د. محمود صبح

1

غابْريِيل غارْثِيّا مارْكِيث لقد نهضت من سريري حين استمعت من المذياع خبر وفاة هذا الروائيّ العظيم صديق وطني فلسطين فكتبت ما يلي:
لم تكن سنة 2002 مدعاة لافتخار الروائيّ الكولُمْبيّ الشهير(غابْرِييل غارْثِيّا مارْكِيث Gabriel García Márquez) -على هذا النحو يجب أن يُكتب اسمه بلغتنا العربيّة-
حين نشر الجزء الأوّل من مذكّراته بعنوان: "أن تحيى لكي تروي الحياةVivir para contrarlo "
-هكذا علينا أن نترجم العنوان- (بدأ بكتابته بعد نشره لرواية"الزعيم في متاهته El general en su laberinto") فحسب, بل كذلك كانت مناسبة انقضاء 20 عاما على نيله "جائزة(نوبل) للآداب" و 35 حولاً على عرضه أهمّ رواية باللغة الإسبانيّة، بعد أن قضى اكثر من 15 سنة وهو يعيد صياغتها وحياكتها وتنقيحها بعد أن أنهى كتابتها في المكسيك خلال 18 شهرا بين عامي 1965 و 1966 وهو منكبّ عليها حوالي عشر ساعات يوميّا ، ألا وهي "مائة عام من العُزْلةCien años de soledad " -هذه هي الترجمة الصحيحة لعنوانها-
و 55 سنة على نشره أوّل قصّة كتبها، ومضيّ ثلاثة أرباع قرن على ولادته في "أراكاتاكاAracataca " بشمال كولومبيا عام صبيحة يوم الأحد الواقع في السادس من شهر آذار/مارس عام 1927.
بعد أن أتمّ دراسته الابتدائيّة والمتوسّطة في بلدته انتقل عام1940 إلى مدينة "سان خوسهSan José " ليتابع دراسته الثانويّة ولكنّه أنهى هذه الدراسة في مدينة"ثيباكيرا Zipaquirá " حيث حصل على الشهادة الثانويّة(=بكالوريا) في الثاني عشر من كانون الأوّل/ديسمبر عام 1946 . تسجّل في كلّيّة الحقوق بالجامعة الوطنيّة لمدينة"قرطاجنّـة" (ليست هي المدينة الواقعة في الساحل الجنوبيّ لإسبانيا بل هي مدينة بهذا الاسم في كولومبيا، على عادة الأمريكيّين الجنوبيين في تسمية كثير من المدن عندهم بأسماء مدن في شبه الجزيرة الإيبيريّة: إسبانيا والبرتغال، كما فعل العرب بتسمية مدن الأندلس بأسماء مدن بلاد الشام) في الخامس والعشرين من شباط/فبراير عام 1947، ولكنّه مال إلى الصحافة اعتبارا من 18 أو 19 من أيّار/مايو عام 1948.
بدأ عمله كصحفي في صحيفة "الهيرالدوEl Heraldo" (=النذير) بمدينة"بارّانكيّا Barranquilla" ابتداء من عام 1949، وفي هذه المدينة انضمّ إلى فريق من المثقّفين عرف باسم هذه المدينة، وفي الخامس من كانون الثاني/يناير عام 1950 شرع بنشر مقالاته في هذه الصحيفة كعمود يوميّ تحت عنوان" الخرافةLa jirafa "(= الزرافة، كلمة من أصل عربيّ مثل كثير من الكلمات والعبارات في اللغة الإسبانيّة). غير أنّه في الشهر التالي عاد إلى "قرطاجنّة" حيث أدار مجلّة "كومبريميدوCompremido"(=المضغوط).
بيد أنّه بعد سنتين، على وجه الدقّة، عاد إلى مدينة"بارّانكيّا" ليتابع من جديد كتابة عموده اليوميّ "الزرافة" في الصحيفة ذاتها، وقد علّق على ذلك قائلا: "صحفيّون آخرون كانوا يريدون كتابة كلمة العدد، لكن بالنسبة لي كان يهمّني تغطية الحرائق والجرائم". ولكن، في الحقيقة كان كاتب مقالات قيّمة وناقدا سينمائيّا جيّدا. وفي هذه الفترة كتب أوّل رواية: "تهافت الورقة La Hojarasca"، على وجه الدقّة بناء على ما يقول مؤلّفها نفسه: " لقد كتبت هذه الرواية خلال شهر شباط/فبراير عام 1951."- غير أنّ مؤلّف كتاب "مقالات غابرييل غارثيّا ماركيث" يزعم أنّه بدأ بكتابتها في حزيران/يونيو أو تمّوز/يوليو عام 1900 وأنّه استمرّ في كتابتها حتّى حزيران/يونيو عام 1951-، وقد رفضت نشر هذه الرواية الصغيرة إحدى دور النشر الأرجنتينيّة،ثمّ نشرتها دار نشر أخرى عام 1955.
في عام 1954 سافر(غابرييل غارثيّا ماركيث) إلى روما كمراسل لصحيفة"الإسبيكتادورEl Espectador "(=المتفرّج) لينقل إلى قرّاء أمريكا الجنوبيّة نعي البابا(بيو الثاني عشرPio XII ) ـ الذي كان ينازع عند وصول الكاتب إلى روما ـ وليغطّي تفاصيل وفاته بمقالات عديدة.
في عام 1957 عاد من أوربّا، بعد أن تجوّل في ألمانيا وفي تشكوسلوفاكيا وفي الإتّحاد السوفييتيّ ،مارّا بفينزويلا، إلى كولومبيا ليتزوّج بالآنسة(ميرثيديس) .
في 1961عام نال جائزة"ايسّو Esso"الأدبيّة عن روايته"الساعة السيّئة" التي نشرت في العام التالي، وإن كان هو لا يعترف إلاّ بطبعتها الصادرة عام 1966، إذ أنّه كان قد أعاد صياغتها من جديد.
في عام 1962 ظهرت له روايته الرائعة التي نقلت إلى الشاشة فيما بعد وأدّت دورا مدهشا فيها الممثّلة المكسيكيّة ذات الأصل اللبنانيّ(سلمى ألحايك)، تحت عنوان: "ليس للعقيد(=كورونيل أو كولونيل) من يكتب لهEl Coronel no tiene quien le escriba"، وكان قد انتهى من كتابتها، على وجه الاحتمال، عام 1957- أو 1959بناء على بعض الدارسين لمسيرته الأدبيّة- .
في عام 1962 جمع ثماني قصص له في كتاب بعنوان: "جنازات الأمّ الكبيرةLos funerales de Mama Grande"، وقد جمع(جاكيس جيلاردJacques Gilard ) قصصا أخرى ل(غابرييل غارثيّا ماركيث) نشرها في برشلونة عام 1981 مع مقدّمة كتبها هذا الجامع الفرنسيّ تحت عنوان: "نصوص ساحليّة Textos costenos.
وحينما سكن في المكسيك كتب قصصا للسينما، وهي واقعيّة جدّا، وهو يقول عن الواقعيّة: "انّ إلتزامي هو مع الواقع كلّ الواقع أي متمسّك بالتزام أدب يعالج الواقع بمجمله، فلق وصلت إلى الاعتقاد بأنّ ثمّة شيئا يمكن أن ندعوه: في سبيل الواقع".
بالإضافة إلى العديد من المقالات والقصص والروايات العديدة الأخرى، ، فانّ روايته الخالدة" مائة عام من العزلة" هي أهمّ ما كتب باللغة الإسبانيّة بعد "(دون كيخوتهDon Quijote )"(=دون كيشوت)، إذ هي، كما يقول مبدعها نفسه: "إنّ النصوص والكتب السابقة جمعاء تنصبّ في "مائة عام من العزلة". استهلك في كتابتها أكثر من خمسة آلاف صفحة وقد كان يحبّرها خلال 18 شهرا ابتداء من عام 1965 إلى أن نشرها في بونوس أيريس، عاصمة الأرجنتين، عام 1967. وقد أجمع الدارسون على التشابه بين هذه الرواية وبين ألف ليلة وليلة.
يقول الباحث (خواكين ماركوJoaquín Marco) في مقدّمته لهذه الرواية في طبعتها الثالثة المنشورة في إسبانيا عام 1982: "يكافح(غابرييل غارثيّا ماركيث) كذلك ضدّ الموت بسلاح الخيال ومن خلاله متّخذا أنموذجا له معروفا من الأدب التقليدي والشعبيّ، ألا وهو ألف ليلة وليلة. إنّ شهرزاد، تجاه احتمال قتلها، تحيك حكاية جديدة كلّ ليلة، فقد جعلت نصب عينها شعار: الحكاية تعني ديمومة الحياة. كثير من العناصر القَصَصيّة في رواية" مائة عام من العزلة" تبدو وكأنّها متأتّية من الحكايات الشرقيّة، التي كانت في الأصل شفويّة، المتسلسلة في ألف ليلة وليلة. خذ مثلا الجوّ السحريّ؛ وعلى وجه الدقّة "الغجر الجدد"؛ "الصندوق الساحر"؛ "ماكوندوMacondo ".إنّ المجال الروائيّ هو منطقة مسحورة أصيلة، فيها تنتج أعمال خارقة فوق العادة، تروح وتجيء أبعد من قوى الطبيعة؛ "معجزات" حقيقيّة، ولو أنّها متعرّية من دلائلها الدينيّة".
وقد صرّح عدّة مرّات بأنّ روايته هذه تدين إلى الرواية العربيّة العالميّة : ألف ليلة وليلة، لما فيها من واقعيّة تخيّليّة ولما فيها من قوّة سحريّة قادرة على إماتة الموت، حتّى أنّه يقال بأنّ من قرأ الليلة الواحدة بعد الألف فانّه سيلقى حتفه حالا، ولذلك فانّه يعيد قراءة ألف ليلة مستثنيا الأخيرة.
يروي الجزء الأوّل من مذكّراته حياة هذا الإنسان منذ ولادته إلى رحلته الأولى إلى "القارّة القديمة"=أوروبّا عام 1954، أو بالأحرى منذ بداية عشق والده(غابرييل إليخيو) للصبيّة المثقّفة الحنون(لويسا سانتياغو ماركيث إغوارا)، التي تُوفيت عشيّة يوم الأحد الواقع في التاسع من شهر حزيران/يونيو من هذه السنة المنصرمة. وفعلاً فانّ الموت هو المحور الرئيسيّ لجميع ما كتب وألّف، 333 شكلا للمنيّة التي لا تني تلاحقه وتطارده فيقصّ علينا أحسن القصص عنها ويروي الحياة بعد أن يحياها فيُحييها لكي تحيى إلى الأبد بفضل أنجع دواء، ألا وهو الأدب الخالد. ألموت هو دَيْدَنه، خذ مثلا على ذلك ما رواه هو من أنّ خالته(فرانثيسكا) جلست يوما تخيط كفنها فسألها: "لماذا تصنعين كفنا؟". فأجابته: "أيّها الطفل، لأنّي سأموت ألتوَّ، ألآنَ". وفعلا ما أن أنجزت الكفن حتّى اضطجعت في فراشها وماتت.
لعلّنا في هذا المقال الذي به نعيد صلتنا الودّيّة بفن الترجمة الذي نعترف بأنّنا مارسناه خلال سنين عديدة نعطي فكرة موجزة للقارىء العربيّ عن هذه المذكّرات لهذا الكاتب العبقريّ المولع بثقافتنا العربيّة-الإسلاميّة والمدافع عن قضايانا العادلة بأن نورد هنا بعض العبارات الواردة في هذا الجزء الأوّل من هذه المذكّرات أو المذكورة في بعض المقابلات والأحاديث معه، المعبّرة عن محتوى هذا الجزء ومسرى الروائيّ نفسه، وأن نذكر بعض الجمل التي استهلّ بها خطابه لدى تسلّمه"جائزة (نوبل) للآداب" في استوكهلم بشهر تشرين الثاني/ديسمبر عام 1982، إذ أنّها تعكس أسلوبه القصصي-الشعريّ في هذه المذكّرات السلسة، وأن نسرد مقاطع من مقال له يدافع به عن حقوقنا في فلسطين السليبة كرمز لمواقفه الأبيّة الصلبة منذ مطلع صباه الوسيم السليم إلى شيخوخته الرصينة المريضة
-أصيب أخيرا بمرض السرطان اللعين-.
جاء في مستهلّ الجزء الأوّل من مذكّراته -منذ صدوره بيع منه أكثر من مليون نسخة خلال شهرين- هذا التصدير الوجيز المعبّر:"ليست الحياة ما يعيشه المرء، بل ما يتذكّر الإنسان منها، بله كيف يتذكّرها". ويذكر موت جدّه، والد والدته،( نيكولاس ريكاردو ماركيث ميخيّاNicolás Ricardo Márquez Mejía) الذي رعاه وحنا عليه منذ نعومة أظفاره الى بلوغه ثماني سينين من عمره، فيقول:"إنّ ذكراي الأخيرة لدارنا في "كاتاكاCataca "-تصغيير تحبّب لأسم بلدته "اراكاتاكا"- أثناء تلكم الأيّام الشنيعة لهي ذلك المصطلى بفناء الدار حيث أحرقت ملابس جدّي. أزياؤه الوطنيّة الحربيّة وثيابه الكتّانية البيضاء كانت تنمي عنه كعقيد في الحرس المدنيّ كما لو كان لمّا يزل حيّا ضمن هذه النيران التي استمرّت ملتهبة مشتعلة.(...). اليوم أراه جدّ واضح: بعض منّي مات معه.بيد أنّي أعتقد، بلا أيّ شكّ، أنّه في هذه اللحظة انبثق كاتب من المدرسة الابتدائيّة لا ينقصه سوى أن يتعلّم الكتابة".
وكان جدّه هذا قد شارك في عدّة حروب أهليّة أهمّها الحرب التي نشبت في ساحل كولومبيا عام 1899 وانتهت عام 1901. وحين ولد(غابرييل) كان عمر جدّه حوالي خمس وستّين سنة، وعندما بلغ الخامسة من عمره نشأت بينهما صداقة حميمة، فكلّما كان الطفل يسأل جدّه عن شيء لا يعرفه يجيبه بقوله: هيّا بنا لنرى ما يقول القاموس، ومنذ ذلك الحين بدأ(غابرييل)يهتمّ بهذا "الكتاب المثير" أي قاموس المعارف الإنسانيّة.
وبعد وفاة جدّه انتقلت أسرته من "اراكاتاكا" حيث ولد وأرسل هو فيما بعد إلى عاصمة كولومبيا للدراسة، ولم يعد إلى بلدته إلاّ مع والدته لتبيع الدار التي كانت لجدّه فالتقت أمّه ،عند باب إحدى الدور، بامرأة تغزل فعرفتها فتعانقتا وأجهشتا بالبكاء، عن هذا اللقاء المؤثّر يقول:" هناك، من هذا اللقاء الجديد خرجت أولى رواياتي".
أمّا عن علاقته بأمّه فهو يقول:
"منذ طفولتي المبكّرة كانت علاقتي بوالدتي تميّزها الجدّيّة الكاملة، ربّما تكون هي العلاقة الأكثر جدّيّة طيلة حياتي كلّها، فكلّما تطرّقت معها إلى أيّ موضوع معها كانت الصرامة الصرف هي الطاغية أكثر من المودّة المعتادة بين الأمّ ووليدها، انّه لأمر صعب الشرح، لكنّه كان على هذا النحو. ربّما مردّ ذلك إلى أنّي شرعت بالعيش معها ومع والدي-بعيد وفاة جدّي- وأنا يافع أستعمل عقلي، فلا فريّة بأنّ دخولي إلى المنزل كان بمثابة ولوج شخص يمكن لها أن تتفاهم معه، وسط أبنائها الكثيرين، إذ أنّ جميع أُخوتي هم أصغر منّي عمرا، وكنت أنا هو من يعاونها في التفكير بحلّ مشاكل الأُسرة التي كانت آنذاك جدّ عسيرة وليست بسارةٍ مطلقا، ضمن فقر مدقع وصل في بعض الأحيان إلى أن يكون فاقة لا طاقة لنا على تحمّلها، أضف إلى ذلك أنّنا لم تسنح لنا الظروف بالعيش معا تحت سقف واحد خلال زمن مديد، لأنّي بعد سنين قليلة، حين أتممت الثانية عشر من عمري، غادرت منزلنا للدراسة".
وعن والده يقول:
"حين أتممت الثالثة والثلاثين من عمري تذكّرت على حين غرّة بأنّ هذا كان عمر والدي حين رأيته يلج لأوّل مرّة إلى دار جدّي. أذكر ذلك جيّدا لأنّه كان يوم عيد ميلاده، وقد قال أحد الحاضرين آنذاك: "لقد أتمّ عمر السيّد المسيح". كان رجلا أهيف نحيلا، ذا بشرة سمراء، ظريفا، لطيفا، بذيء الكلام أحيانا. إنّي لا أتكلّم عنه إلاّ قليلا لأنّ معرفتي به كانت أقلّ من معرفتي لوالدتي".
وعن زوجته يسرد:
"تعرّفت على(ميرثيديسMercedes ) في الشاطىء الكريبيّ، حيث كانت تعيش أسرتانا خلال عدّة سنين، وحيث كنّا نقضي هي وأنا إجازاتنا. والدها ووالدي كانا صديقين حميمين منذ مطلع شبابهما. ذات يوم، أثناء حفلة رقص للطلبة، وآنذاك كان لها من العمر ثلاث عشرة سنة لا غير، طلبت منها، دون لفّ ودوران، أن توافق على أن أتزوّج بها. والآن أرى أنّ هذا الطلب كان بمثابة استعارة أدبيّة لكي أقفز فوق جميع اللفّات والدورانات التي كان لا بدّ منها في تلكم الفترة لكي يتوصّل المرء إلى خطبة آنسة. ولا شكّ في أنّها فهمت ذلك على هذا النحو، لأنّنا واصلنا لقاءاتنا وإن كانت عرضيّة، غير منتظمة. وأظنّ أن كلانا كان يدرك بلا أيّ شكّ بأنّه عاجلا أو آجلا سوف تصبح الاستعارة حقيقة واقعيّة. وفعلا، بعد عشر سنوات من ابتداعي هذه الاستعارة غدونا زوجا وزوجة، دون أن نكون من قبل خطيبين رسميّين، لأنّا كنّا واثقين من بلوغ هدف لا بدّ منه دون أيّة عجالة وبلا أيّ قلق. نحن الآن على وشك إتمام خمس وعشرين سنة من زواجنا , ولا في أيّة لحظة مضت جرت بيننا مناقشة حادّة. أظنّ أنّ السرّ يكمن في أنّنا قد مضينا ندرك الأشياء كما كنّا نفهمها قبل زواجنا بلا أيّ تبديل. أيّ أنّ الزواج، مثل الحياة بأسرها، هو شيء جدّ صعب على نحو مخيف، إذ لا مناصّ من العودة إلى البدء منذ البدء طيلة الأيّام كلّها وخلال الحياة جمعاء. الجهد متواصل مستمرّ وحتى أنّه مُنْهِك كثيرا أحايين كثيرة، لكنّه يستحقّ العناء. تبوح إحدى شخصيّات رواية من رواياتي على نحو أكثر شراسة وفصاحة بهذه المعاناة إذ تؤكّد قائلة: "الحبّ يُتَعَلَّمُ كذلك".
وعن علاقته بولديه يقول:
"إنّ علاقتي مع ابنَيّ لهي ممتازة جدّا. أجد دائما الوقت الكافي لكي أكون رفقتهما، متحدّثا إليهما في منزلنا. ومنذ أن بدءا يعيان ويدركان فانّ القرارات جميعها تتخذ باستعمال أربعة أدمغة. وأنا لا أفعل ذلك لأنّي فكّرت بأنّه منهج أفضل أو أسوأ من غيره من المناهج التربويّة، بل لأنّي اكتشفت على حين غرّة، حين بدأ ولدايَ بالنموّ، أنّ ميلي الحقيقيّ هو أن أكون أبا راعيا للأبناء، وكم يعجبني أن أكون فعلا أبا حادبا حنونا، لقد كانت أكثر التجارب في حياتي حماسة هي تجربة معاونة ابنَي الاثنين على النموّ والبلوغ، وأظنّ أنّ أفضل ما فعلته في حياتي ليس هو ما ألّفته من كتب بل ما قمت به من عناية لأبنيّ الاثنين. انّهما صديقان حميمان لي ولزوجتي لأنّهما تربّيا بأيدينا وتحت رعايتنا معا.
وعمّا كتب من قصص وروايات نقتطف:
"قد ينشأ ما يكتبه الآخرون من الأدباء عن فكرة أو مفهوم، أمّا أنا فأنطلق من صورة من الصور البصريّة. "قيلولة الثلاثاءLa siesta del martes "، التي أعتبرها أفضل قصصي، نشأت من رؤيتي لامرأة وطفلة مرتديتين السواد ومتعمّمتين بالسواد، كانتا سائرتين تحت شمس محرقة في قرية خاوية قفر؛ "تهافت الورق" هي حكاية رجل هرم يحمل حفيده ليدفنه؛ نقطة انطلاق" ليس للعقيد من يكتب له" هي صورة رجل ينتظر بنوع من القلق الصامت زورقا في سوق "باراتكيّا"، بعد سنوات وجدت نفسي في باريس أنتظر رسالة، لعلّها حوالة ماليّة، بالقلق نفسه وبالكرب ذاته، فتذكّرت ذلك الرجل؛ أمّا الصورة البصريّة لرواية "مائة عام من العزلة" فهي صورة امرأة عجوز تأخذ طفلا ليعرف ما هو الثلج، وقبل أن أجلس وراء الآلة الكاتبة لصياغتها التي استغرقت منّي أقلّ من عامين بقيت مفكّرا في هذا الكتاب خمس عشرة سنة، أو بالأحرى سبعة عشرة عاما؛ ومثل هذا الوقت استغرقت منّي رواية"خريف البطريركEl otoño del Patriarca "؛ أمّا رواية "سيرة موت معلن عنهCrónica de una muerte anunciada " فقد استغرقت منّي ثلاثين سنة".

