظهره بقبضتي على الرغم من أننا كنا نسكن بالقرب من بعضنا. وصلتُ بسرعة إلى مايكوفسكي. ضغطتُ على جرس الباب.
كان غارقا في دموعه وهو يفتح بنفسه، كان غارقا تماما بالدموع، وغالبا ما كان يبكى. دخلتُ إليه في غرفته، وكان المسدس ملقى على المائدة. قال مايكوفسكي: "أطلقتُ النار على نفسي. لم تنطلق الرصاصة، ولم أستطع الضغط على الزناد مرة ثانية- انتظرتك". رحتُ أتحدثُ عن شئ ما لكي أشغله، ثم أخذته إلى منزلي. هناك جلسنا نلعب الورق، وأخذ مايكوفسكي يلعب ويلقي الشعر: قصائد أخماتوفا، وقصائد أخرى كثيرة دون توقُّف.

وعندما انصرف مايكوفسكي، قلتُ لبريك: "إنسان مثل فولوديا ويلجأ إلى مثل تلك الأساليب! أنا أحبه بمثل هذا القدر وهو يدَّعى أنه أطلق النار على نفسه. ولكن أية رصاصة هذه التي لا يمكنها أن تنطلق؟ إما أن يطلق الإنسان النار على نفسه، وإما لا". آنذاك لم أكن أصدق مايكوفسكي. ولكنه أعطى لي بعد ذلك تلك الرصاصة وكانت فيها نقرة أو انبعاجة ما. فعندما يضرب الزناد (أو ذلك الشئ الذي في المسدس) الرصاصة ولا يثقبها، يحدث مثلما حدث- تلك النقرة. في الواقع لقد أطلق مايكوفسكي النار على نفسه، ولكن الرصاصة لم تنطلق، وعموما عرفتُ فيما بعد أن مايكوفسكي لا يكذب أبدا. تلك الرصاصة بقيت عندي في الخزانة لمدة طويلة، ولا أدري أين اختفت.

س. ف: كان مايكوفسكي يلعب مع الموت. هذه اللعبة تسمى في الغرب بـ "الروليت الروسي".

ل. ب: نعم. فعندما انتحر مايكوفسكي عام 1930، قام بإفراغ خزانة المسدس كلها من الرصاص وأبقى على واحدة فقط! وعلى حد علمي فهو كان وسواسيا وقدريا إلى درجة كبيرة، وأنا واثقة تماماً من أنه كان يفكر هكذا: "إذا لم يكن ذلك هو قدري المحتوم، فسوف تحدث تلك النقرة مرة أخرى، وسأظل على قيد الحياة"…

س. ف: هل كانت هناك مشاجرات بينكم وبين مايكوفسكي بسبب قصائده التي أهداها إليكم؟

ل. ب: إضافة إلى قصيدة "مزمار- عمود فقري" كتب مايكوفسكى قصائد أخرى كثيرة غير عادلة تجاهي. وأنا أود أن أحكي لكم عن ذلك. ذات مرة كتب قصيدة طويلة جدا-بدتْ لي على أية حال طويلة للغاية-بعنوان "دون جوان". ألقاها علىَّ أثناء سيرنا في الشارع، فثارت ثائرتي بشدة لأن هذه القصيدة كانت تشبه "مزمار-عمود فقري" إلى حد كبير، بل وربما كانت أسوأ منها بكثير. بدا لي أن مايكوفسكي كتب هذه القصيدة من بقايا قصيدة "مزمار- عمود فقري". "،ُ له: "كم كان ذلك مجهدا، مرة أخرى عن الحب من طرف واحد!" ، فأخرج الأوراق من جيبه ومزَّقها ثم ألقاها في الشارع.
إنهم طوال الوقت يلومونني على ذلك، ولكنني أرد على هذا اللوم بالآتي: "أقول لكم بصدق إنه لم يبق أي شئ لدى مايكوفسكي إلا وتم استخدامه واستثماره. المقاطع الجيدة من قصيدة "دون جوان" تلك، دخلتْ فيما بعد في قصائد وأعمال أخرى- في قصيدة "أُحِب"، أو في "عن ذلك"، ولا أدرى أيضا في أي أعمال أخرى: من الممكن في قصائده المهداة إلى تاتيانا ياكوفليفا.

س. ف: كان مايكوفسكي يرتزق لثلاثتكم عن طريق أشعاره، فهل كان ذلك الأمر صعبا؟

ل. ب: من أجل طباعة الكتب آنذاك كان لابد من بذل جهود خارقة. كل كتاب أو قصيدة نشرها مايكوفسكي كانت تأتى عبْر ضرب رأسه في الحائط. ذات مرة جاء من المطبعة الحكومية وجلس منهارا على الفراش ورأسه منكَّسا إلى أسفل، ثم قال في هزيمة واندحار: "لا أستطيع الاحتمال أكثر من ذلك!". وهذا كله قد حدث فعلا.

س. ف: ليليا يوريفنا، أنتم تقولون إنه كان لدى مايكوفسكي خمسة أو ستة مسدسات…

ل. ب: نعم، نعم…

س. ف: ولكن من أين كانت تلك المجموعة غير العادية في تلك الأيام؟
هل حصل عليها مايكوفسكي عن طريق أجرانوف؟

ل. ب: ليس فقط عن طريق أجرانوف! فكل من هب ودب كان يعطيه… كان هناك أجرانوف، وبشكل عام كان رجال لجنة الطوارئ الذين كان يدعوهم مايكوفسكي إلى المنزل، أولئك الذين كان يتعرف عليهم في النوادي التي كانت مخصصة لهم. فقد كان يلقي قصائده في العديد من هذه النوادي. ومن الضروري أن يكون أحد ما قد دعاه بعد ذلك إلى الغداء… وهلم جرا.
كان أجرانوف بلشفيا قديما عاد من المعتقل عام 1917. كان مهتما جدا بالشعر الذي يتوجَّه إلى الإنسان. وعندما كان مايكوفسكي يلقى قصائده عند رجال لجنة الطوارئ، كان أجرانوف في غاية الإعجاب بها. وذات مرة دعاه مايكوفسكي لتناول الغداء عندنا. بعد ذلك طلب أجرانوف السماح له بالمجئ مع زوجته، ثم أصبحنا أصدقاء. كان يحب مايكوفسكي بشدة. وفي خاركوف تصادق مايكوفسكي مع جوروجانين. بهذا الشكل صار العديد من رجال لجنة الطوارئ أصدقاء لمايكوفسكي.

س. ف: هل كان من بينهم فولفوفيتش؟

ل. ب: ماذا؟

س. ف: فولفوفيتش أيضا كان صديقا لمايكوفسكي؟

ل. ب: آ… فولفوفيتش. لقد تعرَّف عليه مايكوفسكي في سفارتنا بباريس، لأنهما كانا من بين رجال استخباراتنا هناك- فولفوفيتش وزوجته الحسناء فانيا. كانت زوجة غاية في الجمال! أما أنا فقد تعرَّفتُ على فولفوفيتش بعد وفاة مايكوفسكي. فبعد موته اتصلتْ بنا أسرة فولفوفيتش عند وصولها إلى موسكو وطلبوا السماح بالزيارة. فقلنا: "تفضَّلوا". ولكن بعد ذلك… هل تعرفون أنني بعد رحيل مايكوفسكي عشتُ ست سنوات مع بريماكوف؟

س. ف: أعرف..

ل. ب: كان بريماكوف شخصا رائعا، رائعا بكل المقاييس. عندما ألقوا القبض عليه كفَّ رجال لجنة الطوارئ هؤلاء عن المجئ إلينا، وبدأوا يفزعون مني جميعا. رحتُ أتردد على الدوائر التي كانوا يعملون بها، وقمتُ بالذهاب أيضا إليهم: اتصلتُ هاتفيا، كتبتُ الرسائل… وكنتُ أظن أنني سوف أساعد بريماكوف بشكل ما. أما الباقون من مجموعة توخاتشيفسكي فقد أُلقِى القبض عليهم فيما بعد، ثم أُعدِموا جميعا رميا بالرصاص في قضية واحدة وبحكم واحد. تأكدتُ من أن مؤامرة توخاتشيفسكي كانت حقيقية بالفعل! وبالتالي خلعتُ بريماكوف تماما من قلبي. لقد كنتُ أحبه بشدة! عشتُ معه ست سنوات كاملة. أما هو فقد أحبني من الوهلة الأولى. قلتُ له وقتها.. نعم، ولكن إذا كان ذلك بشكل جدي، أما إذا كان على نحو آخر فأنا لا أريد. قال بريماكوف: "الأمور معكم لا يمكن إلا أن تكون بجدية". وهكذا أصبحنا نعيش معا.

س. ف: هل بريماكوف هو الذي أوحى إليكم بفكرة كتابة الرسالة إلى ستالين عام 1935، والتي تضمَّنَتْ الرجاء بالمساعدة في "تحقيق وطبع الأعمال الثورية الضخمة لمايكوفسكي"؟

ل. ب: لا. أنا التي أعطيتُ هذه الفكرة للجميع.