واليكم الآن"صورة" تسلّمه "جائزة(نوبل) للآداب:
في العاشر، من شهر كانون الثاني/ديسمبر عام 1982وصل (غابيGabi)
ـ اسم تصغير تحبّب ل(غابرييل غارثيّا ماركيث)- إلى "دار المعزوفات الموسيقيّةKonserthuset في عاصمة السويد، مرتديا زيّا شبيها بالزيّ الوطنيّ الذي كان يرتديه جدّه:"ليكي-ليكي liqui ـliqui " غير آبه بالكياسة -هذه أفضل كلمة لترجمة"البرتوكول"- التقليديّة الرصينة في مثل هذا الاحتفال المهيب، فحيّاه الحضور وصفّقوا له، ثمّ جلس على كرسيّ في الصفّ الأوّل إزاء رفاقه الذين منحوا مثله"جائزة (نوبل)"، فما هي إلاّ هنيهة حتّى أعلن عريف الحفل بأنّ الأمين العامّ للمجمع الملكيّ السويديّ سيقرأ تقرير اللجان المحكّمة في منح الجوائز بين يدي جلالة الملك (غوستابوGustavo ).
أثناء ذلك أخرج(غابو) ستّ صفحات من جيب سترته البيضاء المرصّعة بالأزرار حتّى عنقه، وراح في غيبوبة دامت أكثر من مائة دقيقة، ثمّ طفق يناجي نفسه ويحدّثها
: "لشدّما أرهقت نفسي في إعداد هذا الخطاب!"؛ "إنّي لمدرك بأنّ كلّ كلمة سأقولها سوف يكون لها وقع كونيّ"؛ " بهذه الصفحات الستّ أدين أوروبّا بأنّها لا تعي بأنّ ثمّة لغات أخرى وأنماطا شتّى لشرح الواقع"؛ "قيمتنا الوحيدة هي أننّا صادقون، نعرف ذواتنا كما هي لا كما يرغب الآخرون أن تكون"؛ لقد أحسنت صنعا حين ألححت على أن أرتدي زيّ بلدي، ولي في (طاغور) أسوة حسنة، وهاأنذا أبدو مثل العقيد(اوريليانو بونديّا Aureliano Buendía) بطل روايتي" مائة عام من العزلة"؛ "حسنا في حفلة العشاء مع الملك سوف أرتدي الزيّ الأوربّيّ الرسميّ"فراكfrak"، هذا الزيّ الذي ابتدعه(غوتهGoethe )، وهو في الأصل كان لباس البرهميّين وحتّى الثوريّين، ولكنّي لن أنزع هذه الوردة الصفراء التي تجلب لي دوما الخير العميم"؛ "إنّ منحي "جائزة(نوبل)" هذا العام لمصيبة حلّت بي، إذ أنّي لم أستطع أن أتجنّب تأثيرها على مجرى حياتي، ومنذ أن منحتها وأنا لا أفعل شيئا إلاّ أن أكتب هذه الصفحات الستّ، وهي تكفي، علما بأنّ المجمع اللغويّ السويديّ حثّني على كتابة أربع وعشرين صفحة، ولكنّي ارتأيت أن أوجز وأختصر لأنّ الكلام المسهب الذي يستغرق أكثر من ساعة هو لغو، لقد أعددت خطابا سياسيّا وليس أدبيّا كما ينتظر منّي هؤلاء الحاضرون. هذه فرصة سانحة لأشرح الوضع السياسيّ في بلدي وفي أمريكا اللاتينيّة"؛ " لم أغبط زملائي الآخرين الحاصلين على الجائزة كذلك، إذ ليس عليهم أن يتفوّهوا ببنت شفة، ومع ذلك حين ينادى عليهم لاستلام الجائزة سوف يصفّق الحضور لهم ربّما أكثر ممّا سيصفّقون لي بعد إلقائي كلمتي هذه التي كلّفتني الجهد الكثير ومنعتني من مواصلة كتابتي لروايتي الجديدة التي محورها هو الحبّ، حيث الناس كلّ الناس يشعرون بسعادة غامرة، مثاليّة جديدة كاسحة للحياة، حيث يرتع الحبّ فعلا وحيث تكون السعادة ممكنة جدّا وحيث العشائر المدانة بمائة عام من العزلة يمكن لها في النهاية وللأبد فرصة أخرى فوق اليابسة".
وقاطع مناجاته نداء العريف فوقف ثمّ خطا مسافة بضعة أمتار وقد طأطأ رأسه قليلا ليلمح الوردة الصفراء المعلّقة في عروة معطفه علّها تعينه وتسعفه في هذه اللحظات الحرجة، وحين اقترب حاول أن يشمخ برأسه الكبير الضخم، ولكنّ رقبته الغليظة القصيرة لم تمطّ أوتارها إلاّ قليلا، فهزّ منكبيه وشرع يلقي خطابه الوجيز الموحيّ الذي عنونه ب"نخب الشعرBrindis por la poesía ", مشيرا بذلك إلى خطواته الأولى في مراحل الأدب، فاستهلّه بقوله:

"في كلّ سطر أخطّه أحاول دائما، فأوفّق كثيرا أو قليلا, استدعاء الأرواح الشمّاء للشعر وأسعى أن أترك في كلّ كلمة شهادة عبادتي لقيمه التنبّؤيّة ولانتصاره الدائم على قوى الموت الغاشمة الصمّاء"؛ "إنّ هذا القرن، قرن الدياجير والعزلة، لهو مصيرنا المحتوم...".
وتابع إلقاء خطابه بلغة إسبانيّة شعريّة وبلهجة كولومبيّة عذبة موسيقيّة، غير آبه بأن ترضى زوجه الجالسة تجاهه بين الحضور وبأن تقرّ عينا إبنه الصغير المتطلّع إلى أبيه في إعجاب وخشية معا. وحين أنهى كلامه وقف الجميع يصفّقون، ثمّ دنا من الملك وصافحه بيده اليمنى فيما كانت يده اليسرى تنفتح بين بين محاولة استلام صكّ الجائزة البالغ مائتي ألف دولار أمريكي، دون أن تسّاقط أيّة ورقة من أوراقه الستّ.
يبدو أنّ(غابي) قد ذهل ساعة الحفل فهو لا يحدّثنا بشيء عن روعة ذاك الملتقى، بيد أنّه يتحفنا بالحديث عن الليلة السابقة عليه، إذ يقول في مقال له بعنوان:"عشاء سلام في هاربسون Cena de paz en Harpsund ":
"بعد حوالي ساعتين من السفر ليلا عبر طريق جليديّ وصلنا إلى منزل ريفيّ في "هارببسون" تلبية لدعوة إلى العشاء كان قد وجّهها إلينا رئيس الحكومة السويديّ( اولوف بالمهOlof Palme )، وذلك في التاسع من شهر كانون الأوّل/ديسمبر. كان الليل هادئا وكنّا
-أنا وزوجتي(ميرثيديس)- نتوقّع أن نشاهد عبر الضباب الكثيف قصرا ذا نمط قديم شبيه بقصور القرون الوسطى التي يصفها(انديرسونAndersen ) في قصصه، ولكنّا لمحنا، حين ولجنا، دارا بسيطة نظيفة وسط مرج وديع بديع، إزاء بحيرة راقدة تحت الجليد، تحفّ بها بيوت أعدّت للضيوف. هذا هو المنزل الريفيّ لرؤساء الحكومة المتعاقبين في السويد.
خلال ذلك الأسبوع المنهك جرت مهرجانات عديدة تكريما لأمريكا اللاتينيّة. كان الناس في كولومبيا يخشون خشية القرويّ تجاه ابن المدينة، أن يرتكب وفدنا الثقافيّ حماقات في اللياقة والكياسة ببلدان شمال أوربّا المتمدّنة جدّا. بيد أنّ وفدنا الثقافيّ أدّى المهمّة على أحسن ما يرام، إذ أنّه لم يكتف بإظهار تراثنا الثقافيّ فحسب بل أكّد على أنّ هوّيّتنا هي ذات طابع محدّد يعبّر عن نفسه بلا تحفّظات. خذ دليلا على ذلك أنّ الملكة(سيلفياSilvia ) عبّرت لي عن أسفها بأنّها لم تجد الفرصة السانحة ولا الوقت الكافي لكي تتعلّم رقصة"كومبيا Cumbia" لكي تؤدّيها مع فرقة وفدنا الثقافيّ. باحت لي بأنّها كانت قد حاولت أن تؤدّيها مرّة واحدة وهي ترغب في أن تتقن وتفهم رقصتنا هذه، إذ أنّ رشاقتها الأصيلة تركت في السويد انطباعا ينمّ عن سمات الأناقة واللياقة والكرامة والذوق السليم. لعلّ قيمتنا الوحيدة هي أنّنا صادقون، نعرض ذواتنا كما هي لا كما يرغب الآخرون أن تكون.
لم تكن حفلة العشاء هذه التي جرت في منزل رئيس الحكومة السويديّ استثناء، فقد تعرّت كذلك من كلّ طابع رسميّ، إذ بدت وكأنّها لقاء بين صديقين حميمين قديمين في علاقتهما الودّيّة، وانتهت إلى حفل تكريم لأمريكا اللاتينيّة. اقتصرت حفلة العشاء هذه على مجموعة من الأصدقاء، من بينهم السيّدة(دانييل ميترّانDanielle Miterrand ) زوجة رئيس الجمهوريّة الفرنسيّة، وهي لا تني تفتخر بأنّها لحمة اللجنة الفرنسيّة وسداها للتضامن مع شعب السلفادور، و(ريجيس دبرايRegis Debray) و(بير شوريPierre Schori ، الأوّل فرنسيّ والثاني سويديّ، كلاهما شديد الإلتصاق بقضايا أمريكا اللاتينيّة، ومجموعة مختارة من الكتّاب السويديّين منهم رئيس "نادي القلم "العالميّ(سفين لينكفيتSven Linqvist )، وهو صديق لنا ألّف كتابا مهمّا جدّا، سرعان ما شاع وانتشر، عن العلاقات القائمة بين ملكيّة الأراضي والسلطة السياسيّة في أمريكا اللاتينيّة. وكان من بين الحضور كذلك رئيس الحكومة التركيّة السابق(بولين ايثيفيتBulen Ecevit )، وهو رجل ذو ذراع قويّة وقلب سخيّ، قضى بعد تنحيته من رئاسة الحكومة عدّة أشهر في غياهب السجون، ولم يكن يسمح له بالخروج من بلده، إذ حكم عليه بالإقامة الجبريّة في منزله. دعاه إلى حفلة العشاء هذه(اولوف بالمه)، لا على أنّه سياسيّ بل لأنّه لكونه شاعرا، فقد باح لنا بأنّ الشعر ديدنه.
وقد تطرّق رئيس الحكومة السويديّ في كلمة الترحيب اللطيفة الوجيزة التي ألقاها تلك الليلة بحسّه الفكه المعروف عنه إلى هذا الشأن فقال: "إنّي لعلى غاية من السعادة لأنّ السلطات التركيّة أدركت بأنّ سخرنا وعربدتنا وسهرتنا هذه الليلة ستكون بريئة جدّا فأذنت إلى صديقنا(بولين ايثيفيت) بالمجيء إلينا".
إنّ الحساسيّة التي يشعر بها السيّد (اولوف بالمه) تجاه آلام أمريكا اللاتينيّة
-وهي حساسيّة أكثريّة السويديّين الذين أعرفهم- هي منشأ صداقتنا، فقد قدّمني إليه السيّد
( فرانثيس ميترّانFrançois Mitterrand ) منذ عدّة سنين في منزله ب"بييفر Bievre" في باريس خلال فترة الهدنة إثر هزيمة انتخابيّة وقبل هزيمة أخرى من هزائمه العديدة السابقة. وكان حاضرا العديد من الشخصيّات السياسيّة والأدبيّة، وهذا أضفى على أحاديثنا جوّا لطيفا ممتعا. على حين غرّة اقترب منّي أحدهم وسلّمني ورقة كتب عليها(اولوف بالمه) بخطّ يده بضعة كلمات مغزاها أنّه يرغب في تناول خمرة الجعة (="بيره") صحبة الأمريكيّين اللاتينيّين من الحاضرين تلك الندوة، على حدة. توجّهنا جميعا إلى "الكوبولCoupole " وفق العادة الأليفة حين يحلّ الهزيع الأخير من الليل، فراح (اولوف بالمه) يسائلنا خلال أكثر من ساعتين عن الأوضاع في بلداننا، ملحّا، مستطردا، مبديا اهتماما كبيرا، ممّا جعلنا نعجب وندهش. لا أحد منّا التفت أو انتبه إلى أنّ ثمّة رجلا وزوجته، كبيرين جدّا في السنّ، كانا جالسين حول طاولة أخرى مجاورة لنا، كانا يتحدّثان، ناظرين إلينا، منصتين إلى أحاديثنا، ثمّ طفقت المرأة تستجوب رئيس الحكومة السويديّة بلغة سويديّة عمّا إذا سيدفع الحساب من مال الدولة أم من ماله الخاصّ. فانتقل(بالمه) إلى طاولتهما ليقدّم إلى ابن بلده وابنتها كلّ أنواع الشروح والتفسيرات، وأردف قائلا بأنّه سيدفع من ماله الخاصّ، ولكنّه يعتقد بأنّه إن دفع من مال الدولة فلن يكون تفريطا، إذ أنّ رئيس الحكومة السويديّ قد استمدّ معلومات قيّمة عن بلدان أمريكا اللاتينيّة من هؤلاء الضيوف، فهي، إذن، جلسة رسميّة.
ولقد أسرنا وفتننا، أثناء حفلة العشاء، بذكرياته عن بلداننا النائية. ذكر، إذ تذكّر، محادثة تمّت بينه وبين( بابلو نيروداPablo Neruda ) في داره ب"الجزيرة السوداءIsla Negra " عام 1969, أي قبل سنة واحدة من فوز(سالفادور ايّندهSalvador Allende ) في انتخابات الرئاسة بتشلي. قال: "أخذنا بأطراف الأحاديث طيلة الليل كلّه ونحن قابعان إزاء الموقد، تحيط بنا تماثيل هائلة كانت على قياديم السفن التي كانت قد مخرت بحار العالم بأسره. ما كان(نيرودا) ليملّ أو يكلّ في استعراضه للنظم الديكتاتوريّة على أنّها ظاهرة مستمرّة في تاريخ أمريكا اللاتينيّة. كان يفيض كمعين لا ينضب أو كالحركة السيّارة المباغتة المنبعثة من التيّار السفليّ في يمّ المحيط الهادىء الذي يلطم بأمواجه جدران تلك الدار". بين تحيّة بكأس خمر وتحيّة أخرى بكأس أخرى دار الحديث حول موضوع أمريكا اللاتينيّة، وحين تعتعتنا الخمرة وأدركنا الهزيع الأخير من الليل نهضنا لكي نستريح ونرقد.
في نهاية تلك السهرة طلب منّي رئيس الحكومة السويديّ أن أشرح لضيوفه الوضع الحاضر في أمريكا اللاتينيّة بإيجاز. لم أكن قديرا في ذلك ولا قادرا عليه، إذ أنّي لم أنم منذ ثلاثة أيّام، وكنت أشعر بالضنك والإرهاق من جرّاء الطقوس الشرهة أثناء الاحتفالات القاتلة في الليالي السابقة، غير أنّي قدّرت طلب رئيس الحكومة السويديّة فلبّيت فاستغرقت في تحليل دقيق لمدّة ساعتين تقريبا، إلى أن قاطعتني(بيير شوري) وهو يقهقه قائلا: "لا تسمرّ، يا(غابرييل)، فنحن مقتنعون بما تقول". هكذا نشأت فكرة توجيه نداء إلى الرؤساء الستّة في دول أمريكا الوسطى لكي يجتمعوا ويقوموا بجهد جهيد بغية إحلال السلام في المنطقة. وقد تجاوب هذا النداء مع ما أوضحته بأنّ دول أمريكا الوسطى هي على حافّة الحرب ما لم تجنح إلى السلم عن طريق التفاوض".

وفي اليوم السابق لحفلة العشاء نشر ل(غابريل غارثيّا ماركيث) مقال بعنوان:
"الأدب بلا ألمLa literaratura sin dolor "، إليكم ترجمته إلى لغتنا العربيّة:
"لقد ارتكبت قبل زمن قريب العهد حماقة كبرى وذلك بأن قلت إلى فريق من الطلبة بأنّ الأدب العالميّ كلّه يمكن الإلمام به في أمسية واحدة. فبادرتني فتاة من بين هؤلاء الطلبة، وهي حريصة على الآداب الجميلة، ناظمة عدّة أبيات من شعر الغزل، بقولها: "متى تجيء لكي تعلّمنا الأدب العالميّ كلّه؟". وفي يوم الجمعة التالي حضر الطلبة إلى منزلي في الثالثة مساء، فشرعنا في الحديث عن الأدب حتّى السادسة، بيد أنّنا لم نستطع تجاوز فترة الرومنطيكيّة الألمانيّة، إذ رغبوا أن يرتكبوا، مثلي، تفاهة من نوع آخر، ألا وهي حضور حفلة عرس، فقلت لهم بأنّ أحد الشروط لكي يتعلّم المرء الأدب كلّه في أمسية واحدة هو ألاّ يلبّي دعوة لحضور حفل زفاف في الوقت نفسه، إذ أنّ ثمّة وقتا كافيا للتزوّج والهناء في الحياة أكثر ممّا يوجد للتعرّف على الشعر. لقد بدأ كلّ شيء بالفكاهة والتنكيت وانتهى أيضا بالفكاهة والتنكيت، وانصرفوا وبقيت وحدي في انطباع شبيه بانطباعهم، ألا وهو إن لم يكن لنا إلمام بالأدب خلال ثلاث ساعات فإنّنا على الأقلّ تزوّدنا بفكرة عامّة كافية دون حاجة إلى قراءة(جون بول سارترJean Paul Sartre).
حين يستمع الإنسان إلى أسطوانة أو يقرأ كتابا فإنّه سرعان ما يحسّ بدافع فطريّ في أن يجد من يشاركه في هذه المتعة. هذا ما حصل لي عندما اكتشفت، صدفة، معزوفة :"جوقة من خمسة أفراد للعزف على أربع آلات بأوتار و بيانوQuinteto para cuarteto de cuerdas y piano" ل(بيلا بارتوكBela Bartok )، ولم تكن هذه المعزوفة معروفة آنذاك.وتكرّر الأمر حين استمعت من مذياع سيّارتي إلى المعزوفة الرائعة الغريبة: "كونسيرت غريغوريّ للعزف على الكمان بمرافقة جوقةConcierto gregoriano para violín y orquesta" ل(اوتّورينو ريسبيغي Ottorino Respighi). كلتا المعزوفتين كانت نادرة، ولم يكن من السهل الحصول عليهما، ولا أحد من أصدقائي المولعين بالموسيقى كان له علم بهما أو بإحداهما، وقد طوّفت وطوّفت باحثا عمّن يمتلك تسجيلا لهاتين المعزوفتين لكي أستمع إليهما صحبته فلم أعثر على أحد. شبيه بهذا جرى لي منذ عدّة سنين مع رواية"(بيدرو باراموPedro Páramo )"ل(خوان رولفوJuan Rulfo )، وأظنّ أنّ طبعة كاملة من هذا الكتاب قد نفدت، إذ أنّي كنت أشتري جميع النسخ لكي أهديها إلى أصدقائي الكثيرين شريطة أن نعود فنلتقي لكي نتجاذب أطراف الحديث عن هذه الرواية القريبة إلى نفسي.
أوّل ما بسطت لطلاّبي الأعزّاء هي فكرتي الشخصيّة البسيطة حول تعلّم الأدب، ألا وهي أنّي أعتقد بأنّ دورة جيّدة خلال عام دراسيّ واحد لتعليم الأدب يجب ألاّ تكون أكثر من دليل للكتب القيّمة التي لا بدّ من قراءتها. ليس لكلّ عصر أدبيّ من كتب أساسيّة جمّة كما يزعم المدرّسون الذين يتلذّذون بالتنظير إلى طلاّبهم، إذ يمكن استعراض الكتب الرئيسيّة في أمسية واحدة، على ألاّ يكون ثمّة أيّ التزام لازب بحضور حفلة زفاف. بيد أنّ قراءة جميع الكتب الأساسيّة بشغف وبتفحّص وإنعام نظر هي أمر جدّ مختلف يستغرق أمسيات كثيرة في حياة المرء. فإن قدر الطلاّب على هذا فانّهم سيحيطون بالأدب قدر ما يعلم أفضل معلّميهم. أمّا الخطوة التالية فإنّها أشدّ خطرا، ألا وهي: التخصّص. وثالثة الأثافيّ هي الخطوة الثالثة في سبيل التضلّع في المعرفة. لكن إمّا شاء الطلاّب أن يتبجّحوا بمعلوماتهم عن الأدب في كلّ منتدى، فليس عليهم أن يسلكوا أيّ طريق وعر ولا أن يمرّوا في متاهات جهنّم، بل عليهم أن يقتنوا مجلّدين ألّفهما كاتب أرسلته العناية الإلهيّة، بعنوان: "ألف كتاب"، والمؤلّف هو(لويس نويداLuis Nueda )، وشاركه في ذلك(أنطونيو اسبيناAntonio Espina )، ونشرا المجلّدين عام 1940، وفيهما اختزلا، بترتيب أبجديّ، أكثر من ألف كتاب من الكتب الأمّهات في الأدب، وزوّداهما بملخّصات وشروح وأخبار ومعلومات مدهشة عن الكتّاب وعن الفترة التي كتب فيها كلّ كتاب. لا ريب في أنّ الكتب التي يمكن التطرّق إليها خلال أمسية واحدة هي أقلّ من الكتب الواجب الإطّلاع عليها، لكن ليس من الضروريّ قراءتها وليس علينا أن نخجل من ذلك. أنا أقتني هذين المجلّدين اللذين يتصدّران منضدتي حيث أكتب، وكنت قد ابتعتهما منذ سنين عديدة، فلكم أسعفاني في جنّة المثقّفين! ,أستطيع أن أجزم بأنّ الكثيرين من كهنة الحفلات الاجتماعيّة وأرباب المقالات الصحفيّة يستمدّون معلوماتهم من هذين المجلّدين.
ليست كتب الحياة بكثيرة لحسن الحظ، وجّهت مجلّة"بلوماPluma " (=ريشة) التي تصدر في "بوغوتا"، منذ زمن قريب، سؤالا إلى مجموعة من الأدباء عن أفضل الكتب لديهم، فأجابوا ذاكرين خمسة من الكتب فقط، دون ذكر أمّهات الكتب الكبرى، مثل الكتاب المقدّس و "(دون كيخوته)"(=دون كيشوت)، أمّا الكتب التي ذكرتها أنا فهي: ألف ليلة وليلة ، "الملك اوديب)" ل(سوفوكليسSófocles )"، "موبي ديك Moby Dick" ل(ميلفيلMelville )، "أيكة الغنائيّة الاسبانيّة Flresta de la lírica espanola" وهي مختارات قام بها السيّد(خوسه ماريّا بليكواJosé María Blecua )، -هذا الكتاب، لعذوبته وطرافته، تشبه قراءته قراءة رواية شَرَطيّة(=بوليسيّة)، قاموس للغة القشتاليّة(= الاسبانيّة) شريطة ألاّ يكون، طبعا، قاموس المجمع اللغويّ ـ. قائمة هذه الكتب الخمسة قابلة للنقاش والتعديل، كما هي كلّ قوائم الاختيارات، غير أنّ حجّتي في اختيارها هي جدّ بسيطة صريحة: لو أنّي ما قرأت سوى هذه الكتب الخمسة- بالإضافة إلى الكتب الأمّهات، طبعا- لكنت اكتفيت لكتابة ما كتبت. أي أنّ هذه القائمة هي ذات طابع مهنيّ، بيد أنّي لم أختر، بادىء ذي بدء، كتاب"موبي ديك"بل اخترت بدلا منه"كونت دي (مونتيكريستوEl Conde de Montecristo ") ل(اليخاندرو دوماسAlejandro Dumas ) ، فهذا الكتاب هو رواية تامّة كاملة من حيث البنية، وكنت أكثر رضى بكتاب"ألملك اوديب". فيما بعد فكّرت في رواية "ألحرب والسلام" ل(تولستويTolstoi ) فهي في رأيي أفضل رواية كتبت على مدى التاريخ، لكن بما أنّها في الحقيقة جدّ جيّدة فقد رأيت أنّه من العدل السهو عنها على أنّها كتاب من الكتب البيّنات. على العكس منها كتاب"موبي ديك"، إذ أن بنيته الفوضويّة جعلت منه مصيبة من مصائب الأدب البديعة، فقد أمدّني وألهمني نفسا أسطوريّا كنت في أشدّ الحاجة إلى هذا النفس للكتابة.
على جميع الأحوال، دورة الأدب خلال أمسية واحدة والاستجواب عن أفضل الكتب المقروءة يستدعيان التفكير في أعمال أدبيّة أخرى لا يمكن أن تنسى، ومع ذلك فقد نستها الأجيال الجديدة. منذ حوالي أكثر من عشرين سنة كانت ثلاثة من هذه الكتب المنسيّة الآن تحتلّ المكانة الأولى، وهي: "الجهل السحريّ" ل(توماس مونThomas Mann )، "تاريخ القدّيس(ميشيل)" ل(اكسيل مونثAxel Munthe ) ، "(مولينيس الكبير)" ل(الاين فورنيييرAlain Fournier ). إنّي لأتساءل عمّن، من طلاّب الأدب، حتّى أكثرهم إلحاحا وهوسا، بذل جهدا في محاولة التعرّف عمّا تتضمّنه هذه الكتب الثلاثة السهلة. يبدو للمرء أحيانا أنّ هذه الكتب انتهت إلى مصيرها المحتوم الجميل، ولكنّي أظنّ بأنّ انتهاءها هو آنيّ مؤقّت، كما حصل بالنسبة لبعض كتب(ايسا دي كيروز Eca de Queirox) و(اناتولي فرانسAnatole France ) ولكتاب" تناسق Contrapunto"ل( الدووس هوكسليAldous Huxley ) فقد كان هذا الكتاب نوعا من الحصبة في أعوامنا الزرقاء، ولكتاب"فتى الأوزّ" ل(خاكوب واسيرمانJacobo Wassermann ) وقد يرجع السبب في الشغف به إلى الحنين أكثر من الولع بالشعر، وكتاب "النقود المزيّفة" ل(اندرريه جيدAndre Gide ) فقد كان أكثر زيفا ممّا فكّر مؤلّفه نفسه. ليس ثمّة إلاّ حالة واحدة شردت من هذا الملجأ حيث تأوي الكتب المتقاعدة، ألا وهي حالة(هيرمان هيسه Hermann Hesse) الذي كان نوعا من التفجير المبهر حين منح "جائزة(نوبل) للآداب" عام 1946، إذ سرعان ما طوته أجنحة النسيان. غير أنّ كتبه قد أنقذت في هذه الأعوام الأخيرة من لدن جيل وجد فيها "ماورائيّة"(=ميتافيزيقيّة) تتوافق مع شكوكه الخاصّة.
أظنّ أنّ هذا كلّه ليس بباعث على القلق بل هو بمثابة أحجيّة في سهرة. لا فريّة في أنّ الحقّ هو ألاّ يكون هناك كتب إلزاميّة، أي كتب عقاب، وأنّ المنهج السديد هو ترك الصفحة التي يضيق بها المرء ذرعا، لكن، بالنسبة للمتلذّذين بالعذاب ممّتن يفضّلون الإيغال مهما كلّفهم ذلك من مشاقّة، ثمّة صيغة موفّقة ألا وهي وضع الكتب التي لا يمكن قراءتها في المرحاض. فقد يتوصّل بعضهم، بعد العديد من السنوات من الهضم الجيّد، إلى بلوغ سدرة"الفردوس الضائع" ل(ميلتونMilton )."

وما أن انتهى من الحفلات الساخنة في بلدان الجليد بشمال أوروبّا حتّى قدم إلى مدريد في السادس والعشرين من شهر كانون الأوّل/ديسمبر، تلبية لدعوة وجّهها إليه رئيس الحكومة الإسبانيّة السابق (فيليبه غونثاليثFelipe González ). وها هو يصف ذلك اللقاء في مقال له بعنوان: "(فيليبه)"، يقول في مطلعه:
"وصلت مع زوجتي(ميرثيديس) وابننا الصغير عند ظهيرة يوم عذب تشعّ فيه الشمس على مدريد أثناء فصل الشتاء الغريب العجيب. كان(فيليبه) قد خرج من قصر "مونكلواMoncloa " مع أحد مستشاريه لكي يتنزّها عبر الحديقة البديعة. لمحته بين أيكة وأيكة بمعطفه الأزرق ذي الكمّين الطويلين، وهو ما كان يضفي عليه طابع طالب جامعيّ أكثر من كونه رئيسا للحكومة، إذّاك شعرت بأنّي أرتدي ألبسة أكثر ممّا يجب في هذه المناسبة، بيد أنّ(فيليبه)، لحسن حظّي، كان يضع ربطة عنق، وهذه هي المرّة الأولى التي أشاهده فيها وقد شدّ على عنقه ربطة منذ أن تعرّفت عليه قبل ثماني سنين في إحدى الغرف العامرة بفندق في مدينة بوغوتا...".
ودام لقاؤه برئيس الحكومة الإسبانيّة مدّة خمس ساعات. وفي الساعة السابعة من مساء ذلك اليوم ظهر كلاهما معا في "قاعة الأعمدة" بالقصر حيث كان ينتظرهما فريق من الصحفيّين، فصرّحا:
(فيليبه): تربطني ب(غارثيّا ماركيث) صداقة حميمة قديمة.
(غابي): إنّه للقاء بين صديقين قديمين.
(فيليبه): لم أدعه للحديث حول موضوع محدّد، بل لكي أسعد بأن أراه من جديد.
(غابي): إنّه لمن الصعب إيجاز مضمون حديثي مع( فيليبه).
(فيليبه): كان حديثنا عن المواضيع السياسيّة والاجتماعيّة ذا علاقة بصداقتنا.
(غابي):لقد بدأنا أحاديثنا منذ ثماني سنين أو أكثر، ثمّ توالت هذه الأحاديث كلّما كنّا نلتقي
(فيليبه):إنّ مفاتيح مشاكل أمريكا اللاتينيّة واضحة جدّا، بيد أنّ حلول هذه المشاكل في غاية الصعوبة نظرا لتضارب المصالح.
(غابي): قد يكون الحبّ هو مفتاح الحلّ بالنسبة لمشاكل أمريكا اللاتينيّة.
(فيليبه): أظنّ أنّه من المستحيل الحديث عن حلّ نهائيّ لمشكل أمريكا الوسطى والخليج الكريبيّ دون الأخذ بعين الاعتبار قضايا جوهريّة مثل وضع كوبا في هذه المنطقة، ومثل الحاجة إلى اتفاق حول الأمن والسلم والتعاون تشارك فيه جميع دول المنطقة.
(غابي):إنّي اعتبر الفائز ب"جائزة(نوبل) للآداب" هو الأدب الإسبانيّ عامّة.

وبعد، فمتى يدعو العرب(غابرييل غارثيّا ماركيث= غابي) ليروه عن كثب وقد كتب ما كتب مدافعا عن العرب؟
في مقال له بعنوان: "(بيغين) و(شارون) حاملا "جائزة(نوبل) للموتBeguin y Sharonv premios ¨Nobel de la muerte"، نشره بعد فوزه ب"جائزة(نوبل) للآداب" بقليل، يقول:
إنّ أصعب شيء للتصديق هو أن يكون(مناحيم بيغين) حائزا على "جائزة(نوبل) للسلام"، ومع ذلك فإنّه مُنِح هذه الجائزة، فعلا –على الرغم من أنّه يصعب تصديق ذلك الآن- عام 1978، في الوقت الذي مُنِحَتْ كذلك إلى أنور السادات، حين كان رئيسا لجمهوريّة مصر، بسبب موافقته على اتفاقيّة سلام منفرد في "كامب ديفيد". وقد كلّف ذلك القرار الاستعراضيّ بالنسبة للسادات أن نبذته الأمّة العربيّة حالا ثمّ دفع ثمن تباطئه بأن قُبِضَتْ روحُهُ. لكن بالنسبة ل(بيغين) كان الأمر على عكس ذلك، فقد أُذِنَ له بالتنفيذ المرتّب لخطّة استراتيجيّة لمّا تنته بَعْدُ. ومنذ بضعة أيّام سمح له بأن ينفّذ المجزرة البربريّة الهمجيّة وذلك بتقتيل أكثر من ألف لاجىء فلسطينيّ في مخيّمات بيروت. لو وُجِدَتْ "جائزةُ(نوبل) للموت" لكان حصل عليها، هذا العام، بكلّ تأكيد، (مناحيم بيغين) نفسه وزميله المجرم المحترف(أرييل شارون).
ليس لاتفاقيّات" كامب ديفيد" من هدف آخر –وهي تستخدم الآن، كما يشاهد، غطاء لجرائم عديدة- غير القضاء على منظّمة التحرير الفلسطينيّة، أوّلا، وإقامة مستعمرات إسرائيليّة جديدة في الأراضي العربيّة المحتلّة فيما بعد. ومن كان له منّا عمر مديد لا بدّ أنّه يذكر أعمال النازيّين، إذ أنّ هدفي(بيغين) هذين يثيران بنا ذكريات رهيبة: نظريّة المجال الحيويّ التي أراد بها(هتلر) توسيع سلطته لتشمل نصف العالم، وما دعاه (هتلر) نفسه بالحلّ النهائيّ للمشكل اليهوديّ، ممّا أدّى إلى جرجرة أكثر من ستّة ملايين شخص بريء إلى حقل الإبادة الجماعيّة.
إنّ توسيع المجال الحيويّ لدولة إسرائيل والحلّ النهائيّ للمشكل الفلسطينيّ
–كما يفهم ذلك، اليوم، حامل"جائزة(نوبل) للسلام" منذ عام 1978- قد نفّذا ليلة الخامس من حزيران/يونيو بأن غزت لبنانَ قوّاتٌ إسرائيليّة مختصّة في علم السحق والإبادة والتقتيل. حاول(مناحيم بيغين) تبرير هذا الغزو الدامي متذرّعا بحجّتين: ألأُولى: محاولة إغتيال السفير الإسرائيليّ في لندن(شلومو ارغوفShlomo Argov ) وذلك في أواخر شهر أيّار/مايو؛ الثانية: الزعم بأنّ منظّمة التحرير الفلسطينيّة المتّخذة من لبنان مأوى لها قد قذفت منطقة الجليل بالقنابل. اتهم(بيغين) منظّمة التحرير الفلسطينيّة بأنّها وراء محاولة الإغتيال وهدّدها بانتقام مباشر عاجل. لكنّ الاستخبارات البريطانيّة كشفت فيما بعد بأنّ الفاعلين الحقيقيّين هم أعضاء في منظّمة(أبو نضال) المنشقّة التي كانت في الأشهر السابقة قد اغتالت عدّة زعماء في منظّمة التحرير الفلسطينية. أمّا فيما يتعلّق بالحجّة الثانية فقد تبيّن أنّ الفلسطينيّين قد دخلوا منطقة الجليل مرّتين أو ثلاث مرّات لا غير، ممّا أدّى إلى قتل واحد فقط. وكان الفلسطينيّون قد أطلقوا هذه القذائف انتقاما لما قامت به إسرائيل من قذف المئات من القنابل على مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين ممّا أدّى إلى قتل المئات من المدنيّين.
لم تكن، في الحقيقة والواقع، هذه الحرب الشرسة التي شنّها (بيغين) معتمدا على أساس هاتين الحجّتين بمفاجأة لقرّاء المجلّة الإسرائيليّة الأسبوعيّة" هاكلام هازايHaclam Haze "، إذ كانت هذه المجلّة قد نشرت تفاصيل هذا الغزو في أيلول/سبتمبر عام 1981، أي قبل تسعة أشهر من بدايته، وثبت بذلك بطلان المثل الذي يقول بأنّ حربا يعلن عنها مسبقا لا تقتل أحدا، فقد قتلت القوّات الإسرائيليّة –التي تعتبر من أنجع القوّات العسكريّة وأكثرها خبرة في العالم- في الأسبوعين الأوّلين ما يقارب ثلاثين ألف مدنيّ فلسطينيّ ولبنانيّ وجعلت أكثر من مدينة أطلالا وأنقاضا، بينما لم تزد خسائرها خلال هذه الفترة الزمنيّة عن ثلاثمائة نفر.
لقد أصبحت استراتيجيّة (بيغين) الآن واضحة جدّا، إذ أنّه بالقضاء على منظّمة التحرير الفلسطينيّة يحاول إزالة الممثّل الفلسطينيّ الوحيد القادر على التوصّل، عن طريق التفاوض، إلى حلّ سلميّ يقوم على أساس إنشاء دولة فلسطينيّة مستقلّة في الضفّة الغربيّة وفي غزّة، وكان (بيغين) نفسه) قد أعلن بأنّ هاتين المنطقتين هما أراض للأسلاف الشعب اليهوديّ.كان هذا الاتفاق في متناول اليد منذ الرابع من شهر حزيران/يونيو الماضي حين وافق ياسر عرفات رئيس منظّمة التحرير الفلسطينيّة على مبدأ الإعتراف المتبادل بين شعبي إسرائيل وفلسطين، وذلك في مقابلة صحفيّة نشرتها صحيفة "ليموند" في باريس بذلك التاريخ. لكنّ (بيغين) تجاهل هذا التصريح الذي يعرقل مشاريعه التوسّعيّة التي كانت في أوج مراحل تنفيذها، فاسمرّ في إقامة ما يدعوه بالحاجز الأمنيّ حول إسرائيل. قد تكون الخطوة التالية هي تبديل نظام الحكم في سوريّة، بما في هذا من توسيع نطاق حرب غير متكافئة لا يمكن توقّع نتائجها ولا عواقبها.
حين غزت القوّات الإسرائليّة أراضي لبنان كنت في باريس أوائل شهر حزيران/يونيو. بمحض الصدفة كنت كذلك في باريس خلال العام الماضي حين أقام الزعيم(= الجنرال) (جاروزيسكيJarruzelsky ) نظامه العسكريّ في بولونيا ضدّ الإرادة الواضحة لأكثريّة الشعب البولونيّ. وكنت في باريس أيضا صدفة حين استردّت القوّات الأرجنتينيّة جزر"مالفيناس Malvinas". كانت ردود الفعل من قبل وسائل الإعلام تجاه هذه الأحداث الثلاثة، وكذلك مواقف المثقّفين والرأي العامّ، درسا مقلقا بالنسبة لي. أثارت أزمة بولونيا في أوربّا نوعا من الإضطراب الإجتماعيّ النفسيّ. وقد تسنّت لي الفرصة حينذاك بأن أضيف توقيعي إلى تواقيع النخبة المشهورة من المثقّفين والفنّانين الذين دعوا إلى تكريم بطولة الشعب البولونيّ في حفلة أقيمت بمسرح "الأوبّرا" في باريس، تحت رعاية وزير الثقافة الفرنسيّ. بيد أنّ بعض أعداء الشيوعيّين من المحترفين اتّهمني علنا، مدّعيا بأنّ احتجاجي لم يكن جدّ تاريخيّ مثلما هو احتجاج هؤلاء المحترفين. فقد كان يعتبر كلّ تصرّف غير محموم تصرّفا مشبوها.
حين غزت القوّات الإسرائيليّة أراضي لبنان وصبغتها بالدماء كان الأمر على العكس من ذلك، فقد خيّم الصمت على الجميع حتّى في تلك الصحف التي كانت تبالغ في تعظيم الهول بالنسبة لبولونيا، على الرغم من أنّه لا عدد الأموات ولا حجم الخسائر والأضرار كانا يسمحان بإقامة أيّ نوع من أنواع الموازنة والمقارنة بين مأساة كلا البلدين. وثالثة الأثافيّ أنّه في هذه التواريخ نفسها كانت الأرجنتين قد استعادت جزر" مالفيناس"، فلم ينتظر مجلس الأمن الدوليّ التابع إلى هيئة الأمم المتّحدة أن تمرّ ثماني وأربعون ساعة ليأمر بانسحاب القوّات الأرجنتينيّة ولم تتريّث السوق الأوربّيّة المشتركة في فرض العقوبات التجاريّة على الأرجنتينيّين، على العكس، لا هذه المنظّمة ولا تلك ولا أيّة منظّمة أخرى شبيهة أمرت بانسحاب القوّات الإسرائيليّة من لبنان حالا في ذلك الحين. وقد أدّى دعم حكومة(ريغان)، وهي المساهم الأكبر في خدمة شريكتها العصابة الصهيونيّة، والتبصّر غير المعقول من قبل الاتحاد السوفييتيّ والتبعثر الأخويّ للعالم العربيّ!! إلى إتمام الشروط الملائمة للمعتوه (بيغين) فأمر الزعيم(= الجنرال) (شارون) بشنّ هذه الحرب الهمجيّة البربريّة. كثير من أصدقائي ممّن تسمع أصواتهم في نصف العالم كانوا يرغبون، وما زالوا، التعبير عن سخطهم تجاه هذا المهرجان الدمويّ، غير أنّ بعضهم يعترف بصوت منخفض بأنّه لا يتجرّأ حتّى لا يوصم بأنّه معاد للساميّة. لست أدري فيما إذا كان هؤلاء مدركي بأنّهم بهذا يفرّطون بضمائرهم أمام تهديد بالتشهير لا يمكن قبوله أو السكوت عنه.
لا فريّة في أنّه ما من أحد كان وحيدا كما هو الشعب اليهوديّ والشعب الفلسطينيّ، وسط هول شديد. فمنذ بداية الغزو للبنان شرعت المظاهرات الشعبيّة تنطلق في تل أبيب وفي مدن أخرى احتجاجا، وأنّى لهذه المظاهرات أن تنتهي! إذ بلغت في نهاية الأسبوع الماضي أوجها في قوّة مثيرة وعدد كبير، فقد بلغ أكثر من أربع مائة ألف متظاهر إسرائيليّ طافوا في الشوارع هاتفين بأنّ تلك الحرب القذرة ليست هي بحربهم لأنّها تنأى عن أن تكون في سبيل ربّهم الذي رضي بالتعايش تحت سماء واحدة ما بين الفلسطينيّين واليهود خلال قرون وقرون. إنّ مظاهرة بهذا العدد في بلد يبلغ تعداد سكّانه ثلاثة ملايين نسمة لتعادل نسبة ثلاثيم مليون شخص في واشنطون.
إنّي لمتضامن مع هذا الإحتجاج المتفجّر في إسرائيل، وأعلن سخطي كلّما سمعت باعتداءات"البيغينيّين" و"الشارونيّين" على لبنان، أو على أيّة بقعة في العالم، والى هذه الأصوات المرتفعة المحتجّة أضيف صوتي، وهو صوت كاتب معجب أيّما إعجاب بشعب لم يعرفه عن طريق الصحافة بل من خلال القراءة الشغوف للتوراة. لا أخشى التشهير بأنّي معاد للساميّة، إذ لم أخش قطّ التشهير من قبل معادي الشيوعيّة، وهذان الإتّجاهان يمضيان معا أحيانا، وأحايين أخرى ينفصلان، ولكنّهما دوما يؤدّيان إلى إلحاق أضرار شبيهة بهذا العام التعيس."

أستاذ كرسيّ رفـيـع للدراسات العربيّة والإسلاميّة بجامعة مدريد المركزيّة (Complutense)

ايلاف- 19 ابريل 2014

*****

رثاء عربي غير مكتمل لغابرييل غارسيا ماركيز

حسن سلمان

غابْريِيل غارْثِيّا مارْكِيثشكل رحيل ‘أبو الواقعية السحرية’ غابرييل غارسيا ماركيز صدمة كبيرة لدى المثقفين العرب، وخاصة أن أغلبهم يدين في بعض نتاجه للأديب الكولومبي الكبير الذي عرف كيف يطوّع الخيال ليصنع ادبا عجائبيا يحمل هموم الواقع المغرق بالمحلية ويعيد إنتاجه بقالب عالمي يصلح لكل الأزمنة.
وإذا كان ماركيز انبهر، كغيره من أدباء أميركا اللاتينية، بالتراث العربي والشرقي عموما، فإنه رواياته المفعمة بالإنسانية شكلت موردا هاما لأغلب الأدباء العرب.
ويبدو أن ماركيز نجح إلى حد بعيد في توظيف خبرته الطويلة في الإعلام والسياسة ليلتقط تفاصيل صغيرة ويعيد نسجها في حكايات بسيطة شغلت أهل الفكر والسياسة لنصف قرن، ودعت عددا كبيرا من الزعماء في العالم لكسب وده، رغم انتقاده المتكرر لهم في نتاجه الإبداعي.
كمال الرياحي: فقدان ماركيز أهم من رحيل محفوظ
ويقول الروائي التونسي كمال الرياحي إن غياب ماركيز يمثل حدثا كبيرا لأي روائي عربي ‘من ناحية فقدان كبير لروائي كان له من الكفاءة الإبداعية والسردية ما جعله يستمر في الكتابة لسن متقدمة’.
ويضيف لـ’القدس العربي’: ‘أشعر أن ماركيز اقترب كثيرا من الأدب العربي، فرواياته تعبر عن البيئة العربية بكل تفاصيلها، وخاصة الجو السحري والتعلق بالموسيقى والأساطير وعوالم ألف ليلة وليلة وغيرها’.
ويذهب الرياحي بعيدا حيث يؤكد أن فقدان ماركيز قد يكون أهم من فقدان نجيب محفوظ بالنسبة للروائيين العرب، مشيرا إلى أن نتاج الأديب الكولومبي متوفر لدى أغلب القراء العرب وبلغات متعددة.
ويرى أنه ماركيز ‘أبو الأدب اللاتيني’ هو أحد الأسباب الرئيسية لانتعاش الجنس الروائي في العالم، و’إذا كان البعض يعتقد أننا في زمن الرواية، فإني أرى أن نعيش زمن ماركيز′.
وتحدث الرياحي عن العلاقة المتواترة بين ماركيز و’صديقه اللدود’ الأديب البيروفي ماريو فارغاس يوسا، مشيرا إلى أن ‘الصراع الأدبي’ بين الرجلين قادهما لاحفا لنيل جائزة نوبل.
وأضاف ‘ما يميز ماركيز هو أنه قادر على صناعة الأحداث حتى وإن لم يكتبها، نذكر على سبيل المثال اللكمة التي تلقاها من يوسا إثر خلاف مع يوسا، حيث لجأ إلى مصوره ليلتقط له صورة عينه المتورمة وهو يضحك، بمعنى أنه حوّل هذه اللكمة أو الحادثة البسيطة إلى حالة إبداعية’.
وكان يوسا اكتفى بالتعليق على حادث رحيل صديقه ماركيز بالقول ‘إن رجلا عظيما قد مات. أثرت أعماله الأدب الإسباني وحلقت به إلى آفاق أوسع′.
زهور كرام: استثمار رحيل ماركيز في الحديث عن راهنية الإبداع
وترى الأديبة المغربية زهور كرام أن رحيل مبدع حقيقي بحجم ماركيز هو خسارة للبشرية ‘التي تعيش الآن فوضى المفاهيم، والتباس معنى الوجود، بسبب دمار الوجدان الذي بدأ يفقد لماء الإنسانية، واختناق الخيال مع هيمنة التكنولوجيا التي تتحول مع سوء توظيفها من مجرد وسيط من المفترض أن يخدم الإنسان، ويهيئ له مساحة من التفكير الحر، وتنشيط خياله إلى سلطة تعطل الخيال والفعل’.
وتضيف لـ’القدس العربي’: ‘عندما تفقد البشرية قيمة إبداعية خلاقة، فإنها تعلن الفقد مأساة. قد يختزل هذا الإحساس رحيل الكاتب العالمي غابرييل ماركيز، الذي شكل حضوره الإبداعي ثروة إنسانية تمثلت في قدرته البليغة على استثمار الخيال، وجعله ملازما للواقعي من أجل بناء حالة إبداعية جعلت من كتاباته ملتقى التفاعل الإنساني’.
وترى أن رواية ‘مائة عام من العزلة’، التي كتبها ماركيز عام 1967 ونال عنها جائزة نوبل للآداب عام 1982، تشكل نقلة نوعية في مسار كتاباته و’أهم مدخل لعالم هذا المبدع الخلاق’.
وتشير إلى أن ماركيز قال ذات يوم إنه استوحى أحداث الرواية من الحكايات الشعبية والخرافات الغرائبية التي كانت تحكيها جدته عندما كان طفلا، وتقول إن ‘مئة عام من العزلة شاهدة عن كون زمننا أنجب مبدعا أجاد عشق الخيال’.
وتضيف ‘وهنا، لابد من استثمار بعض مقومات التجربة الرائدة عند ماركيز وهو جودة تدبير ذاكرة الطفولة واستلهام غناها الحكائي الذي جعل ‘مائة عام من العزلة’ تنفرد بتميز سرد العوالم الغرائبية وسحر العجائبية، إلى جانب قوة اللغة الإبداعية الإسبانية’.
وتتساءل كرام عن مصير الإبداع مع اختناق شروط الخيال، و’كيف يمكن للبشرية أن توثق رؤاها، وفلسفة وجودها في إبداع بدأ يقترب أكثر من الواقع؟ وكيف يمكن تمثل الإبداع في زمن تراجع الحكايات، وهيمنة التقنية؟ وهل من الممكن أن نتحدث عن توجه جديد للممارسة الإبداعية في ظل شروط تكنولوجية؟ كيف نستطيع أن نجعل من رحيل ماركيز المبدع الخلاق محطة مهمة لإعادة طرح سؤال راهنية الإبداع في الزمن الحالي؟’.
يوسف رزوقة: ماركيز الصحافي التقط الأحداث بعد أن اكتوى بحرائقها
ويؤكد الأديب التونسي يوسف رزوقة أن ماركيز كان ‘بمثابة الكاميرا التي تلتقط التفاصيل لكونه كان صحافيا أيضا ملما بالأحداث ويكتوي بحرائقها، وهو ما خوله أن يكون مرآة عاكسة لعصره وعاملا في مسار السرد العالمي’.
ويؤكد أن العالم لن يستطيع نسيان ‘كبير كتاب العالم’ الذي ‘أعطى زخما روائيا كبيرا جعل قراء العربية والعالم يحترمونه، وجعل من الرواية علامة فارقة في مستوى المصطلح’.
ويضيف ‘ماركيز أكبر رواد السرد وهو لن يموت لسبب واحد هو أنه أضاف للمدونة السردية روايات مثل ‘مئة عام من العزلة’ و’الحب في زمن الكوليرا’ وهي ستظل في الذاكرة وتؤسس لسرد مستوفي لشروطه الإبداعية بما له من زخم بالأحداث وعيون لاقطة لكل التفاصيل الصغيرة’.
وأكد رزوقة أيضا ولع أدباء أميركا اللاتينية بالمشرق وتطويع حكاياته في نقل واقعهم المعاش، وأشار في الوقت نفسه إلى أن ماركيز يشاطر أقرانه في كتابة سيرته الذاتية التي يمكن استثمارها سينمائيا لاحقا، مؤكدا أنه ‘لا يستغرب أن يكتب ماركيز عن الجانب الأنثربولوجي فيه لأنه يعتبره أيضا ارتدادا لرواياته السردية’.
مسعودة بوبكر: ماركيز نجح بتحويل الواقع المحلي إلى حالة عالمية
وتقول الأديبة التونسية مسعودة بوبكر ‘غابرييل غارسيا الأديب الكبير الذي تربينا على نصوصه وفي ذائقتنا الأدبية الكثير منه، ولا نستطيع أن نتصور أدبا سرديا أو رواية دون التفكير في ماركيز′.
وتشير إلى أن الأدب العربي تأثر كثيرا بماركيز كأبرز أعلام أمريكا اللاتينية ‘الذي تأثر بدوره بحكايات ألف ليلة وليلة والتراث العربي، كما أن الأدباء العرب تأثروا بأسلوبه في سرد الحكاية وتفاصيلها العديدة والتحليل النفسي والاهتمام بالواقع القريب الذي يجعل منه بمحليته أمرا عالميا، أي: تطوير الحالة المحلية إلى عالمية’.
هيام الفرشيشي: ماركيز كان قريبا جدا من الروح العربية
وترى القاصة التونسية هيام الفرشيشي أن رحيل أديب مثل ماركيز سيعيد تسليط الضوء على منجزه الإبداعي والنتاج الأدبي لأميركا اللاتينية عموما و’مدى ارتباطه بتحرر الشعوب من بوتقة القوى المهيمنة، والاشتغال على المحلية الضيقة التي تستثمر هموم الإنسان في كل مكان’.
وتضيف ‘يجب أن لا ننسى أنه اشتغل على سمات مهمة تفتح آفاق الفكر كالعزلة والبحر، وسيؤثر نتاجه على اعادة الاعتبار للأدب عموما’.
وتشير إلى أن ماركيز ‘أعاد إنتاج الخيال العربي من خلال إطار طبيعي وسياسي مختلف ولهذا كان قريبا جدا من الروح الشرقية والعربية’، مشيرة إلى أن رواياته شكلت جواز سفره إلى عدد كبير من الدول وخاصة أميركا التي كان ممنوعا من الدخول إليه حتى مجيء الرئيس الأسبق بيل كلينتون الذي ألغى هذا الأمر.
يذكر أن كلينتون أكد في وقت سابق أنه يشعر بالفخر لأنه كان أحد أصدقاء ماركيز طيلة عقدين، وأضاف ‘حين قرأت روايته مائة عام من العزلة قبل 40 عاما، شعرت بالذهول من قدرته على التخيل ووضوح الفكر، والأمانة العاطفية’.

القدس العربي- April 18, 2014

******

ماركيز روائي «القارة» فرض سلطة المخيلة والالتزام

النسخة: الورقية - دولي السبت، ١٩ أبريل/ نيسان ٢٠١٤ (٠١:٠ - بتوقيت غرينتش)
آخر تحديث: السبت، ١٩ أبريل/ نيسان ٢٠١٤ (٠١:٠ - بتوقيت غرينتش) كتب عبده وازن

غابْريِيل غارْثِيّا مارْكِيث كم كان غابريال غارسيا ماركيز مصيباً عندما سمّى مذكراته التي صدرت عام 2002 «عشتُ لأروي»، فهو عاش فعلاً ليروي ومات عن ستة وثمانين عاماً، وفي قلبه غصة الرواي الذي كان يحلم بسرد المزيد من الحكايات. فحياته كما يعبّر في هذه المذكرات، لم تكن الحياة التي عاشها بأيامها ولياليها، بل كانت حياة الذكريات التي رواها والحكايات التي كتبها. هذا سر ماركيز، روائي القارة الأميركية اللاتينية، بغرائبها ووقائعها الأغرب من الخيال وتاريخها الموشّح بالدم وثوراتها والديكتاتوريين الغريبي الأطوار الذين توالوا على الحكم فيها... إنها فرادة هذا الروائي الذي استهل مساره صحافياً لامعاً ثم أصبح صاحب أشهر عمود، كان ينتظره قراؤه «القاريون» مسمين إياه «عمود غابو»، وهو الاسم الذي كان أصدقاؤه يتودّدون به. وفي الصحافة كان ماركيز ايضاً كاتب ريبورتاج متميزاً، وهذا ما ظهر أثره في رواياته ذات الطابع السياسي الهجائي والتاريخي. لكنّ ماركيز كان ماهراً جداً في توظيف مهنة الصحافي في صميم صنيعه الروائي الذي راح ينحو منحى الواقعية السحرية التي سعى الى ترسيخها مع بضعة من الرفاق في القارة، وقد بلغت معه ذروتها في «مئة عام من العزلة»، هذه الملحمة الروائية التي تعدّ من عيون الروايات العالمية الخالدة مثلها مثل «عوليس» لجيمس جويس و»الصخب والعنف» لوليم فولكنر و»موبي ديك» لهرمان ملفيل و» في قلب الظلمات» لجوزف كونراد.
ولعلها مصادفة لافتة ان يرحل ماركيز في الشهر الذي صدرت فيه روايته «مئة عام من العزلة» وهو نيسان (ابريل) 1967 وبات عمرها الآن سبعة وأربعين عاماً، وهي الرواية التي صنعت له مجداً وشهرة ما كانا في حسبانه، كما يعترف، وفتحت أمامه الطريق الى جائزة نوبل عام 1982 وكرست اسمه روائياً عالمياً صاحب مدرسة وأسلوب غير مألوفين سابقاً. ومع صدور هذه الرواية الرهيبة، التي تجمع بين الفنتازيا والفانتاستيك أو الغرائبية والمأساة والسخرية والعبث اصبحت مدينة «ماكوندو» التي تدور الأحداث فيها وحولها، إحدى أشهر المدن الروائية العالمية، وهي بدت صورة مختصرة عن العالم المتوهم الذي ابدعته مخيلة ماركيز. وفي هذه المدينة التي لا حدود فيها بين الحقيقة والوهم تبرز شخصيات لا تُنسى، لا سيما عائلة «بونديا» التي تمثل بغرابتها ومأسويتها القدر الأميركي اللاتيني، المتخبّط في البؤس والمجهول. ومن هذه العائلة خرج الكولونيل أورليانو بونديا الذي يمثل نموذجاً كاريكاتورياً للديكتاتور الأميركي اللاتيني الذي يتزوج من سبع عشرة امرأة وينجب منهنّ سبعة عشر طفلاً يقتلهم واحداً تلو الآخر.
إلاّ أن ماركيز لا يمكن حصره البتة في «مئة عام من العزلة» التي تُرجمت الى ثلاثين لغة وتخطى مبيعها خمسة وثلاثين مليون نسخة وترجمت الى العربية في أربع صيغ عن الإنكليزية أولاً ثم عن الفرنسية وأخيراً عن الإسبانية مع المترجم صالح علماني. ماركيز هو أيضاً صاحب روايات وقصص غاية في الطرافة والواقعية السياسية كما السحرية، وهي تؤلف بذاتها «قارة» أدبية: «ليس للكولونيل من يراسله»، «الجنرال في متاهته»، «خريف البطريرك»، «الحب في زمن الكوليرا»، «قصة موت معلن» وبطل هذه الرواية البديعة سوري الأصل يُدعى سانتياغو نصار، وهو يقع ضحية مؤامرة تهدف الى قتله وقد أُعلن موته منذ مطلع الرواية. أما اللافت فهو اختتام ماركيز «مهنته» الروائية عام 2002 برواية «ذاكرة غانياتي الحزينات» التي سلك فيها سبيل الروائي الياباني الكبير ياسوناري كواباتا في روايته الشهيرة «الجميلات النائمات»، وكان ماركيز كتب مرة ان الرواية الوحيدة التي كان يتمنى ان يكون كاتبها هي «الجميلات النائمات». في هذه الرواية تحتدم ذاكرة ماركيز الإباحية التي يهيمن عليها خريف العمر. لكن ماركيز عكف بعد روايته هذه على اصدار مقالات له ونصوص سياسية، علاوة على مذكراته.
عاش ماركيز حياة بوهيمية متنقلاً بين اوروبا غرباً وشرقاً، وبين بلدان القارة الأميركية اللاتينية وبلغ نيويورك، هو المناضل الثوري الذي آزر حركات التحرر وواجه الثقافة الإمبريالية والكولونيالية، داعياً الى منح الشعوب المستعمرة حرياتها وحقوقها، وهاجياً القوى العظمى اليوم التي تهدد العالم بصواريخها النووية. ونجح ماركيز أيما نجاح في التوفيق بين كونه كاتباً ملتزماً ومنخرطاً في النضال السياسي و»الإنسانوي»، وروائياً متسامياً صاحب مخيلة ساحرة ونفَس ملحمي ونزعة تراجيدية تسائل ذاكرة التاريخ وعنف البشر ومأساة الحياة وعزلة الإنسان بصفتها قدراً مجهولاً وغامضاً. وكم كان موقفه جريئاً في إدانة المجازر التي ترتكبها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وفي توقيع بيانات الاستنكار العالمية في هذا الشأن.

*******

حكايات غرائبية تواجه أقدار البشر

النسخة: الورقية - دولي السبت، ١٩ أبريل/ نيسان ٢٠١٤ (٠١:٠ - بتوقيت غرينتش)
آخر تحديث: السبت، ١٩ أبريل/ نيسان ٢٠١٤ (٠١:٠ - بتوقيت غرينتش) فخري صالح

غابْريِيل غارْثِيّا مارْكِيث لم يحظ كاتب معاصر في العالم بالشهرة والانتشار اللذين حظي بهما الكاتب الكولومبي الراحل غابرييل غارسيا ماركيز (1927 - 2014). وتقوم في أساس شهرة ماركيز (الشهير بغابو) عوامل عدة، على رأسها أهميته كروائي وضع أدب أميركا اللاتينية في دائرة واسعة من الضوء بعد صدور «مئة عام من العزلة» التي كرّست ما يعرف في تاريخ الأساليب الأدبية بـ «الواقعية السحرية» التي أصبحت تسمية مرادفة للمنجز الأدبي، الروائي والقصصي، في دول أميركا الجنوبية. يضاف إلى هذا العامل الأساسي والمحوري في شهرة ماركيز وانتشاره حصوله على جائزة نوبل للآداب عام 1982، وعلاقاته الممتدة في العالم وصداقاته مع شخصيات سياسية شهيرة على رأسها الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، الذي قال ماركــيز إن صداقتهما تقوم على أسس أدبية لا علاقة لها بالسياسة، وقدرته على التوسّط في النزاعات السياسية في أميركا اللاتينية، معتمداً على شهرته التي طبّقت الآفاق.
لكن أهمية ماركيز الحقيقية تتجاوز تماماً هذه الشجون السياسية اليومية إلى قوة التأثير الأدبي لعمله في السرد الروائي والقصصي، سواءٌ في وطنه الأم والقارة التي صوّر صراعاتها الدامية، أو في ثقافات العالم ولغاته المختلفة التي استجابت لتأثيرات أسلوب الواقعية السحرية بصورة تصعب مقاومتها. لقد استطاع صاحب «مئة من العزلة» أن يعدي بأسلوبه مئات الكتاب ويسم كتابة القرن العشرين بميسمه، ما دفع صديقه الكاتب المكسيكي الراحل كارلوس فوينتيس إلى أن يقول عنه «إنه الكاتب الأكثر شعبية وربما الأفضل ممن يكتبون بالإسبانية بعد سيرفانتيس». وجعل الأكاديمية السويدية تشير، في تقرير منحه جائزة نوبل للآداب عام 1982، إلى أنه «سواءٌ في رواياته أو قصصه، يمزج الفانتازي بالواقعي في سرد مفعم بالخيال يعكس حياة أميركا اللاتينية وصراعاتها».
ولد غابرييل غارسيا ماركيز عام 1928 في بلدة أراكاتاكا الكولومبية التي كانت منطلقَ حكاياته وقصصه، والأرضَ التي تشكّلت فيها ذاكرته وخياله في السنوات السبع الأولى من حياته، كما يقول في أحد حواراته الصحافية. وقد تخلّدت تلك البلدة في مخلوقه الخيالي «ماكوندو» الذي اصطنعه في روايته «مئة من عام العزلة» ليكون البيئة الرمزية لحكاياته العجائبية عن عائلة بوينديا في سبعة أجيال متتابعة عاصر أولها الزمان الذهبي لماكوندو وعاصر آخرها أفول هذا المكان وخرابه واضمحلاله وعزلته القاسية. لكن هذه الأرض الخيالية، التي استمرت في الحضور في أعمال ماركيز التالية (حتى لو غاب اسمها أو حضرت سماته وأوصافه فقط)، تُؤوَّل في منجز ماركيز الأدبي بوصفها المكان اللاتيني في الزمان الحديث، بكلّ غراباته وصراعاته الدموية وذاكرته الكولونيالية وانقساماته العنيفة المتواصلة. ومع أن المادة السردية في أعمال ماركيز مستقاة، كما يشير هو في مواضع عدة، من حياة عائلته وحكايات جده لأمه وجدته لأمه التي أخذ عنها الأسلوب الذي يمزج الواقع بالخيال والطبيعي بالفانتازي، فإن قدرة الكاتب على استخلاص حكمة العيش من هذه الحكايات التي يرويها، ويعمل على تحويرها والمزج بينها، تجعل منها مجازات عن عيش البشر جميعاً في عزلاتهم التي لا شفاء منها. وهو ما يمكننا الوقوع عليه في معظم أعمال ماركيز التي تجعل من ثيمة العزلة بؤرة أساسية للنظر إلى حيوات شخصياته سواءٌ في عمله الأول «عاصفة الأوراق» (1955)؛ أو روايته القصيرة «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» (1961)؛ أو عمله المركزي «مئة عام من العزلة» (1967)؛ أو روايته التي تسعى إلى القبض على الأعماق الدفينة للديكتاتور في أميركا اللاتينية «خريف البطريرك» (1975)؛ وفي «الحب في زمن الكوليرا» (1985) التي تستعيد بصورة مجازية حكاية والدي ماركيز اللذين عاشا قصة غرام تكللت أخيرا بالزواج على رغم اعتراض الكولونيل جد ماركيز لأمه على ذلك الزواج غير المتكافئ؛ وأخيراً في «ذكريات عاهراتي الحزينات» (2004) التي تحكي عن صحافي عجوز يحتفل بعيد ميلاده التسعين ويسعى إلى التخلص من إحساسه بالوحدة والعزلة من خلال إقامة علاقة مع عاهرة صغيرة ليكتشف في النهاية الحب وللمرة الأولى في حياته.
في تلك الأعمال، الأكثر شهرة في منجز ماركيز، وغيرها من كتاباته الروائية والقصصية، تُصوّر الشخصيات وهي تعيش وحدتها القاتلة التي تعبّر عنها على نحو مجازي أخّاذ حكاية الكولونيل الذي ينتظر رسائل لا تأتيه.
من اللافت أيضاً في عمل ماركيز قدرته على مزج أشكال وأساليب وتأثيرات مختلفة في كتابته. فعلى رغم تركيز نقاده، ومؤرخي الأدب الأميركي اللاتيني بعامّة، على النزعة الواقعية السحرية، التي كان له الفضل في نشرها وتعميمها في كتابة القرن العشرين الروائية والقصصية، فإن نثر الكاتب الكولومبي الشهير يتمتع بخصائص تتجاوز هذه الشائعة القوية التي حجبت الخصائص الأسلوبية المميزة في عمله. فهو، إضافة إلى كونه حكّاءً بارعاً، وكاتباً يتمتع بخيال نشط قادرٍ على اصطناع عوالم وهمية مبهرة لقارئه، يمزج بين أساليب متعددة: الوصف الواقعي الدقيق المتأثر بكبار كتاب الواقعية في الرواية الأوروبية، القدرة على جعل الفانتازي يقوم من أرض الواقع بحيث يبدو جزءاً من العالم الطبيعي لا يتمتع بأي غرابة، وكذلك أسلوب الوصف والتسجيل الصحافيين اللذين تحدّرا إلى رواياته وقصصه من عمله الصحافي في بدايات مسيرته الأدبية، حيث ظلّ الروائي يكتب ريبورتاجات بارعة حتى السنوات الأخيرة من حياته. ولعل كتابه «حكاية بحار غريق» (1970)، الذي يروي قصة سفينة غارقة وبحار وحيد ناجٍ، وكذلك «قصة موت معلن» (1981)، التي تجد بذورها في خبر صحافي، و«خبر اختطاف» (1996)، التي تحكي عن عمليات اختطاف قام بها تاجر المخدرات بابلو إسكوبار في مقاطعة ميديلين الكولومبية، أن تكون جميعاً مؤشراً شديد الوضوح على الأثر المركزي للكتابة الصحافية في نثر ماركيز الروائي الذي تلتقي فيه تأثيراتٌ تتجاوز شائعة الواقعية السحرية التي تمثل خيطاً رفيعاً في نسيج كتابته القصصية والروائية، والصحافية التسجيلية كذلك.
ومع ذلك، فإن عظمة غابرييل غارسيا ماركيز تتمثل في العمق الإنساني لعمله وفي قدرته على ابتداع حكايات مجازية قادرة على إضاءة عذابات البشر وأقدارهم المتشابهة في أزمنة الاستبداد والاستغلال والشعور بالوحدة والعزلة في عالم يطحن كائناته ويحيلها إلى رماد.

********

هذا الرحيل أحجيتك الأخيرة

النسخة: الورقية - سعودي السبت، ١٩ أبريل/ نيسان ٢٠١٤ (٠١:٠ - بتوقيت غرينتش)
آخر تحديث: السبت، ١٩ أبريل/ نيسان ٢٠١٤ (٠١:٠ - بتوقيت غرينتش) يحيى امقاسم

غابْريِيل غارْثِيّا مارْكِيث قالوا إن الروائي الكولومبي «غابرييل غارسيا ماركيز» رحل أخيراً في ركب مجهول لم يتوقف يوماً عن نسج ثوبه بمجموع الأساطير واللاواقع، ورحل أخيراً كأنما هو في أحجية جديدة يقرأها من أعالي قرية «ماكوندو» باسم الموت هذه المرة، فيخرج الساحر آخر حكاياته عن هذه الأرض، عن تلك السماوات من البشر والكائنات، عن اللبس الجميل، عن الركض المستمر ولا يتوقف، لأنه هذه المرة لن يعود في أوج الحكاية ليقول لنا أين «ريمديوس» التي طارت كفراشة في أول «مئة عام من العزلة»، ولا كيف نقل ذلك الكولونيل من روايته تلك إلى عزلة أخرى لدرجة لا أحد يكاتبه، ولا كيف أمضى الفتى فلورنتينو 50 عاماً ينتظر العاشقة والأمل في عهدة «الكوليرا»؟
قالوا لن يعود الماركيز هذه المرة فذهابه مع الموت سمّاه ذات أعجوبة جديدة بـ«يحدث أصلاً»، وما علينا إلاّ أن ننفذ به إلى واقع غير مرئي، هكذا قدّر شكل مرور الجنازة قبل أن يسكنها الموت، وهكذا تدارك لنا احتمال رحيله الأبدي، فيما مشروع كامل وتام لا يمكن أن نظن فيه نقصاناً، أو أن الماركيز حمل معه الكتاب والسحر، واصطفى لنفسه بعض القصص التي لن نقرأها.
إن جميعه جمالاً وإنتاجاً يتحقق أمامنا، فهناك «ماكوندو» أخرى لم تكتشف بعد، وسنقرأها مرات كثيرة في ما لم يصلنا بعد، وهناك الجدّة «أورسولا» في بلاد بعيدة ما زالت تخفي ذهباً لزمن التحولات، والموسيقى لن تموت بعد «فيرسبي»، فهو لن يغادر القرية مثل الماركيز صانعها من ماء الحياة، وسيظل العقيد أورليانو سيد المرحلة وإن قيد إلى مقصلة البطولة، مثلما نقاد اليوم إلى وداع خاطف، فهذا العالم متماسك من مخيلته ومدخر لكل جسور التحرر، والعالم الآخر الذي يقتفي أثر أورليانو الثاني ويفتش في قريته الخالدة، ولا تنتظر تلك القرية أحداً، أما ملكياديس فلن ترهنه الأمكنة ولا النسيان، فهو الغجري الموزع في اللامكان واللازمان، ولن يتخلى عن صاحبه الموثوق في شجرة ومؤسس القرية الممسوسة بالذكريات والانتظار، وما كان للزمن من سطوة على تلك الرغبات المشدوهة، ولا على فلورنتينو وهو يحضن حبيبته بعد العمر الناضح بنضال القلب حتى آخر نبض.
إن هذه الشخوص هي الوقت وبناية الزمن، فكلما غرب مجموع أتى آخر ليوسع من جغرافيا البقاء وينهض بالغرائب وكائنات الخفاء التي تسوغ الحرب والحب، النماء والجوع، القرية البكر والمدينة المهترئة. كل هذا العالم المشغول باقتدار لا ينفرط بذهاب سرمدي يراه الماركيز ضمن قلعة عاش لأجل أن يرويها ويهيئها قبالة خوفنا من الفقد وإيماننا بهذه العوالم المعبوبة بالحيوات من دون صمت.
والآن لم يترك لنا الماركيز أن نسأله كيف لنا أن نعالج المبهم في ثروته الباسلة، ولا كيف سنكتب إلى شخوصه المولعة بالضوء، وليس لنا أن نشكو حسرة الظلام والتجربة، فهو الذي حصد الزمن زمنين والمكان عالمين، أميركا اللاتينية أوله، ثم العالم بأسره هو انتشاره حين تنقل بين كل لغات العيش وأنار شيئاً من تراجيديا البشرية وحمولاتها المتعددة منذ الأزل، وحتى تمام القمة الإبداعية أوروبياً وأميركياً وآسيوياً، لتنضج على يديه بدعة تولد من رحم الخرافة، ويؤسس ما عرفه النقاد منذ خمسينات القرن الماضي بـ«الواقعية السحرية» في الأدب العالمي وأميركا اللاتينية خصوصاً، ليكون رائداً بما قدمه من مقومات أساسية وملامح تامة في مضمار صار علامة فارقة في تاريخ الأدب العالمي.
صار الماركيز بأعماله التي فاق عددها 20 رواية ومجموعة قصصية، عنوانَ الطبيعة البديلة في اللون والرائحة والتكوين، تلك الطبيعة التي نعرفها في الحكايات، والمقدر لها أن تجتاز أزمنة بالغة الأحوال، فهي بيده أشد حدوثاً وأكثر حضوراً بالفصول مهما تعاقبت الأجيال وابتكرت ذائقتها، وستقول لنا دوماً إن رحيله لم يكن إلاّ كتابة ختامية احتاجت إلى بلوغها إليه أعواماً طويلة بعد روايته الأخيرة «ذاكرة غانياتي الحزينات»، وهذا الرحيل سيكون حكاية الـ.. ما وراء، والتي سنبدأ الآن قصتها.

******

ماركيز كما يراه روائيون عرب

النسخة: الورقية - دولي السبت، ١٩ أبريل/ نيسان ٢٠١٤ (٠١:٠ - بتوقيت غرينتش)
آخر تحديث: السبت، ١٩ أبريل/ نيسان ٢٠١٤ (٠١:٠ - بتوقيت غرينتش)

غابْريِيل غارْثِيّا مارْكِيث قرأ العرب غابرييل غارسيا ماركيز ككاتب عربي ليس بعيداً عن إرثهم العظيم من «ألف ليلة وليلة» إلى حياتهم التي تزداد غرائبية يوماً بعد آخر. ومازلت أذكر تلك العلاقة الحميمة التي ربطتني مع نصوصه في قراءاتي الأولى حين كنت شاباً صغيراً، كنت أشعر به قريباً مني، سأراه في مقهى مدينتي وأتبادل معه تحيات الصباح، وأقول له كما يقول له مواطنوه في كل مكان من العالم عن أشياء توجعني من أفعال الديكتاتوريين الذين لايموتون في خريفهم، إلى العزلة التي تحكم حياتنا، إلى قصة موتنا المعلن، بحيث لم يتوقف الموت العلني في بلدي منذ ثلاث سنوات ومع ذلك ثمة من يتساءل: من أين تأتي كل هذه الجثث؟
علمني غابرييل غارسيا ماركيز قوة الانتماء إلى الخيال كشيء أساسي لي كسارد، لأنّ سرداً من دون خيال ميت لامحالة . وعلمني أن لا أخاف حين أقول إننا ننتمي إلى الجذور ذاتها وإنّ شهرزاد، جدّتنا، منحت خيالها وحكاياتها بالتساوي لكل كتّاب العالم. لكنه ظلّ هو الكاتب الأمهر، بمزجه هذه الخطلة العجيبة كلها بقوة سرد مدهشة وعمق إنساني فريد في الكتابة الروائة لينتج نصوصاً يمكن أن تربح معركتها مع التاريخ ببساطة.
لم أكن أنتظر موت ماركيز لأن الخرافة لا تموت. نعم كان أحد المعلمين الذين علموني الكثير دون أن ألتقيه!

خالد خليفة

ماركيز هو أولاً نقطة تحوّل جوهرية في الرواية العالمية، كاتب حرّ أطلق جماح خياله وصنع عوالم غرائبية مثيرة من غير أن تنفصل عن واقعه وعن ذاته وعن مخيلته المشبعة بحكايات بيئته وأساطيرها. تأثّر ماركيز فكان أدبه وليد ثقافة مجتمعه والثقافة الإنسانية جمعاء. بنى ماركيز عالمه الروائي الخاص مستنداً إلى الموروث الثقافي اللاتيني، وقد عرف كيف يُعيد إنتاج هذه الذاكرة الجماعية برؤية فنية جديدة. كان تأثير ماركيز كبيراً في كتّاب الأدب وقرّائه في العالم. أعمال ماركيز وعّت الكتّاب على واقعهم وعلى أنّ الخيال لا ينفصل عن الواقع، بل هو إعادة قراءة هذا الواقع. ساعدنا ككتّاب عرب في أن نتجاوز أنفسنا ونقيم علاقة جديدة مع الواقع، المرجع الحيّ للرواية. وهذا التأثّر البالغ بأدب ماركيز لا يعني التقليد، فمن قلّد ماركيز فشل. لكنّ التأثر بأدب الآخرين هو أمر مشروع وضروري لكلّ كاتب لكي يصنع في النهاية عالمه الخاص. حلّق الروائي الراحل في عوالم غرائبية واتكأ على الخيال ليُقدّم إلى قرائه رؤية جديدة إلى الواقع نفسه.

علوية صبح

من المرجح أن تكون روايات غابرييل غارسيا ماركيز من بين الكتب الأجنبية الأكثر انتشاراً في العالم العربي رغم الملاحظات على ترجماتها. والإغراء الأساسي في رواية مثل «مئة عام من العزلة» هو قدرة المؤلف الراحل على تحويل قرية معزولة في أميركا اللاتينية الى حدث أدبي عالمي، ما يشجّع المقبلين على الرواية - وهم متكاثرون في عالمنا العربي - على النهل من مطارحهم ومروياتهم «العميقة» لصنع عالمهم المتخيل وأسلوبهم الأدبي. يبقى أن ماركيز قد يكون روائي النصف الثاني من القرن العشرين، غزا الدنيا بشخصياته وجعل سيدة ألمانية قرأت حكاية ماكوندو تتساءل من أين يعرف هذا الكولومبي قريتها في ويستفاليا كي يصفها بهذه الدقة.

جبور الدويهي

لا بدّ من أن تكون قراءة كتاب مثل «مئة عام من العزلة» أو «خريف البطريرك» من القراءات المؤسسة لأي قارئ، ولأي شخص يمتهن الكتابة الروائية. شخصيات ماركيز دخلت التاريخ تماماً كما دخلت قلوبنا واستقرّت في أذهاننا. ورغم أنّ هذه الشخصيات تنتمي إلى الواقعية السحرية التي تجعل من البطريرك قادراً على أن يرى أثناء نومه مثلاً، نشعر بأنّ هذه النماذج موجودة فعلاً في واقعنا العربي. أدب ماركيز جعلنا كقرّاء عرب نعي أكثر تفاصيل موجودة في واقعنا. جعلنا ننتبه إلى قرانا، إلى دواخلنا، إلى الأنظمة الديكتاتورية التي تتحكم بمصائرنا. إنّ الواقع العربي لا يختلف كثيراً عن واقع أميركا اللاتينية وهذا ما يُقرّبنا أكثر إلى أدب ماركيز الذي أسّس لأدب أميركا اللاتينية في وقت كانت تعاني من إرهاصات وتخبطات. علّمنا في مرحلة ما أنّ في إمكاننا تناول موضوع الديكتاتوريات السياسية بعيداً من التعصب الإيديولوجي الذي كان يقتل كتاباتنا عنها. فتح ماركيز للمجتمعات المكبوتة التي تحضر فيها الخرافة والسحر والشعوذة أفقاً إنسانياً عميقاً لا ينفصل عن الخيال. لذا أقول إنّ ماركيز اكتشف قارّة مجهولة في الأدب، فتح الباب عليها لكي يدخلها من يشاء. وأعتقد أنّ الكتّاب العرب وجدوا - أو ربما سيجدون - في ماركيز الأب المؤسس لنوع من الكتابة الروائية التي تشبهنا إلى حدّ كبير.

نجوى بركات

أرى أنّ من المفترض أن ننظر إلى ماركيز خارج دائرة ما هو شخصي، وأعني هنا أثره الشخصي في الكتّاب، لأنّ الأثر الأجمل هو ما تركه ماركيز في قلوب الفقراء حول العالم. أنا أعتبره واحداً من أجمل صنّاع الحياة الذين استطاعوا بإبداعهم أن يُلوّنوا الحياة ويُعيدوا فهم الإنسان لواقعه ومساعدته على تحمّل ألم الحياة وجورها. قدّم ماركيز في «مئة عام من العزلة» أو «الحبّ في زمن الكوليرا» أو «عشت لأروي قصصي» وفي غيرها من الكتب رحيق تجربة شخصية غنية لرجل اختبر الحياة بآلامها وأفراحها، بأوجاعها ومسرّاتها... كتب ماركيز عن الحبّ والحرية والسياسة والإنسان والمجتمع، وفي كلّ ما كتبه نجد شيئاً ما يُلامس حلم الإنسان بغد مشرق. لا نبالغ إن قلنا إنّ ماركيز حضّ القارئ على خلق خياله المبدع. فالكتابة عنده هي مزاوجة بين الواقع والخيال. ففي «مئة عام من العزلة» تخيّل عوالم أخرى، بحيث أوجد مدينة خاصة بشوارعها ومدنها وسكانها، ومن هذا الخيال الكبير والمجنّح كان يغترف ماركيز لكي يُقدّم للقرّاء مائدة غنية بما لذّ وطاب من الموضوعات والقصص والصور. وأنا لا أسميه صاحب الواقعية السحرية بل الواقعية الحقيقية التي استطاعت أن تؤثر في الكتّاب والروائيين في كل مكان.

طالب الرفاعي

مع أنّه ينتمي إلى أميركا اللاتينية، وهو بعيد كل البعد عن فلسطين، كان الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز من أكثر الأدباء الذين تضامنوا مع الشعب الفلسطيني، والذين كتبوا ودافعوا عن هذه القضية المحقة.
ففي الثمانينات، حين كانت الصهيونية تفرض سيطرتها على وسائل الإعلام العالمية وعقب حصوله على جائزة نوبل للآداب (1982) استأجر صاحب «مئة عام من العزلة» صفحة في صحيفة «ال اكسبرسو» الإكوادورية- دفع ثمنها من حسابه الشخصي - ليكتب فيها مقالاً تضامناً مع الشعب الفلسطيني ودفاعاً عن القضية الفلسطينية. ومن المؤكد أنه قام بذلك بعدما حاول نشر المقال في صحف عدة جابهته بالرفض.
فقدانه خسارة كبيرة للأدب عموماً، وليس الأدب الكولومبي فقط، لكنّ العزاء أن أعماله ستبقى وستظل جزءاً مهماً من ذخيرة الأدب العالمي.

بهاء طاهر

رحل الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز بعدما عاش زمناً فسيحاً كفاه ليروى قصصاً عن مدينته وأهلها، عن ذاته وأحلامه، عن عشاق وموجوعين، حتى غدا هو نفسه أسطورة مثل الأساطير التي صاغها لقرائه لعلهم ينظرون إلى الحياة عبر نوافذ جديدة أكثر تسامحاً وتعاطفاً وحباً، حتى لو كان ذلك في أزمنة الحروب والطواغيت والكوليرا...
خبر رحيله أحزن العالم، وبخاصة القراء الذين عشقوا حروفه وإبداعه الأصيل والمجدد والفانتازي ذا الروح الساحرة التي استطاعت أن تلهم الآلاف من كتاب القصة والرواية حول العالم. وعلى رغم الرحيل، سيظلّ ماركيز حاضراً وستظل الساحات الثقافية تقرأ أعماله وتناقشها وتستمتع بأسرارها وأعماقها وعوالمها الغنية بالجمال والعبقرية والجاذبية الفكرية والفنية الآسرة.

فؤاد قنديل

في أيار (مايو) 1974، أهدتني صديقتي أنّا إيزابيل، رواية «مئة عام من العزلة» بترجمتها الإنكليزية. قرأتها بعد شهور. ولما أتممتها حدثت لي أمور ثلاثة، أولها أنني حين فرغت من صفحتها الأخيرة تساءلت ما الذي أفعله الآن؟ عدت إلى صفحتها الأولى وبدأت في قراءتها مرة أخرى. كنت بدأت في كتابة مُسَوَّدة روايتي الأولى. مزقتها وألقيت بها في سلة المهملات. ولم أقرب الكتابة تسع سنوات. قررت أنني غير مؤهلة للكتابة. أما الأمر الثالث فكان درساً في مجال الجنس الروائي، كان نص ماركيز يحرر هذا الجنس من قيود واقعية القرن التاسع عشر، وواقعية مطلع القرن العشرين الحداثِيّة. كانت «مئة عام من العزلة» تعيد الاعتبار إلى الحكاية، وللروائي بوصفه حكاءاً، قادراً على استمالة قاعدة واسعة من القراء، وعلى المزج بين السياسي والتاريخي وشطح الخيال. لاحقاً تتبعت خطاه وقرأت كل نصوصه، إلى سيرته الذاتية مروراً بقصصه القصيرة. وقرأت «قصة موت معلن» وكلمت نفسي: يا إلهي لقد قلب شكل الرواية البوليسية كفردة جورب فأعلن عن الجريمة والقاتل والقتيل في سطورها الأولى ولم يعقه ذلك عن مواصلة الحكي. يتصدّر الخيال في نصوصه ويجمح كما في الأساطير، ولكن على عكس الأساطير تراه مضفوراً بمشاهد واقعية تنقل لك تفاصيل الأزقة المتربة، والقيظ المنهك، والقرى النائية.
يمكن بلا تعميم أو مبالغة القول بأنه كاتب الرواية الأكبر في القرن العشرين. ويمكن اعتماد ما قيل بأنه حين نشرت روايته الأولى «مئة عام من العزلة»، غدت له بين ليلة وضحاها شهرة لاعبي كرة القدم. أصبحت الرواية بين يديه فناً ديموقراطياً لا لتعدد الأصوات فيها فحسب، بل لأنها صارت مقروءة من جمهور واسع، تخاطبه وتمتعه.

رضوى عاشور

* جمع الشهادات: مايا الحاج (بيروت) وعلي عطا (القاهرة)

الحياة

********

غابرييل غارسيا ماركيز.. صانع أسطورة أميركا اللاتينية

إسكندر حبش

تاريخ المقال: 19-04-2014 01:49 AM

غابْريِيل غارْثِيّا مارْكِيثعـبر سنيّ حياتـه الطويلـة (87 عاما) ـ والتي لم تصل إلى المئة، أي إلى الحدود التي تشبه فيها عنوان إحدى رواياته ـ تحول غابرييل غارسيا ماركيز من صحافي وكاتب، إلى أكـثر من رمـز في أمـيركا اللاتيـنية، وربما في العالم أيضا. نجح ابن تلك القرية الكولومبـية الفقيرة، في أن يجتاز حدود مسقـط رأسـه، وأن يجـتاز هذه العـزلة التي كانـت مفروضة على قارة بأسرها، ليُسمع صوتا مخـتلفا. لنقل ذاك الصوت الأدبي في البدايـة، ومن ثـم السـياسي، وإن كـان الأدب الأمـيركي اللاتيني يغرف كثيرا من السياسة، إذ يلتقيان غالبا ليشكلا صنعا لوعي ثقافي وجد صداه في قارات أخرى عبر ما مارسه من تأثيرات على وعي الشعوب.
من هنا، وعلى الرغم من أنه كان يعتبر نفسه روائيا أي «شخصا غير مثقف»، إلا أننا لا نستطيع أن نتجاهل الدور الذي لعبه في الحياة العامة لقارته، بدءا من صداقته الطويلة والعميقة مع فيديل كاسترو التي لم يجعلها مادة إعلامية، إذ حاول دائما أن يلفها بضبابية ما، غير شارح لكنهها، مرورا بصداقاته مع الثوار الساندينيين ووصولا إلى دوره الكبير الذي لعبه في إطلاق سراح المخطوفين الذين احتجزتهم الميليشيات في كولومبيا. ربما ذلك كله يندرج في خط مؤسس لثقافة أميركا اللاتينية، بمعنى ذاك العمق الذي أرسى دعائمه كبير محرريها سيمون بوليفار، على الرغم من أنه لم يكن كثير الرحمة معه، وفق ما كتبه عنه في «الجنرال في متاهته»، وهي الرواية التي عالج فيها الشهور الأخيرة من حياة القائد بوليفار. بهذا المعنى «الثوري» قد نفهم جملة الرئيس الإكوادوري رافاييل كوريا الذي قال: «غادرنا غابو، سنعيش في سنوات من العزلة، لكن تتبقى لنا أعماله وحبه للوطن الكبير (أميركا اللاتينية)، قبل أن يختم باستعادته لجملة غيفارا الشهيرة:
Hasta la victoria siempre عزيزي غابو». أما في كولومبيا، موطنه، فقد أعلن رئيسها الحداد الرسمي لمدة ثلاثة أيام مع تنكيس الأعلام من على كل الدوائر الرسمية.

مائة عام من العزلة

بهذا المعنى، تحول ماركيز إلى مثقف، وإلى حامل لوعي كبير بالتاريخ وبالشرط الإنساني كما للشرط الوجودي، إذ لم ينفك حضوره الشخصي عن الارتباط بالحضور العام، وبالتأكيد نجح في ذلك كلّه عبر الأدب، عبر الكتابة التي أفردت له هذه المساحة الكبيرة، وبخاصة روايته «مائة عام من العزلة» التي ساهمت في صنع اسمه. ربما من محاسن هذه الرواية أنها جعلت القراء يعودون إلى كتبه السابقة التي أصدرها: المجموعات القصصية، والريبرتوجات الصحافية، وبالتأكيد «ليس لدى العقيد من يراسله» تلك الرواية الصغيرة الساحرة التي تختصر عبر شخصية الكولونيل، نظاما كاملا من التاريخ الاجتماعي والسياسي والعسكري في أميركا اللاتينية.
«مائة عام من العزلة» مهدت الطريق أيضا لما أتى من بعدها وبخاصة «خريف البطريرك» التي لا تقل روعة عن سابقتـها، لكن القـراء توقفـوا في ذاكرتهم عند رواية العزلة، وإن كان بطريرك ماركيز لا يقل وحدة وعزلة بدوره. حتى «وقائع موت معلن» و«الحب في زمن الكوليرا»، نجد فيهما تلك العزلة الأثيرة على قلب الكـاتب، وإن كانت تأتي بصيغ مختلفة.
ثمة قصة، غالبا ما رددها ماركيز حول كتابته «مائة عام..»، تستحق أن تروى (ألم يقل هو نفسه في مذكراته «عشت لأروي»). إذ كلّ شيء بدأ بجملة. تقول القصة إنه في العام 1965، كان هذا الكاتب الشاب يشعر بأزمة كتابة منذ أشهر. حاول كثيرا لكنه لم ينجح في الوصول إلى أيّ جملة مفيدة. لذلك قرر أن يأخذ إجازة قصيرة (كان يعيش يومها في المكسيك) ليذهب مع زوجته وأولاده إلى أكابولكو. وفوق الطريق غير المعبدة التي أشعرتهم بالإرهاق، جاءت جملة لتحتل روحه وعقله. كانت تبدأ على الشكل التالي: «بعد مرور سنين عديدة، وأمام فصيل الإعدام، تذكر الكولونيل اورليانو بوينديا تلك الظهيرة البعيدة...». وأمام إلحاح هذه الجملة عليه، استدار وعاد إلى منزله، ليبدأ بكتابة تلك الرواية التي لم تجعل منه فقط واحدا من كبار كتاب القرن العشرين، وإنما أيضا لتؤسس لمرحلة أدبية، لم يستطع أدب قارة (والعالم أيضا) تجاوزها بسهولة. ويضيف ماركيز كيف أنه وبعد نهاية الكتابة، لم يكن لديه ثمن إرسال المخطوط في البريد فتدبرت الأمر زوجته، وحدث ما حدث بعد ذلك.

أول اسم

ربما هذه الحادثة أثرت أيضا في مخيـلتنا لقراءة هذا العـمل، بمـعنى هذه المعاناة التي تشدنا دوما إلى الكتّاب الذيـن يعانون من قسـوة الحـياة. قراءة جعلتنا نتناسى كثيرا بقية أدب أميركا اللاتينية. أقصد، حين نتطرق إلى الحديث عن أدب تلك القارة، وبخاصة نـحن الـعرب، نجد أن أول اسم يقفز إلى أذهاننا هو اسم ماركيز. صحـيح أنه كاتب على درجة كبيرة من الأهمية ولا يمكن لأحد أن يغض الطـرف عـن ذلك، لكن هناك أيضا العديد من الكتّاب الذين إن، لم يتفوقوا عليه بالأهمية، فإنهم يقفون على المستوى عينه: أين نضع بورخيس؟ أو خوليو كورتاثار؟ بدون شك لا يكتمل المشهد بدون أونيتي وبينيديتي وغاليانو وحتى يوسا وغيرهم كثر. في أي حال، لا يعني كلامي مطلقا، أن ماركيز كان من نوافل الكتّاب بل على العكس تماما، لكنه لا يشكل المشهد بمفرده، بالرغم من أن العديد من النقاد يعتبرون «مائة عام من العزلة» أكبر عمل أدبي مكتوب بالاسبانية ولا ينافسها في ذلك إلا كتاب ثربانتس «دون كيخوته».
رحيل ماركيز هو وقبل أي شيء رحيل رمز أدبي وسياسي، انفجر حضوره في ستينيات القرن الماضي إذ حـمل معـه أحلام العـدالة والمـساواة والحياة الجديدة، قبل أن يتم إجهاض ذلك كله إما بفعل التدخل العسكري الأميركي، وإما بتحول أبطال التحرير أنفسهم إلى دكتاتوريين. أليس من المفارقة أيـضا أن تصـدر «مائـة عام..» العام 1967 أي في السنة التي صدرت فيها أسطوانة البيتلز «سيرجنت بيبرز»؟ وجدت أوروبا يومها بعـض أحلامها الكـثيرة في أغـاني «الخنافس» وموسيقاهم، ووجدت أميركـا اللاتيـنية الكـثير من أحلامها في هذه الرواية. ربما ثمة تشـابه بين الأمـرين، نجد صداه في هذه الجملة التي قالها ماركيز في خطابه يوم تسلـمه جائزة نوبل العام 1982، يقول: «في وعي أوروبـا الجيـد، كـما في وعيـها السـيئ، انبجســت وبقـوة كبــيرة هــذه الراهنية الفانتاسـمية العائـدة لأمـيركا اللاتينية، أي هذا الوطن الكبير للرجال المهلوسين وللنساء اللواتي دخلن في التاريخ، حيث أن عنادهم غير المحدود يمتزج بالأسطورة».
لا أعرف إن كانت أميركا اللاتينية مجرد أسطورة، فما كتبه ماركيز «بواقعيته السحرية» (كما اصطلح على تسمية أدبه بذلك) ليس في الواقع سوى، وكما تقول إيزابيل الليندي، «هذا الصوت الذي روى للعالم ما نحن عليه، نحن الأميركيين اللاتينيين، لقد دلنا على أنفسنا في مرايا صفحاته. عزاؤنا الوحيد أن أعماله خالدة».

إسكندر حبش