س. ف: احكوا لنا كيف حدث ذلك. لأن رسالتكم وقرار ستالين عليها لعبا دورا كبيرا آنذاك في التاريخ الثقافي لروسيا.

ل. ب: لقد ظلوا يرفضون طباعة أعمال مايكوفسكي لمدة ست سنوات! ولم أعرف وقتها ماذا يمكنني أن أفعل؟ ظنوا في المطبعة أنني مجنونة.
كنتُ أخرج باكية من هناك كل مرة. وكانوا جميعها يكرهون مايكوفسكي ويعادونه! كل أولئك الذين يسمون أنفسهم "واقعيين" كانوا يكرهون مايكوفسكي! ولكنني قلتُ: "يا رفاق، لم أعد أستطيع الاحتمال أكثر من ذلك. يوجد فقط عنوان واحد يمكن الكتابة عليه- ستالين. وسوف أكتبُ إليه. وإذا أراد أن يجيب بشئ ما، سوف يجيب. وإذا كان لا يريد فـ… وعلى أية حال فسوف أفعل ما يجب أن أفعله، لأنه ليس هناك طريق آخر".

كتبتُ رسالة إلى ستالين. ذهب بريماكوف إلى موسكو يوم السبت وأعطى تلك الرسالة للقومندان في الكرملين. من الواضح أن ستالين تسلَّمها في اليوم نفسه. كان ذلك يوم السبت. وفي يوم الاثنين اتصلوا بي هاتفيا من اللجنة المركزية للحزب. اتصل "يُجُوف" الذي لم يكن قد أصبح بعد يُجُوف الذي عرفناه. آنئذ حضر بريماكوف، فسألته: "مَنْ يُجُوف هذا؟". فقال: "انتُخِب مؤخَّرَا (أو قال- عُيِّن، فأنا لم أعد أدرى كيف يقومون بذلك الأمر هناك) السكرتير الرابع للجنة المركزية". طلبتُ من بريماكوف أن يحجز لي على الفور تذكرة قطار إلى موسكو وفي ذلك المساء نفسه أعددتُ ورقة صغيرة دوَّنتُ فيها كل ما يجب أن أقوله ووضعتُ صورة الرسالة في حقيبة يدي. وصلتُ إلى موسكو وذهبتُ إلى اللجنـة المركزية. احتجزني يُجُوف في مكتبه ساعة ونصف. ساعة ونصف! قام بالاتصال مع بولجانين الذي كان يدير موسكو آنذاك، وقال: "هذا ما يفكِّر فيه صاحب الأمر". وراح يقرأ قرار ستالين المكتوب على رسالتي.

كانت رسالتي إلى ستالين مفتوحة على مكتب يُجُوف وعليها بالقلم الرصاص الأحمر قراره الذي يتضمن اسمي. على سبيل المثال: أرجو الاهتمام برسالة بريك… بريك لديها حق… اتصلوا ببريك.. استدعوها إلى موسكو… إلخ

كانت لدىَّ في حقيبتي نسخة من الرسالة إلى ستالين. استأذنتُ يُجُوف في نقل قرار ستالين، فقال : "تفضَّلوا". فدوَّنتُ هذا القرار. لدىَّ الآن انطباع بأنني لو كنتُ قد طلبتُ آنذاك من يُجُوف أن يعطيني الرسالة الأصلية لفعل. تلك الرسالة لا تزال موجودة عندي بالخزانة حتى وقتنا هذا. وها هي النسخة التي كانت موجودة معي في الحقيبة.

قلتُ ليُجُوف: "لقد أحضرتُ معي ورقة كتبتُ فيها كل ما يجب أن أقوله".
فأجاب: "هذا حسن جدا. لدىَّ ذاكرة جيدة، وسوف يكون عندي ما أرتكز عليه". قال شيئا ما من هذا القبيل، واحتجزني ساعة ونصف في مكتبه! كان كل شئ قد تقرر بشأن الأعمال الكاملة لمايكوفسكي. وبشأن متحفه أيضا. انضم إلى العمل كل من "تال" و"ميخليس". كان ميخليس رئيس تحرير جريدة "برافدا"، أما تال فكان رئيس شؤون الطباعة والنشر باللجنة المركزية.

في ذلك المساء نفسه ذهبتُ إلى ميخليس في جريدة "برافدا". وفي المساء التالي ذهبتُ مرة أخرى. انفتحتْ أمامي جميع الأبواب، وكان الجميع في حالة عامة من الحنق والاستياء لتلك السعادة التي هبطت على مايكوفسكي.

س. ف: في 17 أبريل عام 1930، وهو يوم دفن مايكوفسكي، هل كانت جميع الإجراءات والمراسيم بأوامر من ستالين؟ وذلك لأن الجنازة كانت حدثا في غاية الضخامة والمهابة. أم أن ذلك الحدث كان من الممكن أن يكون عفويا في موسكو الستالينية؟

ل. ب: لا. كان كل شئ عفويا تماما. لم يكن هناك أي ترتيب خاص للجنازة على الإطلاق، لأنه لم يكن هناك أحد يتوقَّع أن ينهي مايكوفسكي حياته بالانتحار. كان هناك العشرات والمئات والآلاف من البشر لدرجة أنني لم أستطع الوصول إلى المحرقة. قالت والدة مايكوفسكي إنها لن تسمح بدفن فولوديا على الإطلاق من دون وجود ليليا يوريفنا. كانت ميليشيات الخيَّالة، وكل تلك الأمور موجودة، فأخذوا يصيحون لحظتها: "بريك! بريك! بريك!". وراحوا يتقاذفونني من فوق رؤوسهم عبر البوابة الكبيرة. بهذه الطريقة فقط تمكَّنتُ من الوصول إلى المحرقة.

س. ف: هل تتذكرون رد فعل أجرانوف على انتحار مايكوفسكي؟ لقد قرأتُ أن أجرانوف هو أول من قرأ رسالة مايكوفسكي التي كتبها قبل الانتحار، وذلك لكي يتأكد-على الأرجح-من أنها لا تتضمن أي شئ معاد للسوفييتات…

ل. ب: كان أجرانوف ببساطة منهارا تماما لهذا الخبر. أما جوروجانين عندما عرف بانتحار مايكوفسكي فقد سقط فاقدا الوعي. كان كل منهما يحبه بشدة. ولكنهما صارا بعد ذلك نذلين. وربما يكونوا قد أجبروهما على أن يصبحا كذلك. فعلى سبيل المثال… عندما تعرَّفنا على أسرة أجرانوف، رأينا كيف كانوا يعيشون في حجرة مليئة بالبق. ولكنه كان يدعونا وكنا نذهب إليه أحيانا في المساء. كانت الفودكا دائما لا تكفى، فكان أجرانوف ينزل بنفسه لشرائها. كانت أسرة أجرانوف تعيش في فقر مدقع، ولكنها ذهبت بعد ذلك لتعيش في الكرملين. وقتها كادت فالنتينا زوجة أجرانوف تفقد صوابها من فرط الإحساس بالأهمية. تغيَّرتْ تماما. ولكن في وقت لاحق روت لي امرأة كانت معها في زنزانة واحدة أنهم كانوا يجرُّون فالنتينا على الأرض من غرفة التحقيق وهي مكبَّلَة بالأغلال. كانوا يعذبونها هناك ثم يسحبونها نصف ميتة. وذات مرة قالت: "إذا ظل أحد منكم حيَّاً فليحك للآخرين ما فعلوه معنا هنا". لقد حكت لي تلك المرأة كل ذلك بعد أن نجتْ بمعجزة.

س. ف: إن ما تحكون عنه الآن في غاية الأهمية لأنهم لا يكتبون عنه حاليا، ولا يكتبون أيضا عن علاقة ستالين بمايكوفسكي. هذا موضوع ممنوع من كل الجوانب… ولكن مما لا شك فيه أن ستالين كان يتحكم بدرجة كبيرة في الأمور الأدبية، بل وفي جميع الأحداث الثقافية في الدولة…

ل. ب: ستالين؟ لقد كان كل شئ في قبضته. كل شئ. لم يكن من المفروض التوجه إلى أي إنسان سوى ستالين. كان هناك عنوان واحد فقط. ولو كنتُ قد اتصلتُ مع مولوتوف أو مالينكوف لذهبتْ جميع جهودي عبثا. فمن خلالهما كان من الممكن الحصول على تصريح باستخراج جواز سفر خارجي أو تأشيرة، ولكن ليس أبدا لطباعة أعمال مايكوفسكي.

س. ف: في ماذا كنتم تفكرون عندما ألقوا القبض على بريماكوف….

ل. ب: ماذا؟

س. ف:… عندما اختفى بريماكوف…

ل. ب: كان من الممكن أن أختفي أنا الأخرى. ولكن ما أنقذني هو قرار ستالين على رسالتي. من دون ذلك كان من الممكن ألا أكون موجودة الآن. أؤكد لكم ذلك…

عن إيلاف
الثلاثاء 10 فبراير 2004 


إقرأ أيضاً: