(محمد الماغوط في كتابه الأخير «البدوي الأحمر»)

عابد إسماعيل
(سوريا)

محمد الماغوطلا يوجد ناظم مجازي أو فكري يجمع بين النصوص التي يقدّمها محمد الماغوط في كتابه الجديد «البدوي الأحمر» (دار المدى، 2006)، سوى النبرة الشعرية ذاتها. وهذه النبرة يصقلها التهكّم وتشحذها المفارقة، عبر الذهاب بعيداً في الهجاء، إلى أبعد تخوم الكآبة. وإذا كانت تقنيات الماغوط ارتجالية، خالية من الصّنعة تقريباً، وتتقنّع بالعفوية والبساطة، فإنّ نصوصه الجديدة تكشفُ عن رؤيا مستعادة، متماسكة، بل ومثقّفة أحياناً، تمزجُ، عن سابق تصوّر، الشعر بالنثر، والتقريرية بالبلاغة. قد تكون هذه مصالحة ناجعة لشاعر كبير كنا نظنّ أن إعياء المخيلة قد أصاب منه مقتلاً، وباتت روحه تقتات من صدى الصّدى، من خلال الدوران في فلك النمط الشعري الذي اختطه الشاعر لنفسه، قبل زهاء أربعين سنة، وبخاصةً خلال عقدي الستينات والسبعينات، عبر دواوين شهيرة مثل «غرفة بملايين الجدران» و «الفرح ليس مهنتي» و «حزن في ضوء القمر»، وهي كتب ساهمت، إلى مع كتب شعرية مفصلية أخرى، مثل «الرأس المقطوع» لأنسي الحاج، و «مفرد بصيغة الجمع» لأدونيس، في تغيير مسار قصيدة النثر العربية، مؤسّسةً حقاً لمعايير شعرية وفنية جديدة.
وإذا كان الماغوط الأب في نصوصه الأخيرة يقلّد الماغوط الابن، مقترباً منه تارةً، مبتعداً عنه طوراً، فإنّ شعريته، الخالية من النظام أو المنهجية، تتماسكُ وتنتظم، بفعل نبرة شعرية، رثائية في الغالب، لا تفارق ارتجاف الصوت، تقوم على انطباعية وجدانية، جوهرها الكآبة المستديمة، وغايتها التمرّد والتغيير. هذه الانطباعية تختزنُ، في عمقها، هاجساً رومانسياً للعودة إلى كينونة عارية، وثنية في صفائها، أفلاطونية في تساميها، حسّية في علاقتها بالمرئيات. فالماغوط هجّاء بارعٌ للعــصر الحـــديث، ينتقد مبتكراته ومنجزاته، مدفوعاً بحنين رعوي إلى نسق مثالي، لا مكان فيه سوى للمسة المتوحّشة، والغــريزة المتحـــرّرة من كل عقال: «أقبضُ على كلّ شيء بجماع يدي كالوحش الضاري» (ص 210)، و«على ظهري المقتَلع من صخورِ الجبال/ أحملُ سلالمَ الغار والرّيحان البدائي». (ص 335).
وليس غريباً أن يسمّي كتابه هذا «البدوي الأحمر»، ليجمع بين الاسم الدالّ على الأصل، والصفة الدالة على الانزياح، في إشارة إلى سيرة الهندي الأحمر، بصفتها سيرة محو واجتثاث، وانزياح مستمرّ عن الأصل.
ويحلو للماغوط دائماً أن يرى نفسه شاعراً مقموعاً، موشوماً بأختام النار، إذ ثمة ما يحاصر الذات ويطبق على أحلامها، حتى باتت مهددةً، مشروخةً، إما بسبب عوامل ذاتية، كالشيخوخة التي لا ترحم، وإما لأسباب موضوعية، فرضها واقع منهار، يسير من هزيمة إلى أخرى، تاركاً الشاعر فريسةَ عزلةٍ مطبقة، وحيداً في عالم أبكم ينسى مبدعيه حتى الموت: «هذا الصمت المطبق يحطّمُ أعصابي/ أريدُ أي صوت ومن أي مكان/ قعقعة سلاح في سجن/ تدحرج صخور في منحدر/ صراخ طيور في فخ/ قنبلة موقوتة،/ انفجار بركان بين قدمي» (ص 172).
وإذا كان الماغوط يكتفي بالاحتجاج، عبر صورٍ شعرية داكنة، فإنه في المقابل، يرفض أن يقتات من الصّدى وحده، ومثل بدوي مهدّد بالانقراض حقاً، يزدادُ تمسّكاً بسمائه ونجومه، عائداً القهقرى إلى مخيلته الشعرية الغنائية، حتّى في أكثر نصوصه جنوحاً الى التقريرية والالتزام الفكري.
هذا لا يعني، أنّ الماغوط الأب لا يصطدم مراراً بالماغوط الابن، مقلداً إياه، متعاركاً معه، في مفارقة نادرة، تخلخل سيكولوجيا التأثير والتأثر، وتضعنا أمام معادلة أوديبية مقلوبة، حيث الأب، يبحث عن قتل الابن، عبر محاولة تجاوزه إبداعياً وفنياً. من هنا شعور الأب بالنقص، وبحثه الدؤوب، بين الحطام، عن فسحة تخييلية تعيد كتابة أسطورة الشاعر، المغامر: «يؤسفني أشدّ الأسف/ أن يكون قلبي معاقاً... ويريد أن يصبح رمحاً/ وأوراقي مبعثرة... وتريد أن تصبح شراعاً/ وعكّازي محطم... ويريد أن يصبح عريشةً» (ص 296). لا شك في أن القلم الحالم يختزن صورة دفينة عن فحولة معطوبة، وهي تريد أن تستعيد بهاءها الشعري، في تحوّلات الرّمح أو الشّراع أو العريشة المنتصبة. هذا هو الماغوط الأب، محاولاً إحياء الماغوط الابن، عبر محاولة قتله مجازياً. وهنا تكمن مفارقة هذا الشاعر الكبير. فإذا كان الماغوط الابن لم ينسج على منوال أحد، مكرّساً ريادته لقصيدة النثر العربية، فإن الماغوط الأب، يتحوّل إلى عوليس تائه، بلا بوصلة أو بحر، لا يجد أمامه سوى نموذجه المنجز والمكتمل، أي أرشيفه الخاص، يحفر فيه ويغوص، باحثاً عن بدائل شعرية وفكرية. من هنا نجد نصوصه بمثابة تنويعات على طيف واسع من المواضيع المتباينة، المطروقة سابقاً، عن الوطن والحزن والتسكع، واستحضار أطياف كتاب وشعراء مثل رامبو وبودلير وسان جون بيرس وسنية صالح وسعدالله ونوس ونزار قباني ونجيب محفوظ وغيرهم، حيث كلّ واحد من هؤلاء يتركُ جرحاً رمزياً في وعي الشاعر، من حيث أنهم، جميعاً، ساهموا في تشكيل ذاته المبدعة، ممثلين عصارة قراءاته، على قلة هذه القراءات وندرتها. وفي لحظات استرجاع كهذه، يحلو للماغوط الهروب من معادلاته الذهنية الرتيبة، وهجائه اللاذع للواقع المحيط، عبر اللجوء إلى جنون العبارةِ وبَطَرها، كأن يزيّن نصوصه المتسكّعة، الحائرة، بلمسات جمالية خاطفة، تعيد لها بعضاً من سطوعها القديم، كما في قوله: «أيها الضباب الأصفر اللانهائي/ هل أنت محبرتي؟» (ص 152).

أيديولوجيا الألم
ولا يخشى الماغوط العودة إلى موضوعاته المألوفة، التي لا تخرج عن أيديولوجيا الألم التي اخترعها لنفسه، فتكثر الشكاوى للسماء، والتهكّم من الوطن، والتغنّي بالخسائر والهزائم، وذلك خارج سطوة المقدس السياسي ومحاذيره: «خذوا انتصارات تشرين/ واتركوا لي هزيمة حزيران!» (ص 203) وأنتَ «أيها الوطن السريع الطلقات/ والكاتم الأنفاس/ سدّد بإحكام» (ص 279)، لأنّك «وطني، أيها القفّاز المبطّن بالجليد» (ص 204).
أما ما ينقذ هذه النصوص، من تعسف الفكرة وجبروتها، فهي لمسة ساحرة من الشاعر أو نبرة رثائية بعيدة، تدفع الخطاب الشعري إلى مستويات تتخطّى حدود الفكري والمعرفي: «ولذلك أنامُ الآن مع قصائدي وذكرياتي وأحلامي بعد أن ألفّها جميعاً بعضلات القدر المفتولة بالبرق والرعد والغيوم/ وأسحبُ الوطن وأشدّه فوقي كاللحاف من الرأس حتى القدم/ كما يُشدّ الوتر إلى القوس» (ص 20).

مع ذلك، نجد دوماً في قصيدة الماغوط، ظلال المقال الصحافي، وفي المقال الصحافي نتعثّر دوماً بالشعر. في نص بعنوان «زوبعة في فنجان) يتجاور النمطان ويتحاوران، في شكل واضح وجلي. ثمة افتتاحية شعرية للنص، تبدو مشدودة وفاتنة، لكنها سرعان ما تنحلّ وتتراخى في رتابة المقال وأطره الجاهزة: «هذه القمم العالية/ من القش والغربان والأحلام الضائعة/ هي سندي في وسائط النقل/ والندوات الشعبية/ لطرد المستعمر/ وتوزيع الثروات» (ص 297). لكنّ النبرة الماغوطية القديمة سرعان ما تنهض، في المقطع الثاني من النص ذاته، متجاوزة كبوة الفكرة، لتنبش جماليات الماغوط الأولى، وتقدمها في أجمل صورها، لنعود من جديد إلى شعرية ماغوطية متألّقة: «يا إلهي.../ خذ بيدي/ إلى ساقية أشرب منها/ إلى جدار أسندُ ظهري عليه/ إلى مقبرةٍ أنام بين شواهدها...» (ص 297). في المقال، ثمة أفكار قلقة، انسيابية، معروفة سلفاً، لأنها هجائية في جوهرها، لكنّها غالباً ما تخرج عن إطار الفكرة الرئيسة، بجمل اعتراضية شعرية، واستعارات، تعيدنا دوماً إلى جذوة الشعر، ولسعته التي لا تخطئ.

في نص بعنوان «النديم الرائع» يختلط السرد الذاتي، بالنقد السياسي، بالترميز الشعري، بالتهكّم المسرحي، حيث يقدم الماغوط تقريراً شعرياً مكثفاً، عن تسكّعه الدائم والمتخيل في النصوص والأمكنة. وهذا ينطبق على نص آخر بعنوان «الوميض»، وفيه مزجٌ بين المتخيل والواقعي، بين السيرة والحكاية، حيث يتوزّع النص بين حدّي المباشرة والمجاز.
أما في النصوص التي تأخـــذ شكل القـــصائد، فنجد روح الشاعر مكســـورة غالباً، بسبب طغيان الفكرة وجبروتها، ونكـــتفي مـــن النص بأصداء شعرية غائرة، تهبّ علينا من ماضٍ منسحب، فنقرأ في القصيدة ما يتردّد خارجها، متكئين على الاسترجاع، ومستحضرين ذاكرة «كاف» التشبيه الشهيرة، التي تُعتبر أقوى أسلحة الماغوط المجازية، التي توظّف عنصر المباغتة عبر الربط الجريء بين النقائض، كما في هذه الأمثلة: «أيتها السحابة المختالة في كبد السماء/ كخادمة في يوم عطلتها» (ص 195)، أو «أيها الشِعر الجميل والمزعج كمطر النزهة» (ص 159)، أو «قلمي هذه الأيام دائماً خارج دفاتري/ كلسان المشنوق» (ص 219)، أو «أيها الحزن الأليف كالأهداب/ والمبكّر كعصافير الصباح/ والمتصابي كبنات الليل» (ص 434).
ينجحُ الماغوط، مرة أخرى، في صقــــــل صورة الشاعر المغامر، المتشــرّد بين الرّموز، لابساً قناع البدوي الأحمر، ومبرزاً صورةَ «المتسكّع الناجحِ بشهادة الطرقات والشمس التــي ترافقني» (ص 347)، متأرجحاً بين ضوء الذاكــــرة وعتمِ المخيلة، في نصوصٍ متباينة، متقاطعة، يتصارعُ فيها الماغوط مع الماغوط، في لعبة البحث عن الكلمات المستحيلة، ومقاومة الزّمنِ بالقصيدة.

*****

الحياة - 10/04/06

قصيدة شابة دائما وطازجة

صالح دياب
(سوريا/باريس)

تطرح تجربة الشاعر محمد الماغوط الشعرية والحياتية عددا من الأسئلة الجوهرية التي يمكن أن يكون الجواب عليها أفقا حقيقيا لتجربة عدة أجيال ليس من الشعراء فحسب بل من الأفراد العرب العاديين.
فمعه لا يمكننا أبدا أن نفصل شعر الشاعر عن حياته ومحيطه، علي ما درج عليه دجالو الحداثة الشعرية العربية ومسوقو شعاراتها الذين مازال بعضهم يتشدق بها حتى الآن، تلك الشعارات التي قذفتها الأجيال الشعرية العربية الجديدة بعيدا وانتصرت للشعر الذي يذهب إلي الحياتي واليومي في لبنان ومصر وسورية والمغرب. هذه الأجيال برأيي انتصرت للماغوط شاعرا وإنسانا. الحديث الذي كان يساق دائما عن أجداد قصيدة النثر العربية ومؤسسيها الأوائل كان دائما ضبابيا ويطغي عليه التكريم والمحاباة أكثر من الواقعي وقراءة التجارب الشعرية قراءة موضوعية. في هذا العالم العربي حيث تتداخل الحمية الطائفية وسائر الانتماءات الضيقة متغلغلة في عصب (النقد) والقراءات الصحفية التكويمية لأسماء كثيرة معومة صحفيا فحسب، فيما لا أحد يقرأها. أسماء موجودة بفعل الصحافة لا الشعر.

شخصيا رافقني شعر الماغوط طيلة تجربتي وتنقلاتي. أذكر بعت كل مكتبتي الشعرية كي اذهب إلي بيروت، واستثنيت ديوان الماغوط. كنت أرتعد من مجرد التفكير بذلك. كأنما فعل ذلك سيجرح الجوهري فيّ كإنسان. دائما كان في نظري كقارئ شاعرا شابا، عصيا علي التصنيف الزمني، وقصيدته لم تكن يوما زمنية علي الإطلاق.
كنا مشردين وكنا نردد قصائده وترافقنا في برد تشردنا.
كنا مؤمنين وكانوا يثقبون آذاننا بالحديث عن كتاب الكتب وعن الترجمة الفريدة لبطرس البستاني، لكننا كنا نعود إلي جمل الماغوط غير المعقدة والتي لا تتوسل أمالا وانزياحات مقصودة، وعقلانية، فوحده من كان يأخذنا من أعماقنا البعيدة.
كنا شيوعيين،وكانوا يثقبون آذاننا بالحديث عن شعراء المقاومة، لكن ديوان الماغوط كان وحده في حقائبنا أو فوق الرفوف الصغيرة لغرفنا، كنا لا منتمين وكانوا يثقبون آذاننا عبر مقالات تضج برائحة الحقد الشخصي وإشباع الأنانيات بالحط من قيمة أدونيس الشعرية والشخصية والإعلاء من قيمة أنسي الحاج ومقدمته وشوقي أبو شقرا والحديث عن الاكتشافات الهائلة التي حققاها.

ثم يدرجون اسم الماغوط كشاعر ثالث كتحصيل حاصل لا أكثر ولا أقل.
لكننا كنا نلتهم كتب أدونيس ونختار من أنسي (الرسولة) متذكرين نشيد الإنشاد دون ان نعير اهتماما إلي المقدمة. ولا يعلق الا القليل من شوقي في ذاكرتنا.كنا ننظر إليهما كشعراء كبار كبار فحسب. لكنهما كانا بعيدين عنا ولا يتجلي حضورهما في أي شيء نكتبه، اللهم الا اذا فكرنا بالتقنيات والقوالب الشعرية والهياكل والأساليب التي بدأت تتكرر في الشعر المترجم. بينما كان الماغوط هو الأقرب إلينا وهو الذي يقبض علي تفاصيلنا الروحية البعيدة، كان متفوقا عليهم جميعا في قصيدته، لكننا لم نكن نجرؤ علي الجهر بذلك، كانت هناك سلطة الصحافة والأسماء التي تردد أوتوماتيكيا أهمية أسماء أخري، أما واقعيا فكان الأمر بعكس كل الضجيج والتكريمات المجانية المجسمة لأسباب ليس الشعر وحده عمقها الحقيقي.

واعتقد أن السبب في الأعراض واقعيا عن تجارب كثيرين من مجاوري الشاعر الماغوط هو علاقة شعرهم بالعالم وأشيائه العادية اليومية والتي حتى وان دخلت في القصيدة فإنها سرعان ما تتحول إلي مفاهيم مجردة تفتقر إلي حرارة الحياة ولا تعوض عن ذلك حرارة الكلمات وصياغاتها اللغوية. فلا تعود المرأة والحب والوطن والفقر والتشرد سوي مفاهيم جافة داخل اللغة ما ان تدخل المشغل اللغوي حتى تتحول إلي أوراق يابسة لا حياة فيها. وحتى عملية خرق المقدس تصبح عملية استعراضية فالكثير ممن كانوا ينادون بذلك هم من أشد المؤمنين واقعيا بالدين كنظرية وأسلوب عيش. هنا كتابة تعتمد علي اللغة لا الكلام.

وهي علي أهميتها التأسيسية تدير ظهرها للحياة وحرارتها، فكل ما تسعي إليه من ثورة، هو تحقيق أكبر قدر من الخرق والانزياحات والاقتراحات داخل اللغة. وبرأيي أن هذه التجارب خسرت زمنيا وتحولت إلي تاريخ في الشعر العربي، بعكس نص الماغوط الذي يفلت من الزمن.

كانت كتب الماغوط الثلاثة هي التي نتشربها وتنغرس في أرواحنا. وهي التي نقلدها في مسوداتنا الشعرية.كان مرآتنا السرية التي نخبئها ونري أنفسنا كما نحن عراة دون مكياج ولا ادعاءات ولا محاباة.

كانت قصيدته تعبر عنا روحيا نحن الذين لا ننتمي لا إلي السلطة السياسية ولسنا أبناء في سلطة الصحافة، موهبته الفريدة التي لا تستمد قوتها لا من اللغات الأجنبية، ولا من الاطلاع علي شعراء العالم الكبار ولا من الجامعات والدراسات النقدية التي تدور حول الشعر شكلت سيرة روحية لأكثر من جيل عربي.

كانت قصيدته شابة دائما، طازجة وحارة، كما لو أنها كتبت للتو. نقرؤها ونشعر بحرارة اللحم والدم ومأساة الفرد العربي المقهور الذي لا ينتمي إلا إلي إنسانيته ولا يسعي الا الي ان يحقق هذه الإنسانية ويعيش حياة بسيطة ويحقق متطلباته اليومية البسيطة من أكل وشرب وعمل وحب.

كان يحتج فرديا علي محيطه الاجتماعي والسياسي، متمردا وحيدا، رافضا الوحدة والحرمان والغربة والاضطهاد والعبودية التي هي نظام مقنع في الزمان والمكان العربيين.
ولكن من أين لقصيدته أن تبقي كل هذه السنين وتصمد بعكس الآخرين؟ ما الذي تميزت به ومن أين لها هذه المقدرة علي البقاء والاستمرار؟ هو الذي لا يهمه لا النظرية ولا التحطيم ولا خرق المقدس وتفكيكه ولا اختراق جدار اللغة ولا الكتابة عن المسكوت عنه وغير ذلك من الشعارات الاستعراضية التي ما زالت حتى الآن تجد من يروج لها دون ان نجد تجليا حقيقيا لها في النصوص.
منذ البداية اختار الماغوط الكتابة عن أحاسيسه الذاتية والانطلاق منها إلي اللغة لا العكس، وقد استطاع رفع هذه الأحاسيس إلي مقامات شعرية عالية وجارحة. كان مجاوروه يتفلسفون متحدثين عن أهمية اللاوعي في الأدب والشعر وعن الإمكانات الهائلة للنص الصوفي والهذيانات التي تتوسل السوريالية أفقا، والرومنتيكية، بينما كان هو منشغلا بما يعتمل في داخله من جوع. ما كان يهمه هو التعبير عما يلامسه مباشرة، حاجاته الملحة اليومية، والكتابة عنها بلغة ذهبت باتجاهين عميقين، عبر تحريرها للشكل الخارجي للقصيدة والداخلي أيضا.
صوره الحارة، النضرة، المشرقة والحادة التي تسقط سقوطا وتذهب مباشرة إلي هدفها حزنا أو يأسا، رفضا وعدم قبول، وتوقا إلي حياة كريمة، وكشفا للاعدل واللاانسانية والبؤس الذي كان يصادفهم في يومياته. تلك الصور ما زالت تصدمنا بعذريتها ولا نستطيع أن نردها إلي مرجعية، وتظل ترسل سيلا من الايحاءات، وتنشر طيفا واسعا من روائح التمرد وعدم الرضا. الشعر هنا ليس سوي معبر للروحي الأعمق.

لم يحتج لا إلي الاتكاء لا علي الأسطورة ولا علي النص الصوفي ولا التاريخ. معجمه الشعري ما زال حيا ويلامس ملامسة: الأرصفة والحانات والبطالة والتشرد والمقاهي والحب والتبغ والسفر وباعة الخبز والعمل والمقاهي وفلسطين والإشارة إلي القضايا القومية التي كانت تمر أحيانا في بعض قصائده وتشكل جروحا في داخله. هذا المعجم صنع مناخات وعوالم حية لامست المشاعر المتكررة والأكثر عمقا لدي الفرد العربي، وقد أمسك بها نص الماغوط إمساكا.

كان هدف الشعر لديه القبض علي هذه المشاعر البسيطة والمباشرة التي يعيشها كفرد، في يومياته النافلة والتي تشكل حياة كاملة، والتي هي عميقا قضايا هذا الفرد وشعاراته الحقيقية. قصيدته التي تذهب بعيدا في الحياة وأشيائها الحسية لم تكن تهمل حياتها الروحية كقصيدة. من هنا نفهم الصوت الغنائي الحزين الذي يتولد من الحياة الروحية لكل قصيدة من قصائده. لعل ما يدهش في قصيدة الماغوط التي تعتمد علي الكلام وشفويته وبث طاقة شعورية حارة في تلافيفه، هو أن القماشة الشعرية التي نسج منها الماغوط شعريته لا تقع في المطبات المعروفة للنثر وأقصد التقرير والأخبار والوصف. فجمله القصيرة والمتفجرة، والتي تهدر في تدفقها لا تتميز بأي ارتخاء أو خلخلة وهشاشة، كما أنها ليست مشدودة شدا إلي الدرجة التي نشعر معها بتراكب هذه الجمل مع بعضها البعض، ونحس بالصنعة والتفكير العقلانيين. شحنات الاحتجاج الكبيرة التي تضمنتها قصيدته لم تدفعها أبدا إلي المباشرة والشعار. ضمير الأنا المكسور الذي يغلب علي القصائد والمحمولات الهائلة من الألم الذي نشعر به أثناء القراءة لا تحيل علي صدق التجربة الشعرية والحياتية فحسب بل وعلي حقيقتها أيضا. كلما قرأنا شعر الشاعر أوغلنا في حقيقتنا وبؤس تمركزنا خلف الصغائر، ودفعنا إلي أنه من العبث واللاجدوي تقنيع وطمس الحقيقي الصارخ، فالذهاب من الأحاسيس إلي اللغة هو الأعمق وهو ما يبقي وليس العكس، وأن حذف الألم الشخصي والافتتان بالتجريب اللغوي مروق علي الذات. وسيؤدي إلي صنع قصائد عابرة لن تصمد زمنيا، وأن هذا الأمر له حدوده، وإلا ستتحول التجربة إلي استعراض. حياته وآراؤه، وقوله رأيه بصراحة، دونما حسابات، وابتعاده عن الضجيج الاعلامي نحتاج إليها كي نتعلم منها دائما.

سيبقي الكلام عن محمد الماغوط، دائما كلاما عن الفرد العربي المقهور، الذي لا يهمه واقعيا لا الأحزاب ولا النظريات بل تحقيق حاجاته اليومية الأساسية، كلاما عن الحقيقي الصارخ، عن اسمنا ووجهنا الجريحين. وستبقي قصيدته عبر ما تحمله من جماليات واقتراحات فنية لا نهائية حاضرة، دائما، في راهن الشعر العربي.

القدس العربي
2006/04/15

**************

الماغـوط.. رائد قصيدة «النثر» ومبدعها الأجمل

سعود قبيلات
(الأردن)

محمد الماغوطتهجت ابنتي، ذات مرة ـ وكانت ما تزال طفلة صغيرة ـ بضعة أبيات من قصيدة لمحمد الماغوط؛ ثم نظرت إلي مندهشة، وقالت: بابا.. هذا شاعر مجنون! ولكنها ظلت لسنوات بعد ذلك تطلب مني كل ليلة أن أقرأ لها شيئا من شعر الماغوط قبل أن تنام.

وبتقديري هكذا هو الشعر الحقيقي.. الشعر الجيد؛ يتذوقه الناس بعمق، ويدركوا أبعاده ومراميه، بغض النظر عن مستوياتهم الثقافية والعمرية؛ ومن دون حتى أن يفهموا معانيه. فالكلمة الحارة، الكلمة الصادقة، الكلمة المنبثقة من خبرة حياتية غنية وعميقة، تصل مباشرة إلى قلوب الناس؛ فيشعرون بها، ويتفاعلون معها، وينفعلون؛ كل بطريقته، وبما يتفق مع خبرته الحياتية، ومع تكوينه الوجداني والشعوري (واللاشعوري). لا يحتاج الناس إلى من يشرح لهم الشعر الحقيقي، أو من يقربه لهم؛ فـ«الشعر» الذي يحتاج إلى مثل هذه «العوامل المساعدة» لا يكون شعرا، بل شيئا آخر قد يكون، أحيانا، أشبه بلعبة للكلمات المتقاطعة، أو بمعادلات رياضية ذات تعقيد مجاني ولا معنى له، في أحيان أخرى، أو باستعراض عبثي لمهارة لغوية فارغة، في أحيان ثالثة.. الخ.

ولقد تميز محمد الماغوط بصدقه، وبشجاعته في التعبير عن أفكاره ومشاعره بأسلوب فني جميل، وبكون حياته نفسها هي قصيدته الأساسية، ولذلك فقد استحق لقب الشاعر رغم تنكره للخليل بن أحمد (وأيضا لمن ثاروا على الخليل بن أحمد)؛ فالشعر ليس فقط تعبيرا صادقا عن المشاعر، بل هو أيضا نمط حياة يحياه الشاعر (الشاعر الحقيقي)، وطريقة خاصة للنظر في ما حوله والتعامل معه.

«محال.. محال
أن أتخيل نفسي
إلا نهرا في صحراء
أو سفينة في بحر
أو.. قردا في غابة
يقطف الثمار الفجة
ويلقي بها على رؤوس المارة
وهو يقفز ضاحكا مصفقا
من غصن إلى غصن».
ويقول أيضا:
«سأموت وأنا أتثاءب
وأنا أشتم
وأنا أهرج
وأنا أبكي...».

ولذلك، فبينما كان النقاد، والمهتمون، والشعراء الآخرون، يغرقون في نقاش عقيم حول مدى شرعية قصيدة «النثر»، كان الماغوط يصنع هذه القصيدة في أبهى نماذجها وأكملها. كان يصنعها بدمه وبأعصابه وبجميع حواسه. وكانت قصيدته تصل إلى الناس بدون جواز للمرور وبدون «شرعية» من أي نوع كان؛ تهدم كل الحواجز، وتمزق كل الوثائق الرسمية، وتسخر من نزوع البشر لتثبيت لحظاتهم الفنية والسياسية والاجتماعية بقيود وهمية يسمونها الشرعية.

ولكنه، مع ذلك، مثله مثل كل فنان حقيقي، لم يكن يشعر بالرضا بمستوى انجازه الفني:

«ولكنني حزين لأن قصائدي غدت متشابهة،
وذات لحن جريح لا يتبدل
أريد أن أرفرف، أن أتسامى
كأمير أشقر الحاجبين
يطأ الحقول والبشرية».

ولقد ذاق الماغوط في سبيل مبادئه وفي سبيل فنه جميع المرارات؛ ابتداء بالتشرد ومرورا بالجوع ثم الملاحقة والمنفى والسجن.. الخ، إلا أن نظرته للمعاناة كانت تختلف، مع ذلك، عن النظرة الماسوشية السائدة التي ترى أن المعاناة هي أساس الإبداع، وأنها هي الحافز المؤدي إليه؛ يقول:

«فأعطوني كفايتي من النبيذ والفوضى
وحرية التلصص من شقوق الأبواب
وبنية جميلة
تقدم لي الورد والقهوة عند الصباح
لأركض كالبنفسجة الصغيرة بين السطور
لأطلق نداءات العبيد من حناجر الفولاذ».

ويقول أيضا:

«وطني.. أيها الجرس المعلق في فمي
أيها البدوي المشعث الشعر
هذا الفم الذي يصنع الشعر واللذة
يجب أن يأكل يا وطني
هذه الأصابع النحيلة البيضاء
يجب أن ترتعش
أن تنسج حبالا من الخبز والمطر».

وقد تمرد الماغوط على جميع المؤسسات الاجتماعية والسياسية والفنية، بما فيها مؤسسة «شعر» التي وجد من خلالها طريقه إلى القراء. وكان دائما كتلة من لهب تسير على قدمين باحثة عن طريق ما، لا لتواصل سيرها فيه، ولا لتدعو الآخرين لإتباع خطواتها، ولكن لكي يوصلها الطريق إلى طريق آخر ثم آخر. فالمشي هو الغاية، والطريق هو الوسيلة القابلة للاستعمال لمرة واحدة. وكل ذلك في فضاء مضمخ بمحبة الوطن والإنسان (الإنسان في بلاده وفي كل مكان)، وبتمجيد الكرامة الإنسانية، والإعلاء من قيمة الإنسان.. حتى وهو يسخر منه ويسخط ويغضب؛ ذلك أنه لا يسخر من الإنسان بما هو إنسان؛ بل من استخذائه وقبوله بالذل والمهانة والخضوع. يسخر من الكذب والظلم والطمع، ويرفض الخيانة، بكل أنواعها، وخصوصا خيانة الوطن وفقرائه ومظلوميه، والجبن بكل أنواعه، وخصوصا الجبن عن قول كلمة الحق.

ولذلك فقد كانت لغة الماغوط دائما لاذعة وحريفة، وخياله ينطلق بلا قيود. والحرية عنده ليست فقط قيمة يتغنى بها، بل هي تظهر بوضوح في جرأة نقده السياسي والاجتماعي وفي تجاوز فنه لكل القيود. إنه إنسان حر حقيقي، يمارس الحرية بكل اتجاهاتها وآفاقها، وحتى مداها الأقصى الممكن. أي إلى المدى الأخير الذي لا يفقد معه إنسانيته، ونزوعه القوي إلى الخير والحق والعدل والمحبة.

ومن ناحية أخرى، فقد كانت كلماته بسيطة، وواضحة؛ لا تحتمل أي لبس، ولكنها في الوقت نفسه عميقة، وصادقة، وتفيض بالأحاسيس. كما كان يمتلك قدرة عجيبة على ابتكار الصور ونسج العلاقات الغريبة والمدهشة، في شعره، بين الأشياء، وبينها وبين المعاني والأفكار، وبين هذه كلها وبين الإنسان. وإن جموح خياله ليعبر بعمق عن تعلقه الشديد بالحرية، وإخلاصه لها، وصدقه في ممارستها، إلى حد أنه تمكن من تحطيم القيود التي تكبله من الداخل، أو ربما أنه من الأساس لم يسمح لها بأن تكبله؛ وهو ما أتاح له أن يطلق مشاعره على مداها، ويعبر عنها بأقصى طاقته وبأصدق وأقوى الكلمات. لذلك (أي لشعوره العميق بالحرية وممارسته لها)، فقد كانت تجربة السجن بالنسبة له، رغم قصرها النسبي (تسعة شهور)، بالغة القسوة عليه، ولم يستطع أن يتجاوزها حتى أواخر سني حياته؛ فقبل سنوات قليلة قرأت له مقابلة في إحدى الصحف قال فيها شيئا عن السجن، أدهشني وتوقفت عنده طويلا: «إنني أحمل السجن على ظهري مثل ماكيت مجسم».

كان ذلك بعد سنين طويلة من مروره بتلك التجربة الصعبة، ولم يبد لي في قوله هذا أي نوع من التبجح (أو التفاخر)؛ بل تعبير عميق عن الشعور بالمرارة والألم اللذين رسخا في نفسه نتيجة ما وقع عليها من ظلم فظيع، باحتجازها على نحو يتناقض تماما مع طبيعتها الجامحة والمنطلقة.

ولذلك فهو يقول في تعبيره عن إشكالية علاقة المثقف والمبدع بالحرية في عالمنا العربي الذي لا يزال يعيش خارج العصر:

«حلمت ذات ليلة بالربيع
وعندما استيقظت
كانت الزهور تغطي وسادتي
وحلمت مرة بالبحر
وفي الصباح
كان فراشي مليئا بالأصداف وزعانف السمك
ولكن عندما حلمت بالحرية
كانت الحراب
تطوق عنقي كهالة الصباح».

إنه أحد آخر الصعاليك الكبار الحقيقيين، وأحد آخر الشعراء الكبار الصادقين. وقد ظلم كثيرا كشاعر، مثلما ظلم كإنسان (وإن كان محبوه كثر، وتلامذته ومريدوه كثر)؛ فالإعلام العربي، وهو إعلام رسمي في معظم منابره، لم يوله الاهتمام الكافي الذي يستحقه. وربما كان السبب هو أن المؤسسة الرسمية (وغير الرسمية)، بطبيعتها، لا تحب الصعاليك، والخارجين على «القوانين» و«الأنظمة» و«الشرائع» و«الشرعيات». أو هي بصورة أدق، لا تطمئن إلى أمثال هؤلاء، وتخشى ردود أفعالهم وانفعالاتهم وتفاعلاتهم. وربما كان سبب ذلك أيضا أن الصعاليك أمثال الماغوط لا يلقون بالا إلى «الدعاية» و«الإعلام» أو «الإعلان»؛ فكيف يفعلون وهم مشغولون طوال الوقت بالتسكع في الشوارع الفقيرة والجلوس على الأرصفة المهملة مع العمال والعاطلين عن العمل؛ في حين أنه لا أحد من أصحاب «الإعلام» أو «الإعلان» يذهب إلى هناك، وإذا ذهب فلن يلفت نظره رجل غريب يسير في الشارع ذاهلا عن خطواته وعن نفسه. وربما كان السبب أيضا وأيضا أن ساحة «الإعلام» و«الإعلان» مكتظة بالإعلانات المدفوعة الأجر؛ بالعملة الصعبة أحيانا، أو بالمقايضة أحيانا، أو باستخدام وسائل وأساليب أخرى في الكثير من الأحيان. فأين سيجد، إذا، شاعر صعلوك، موطئا لحرفه، أو موضعا لصورته، أو صدى لصوته؟! وربما أضيف إلى هذا كله سببا آخر طارئا (وعابرا أيضا كما أزعم)، وهو أن الزمان الآن هو زمان آخر غير زمان الشعر والأحلام والمبادئ؛ إنه زمان البزنس واقتصاد السوق؛ حيث «شرعية» البيع والشراء (لكل شيء) تعلو فوق كل الشرعيات والشرائع، وحيث «القيمة المضافة» تنتقص لحسابها من كل القيم التي تعارف عليها البشر الحالمون المهمشون المحرومون المقصيون.. الخ. ويتعالى صياح وسطاء البورصة معلنا عن انتهاء زمن الثورات والأيديولوجيات (يقصدون المبادئ)، بل وانتهاء الزمان نفسه، وانتهاء الجمال، وانتهاء الفن، وعلو قيمة السلعة، وبأن على الإنسان أن يفرح لأنه هو نفسه أصبح سلعة؛ فإذا ما أراد أن يعرف قيمته فما عليه إلا أن يعرض نفسه في السوق ويرجو أن يوافقه الحظ فتعمل قوانين العرض والطلب لصالحه.

فأين هو، إذا، مكان شاعر صعلوك في كل هذا؟! وخصوصا إذا كان صعلوكا حقيقيا وليس مزيفا. إن أمامه واحد فقط من خيارين؛ فإما أن يستثمر أدواته في التحول إلى أراجوز يستعمل «الخفة» في التفريج عن هموم المتعاملين بالبورصة وأثريائها الجدد والسابقين، أو أن يتنحى جانبا ويفسح المجال لبعض الحانوتيين لكي يحنطوا فنه ويودعوه أحد المتاحف. وهكذا ربما كان موت الماغوط في هذا الزمن، أمرا منسجما مع طبيعة هذا الزمن نفسه. ولكن هل بمقدور أحد بعد ذلك أن يزعم بأنه قادر على تحويل فن محمد الماغوط إلى جثة محنطة؟!

لا أعتقد؛ وهذا رغم التشاؤم الذي أبداه الماغوط نفسه في السابق بالنسبة لمستقبل فنه (ولمستقبله هو نفسه):

«يخيل لي أنني أتهاوى على الأرصفة
سأموت عند المنعطف ذات ليلة
وأصابعي تتلوى على الحجارة كديدان التفاح
دون أن ينظر إلي أحد.
إنني أرى نهايتي
ألمح خنجرا ما في الظلام مصوبا إلى قلبي
عربة مطفأة
تقل طاولتي وأوراقي إلى عرض الصحراء.
ستهب ريح قوية آنذاك
تداعب أظافري القصيرة
وتكنس قصائدي في الشوارع كقشور الخضروات».

وهو ما يذكرني بقول انطون تشيخوف بأنه لا يتوقع أن يستمر الناس بقراءة قصصه لأكثر من سبع سنوات فقط بعد وفاته.

ولكن، مع ذلك، ومع أن الماغوط يصرخ معلنا:
«حسنا أيها العصر
لقد هزمتني
ولكنني لا أجد في كل هذا الشرق
مكانا مرتفعا
أنصب عليه راية استسلامي».
فإنني أجزم بأن زمن محمد الماغوط لم ينته؛ لأنه أصلا لم يبدأ بعد.

الرأي- لجمعة 14 نيسان 2006م

*********

ماذا تجني الذات الشعرية الراعشة؟

زيد الشهيد
(العراق)

إنَّ الخيانة في عتاب الباث ليست في ضمير ليلي ودواخلها إنّما في ظاهرها ، وهو الشعر الذي كان يتباهي بانسيابيته كشلال من عصافير ، ينتفض عليها فلا يخضع لإرادتها . وبجرّاء المؤثرات الخارجية يمارس اللهو والعبث علي وسادات غيره . هذا ما أنجزه المرسل ويغمر سهوب أعماقه بالأسى فيرثي زمن العَفاف والحب العذري ، ولاسيما أنَّ المُخاطَب هو " ليلي " مَعلَم الحب العذري وبيرق النزاهة .. والشاعر يُقدّر برُغم الألم المحفّزات والأسباب التي حدت بالشعر " شلاّلا للعصافير " إلي اختيار غيره : سامحيني أنا فقير يا جميلة / حياتي حبرٌ ومُعلّقات وليل بلا نجوم / شبابي باردٌ كالوحل /
عتيق كالطفولة / طفولتي يا ليلي .. إلا تذكرينها ؟ كنتُ مهرّجاً / أبيع البطالة والتثاؤب أمام الدكاكين / ألعب الدحل / وآكل الخبز في الطريق / وكان أبي لا يحبني كثيراً / يضربني علي قفاي كالجارية / ويشتمني في السوق / وبين المنازل المتسلخة كأيدي الفقراء / ككل طفولتي /
ضائعاً.. ضائعاً / أشتهي منضدة وسفينة .. لأستريح / لأبعثر قلبي طعاماً علي الورق.

إذاً هذا هو الفقر الذي ولّدَ عدم التكافؤ فأنتجَ انحراف شَعر ليلي لغير وسادته الراقصة علي أديم جفافها أشباح الفقر وضعف الحال واستحالة تحقيق المُراد.. إنَّ الشاعر فقير ؛ فهو لا يملك غير الحبر الذي يثير امتعاض مَن يمتلك عين التطلّع لاغتراف ملذّات المحيط وحيازة البذخ والأبّهة والمظهر المثير والأناقة الباعثة علي تصالب العيون ادهاشاً وإعجاباً له ولحاشيته .. نعم ماذا تجني الذات الراعشة باتجاه كسب الضوء والإشعاع من ليل بلا نجوم ، وشباب معتم وبارد كالوحل . ناهيكَ عن طفولةٍ خرساء عتيقة هربت من دروبها حوريات الانطلاق وبنات الحبور وملائكة الفرح .. وفي الشباب كانت البطالة والتثاؤب من لا عمل ، ولا إنتاج ، ولا أبواب تنده بكفِّ الحنان ، في عائلة نشأ ربُّها علي أبجدية الوصف الذي يستعرضه الابن .. أب مقموع ومُعاقب بالفقر والتهميش ؛ مليء بالغضب ؛؛ أين يصب الجام المحتشد ... مرةً كتبتُ قصة ولم تُنشر ، ثم ضاعت بين محطّات الترحال عن أبٍ تضطهده الأيام في مجتمع يقسو عليه بسياط البطالة والفقر وعار عهر ورثه عن أمٍّ ارتكبت الفواحش فكانَ إنْ اشتري فأساً وجذوع أشجار يابسة ، رماها في الفناء الخلفي لبيته . وحين يعود متألماً ، وتثير غضبه الزوجة البائسة أو الأولاد المقموعون ؛ ومن أجل ألاّ يرتكب جريمة بحقّهم لحظة الغضب يتّجه إلي حيث الجذوع اليابسة . يمسك بالفأس ويروح يبدد حنقه وانفعالاته الجامحة بتكسيرها حتى يسقط منهكاً ولكن مرتاحاً . فيعود للزوجة والأولاد ببساطة رب الأسرة الحنون .
ويمكننا تخيل الماغوط _ بل نحسبه _ أبَ الكلمات يضاجعها كما يشتهي ، ويجلدها بسياط حزنه كما يروم .. كلماته بيده وموهبته لا تقبل التحجيم .. إنها تبغي الانفجار؛ وهي دوماً في إرهاص، لذلك وفي كثير من المواقف النصيّة تتمرّد عليه وتنتثر فتتبعثر نصوصاً لا قدرة له علي كبحها أو إيقافها، أو حتى تأخير اندفاعها. ومن هنا نري نصوصه كما لو كانت لا تمت لشخصه : بسلوكه وعلائقه والتزاماته .. هكذا يغدو الحال في عديد التجارب الإبداعية لخلاّقين دخلوا حومة الإبداع باعتزاز وجودهم كماسكي صولجانه ؛ ثم خرجوا من حلبته وهم كما لو كانوا غرباء عنه . ألم يقل " ماتيس " رائد تيار الوحشية في الفن التشكيلي : " نحنُ لا نستطيع أن نكون أسياد إبداعنا . إنَّ الإبداع هو الذي يوجّهنا . " ..

(*) جيمس مكفارلن: الحداثة / مالكولم برادبري وجيمس مكفارلن ج1 ، ص76
(**) روبرت شولتز " السيمياء والتأويل ترجمة سعيد الغانمي " ص82
(***) والس فاولي " عصر السريالية " ترجمة خالدة سعيد ص22
(****)
نصوص الماغوط مأخوذة ممّا هو منشور في " كتاب في جريدة " بعنوان " حطاب الأشجار العالية "

جريدة (الزمان)
العدد 2374 - 15/4/2006

****

عصفور أحدب والفرح ليست مهنته

نعيم عبد مهلهل
( العراق )

سنية شاعرة كبيرة لم تأخذ حقها. أنا أذيتها، اسمي طغي عليها، وهذا الذي لا يزال يؤلمني جدا. بعد موتها قررت أن لا أتزوج ثانية. فهي قدمت لي أجمل ابنتين في العالم: شام وسلافه. أن الحب لم يكن ابدآ مشكلة بالنسبة لي، الحرية هي هاجسي الأوحد. كل النساء من بعدها نجوم تمر وتنطفئ، هي وحدها السماء. كانت حياتنا جميلة، لكننا كنا دائما علي خلاف. لم نتفق مرة علي رأي. نسهر إلي الصباح، نبقي مختلفين. جلست بقربها، هي علي فراش الموت أقتلي قدميها المثقوبتين من كثرة الإبر، فقالت لي عبارة لن أنساها: أنت أنبل إنسان في العالم. لا أحب الغيبيات. تسألني إذا كنت سأراها بعد الموت، كيف هذا وأنا في حياتنا المشتركة لم أكن أراها كما يجب.))
هكذا مشاعر عند شاعر كالماغوط تعني لنا إننا أمام روح متفردة تعي مشكلتها التي نبت في وجدانها وشكلت هما باتت تصدره قصائد ورؤى لنثر يهيمن في قدريته علي مستويات وعي البسطاء والمثقفين ويقظ مضاجع الحكام وساسة وهم الخبز والرذيلة . ندرك مع شاعر كالماغوط ، حجم ما يلهمنا به الشعر وما نصنع من خيال أمنياتنا معه وهو في كل أعماله الشعرية والنثرية والمسرحية يحاول أن يكشف لنا ما يريده من حياة للآخرين في ظل ما يعانون ويحلمون وتمتاز لغته بشعرية استرسالية هائلة تفتح للقارئ والسامع شيئا من نشوة الإصغاء والانسجام والتمتع .
ففي قدرته علي بناء الجملة يصنع الماغوط فكرة من حماس الحروف ويصدرها بإتقان لتتحول حتى في تكوينها البدائي إلي نمط من اشتغال صعب وكشف مضئ لحالة يصعب العثور عليها ، حتى وهي مصنوعة بقالب غنائي أو تهكمي أو كوميدي لأن الماغوط وبحكمة الفطرة والمخيلة والتجربة والمعاناة يهيئ لحظة كتابة النص الحاجة لتكون القصيدة بمستوي كل ذائقه لهذا نراه يعيد كتابة الجملة الشعرية عدة مرات ليصل معها إلي قناعة إنها صارت جملة شعرية ، تلك الشاعرية المحكمة صنعت في رؤاها سيلا من المواقف والمباهج والتغني بالوجود علي مستوي الوطن والأمة والعالم ليوصفه الشاعر اللبناني عقل العويط في إشادته برجل مبدع أخذته منا حافلة القدر المكتوب بقوله :
((بأي لغة أحتفي بشاعر من طراز محمد الماغوط؟ بشاعر كهذا الشاعر "البدائي"، المكتمل اللغة منذ البداية، ذي الموهبة الرائية، العارفة كعيني الصقر، والجارحة كطعم العسل المكثف، والحقيقية كصرخة اللحم الحي، والمغدقة بدون حساب وقواعد والمنبجسة انبجاساً، والنازفة كما الينبوع الذي ينادم لياليه، ضائقاً ذرعاً بكتماناته وبانتظارات الباطن، إلي أن يحل عليه فجر الخروج إلي سيولة اللذة والشبق!
لا أدري بأي لغة أقترب من شاعر كهذا الشاعر البدوي المقامر الذي يبذل روحه برمتها علي الطاولة، كثروة لا ضرورة لها، وتبدأ، دفعة واحدة بلا تمهيد ومقدمات، مضافة إلي حياته التي يريقها إراقة من يتلذذ بمشاهدة أيامه مسفوحة بكامل همجيتها وحواسها ونزقها وهوسها وضحكتها الساخرة، مرارتها السوداء!((
ويموت هكذا نمط من الشعراء وعلينا أن نكتب بحقهم رثاءً مهيبا يستحق تلك الرفعة التي صنعوها لأنفسهم من خلال القصيدة ، وسيكون الماغوط في الصف الأول .

هذا الموت الأرجواني المحتفي بذهن القصيدة ( الحلم ، الحق ، العشق ، الرصاصة ) يتلبس شاعر المفردة المنفتحة علي خيال الرغبة بصناعة العالم الجديد العالم الذي يصفه بيرس ( انه يدخلنا في بهجة الانضواء تحت رايات الضوء لنصير قدسيين أو آلهة إغريقية) وحتما سيجلس الماغوط تحت تلك الرايات التي تحدث عنه صاحب آناباز ، وليصير موته جزءا من ملحمة الكشف والمكاشفة لوعي البشر وحاجتهم ليكون شعر الشعراء شيئا من خلاص مؤمل يقودهم إلي بر الأمان حتى لو في مساحة الأمل وحتما ستجيء اللحظة المناسبة التي تنبعث بها القصيدة لتصير صانعة لخلق نتمناه ، حيث كان الماغوط يتحدث دائما عن لحظة قادمة متحققة وهاهي سنية صالح زوجته تكتب في مقدمة أعمال الماغوط الكاملة ما نصه:

))'أن موهبته التي لعبت دورها بأصالة وحرية كانت في منجاة من حضانة التراث وزجره التربوي، وهكذا نجت عفويته من التحجر والجمود وكان ذلك فضيلة من الفضائل النادرة في هذا العصر')) رجل مثل هذا يصبح الاحتفاء به طقسا أسطورياُ حافلا ببهجة ما ندرك فيه من قيم وخلق وإبداع كبير. لهذا فان موت الماغوط نراه كشف آخر عن قيمة ما كتب ، وحتما سنراه بعد موته برؤية جديدة واشتغال نقدي جديد ، وسنفتخر إننا عاصرنا بهجة رجل يعرف طريق الشعر كالماغوط ،
رجل يحتسي القصيدة مع هدوء كاس خمرته ليرينا عذابات من نحلم من اجلهم
لقد كان الماغوط يكتب دائما عن آخر ملأت عينيه بالدموع ، ولكنها دموع أسطورة قلبه وهاجسه برفع شان تلك الدمعة وجعلها أقوي من الدبابة والسوط وزنزانة السجن .
شاعر كهذا لايستحق التمجيد فقط . بل يحتاج أن نرفع له رؤى النص الأورفي القائل
:
)) أنتم أيها الآلهة الخالدون.. أنا أيضاً أروم أن أكون من جنسكم المبارك، ولكن الحظ وآلهة خالدة أخري غلبتني، وأرسلت الرعد السماوي الضارب، وقد هربت من دائرة الحزن العميق الصعب، وخطوت إلي الذروة بأقدامي الخفيفة وانزلقت في حضن الربة ملكة العالم السفلي.. ابتهج لهذه التجربة! فأنت لم تخبرها قط. لقد أصبحت إلها بدلاً من البشر، وسقطت كرضيع في حليب. لك التحية لأنك سرت علي اليمين خلال المرج ((

وحتما كشاعر عظيم مثل الماغوط كان يسير يمين المرج يستحق التحية .
طوبوغرافيا للسيرة الإبداعية لمحمد الماغوط :

ولد عام 1934 في مدينة سلمية التابعة لمحافظة حماه السورية
- يعد محمد الماغوط أحد أهم رواد قصيدة النثر في الوطن العربي.
- زوجته الشاعرة الراحلة سنية صالح، ولهما بنتان (شام) وتعمل طبيبة، و(سلافة) متخرجة من كلية الفنون الجميلة بدمشق.
- الأديب الكبير محمد الماغوط واحد من الكبار الذين ساهموا في تحديد هوية وطبيعة وتوجه صحيفة +تشرين؛ السورية في نشأتها وصدورها وتطورها، حين تناوب مع الكاتب القاص زكريا تامر علي كتابة زاوية يومية ، تعادل في مواقفها صحيفة كاملة في عام 1975 ومابعد، وكذلك الحال حين انتقل ليكتب (أليس في بلاد العجائب؛ في مجلة)المستقبل؛ الأسبوعية، وكانت بشهادة المرحوم نبيل خوري (رئيس التحرير) جواز مرور ،ممهوراً بكل البيانات الصادقة والأختام إلي القارئ العربي، ولاسيما السوري، لما كان لها من دور كبير في انتشار +المستقبل؛ علي نحو بارز وشائع في سورية.

أهم مؤلفات محمد الماغوط

  1. حزن في ضوء القمر - شعر (دار مجلة شعر - بيروت 1959
  2. غرفة بملايين الجدران - شعر (دار مجلة شعر - بيروت 1960
  3. العصفور الأحدب - مسرحية 1960 لم تمثل علي المسرح .
  4. المهرج - مسرحية ( مُثلت علي المسرح 1960 ، طُبعت عام 1998 من قبل دار المدى - دمشق 5- الفرح ليس مهنتي - شعر / منشورات اتحاد الكتاب العرب - دمشق 1970
  5. ضيعة تشرين - مسرحية لم تطبع - مُثلت علي المسرح 1973-1974
  6. شقائق النعمان - مسرحية
  7. الأرجوحة - رواية 1974 (نشرت عام 1974 - 1991 عن دار رياض الريس للنشر

جريدة (الزمان)
العدد 2374 - 15/4/2006

*****

الرأس المحتشد بالزلازل

يوسف عبد العزيز
(الأردن)

(1)

أخيرا (محمد الماغوط)، الشاعر الذي رقص الدنيا بكلماته، وملأ دمشق وبيروت بصخبه وجنونه ها هو يهدأ ويزم جناحيه البدائيين كنسر يكف عن التحليق. سقط منه قلبه المشاغب على حين غرة وتكسر، فتيتمت المقاهي على نحو ما وناحت الشوارع التي ربته وأرضعته الظلام والتشرد.

في الأعوام القليلة الماضية قطع الشاعر (محمد الماغوط) آخر خيوطه مع المدينة، حيث كان يثابر على الجلوس في ركنه الأثير في فندق الشام، ودخل في عزلته الخاصة هناك في بيته القائم في (حي المزرعة). لقد داهمه الإعياء والمرض، ولم يعد جسده المشاغب يطاوعه أو يسمح له بالخروج والتجوال في تلك الشوارع التي أحبها وسكب على أرصفتها عصارة شعره. وحتى تكتمل حلقات تلك العزلة فقد كف الشاعر عن استقبال الناس ولم يعد يقرأ أو يكتب إلا بشكل نادر تقريبا.

لقد سقط الشاعر محمد الماغوط بعد أن دخل في عراك طويل مع القهر ظل يخوضه منذ ما يقرب من اثنين وسبعين عاما هي في واقع الأمر حياته كلها. السجن كان أول ما اصطدم به فلون صباحاته بالسواد. الفقر والتشرد كانا بمثابة كابوسين يجثمان على صدره فيمنعانه من التنفس ورؤية المستقبل. في مثل هذا المعتقل الرهيب الذي يسمونه الوطن عاش الشاعر الماغوط حياته المدقعة التي هي أسوأ من حياة النمل والديدان. قبل ثلاثة أسابيع من موته استلم الماغوط جائزة (العويس) فلم يعرف ما يفعل بها، ولذلك فقد قال لمحاوره حين سأله بخصوصها: «فرحت بها كما يفرح الصبي بالطابة».

(2)

حياة الماغوط تمثل في الواقع حياة قطاع واسع من المثقفين والشعراء العرب الذين تم التنكيل بهم ورميهم إلى الجحيم. فليس لهم من مكانة أو مكان في مهرجان العري المفتوح. كيف يمكن لنا أن نكون أمة شعر ونحن في الوقت نفسه نعامل شعراءنا على هذه الصورة من عدم الاكتراث والنكران؟ هل المطلوب من الشعراء أن يتعذبوا أو يموتوا حتى نقوم بتذكرهم وتعداد مناقبهم؟ حتى الموتى منهم ماذا فعلنا لهم؟ لقد فقدنا في العقود القليلة الماضية كوكبة من أهم شعراء العربية. فقدنا معين بسيسو، خليل حاوي، راشد حسين، أمل دنقل، صلاح عبد الصبور، نزار قباني، عبد الوهاب البياتي، محمد القيسي، ممدوح عدوان، ويوسف الصائغ. ولم يحرك أحد ساكنا. لم تقم هناك مؤسسة ثقافية عربية واحدة (رسمية أو خاصة) بإعادة نشر نتاج هؤلاء الشعراء، باستثناء مختارات صدرت لبعضهم ضمن مشروع (كتاب في جريدة). كأنهم حين ماتوا انتهوا إلى الأبد! وكأن شعرهم الذي سهروا عليه ونزفوه في الليالي الطويلة لم يتبق منه في النهاية إلا شكل الفضيحة. الفضيحة التي تقتضي منا لمها على عجل ودفنها في بطن التراب!

(3)

من (سلمية) «الدمعة التي ذرفها الرومان على أول أسير فك قيوده بأسنانه» والتي «يحدها من الشمال الرعب ومن الجنوب الحزن» هبط الشاعر. بعيني باشق كان، ورأس محتشد بالزلازل، وأصابع تتحفز للفتك. لم يكن يسعى إلى تكريس اسمه كواحد من رواد قصيدة النثر العربية، بقدر ما كان يسعى إلى السخرية من العالم المنتفخ بالأمراض والمجاعات. هجاء عظيما كان ومتمردا. كان يحاول من خلال الكلام أن ينفتح على الداخل المر المتصدع، وأن يطلق ناره العمياء المحبوسة. كان الشعر بالنسبة إليه فعل هدم. ولم يكن له ذنب في ذلك، فقد «ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط»، كما تقول عنه زوجته الراحلة (سنية صالح). ولكنه قبل هذا وذاك كان عاشقا وصاحب قلب كبير، ولهذا راح يشن حروبه الجميلة على كل شيء ويطالب بالحرية لعائلته الكبيرة من المدن والغابات والبحار.

لم تكن السخرية هي كل ما يميز شعر (محمد الماغوط). كان ما يميز شعره أيضا تلك الحرفية العالية. كان يكتب بأناة ويشقى في الكتابة. وكان يعالج روح الكلام ليشع بذلك السحر الغريب: «ولكن بعض الكلمات زرقاء أكثر مما يجب. صعبة وجامحة. وترويضها كترويض الوحش. ولكنني سأكافح بلا رحمة. بلا أزهار أو طبول. متكئا على طاولتي كالحداد». لقد كان (الماغوط) واحدا من أولئك الشعراء القلائل الذين ساهموا في تشكيل الحداثة الشعرية العربية وتركوا بصماتهم الواضحة عليها. أكثر من ذلك يمكن القول إن كتابة الشاعر كانت متفردة في خارطة الشعر العربي، لا تشبهها أي مشاغل أخرى جاءت بعدها أو سبقتها. لقد كانت تلك الكتابة بمثابة لحظة طيش كبرى ونزوة خاصة ارتكبتها الأرض في ذروة هياجها الغامض! وعلى الرغم من أن الشاعر لم يكتب سوى تلك المجموعات الشعرية القليلة، إلا أنه يبدو وكأنه كتب الشعر كله. إن الذي يطالع هذه المجموعات سوف يحس حال الانتهاء منها أن الشاعر لم يترك حصاة واحدة في أرض الشعر إلا وخبأها في جيوبه. ويخيل إلي الآن وأنا أتأمل (الماغوط) وهو يغمض عينيه الإغماضة الأخيرة، أنه أراد أن يحتفظ في أعماق نفسه بصورة الشاعر الفارس الذي نهب الجمال كله، وقرر أن ينسحب من المشهد. كأنه أحس أن دوره انتهى ولا مكان له في هذه الحظيرة الهالكة.

لم يكن يخطر في بال (الماغوط) الذي هبط ذات يوم من قريته (سلمية) باتجاه تلك المدن الكبيرة أن جسده الجسور سوف يتهدم على هذه الصورة. وأن صوته الكاسر سوف يذوي ويجف. لم يكن يقبل أن يتحول الشاعر الذي فيه إلى مجرد نسر هرم تماما كالنسر الذي وصفه في إحدى قصائده: «فالعاصفة كالحصباء، كموسيقى النصر تأتي مرة ولا تعود، والنسر بلا قمة أو عاصفة، كالعروس بلا أقراط أو دموع».

(4)

أقصى ما يمكن أن يقدمه الشاعر لوطنه يتمثل في منجزه الشعري، الذي يمثل في النهاية جزءا من المنجز الحضاري للأمة. بناء عليه تغدو إعادة الاعتبار للشعراء والروائيين والفنانين (ليس فقط الأموات وإنما الأحياء أيضا) واجبا أخلاقيا. فهؤلاء هم رأس مالنا الحقيقي الذي نراهن عليه أمام هذا الطوفان الذي يجتاحنا من الهزائم.

ثم ماذا يريد المبدع منا؟ إنه لا يطلب أكثر من التفاتة إعجاب تمنحه القوة على مواصلة عمله الشاق، عمله الذي صمم أن يخلص له حتى الرمق الأخير. يقول (الماغوط): «سأظل متكئا على ريشتي حتى الشيخوخة. متكئا على مرفقي حتى يسيل اللحم على الخشب».

ousef_7aifa@yahoo.com

الرأي- لجمعة 14 نيسان 2006م

*****

موته شعر

عزت القمحاوي
(مصر)

أحب أن أعرف الناس والأماكن؛ لكن خوفي من الفقد أكبر من فضول المعرفة، ولذلك لا أحرص علي صداقات جديدة، وإنما أستسلم لمعرفة من ترتب المصادفات لقاءهم، سعيداً بمن لا أستلطفهم وممتناً لهم أكثر من سعادتي بمن أغادرهم محملاً بأثقال المحبة.
علي أن الحراشف الواقية التي أفضل العيش داخلها تصير مزدوجة مع أشخاص من نفس النوع. ومن هؤلاء محمد الماغوط الذي لم أسع إلي معرفته خلال زيارات متكررة ملؤها الكسل إلي الشام.
كانت محبته بالمعني الثقافي والفني أكثر من كافية.
وإذا كان الشعراء والنقاد يعرفون لمحمد الماغوط صنيعه الشعري الكبير، الذي تمثل في إحلال اليومي والمبتذل إلي قلب الشعر، أو في سخريته المريرة شديدة الفتك بقبح الواقع وفظاظته، فإنني أتأمله بوصفه، شخصاً ونصاً، واحدة من الحلات الاستثنائية في مسيرة الكتابة.
ومبعث هذه الاستثنائية هو التمسك بالهامش والحفاظ عليه طوال نصف قرن من الكتابة واللمعان بالمعني الاجتماعي، الذي كان من شأنه أن يقود إلي إفساد الشخص، أو المواطن محمد الماغوط ويحوله عن وظيفة الشاعر إلي وظيفة مشهور وهي وظيفة مرموقة ومبهرة تنده الكثير من المبدعين إلي حيث يلقون حتفهم الإبداعي.ہ ہ ہالأقل من الإفساد التام هو التحول الذي يكاد يكون قانوناً إبداعياً؛ فجل النصوص الجديدة وجل الشخوص الجديدة تولد في الهامش ولكنها تسعي لأن تتحول إلي متن، أو تسير إليه مرغمة، لتجد نفسها في النهاية بذات الموقع الذي قاومت من قبل محتليه.
هذه السيرورة، وحركة الدوران المدوخة بين المتن والهامش تبدو قانوناً ثقافياً، لم يعرف الكثير من الخارجين عليه، وبينهم الماغوط الذي تمسك بالإقامة في الهامش نصاً وشخصاً. ولم ينل علي هذا الخروج عقوبة، بل مكافأة الفوز بعرش الهامش من خلال إجماع حقيقي وصادق، دون حاجة إلي مهارات السلطات العربية في التزوير.
لكن البقاء في الهامش، ليس سهلاً، خصوصاً عندما تقف الإغراءات بالباب، وقد تحدث الكثيرون عن المشقات التي نالها البدوي الأحمر القادم من خشونة قريته السلامية إلي لا إنسانية العيش في السجون علي حافة الحياة، دون تأمل مشقة مقاومة حالة النجومية التي عرضتها القصيدة علي الماغوط، وقد صار أباً لأبناء وحفدة من المحيط إلي الخليج.
أي قدر من السخرية احتاج الشاعر لكي يتشبث بهامشه؟ وأي قدر من ادعاء الأمية والعدمية مارس لكي يقاوم حالة التثاقف والتعالم التي أراد محاوره خلال الحوارات القليلة التي أجروها أن يضعوه داخلها؟
لا يعرف لم كتب مثل بودلير، إلا لأنه خرج من السلمية التي يجلد فلاحوها أشجارهم عندما تمكر وتضن بالثمار، لا يعرف لم انضم إلي الحزب القومي السوري إلا لأن الحزب كان الأقرب إلي بيته وكانت به مدفأة بينما كان مقر البعث بارداُ والطريق إليه موحلة. هذه العدمية تتشظي في كل اتجاه لتدين كل شيء، وتضمن في الوقت نفسه براءة الشاعر من التفاصح والتعالم، وتطهره من كل انتماء يشوش علي انتمائه لهامشه وللبسطاء الذين وجدوا أنفسهم في أرض الشعر التي لم تكن لهم، وفي قصائد تجللها المفارقة؛ ذات المفارقة التي تصلب حيواتهم في مساراتها الشاقة.
وأياً كان حظ ادعاءات الماغوط بالعفوية من الصدق، فقد كان علينا أن نتقن دور المؤمنين بالشاعر الذي وقع علي جوهر الشعر في مصادقة سعيدة دون جهد منه.
وليس في إيماننا ما يضير؛ ولن يختلف الأمر طالما أننا وجدنا لُقيته في حجرنا في النهاية.ہ ہ ہ خط الماغوط سطره الذي لن يمحي، وإن بدا طوال حياته غير متقصد ولا مترصد لهذا البقاء. وعاش زهرة صباه وشبابه كما لا يهوي، بل كما شاءت إرادة القاهرين. ولكنه بمكر تسلم ما تبقي من حياته وعاشه كما يريد، حتى آخر نفس من سيجارته في الميتة التي تعد آخر قصائده، وقد وصفها الزميل إبراهيم حميدي مراسل الحياة في دمشق، إذ وجد الماغوط، ميتاً في الاتكاءة الكسول المعتادة، السيجارة في يده، وسماعة الهاتف مرفوعة في مكالمة لم تكتمل. وفي المسجل تدور سورة يوسف، لماذا سورة يوسف بالذات؟ السورة المنذورة للمآتم، دون أن أعرف لماذا أيضاً؟ هل لأنها قصة والقص يسلي المكلومين أم لعرامة الحياة والولع الذي تصفه؛ ولع زليخة بيوسف؟
أقام الماغوط لنفسه فرحه ومأتمه، وأبحر نحو الأبدية راضياً كما يبدو من جلسته الأخيرة

القدس العربي
2006\04\08

******

وداع الصفصافة الأرملة

خيري منصور
(الأردن)

(ملف القدس العربي)

قد تصلح المناسبة التي تعرفتُ فيها الي شعر الماغوط لأول مرة أمثولة في تاريخ التخارج الحاسم بين النقد الاتباعي والإبداع، فقد كنت طالبا في الجامعة عندما صدر كتاب نازك الملائكة قضايا الشعر المعاصر .
وكانت الشاعرة الملائكة رائدة من طراز خاص، أي من طراز محافظ، لم يشأ أن يفقد الأرض المشتركة مع سابقيه لهذا أوردت في كتابها نموذجا من شعر الماغوط كي تحذف منه صفة الشعر، وتسميه نثرا فنيا جميلا.
وشاءت المصادفة أن اقرأ ذلك النموذج الآسر من ديوان الماغوط حزن في ضوء القمر ، ثم أطوي كتاب نازك الملائكة وأهرع الي المكتبات للبحث عن الديوان، وهكذا كان النقد دليلا مضادا ومعكوسا للشعر، بخلاف الفكرة التي كانت سائدة يومئذ والتي نسبت الي ستانلي هايمن، وهي ان الناقد دليل القارئ الي النص الإبداعي، بل هو القنطرة بينهما!
وكمعظم أبناء جيلي، تعلقت بالماغوط وأرصفته وكائناته الطريدة ومقاهيه ونسائه البريات ولم يكن غياب الوزن بمعناه الكلاسيكي قد خطر ببالي ليس لأن هناك إيقاعا سريا مبثوثا في نسيج القصيدة، بل لأن الشعر عاد من خلال الماغوط الي بكارته، لكن هذا الميداس الذي كان يلامس تراب أرصفة دمشق وبيروت وعلب الكبريت فيحولها الي شعر لا الي ذهب، وجد نفسه بعد نصف قرن من اللثغة الأولي بقصيدة أحدثت هزة في خميس مجلة شعر وقد أصبح زاهدا حتى في الحياة.
والماغوط لم يشأ كسواه ان يبحث عن أب شرعي لقصيدته، لأنها لم تكن لقيطة علي الإطلاق، ولم يقدم لأعماله بمانفستو من طراز مانفستو أنسي الحاج الذي استهل به أحد دواوينه ملخصا الي حد كبير أطروحات سوزان برنار، حول جماليات قصيدة النثر.
واكتفي الماغوط بعبارة سهلة ممتنعة كشعره ذات حوار، عندما قال لمحاوره بأنه كان غريقا في أحد أحياء دمشق العريقة، فوجد جذعا طافيا علي الماء وتعلق به لكي ينجو ولم يكن لديه من فائض الرخاء ما يدفعه للتساؤل عن أصل ذلك الجذع، والعائلة التي ينتسب اليها في الغابة.
وبقي الماغوط هكذا، بعيدا عن التأنق النظري وحذلقات السجال حول سلالات الشعر.
وكان رائدا بل جذرا بامتياز، لقد كتب عنه النقاد الكثير ولم يكن كله مدائح او تعبيرا عن ولاء نقدي، وما أزال أذكر ما كتبته الناقدة خالدة سعيد عنه، عندما لامست عصبا عاريا في شعره، ووجدت انه يستخدم أدوات التشبيه بوظائفها البدائية فيخسر أحيانا ذلك التزاوج الفذ بين الأضواء، لأن أدوات التشبيه جسور قد تباعد بين المشبه والمشبه به، لكن ميداس الشعر هذا حول النقيصة البلاغية الي امتياز، وظل يذرف قصائده وأحيانا يرشحها كالعرق، مما أبعده عن مدار التنظير وجعله حاضنة مبكرة ودافئة لقصيدة النثر العربية!
هناك من تجرأ علي القول بأنه خان وطنه لكنه وحده الذي لم يخن، والماغوط منذ بواكيره كان هجاء مفرطا لواقع استنقع حتى طفت عليه الديدان.
وقبل ان ينشر كتابه المبشر بالخيانة النبيلة الشعرية، كان قد كتب نصوصا تفتضح واقعا لدغ أمثاله حتى سمم النخاع، لكن من قال ان مرفقه سال علي أذرع المقاعد الخشبية في دمشق وسئم من مخاط بقرة أبيه وعقاله الذي يتأرجح كالخرزة علي عنق ثور، هاجر وهو في مكانه،وكانت هجرته الاولي عادة سرية بقدر ما هي شعرية، لأنه تمدد علي الخرائط المفروشة علي ارض غرفته وسالت دموعه من قارة الي قارة، وحلم مثل كل المقهورين بغرب أبهي لأن وعود السفر غزيرة بدءا من إناث طليقات حتى مكتبات، بلا قيود وسرعان ما عاد المهاجر لأن عواصم أوروبا تئن شوارعها تحت رؤوس المظلات والمرأة التي حلم بها ضاجعها رجال بعدد النجوم!
لهذا قرر ان يبقي حارسا امنيا وساهرا علي بوابة الحزن الشرقي!
هذا بالرغم من ان الماغوط لم يقل ان زيتونة شرقية أو أن صفصافته التي تتمايل قرب الكنيسة لها حفيف بالعربية الفصحي.
فالحزن نص كوني وبكل اللغات ولهذا لا يترجم، تماما كالبكاء والضحك والقبلة، فهذه الأقانيم الثلاثة تشترط الصمت ما من شاعر عربي حديث سخر من التراث كما فعل، لكن بغضب الحفيد الحالم لا العاق، فليس هو الذي قايض صقر قريش بحافلة طحين، وليس هو من اقعد الدحام وغيره علي زجاجات لها فوهات مدببة!
وكان من حقه ان يغضب، لأن الحزن اذا طبخ علي نار القلب البطيئة يتحول الي ثورة ولم يكن الماغوط ليعتذر عن شيء لأن الواقع كان يقدم له يوميا براهين ساطعة عن صدق نبوءاته ورؤاه.
قالت زوجته الشاعرة الراحلة سنية صالح في مقدمة أعماله الكاملة، أو التي اكتملت الآن، بأنه كان يضع القهوة علي نار الكتب وان المقعد الوحيد في غرفته الأشبه بشرق أوسط مفعم بالكآبة وأكاسيد الكبت لم يكن يصلح للجلوس بل كان حتى المقعد متعبا، وحين رحلت سنية صالح بعد عمر شعري قصير وهادئ وملتاع رثاها الماغوط بما لم يكن معروفا من الرثاء من قبل، وكان رثاؤه مثل حزنه محررا من القوافي ومن وقع الحوافر علي الحوافر، وقد لا يقارب ذلك الرثاء المحرر من ثوابت الحرفة الا ما كتبه شاعر آخر رحل في دمشق قبل فترة قليلة هو العراقي يوسف الصايغ وبالتحديد في ديوانه سيدة التفاحات الأربع !
وقد يري بعض مؤرخي الظاهرة الماغوطية ان تحول الشاعر الي المسرح وعلي ذلك النحو الذي تتعانق فيه التراجيديا مع الكوميديا كان تحولا متوقعا، وان كان هناك من ناقديه من رأي ان العصفور الأحدب مثلا قصيدة نثرية طويلة ومركبة ومتعددة الأصوات،لأن الماغوط بنبرته السوداء وحزنه ذي التجاعيد بقي مبثوثا في كل الشخوص!
لقد عاش مثلنا في غرفة لها ملايين الجدران لكنها بلا نوافذ ومثلنا جميعا كان بحاجة الي مليون طائر سنونو كي يصدق بأن الخريف قد ولي، لهذا لم تهدأ ثورته ولم يتصالح الا لماما، ليتضح بعد ذلك انه يعيد شحذ أداته بعد أن أوشك الاستعمال العنيف علي تثليمها!
وقد يبدو الماغوط كما لو انه عاش أطول مما اشتهي، لأن عمره الشعري اقصر من عمره الزمني، لكن تلك المفارقة ليست حكرا علي محمد الماغوط فما من مبدع يتطابق عمراه، الإبداعي والزمني، وكأن القطفة الأولي تأتي علي معظم الرحيق.
عندما كتب الماغوط قصائده النثرية الاولي لم تكن الأرض ممهدة، أو معبدة حتى بالحصى لهذا كتب في مناخات إرهابية وبين كمائن كان الاتباعيون يرصدون من خلالها من يسمونهم الموارق، والخارجين عن نطاق الجاذبية المقدسة، وتلقي هو وبعض مجايليه الطعنات الأولي بصدورهم، وهكذا أصبح الطريق الذي كان وعرا وملغوما معبدا بعد أربعة عقود أو أكثر!
كانت قصيدة النثر بمقياس أولي القهر الثقافي وحراس القلاع العميان اختراقا وغزوا وانتهاكا، وكان هؤلاء الحراس يوهمون الناس بأن الخليل بن أحمد ولد قبل أمريء القيس وأن العصافير تخرجت من معاهد الموسيقي وتحمل تحت أجنحتها الصغيرة نوتات!
الماغوط تخرج من معهد الحزن، ومن أكاديمية العصيان علي فقه التنابلة، ووعاظ السلاطين.
لهذا اخترق آفاقا كانت محرمة ووصل الي قارئه بلا وسائط من أي نوع، لأنه تنفس الشعر وزفره، ورشحه وذرفه!
وقد لا تكون هذه المناسبة كافية لاستقراء الماغوط عمقيا بعد ان قتلت شعره القراءة الأفقية لكن الموت ليس بأي حال تبرئة خصوصا اذا كان الميت قد قال وهو يرثي بدر السياب، ان الجنة للعدائين وراكبي الدراجات، أما هما فيمشيان علي مهل وعلي سراط شاءت له البربرية الحديثة ان يكون بين جحيمين، وقد تنحاز أية كتابة عن الماغوط لحظة وداعه الي ما كان يطفح به نصه من صدق وانفعال، وهذا أمر مألوف في كل نقد ينبض بحساسية ولا يهدف الي عض النصوص لأنها قريبة من الفم.
عندما شاهدناه علي مقعد لا يليق بجناحيه وهو يتسلم جائزة سلطان العويس تذكرنا أمرين معا، الأول ما قال عن السياب وجنّته النائية، والثاني ما حدث للفنان كارافاجو الذي عاد بكيس الذهب ومات علي العتبة.
لقد أنصفت جائزة العويس الماغوط وكان الجحود يحيط به من الجهات الست،لكنه لم ينعم طويلا بهذا الاستحقاق وما ان أوشك ان يستريح حتى سقط آخر عصفور عن شجرته!
نودع الماغوط بما استعرناه من قصائده من المناديل وننتظر بفارغ الشعر قيامته في أحفاد اقل عقوقا ونقد اقل ارتهانا!!!

****

سر الشاعر

حسام الدين محمد

في سقيفة بيت جدي، وبين مجلات وكتب قديمة وحديثة وجدت مجلة اسمها الشرطة.
كنت في التاسعة من العمر وكنت لخلل فيّ، لعلّه خجلي المفرط، مولعا بالقراءة.
ورغم ان معرفتي بالواقع الحقيقي كانت واهية فقد تلمّست فطريّا نوعا من المفارقة في سبب وجود هذه المجلة، فقد كنت أعرف من الخوف الذي يتلبّس الناس في سورية ان الشرطي كائن مرعب فكيف يقوم هذا الموكل بترويع البشر واعتقالهم بإصدار مجلة تشبه الحوليّات وتتضمن مواضيع قانونية وثقافية مفيدة؟
لسبب غامض تثبّت في ذاكرتي الطرية اسم رئيس تحرير تلك المجلة.
وستمر سنين طويلة قبل ان أدرك الحجم الهائل للمفارقة بعد اكتشافي ان رئيس التحرير ذاك لم يكن غير اكبر هجّاءي الشرطة والقمع في تاريخ الشعر العربي الحديث: محمد الماغوط.
وظنّي ان إسناد تحرير الشرطة لمحمد الماغوط خلال أواخر الستينات من القرن المنصرم كان احد مساخر القدر التي نتجت عن أحلام (أو أوهام) حكام تلك الفترة الإيديولوجية (أتكلم عن مرحلة صلاح جديد ونور الدين الأناسي وعبدالكريم الجندي) التي تمثلت بفكرة الانقلاب والتغيير من فوق، فقد كان كافيا في اعتقادهم وضع أشخاص ثوريين علي رأس السلطة حتى ينقلب التخلف حداثة و النمليّة برّادا والشرطيّ غيفارا!
لا أدري ما كان رأي الماغوط في تلك المرحلة لكن رفيقه في هجاء الأنظمة والقمع زكريا تامر تحدث عن هذه الفترة قائلا ان الماغوط كان يرتعش خوفا خلف مكتبه برئاسة تحرير الشرطة كلّما دخل عليه شرطيّ بسيط بورقة لتوقيعها او بمادة لنشرها.
ولعلّ الماغوط كان يحكي عن حالة شبيهة عندما تساءل في قصيدة له:
من أورثني هذا الهلع
هذا الدم المذعور كالفهد الجبلي
ما أن أري ورقة رسمية علي عتبة
او قبعة من فرجة باب
حتى تصطك عظامي ودموعي ببعضها
ويفر دمي في كل اتجاه
كأن مفرزة أبدية من شرطة السلالات
تطارده من شريان الي شريان

ہ ہ ہ

عام 1948، دخل الريفي البسيط ابن الـ41 عاما مدينة دمشق قادما من السلمية، معقل الاسماعيليين علي إطراف بادية الشام.
كان أقصي ما يطمح اليه آنذاك (علي حدّ قوله) ان يتزوج ابنة عمه او ابنة جيرانه ويعيش بسلام، لكن دخوله السجن ( متحف الرعب كما يسميه) كان صدمة زلزالية غيّرت شخصيته للأبد وثبّتت في داخله خوفا وحزنا خالدين.
لكن هذه الصدمة أطلقت، من جهة أخري، طاقة الشعر والإبداع الهائلة في الإنسان المقهور المزروع في جينات الشاعر منذ ما قبل ولادته.
من السجن يخرج الماغوط عام 5591 بمسرحية المهرّج (التي قام السجناء بتمثيل بعض منها في سجن المزة وسيستخدم الرحابنة مادتها في تأليف مغناتهم ناس من ورق كما سيستعينون بالشاعر لتأليف المحطة ) وبقصيدة القتل التي سيفاجئ بها مجموعة مجلة شعر في بيروت وسيكون نشرها بداية حرث ثور الماغوط في صالة مرايا الشعر العربي تاركا، منذ ذلك الحين، تأثيرا لا يمحي علي الشعر العربي.
في بيروت التي انتقل اليها سيلتقي الماغوط بالشاعرة سنية صالح (أخت خالدة سعيد زوجة أدونيس) التي ستكون رفيقة دربه وسببا إضافيا آخر لآلامه لاحقا بموتها المبكر (توفيت عام 5891 عن ابنتين: شام وسلافة، وثلاث مجموعات شعر الزمان الضيق و حبر الإعدام و قصائد )، وسيسجن هناك (عام 0691) مرة أخري للسبب نفسه (علاقته بالحزب السوري القومي الاجتماعي الذي يقول في مقابلة مع قناة فضائية انه لم ينضم اليه لقناعة مبدئية او ايديولوجية ولكن لأن مقرّه في السلمية كان قريبا من بيته وكانت فيه مدفأة علي عكس مقرّ حزب البعث!).
عيش الماغوط الدائم هذا في قلب المفارقة سيتبدي واضحا في شعره القائم علي المفارقات والصور المتنافرة، والأمر نفسه ينطبق علي اختياره لقصيدة النثر التي أحبها ـ كما يقول ـ حبا من أول نظرة وأول كرباج .
يعزو الماغوط اختياره لهذا الشكل الشعري الي انه كان شخصا ملولا ولجوجا وانه كان هاربا وجائعا ومتشردا يبحث عن مخبأ او ملجأ يؤويه ولم يكن لديه وقت للقافية، وبذلك يعطي سببه الشخصي الأصيل لمعاصرة هذه القصيدة وعلاقتها بأحوال الحاضر.

ہ ہ ہ

كان الشعر هو صرخة الماغوط الأعلى علي سفالات وبشاعات العالم لكن ذلك ينطبق بالقدر نفسه علي أعماله المسرحية والتلفزيونية ومقالاته الصحافية.
من مقالاته التي اتذكّرها دائما واحدة يتحدّث فيها عن انشغاله بالبحث عن هدية يهديها لأمّه في عيد الأم فلا يجد بعد طول تفكّر الا أن يأخذها لأحد فروع المخابرات ليقوموا برفعها فلقة لأنها أنجبته في بلد عربي!

ہ ہ ہ

علي عكس انقلابيي وثوريي السياسة الذين عيّنوه رئيسا لتحرير مجلة الشرطة والذين سخر الواقع من أحلامهم الطوباوية بطرق مأساوية ( انتحر عبد الكريم الجندي وقضي جديد والأتاسي حياتيهما في السجن وتفرق الباقون نفيا وموتا وسجنا) أنجز الماغوط انقلابه الشعري الكبير وطبع الذائقة الشعرية العربية بمعالم صوته.
لو حللنا هذه اللحظة وافترضنا ان الشاعر والحكام جاءوا من ارض الحلم الواحدة، فأين كان الخطأ الكبير الذي أدى لعصر اسود من الظلم والكوارث والهزائم!
لعل الحالم الحاكم افترق عن الحالم الشاعر حين قرر ان الشعار أهم من الناس، وهو ما فعله ايضا كثير من الشعراء.
وهنا، ربما، يكمن سر الماغوط وقيمته الكبيرة.

****

الجهة الأخرى من الضوء

عيسي مخلوف
(لبنان)

لا أجد ما أضيفه علي ما قيل في شعر محمد الماغوط منذ ديوانه الأوّل حزن في ضوء القمر حتى اليوم. هذا الشاعر الذي يخرج من الأعماق المعذَّبة ويضع أمام أعيننا ماسه الصافي الذي استخرجه من المياه الآسنة والوحول. فالشعر هنا لا يفصل بين الجماليات والحياة وهو أيضاً فعل مقاومة وفعل ثورة، ليس الثورة بالمعني السياسي بل بالمعني الكياني والوجودي. شعر محمد الماغوط صرخة مدوّية في الأرض الخراب، الخراب المادّي والروحي علي السواء. ولئن كانت صرخة الماغوط ضدّ الظلم والاستبداد والفقر والقهر تنطلق من مكان وزمان محددين، فإنها لا تنحصر بهما وتذهب أبعد من ذلك لتطال العالم أجمع، اليوم وفي كلّ العصور.
لن ألتفت إلي شعر الماغوط إذن، هذا الشعر الذي سيبقي إحدى أجمل المحطات في الشعر العربي المعاصر. لكني سأتوقف عند صوته في آخر حديث أجراه معه عبده وازن ونشرته صحيفة الحياة . في هذا الحديث الذي نُشر بعد الموت، يتكشّف وجه الماغوط الإنسان في حياته اليومية، ويساعدنا الشاعر نفسه علي الإبحار في عوالمه.
تطالعنا اللحظات العالية في هذا الحوار حين يتحدث الماغوط عن السوداوية فيقول: لا يخففها إلاّ حضور الحب والمرأة. الإحساس بالحرية كذلك... . وحين يتحدث عن الظلم وعن تجربة السجن: كنتُ في العشرين من عمري، وكنتُ أظنّ أنّ السجن هو للمجرمين والقتلة. وعندما سجنتُ في المرة الأولي شعرتُ بأن شيئاً جوهرياً تحطّم في داخلي. كلّ ما كتبته وأكتبه هو أشبه بعملية ترميم لتلك التجربة المرّة والقاسية. وما زلت أرمّم آثار هذه التجربة حتى اليوم. ولا أبالغ إن قلتُ إنّ أمل الحياة سقط في السجن، وكذلك الجمال والفرح... أنا كنت أبرد في السجن وأجوع. وأشعر حتى الآن أنني لم أشبع. في حياتي جوع دائم هو أقوي منّي. هذا جوع تاريخي ... وكم يبدو جلياً في هذا الكلام موقف الماغوط من الظلم والذلّ، ومن المجتمع البوليسي القاهر.
لكن إلي جانب هذا الموقف الساطع، نسمع الماغوط يتحدث عن تفوّقه وأمجاده بصورة أصبحت متداولة بكثرة في مجتمعاتنا وأصبحت من ثوابت ثقافتنا العربية مما يكشف عن ظاهرة تستحق الدرس وينبغي عدم الاستهانة بها. يفاجئنا الشاعر، هذا الشاعر بالذات، حين يتحدث عن نفسه بهذه الطريقة التي تتناقض مع شعره، وهو يبدو في شعره مهزوماً ومطروداً ومجروحاً ومهاناً... أي نقياً إلي أقصي الحدود.

يقول الماغوط في الحوار الأخير: أذكر أن شاعراً وناقداً أوسترالياً قال: إذا اخترنا أربعة أو خمسة شعراء كبار في العالم فالماغوط سيكون واحداً منهم... وهناك شاعر أوسترالي أيضاً يدعي جان عصفور، عربي الأصل، يعتبر أنّ تعريفي بالشعر هو الأجمل ... وفي مكان آخر ينقل عن خالدة سعيد قولها: أنت مرصود والعين عليك وهناك أناس يحاولون أن ينالوا منك. أنت أكبر شاعر عربي، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً... وأخيراً هذه اللقطة الغريبة حقاً: عندما كانت سنية تحتضر كانت تملحس بيدها على ركبتي قائلة: أنت أنبل رجل في التاريخ .

الاعتداد بالذات بلغ درجة دفعت بالماغوط إلي القول إنه لم يشعر بالحاجة إلي تعلّم اللغات: لم يهمني الأمر. لم أتعلم أي لغة أجنبية ولم أحاول طول حياتي. لا جلد لي علي اللغة الأجنبية. إنني أحب الكسل والفوضى . وفي مكان آخر: أنا شاعر طالع من الحياة والتجربة وليس من الثقافة والكتب"، و"لم أكن أقرأ كثيراً. وأخيراً: أشعر بالندم لأنني تعلمت أن أقرأ وأكتب... نخشي أن يشجع مثل هذا الكلام الأجيال الشابة التي يعتبر بعض أفرادها أن كل قصيدة يكتبونها أو كل لوحة يرسمونها أو كل منحوتة ينحتونها هي الأولي من نوعها في العالم!

الماغوط صاحب موهبة فطرية كبيرة جعلته يكون صاحب تجربة شعرية كبيرة علي الرغم من ثقافته المتواضعة، وهو بذلك يشكّل الاستثناء لا القاعدة. أما القاعدة فهي أن الإبداع يحتاج إلي صقل والصقل يحتاج إلي ثقافة. ويبقي السؤال: هل يمكن للكاتب أن يبدع فعلاً ويحقّق إضافات إذا لم يكن علي معرفة واسعة بما كُتب ويُكتَب في العالم؟ ومن قال إن الثقافة عيب، وإنها تعطّل فعل الإبداع! التحدي الأكبر هو قدرة المبدع علي إخفاء ثقافته وراء عمله الإبداعي تماماً كما يخفي النحات مثلاً آلاف ضربات الأزميل التي تتألف منها المنحوتة ولا يبقي إلاّ المنجَز المصقول، كأن العمل، لحظة الانتهاء منه، وُلد للتوّ. واللغة التي لم يشعر الماغوط بحاجة إلي تعلمها طوال حياته أليست معرفتها اليوم أحد تحديات الحداثة الكبرى؟ هل يستطيع الكاتب والمثقف أن يعيش في العالم الراهن بدون معرفة وإتقان لغة أو لغات أخري حية كتلك التي تقدّم المعارف والعلوم الحديثة وتنقلها؟ اللغة الواحدة، خاصة إذا كانت لغة تعيش في عزلة عن عصرها، ما عادت تكفي إذا لم تكن مسكونة بلغات أخري...

شائع إذن، عندنا، موضوع تأليه الذات. في حديث إلي إذاعة الشرق استمعنا إلي الفنان منصور الرحباني كيف يعظّم نفسه، وبأسلوب أسطوري، خلال الحديث عن الموسيقيين الكلاسيكيين الكبار، وقرأنا آراء الشاعر سعيد عقل حول الفنون التشكيلية الحديثة وتهكّمه من بيكاسو، واكتشفنا أيّ انقطاع يعيشه بعض فنانينا وكتّابنا الكبار عن الفنون الأخرى التي لا يمارسونها، وأحياناً عن الفنون نفسها التي يمارسونها. وما كانت لتعنينا هذه الآراء والمواقف لو لم تكن تصدر عمن نعدّهم رواداً ورموزاً في الثقافة العربية الحديثة، ولو لم نكن نخشي علي قاماتهم الكبيرة العالية من أن تنحني، ونخشى على ثقافتنا من الانغلاق علي نفسها والاكتفاء بذاتها، لا سيما في هذه المرحلة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية والتي أصبحت فيها اللغة الدينية هي البديل عن كلّ اللغات.

****

الذي جعل من اليأس معرفة!

حسن نجمي
(المغرب)

لم تمر إلا أسابيع قليلة علي فوزه بإحدى أرفع الجوائز العربية (جائزة سلطان العويس التي فاز بها قبله شعراء كبار من أمثال أدونيس، نزار قباني، محمود درويش، سعدي يوسف) حتى أسلم الشاعر العربي السوري الكبير محمد الماغوط الروح لباريها متأثرا، في العمق، بداء اليأس والفجيعة والحزن والوحدة.
ومنذ أن فُجع في فقدان زوجته الشاعرة الرائعة سنية صالح (وهي بالمناسبة شقيقة الناقدة خالدة سعيد زوجة الشاعر أدونيس)، لم يعد الماغوط هو هو. كأن قطعة من جسده وروحه قد بترت أو كأن شيئا تهدم في أعماقه وكيانه. ورغم صمته الشعري العميق خلال السنوات الأخيرة، عاد ليكتب أجمل قصائد حياته في رثاء رفيقة العمر والشعر وضمنها ديوانه الأخير سياف الزهور (دار المدى، دمشق).

كان الماغوط الشاعر العربي الأكثر يأسا، والأكثر عدمية، والأكثر سخرية في مواجهة واقع السلطة والخيبة والعجز والقهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ولفتت كتاباته الشعرية والنثرية، الإبداعية والصحفية، انتباه الملاحظين والنقاد حتى أن صحفا بريطانية وأمريكية كانت تواكب أخباره وتستشهد بخطابه الأدبي النفاذ المتفكه المر.

في نهاية الخمسينات الماضية، وفي إحدى أمسيات جماعة شعر ببيروت، قرأ أدونيس بعضا من المقاطع الشعرية المثيرة والمدهشة علي من كان حاضرا، وطلب من زملائه أن يخمنوا لمن يكون هذا الشعر، فسارعوا الي القول بأنها للشاعر الفرنسي رامبو أو للفرنسي الآخر بودلير. وفاجأهم أدونيس بأنها لهذا الشاب الأشعت الخجول الذي كان مندسا بينهم، والذي كان قد وصل لتوه هاربا من الملاحقة وأسباب الخوف.

وقتئذ، كانت حركة شعر في لبنان برئاسة الشاعر الراحل يوسف الخال قد فتحت الأفق من جديد لجرأة التجريب الشعري والبحث عن مكان لما سمي خطأ بقصيدة النثر (الشعر الحر) علي مساحات خريطة الشعر العربي الجديد. فانطلقت أصوات خلاقة تكتب حرية الفكر واللغة والذات بحرية الشكل الشعري والجمالي، أصوات كان من أبرزها الراحل محمد الماغوط بلا شك، لكن كان بينها شعراء آخرون كبار كأنسي الحاج، فؤاد رفقة وشوقي أبي شقرا. وطبعا، أدونيس الذي نشر عندئذ أول نص عن قصيدة النثر أصبحت له لاحقا قيمة تاريخية توثيقية أساسية الي جانب نص أنسي الحاج الذي وضعه كمقدمة لديوانه الشعري الأول لن .

ومنذ مجموعته الشعرية الأولي حزن في ضوء القمر (1959)، ثم عمله الثاني غرفة بملايين الجدران (1960)، وصولا الي عمله الثالث الأكثر شهرة الفرح ليس مهنتي (1970)، رسخ الماغوط أسلوبا جديدا وفذا في الكتابة الشعرية المعاصرة. بل تخطي أسلوبه الشعري فضاء الكتابة كسواد علي بياض الصفحات، ليصبح - تقريبا - أسلوب حياة. وأصبح الواقع الشعري المتخيل، إعادة ترتيب مفارق للواقع المادي والذهني اليومي. وفيما كان الشاعر يبادل أصدقاءه البسمة والفرح العام، كان يحتفظ ببلور حزنه للقصيدة. ولعل الماغوط برؤيته الشعرية الأسيانة كان أحد أهم شعراء الإنسانية احتفاء بالحزن، وبالإخفاق والخيبة، وانكسارات النفس العزلاء، بل كان في الكثير من الأحيان ينتصر للهزيمة ويتفهم جروح المهزومين. فقد كان شاعرا طفلا لا يعرف كيف يزور الأسماء، ولم تكن له دبلوماسية الكلام التي تفضل الصمت أو تختار العبارة التي تقول الواقع وضده في نفس الآن.
وبالنسبة إلينا في المغرب، في المغرب الثقافي والأدبي، لم ننجح في استضافة المرحوم محمد الماغوط. كان يعتذر لأسباب صحية، وحين قبل مرة بفرح، دعوة من اتحاد كتاب المغرب، ومن إدارة المهرجان الدولي بالرباط، فوجئنا بكونه فضل في آخر لحظة دعوة أخري من هولندا، وعلمنا أن وضعه الصحي لم يكن يحتمل أكثر من سفرين بعيدين، وأنه اختار أن يسافر ليقرأ شعرا وليعرض نفسه علي أطباء اوروبيين. ولم نيأس من أن يحضر بيننا في إحدى المناسبات، لكن حالته الصحية كانت قد بدأت تزداد سوءا، خصوصا حين آثر العزلة والشراب المسرف الفادح وترك جسده يتضخم بصورة مقلقة. وأصبحت العكازة ترافق رجفة يده.

ومع ذلك، أحببناه كمرجع شعري عميق صادق، بالمعني الجمالي والأخلاقي، وككاتب مسرحي ودرامي مدهش، سواء في أعماله المسرحية: شقائق النعمان، العصفور الأحدب، المهرج، ضيعة تشرين، كأسك ياوطن، غربة، أو في أعماله السينمائية والتلفزية مثل: الحدود، التقرير والدغري، والتي ساعد بعضها الفنان دريد لحام علي الانتشار والتألق والشهرة الواسعة، قبل أن تتصدع العلاقة بين الرجلين.

***

قصيدة شابة دائما وطازجة

صالح دياب
(سوريا)

تطرح تجربة الشاعر محمد الماغوط الشعرية والحياتية عددا من الأسئلة الجوهرية التي يمكن أن يكون الجواب عليها أفقا حقيقيا لتجربة عدة أجيال ليس من الشعراء فحسب بل من الأفراد العرب العاديين.
فمعه لا يمكننا أبدا أن نفصل شعر الشاعر عن حياته ومحيطه، علي ما درج عليه دجالو الحداثة الشعرية العربية ومسوقو شعاراتها الذين مازال بعضهم يتشدق بها حتى الآن، تلك الشعارات التي قذفتها الأجيال الشعرية العربية الجديدة بعيدا وانتصرت للشعر الذي يذهب إلي الحياتي واليومي في لبنان ومصر وسورية والمغرب. هذه الأجيال برأيي انتصرت للماغوط شاعرا وإنسانا. الحديث الذي كان يساق دائما عن أجداد قصيدة النثر العربية ومؤسسيها الأوائل كان دائما ضبابيا ويطغي عليه التكريم والمحاباة أكثر من الواقعي وقراءة التجارب الشعرية قراءة موضوعية. في هذا العالم العربي حيث تتداخل الحمية الطائفية وسائر الانتماءات الضيقة متغلغلة في عصب (النقد) والقراءات الصحفية التكريمية لأسماء كثيرة معومة صحفيا فحسب، فيما لا أحد يقرأها. أسماء موجودة بفعل الصحافة لا الشعر.
شخصيا رافقني شعر الماغوط طيلة تجربتي وتنقلاتي. أذكر بعت كل مكتبتي الشعرية كي اذهب إلي بيروت، واستثنيت ديوان الماغوط. كنت أرتعد من مجرد التفكير بذلك. كأنما فعل ذلك سيجرح الجوهري فيّ كإنسان. دائما كان في نظري كقارئ شاعرا شابا، عصيا علي التصنيف الزمني، وقصيدته لم تكن يوما زمنية علي الإطلاق.
كنا مشردين وكنا نردد قصائده وترافقنا في برد تشردنا.
كنا مؤمنين وكانوا يثقبون آذاننا بالحديث عن كتاب الكتب وعن الترجمة الفريدة لبطرس البستاني، لكننا كنا نعود إلي جمل الماغوط غير المعقدة والتي لا تتوسل آمالا وانزياحات مقصودة، وعقلانية، فوحده من كان يأخذنا من أعماقنا البعيدة.
كنا شيوعيين،وكانوا يثقبون آذاننا بالحديث عن شعراء المقاومة، لكن ديوان الماغوط كان وحده في حقائبنا أو فوق الرفوف الصغيرة لغرفنا، كنا لا منتمين وكانوا يثقبون آذاننا عبر مقالات تضج برائحة الحقد الشخصي وإشباع الأنانيات بالحط من قيمة أدونيس الشعرية والشخصية والإعلاء من قيمة أنسي الحاج ومقدمته وشوقي أبو شقرا والحديث عن الاكتشافات الهائلة التي حققاها.
ثم يدرجون اسم الماغوط كشاعر ثالث كتحصيل حاصل لا أكثر ولا أقل.
لكننا كنا نلتهم كتب أدونيس ونختار من أنسي (الرسولة) متذكرين نشيد الإنشاد دون ان نعير اهتماما إلي المقدمة. ولا يعلق الا القليل من شوقي في ذاكرتنا.كنا ننظر إليهما كشعراء كبار فحسب. لكنهما كانا بعيدين عنا ولا يتجلي حضورهما في أي شيء نكتبه، اللهم الا اذا فكرنا بالتقنيات والقوالب الشعرية والهياكل والأساليب التي بدأت تتكرر في الشعر المترجم. بينما كان الماغوط هو الأقرب إلينا وهو الذي يقبض علي تفاصيلنا الروحية البعيدة، كان متفوقا عليهم جميعا في قصيدته، لكننا لم نكن نجرؤ علي الجهر بذلك، كانت هناك سلطة الصحافة والأسماء التي تردد أوتوماتيكيا أهمية أسماء أخري، أما واقعيا فكان الأمر بعكس كل الضجيج والتكريمات المجانية المجسمة لأسباب ليس الشعر وحده عمقها الحقيقي.
واعتقد أن السبب في الأعراض واقعيا عن تجارب كثيرين من مجاوري الشاعر الماغوط هو علاقة شعرهم بالعالم وأشيائه العادية اليومية والتي حتى وان دخلت في القصيدة فإنها سرعان ما تتحول إلي مفاهيم مجردة تفتقر إلي حرارة الحياة ولا تعوض عن ذلك حرارة الكلمات وصياغاتها اللغوية. فلا تعود المرأة والحب والوطن والفقر والتشرد سوي مفاهيم جافة داخل اللغة ما ان تدخل المشغل اللغوي حتى تتحول إلي أوراق يابسة لا حياة فيها. وحتى عملية خرق المقدس تصبح عملية استعراضية فالكثير ممن كانوا ينادون بذلك هم من أشد المؤمنين واقعيا بالدين كنظرية وأسلوب عيش. هنا كتابة تعتمد علي اللغة لا الكلام.
وهي علي أهميتها التأسيسية تدير ظهرها للحياة وحرارتها، فكل ما تسعي إليه من ثورة، هو تحقيق أكبر قدر من الخرق والانزياحات والاقتراحات داخل اللغة. وبرأيي أن هذه التجارب خسرت زمنيا وتحولت إلي تاريخ في الشعر العربي، بعكس نص الماغوط الذي يفلت من الزمن.
كانت كتب الماغوط الثلاثة هي التي نتشربها وتنغرس في أرواحنا. وهي التي نقلدها في مسوداتنا الشعرية.كان مرآتنا السرية التي نخبئها ونري أنفسنا كما نحن عراة دون مكياج ولا ادعاءات ولا محاباة.
كانت قصيدته تعبر عنا روحيا نحن الذين لا ننتمي لا إلي السلطة السياسية ولسنا أبناء في سلطة الصحافة، موهبته الفريدة التي لا تستمد قوتها لا من اللغات الأجنبية، ولا من الاطلاع علي شعراء العالم الكبار ولا من الجامعات والدراسات النقدية التي تدور حول الشعر شكلت سيرة روحية لأكثر من جيل عربي.
كانت قصيدته شابة دائما، طازجة وحارة، كما لو أنها كتبت للتو. نقرؤها ونشعر بحرارة اللحم والدم ومأساة الفرد العربي المقهور الذي لا ينتمي إلا إلي إنسانيته ولا يسعي الا الي ان يحقق هذه الإنسانية ويعيش حياة بسيطة ويحقق متطلباته اليومية البسيطة من أكل وشرب وعمل وحب.
كان يحتج فرديا علي محيطه الاجتماعي والسياسي، متمردا وحيدا، رافضا الوحدة والحرمان والغربة والاضطهاد والعبودية التي هي نظام مقنع في الزمان والمكان العربيين.
ولكن من أين لقصيدته أن تبقي كل هذه السنين وتصمد بعكس الآخرين؟ ما الذي تميزت به ومن أين لها هذه المقدرة علي البقاء والاستمرار؟ هو الذي لا يهمه لا النظرية ولا التحطيم ولا خرق المقدس وتفكيكه ولا اختراق جدار اللغة ولا الكتابة عن المسكوت عنه وغير ذلك من الشعارات الاستعراضية التي ما زالت حتى الآن تجد من يروج لها دون ان نجد تجليا حقيقيا لها في النصوص.
منذ البداية اختار الماغوط الكتابة عن أحاسيسه الذاتية والانطلاق منها إلي اللغة لا العكس، وقد استطاع رفع هذه الأحاسيس إلي مقامات شعرية عالية وجارحة. كان مجاوروه يتفلسفون متحدثين عن أهمية اللاوعي في الأدب والشعر وعن الإمكانات الهائلة للنص الصوفي والهذيانات التي تتوسل السوريالية أفقا، والرومنتيكية، بينما كان هو منشغلا بما يعتمل في داخله من جوع. ما كان يهمه هو التعبير عما يلامسه مباشرة، حاجاته الملحة اليومية، والكتابة عنها بلغة ذهبت باتجاهين عميقين، عبر تحريرها للشكل الخارجي للقصيدة والداخلي أيضا.
صوره الحارة، النضرة، المشرقة والحادة التي تسقط سقوطا وتذهب مباشرة إلي هدفها حزنا أو يأسا، رفضا وعدم قبول، وتوقا إلي حياة كريمة، وكشفا للاعدل واللاانسانية والبؤس الذي كان يصادفهم في يومياته. تلك الصور ما زالت تصدمنا بعذريتها ولا نستطيع أن نردها إلي مرجعية، وتظل ترسل سيلا من الايحاءات، وتنشر طيفا واسعا من روائح التمرد وعدم الرضا. الشعر هنا ليس سوي معبر للروحي الأعمق.
لم يحتج لا إلي الاتكاء لا علي الأسطورة ولا علي النص الصوفي ولا التاريخ. معجمه الشعري ما زال حيا ويلامس ملامسة: الأرصفة والحانات والبطالة والتشرد والمقاهي والحب والتبغ والسفر وباعة الخبز والعمل والمقاهي وفلسطين والإشارة إلي القضايا القومية التي كانت تمر أحيانا في بعض قصائده وتشكل جروحا في داخله. هذا المعجم صنع مناخات وعوالم حية لامست المشاعر المتكررة والأكثر عمقا لدي الفرد العربي، وقد أمسك بها نص الماغوط إمساكا.
كان هدف الشعر لديه القبض علي هذه المشاعر البسيطة والمباشرة التي يعيشها كفرد، في يومياته النافلة والتي تشكل حياة كاملة، والتي هي عميقا قضايا هذا الفرد وشعاراته الحقيقية. قصيدته التي تذهب بعيدا في الحياة وأشيائها الحسية لم تكن تهمل حياتها الروحية كقصيدة. من هنا نفهم الصوت الغنائي الحزين الذي يتولد من الحياة الروحية لكل قصيدة من قصائده. لعل ما يدهش في قصيدة الماغوط التي تعتمد علي الكلام وشفويته وبث طاقة شعورية حارة في تلافيفه، هو أن القماشة الشعرية التي نسج منها الماغوط شعريته لا تقع في المطبات المعروفة للنثر وأقصد التقرير والأخبار والوصف. فجمله القصيرة والمتفجرة، والتي تهدر في تدفقها لا تتميز بأي ارتخاء أو خلخلة وهشاشة، كما أنها ليست مشدودة شدا إلي الدرجة التي نشعر معها بتراكب هذه الجمل مع بعضها البعض، ونحس بالصنعة والتفكير العقلانيين. شحنات الاحتجاج الكبيرة التي تضمنتها قصيدته لم تدفعها أبدا إلي المباشرة والشعار. ضمير الأنا المكسور الذي يغلب علي القصائد والمحمولات الهائلة من الألم الذي نشعر به أثناء القراءة لا تحيل علي صدق التجربة الشعرية والحياتية فحسب بل وعلي حقيقتها أيضا. كلما قرأنا شعر الشاعر أوغلنا في حقيقتنا وبؤس تمركزنا خلف الصغائر، ودفعنا إلي أنه من العبث واللاجدوي تقنيع وطمس الحقيقي الصارخ، فالذهاب من الأحاسيس إلي اللغة هو الأعمق وهو ما يبقي وليس العكس، وأن حذف الألم الشخصي والافتتان بالتجريب اللغوي مروق علي الذات. وسيؤدي إلي صنع قصائد عابرة لن تصمد زمنيا، وأن هذا الأمر له حدوده، وإلا ستتحول التجربة إلي استعراض. حياته وآراؤه، وقوله رأيه بصراحة، دونما حسابات، وابتعاده عن الضجيج الاعلامي نحتاج إليها كي نتعلم منها دائما.

سيبقي الكلام عن محمد الماغوط، دائما كلاما عن الفرد العربي المقهور، الذي لا يهمه واقعيا لا الأحزاب ولا النظريات بل تحقيق حاجاته اليومية الأساسية، كلاما عن الحقيقي الصارخ، عن اسمنا ووجهنا الجريحين. وستبقي قصيدته عبر ما تحمله من جماليات واقتراحات فنية لا نهائية حاضرة، دائما، في راهن الشعر العربي.
شاعر من سورية يقيم في باريس

****

الماغوط فقيد فوضي المصطلح

عبد القادر الجنابي
(العراق)

كلما أعود إلي شعر الماغوط، تتأكد لي هذه الملاحظة التي أريدها أن تكون خلاصة مساهمتي في هذا الملف عن شاعر أصيل محترم لنقائه وطفولته الشعريتين:
لم يكتب محمد الماغوط أشعاره وفق مصطلح "قصيدة النثر" الذي لم يتم طرحه إلا بعد عام علي ظهور "حزن في ضوء القمر"، وسنوات علي معظم قصائده التي وفقا لسنية صالح أنها كانت مكتوبة كلها في شتاء 1956 وبقيت "مخبأة في الأدراج"... مصطلح أطلق عشوائيا علي محاولات كانت تريد إحداث ثورة إيقاعية داخل شعر التفعيلة (صايغ، الماغوط، جبرا).. ناهيك بأن أدونيس الذي أطلق المصطلح انتظر عرضا نقديا لأطروحة دكتوراه لطالبة فرنسية اسمها سوزان برنار في أسبوعية لويس اراغون "الأخبار الأدبية"، حتى يدرك أن هناك شعرا أسمه قصيدة نثر، جاهلا أن ثمة قرنا من النتاج الغزير لهذا الجنس الأدبي غير المشطّر... والأنكي أن مجلة "شعر" لم تبادر أبدا بنشر ملف يشرح قصيدة النثر الفرنسية نموذجا وتنظيرا، لكي يطلع الشاعر العربي الجديد علي آفاق شعرية لم يعهدها من قبل.
في نظري أن الماغوط القارئ النهم، الذي عاين عن كثب لغة الواقع البوهيمية بكل تشردها ومتاهتها في شوارع العيش الخلفية، مأخوذا بتدفق الصور وتدفق المعاني بأوزانها الخاصة، دون أن يستذكر العروض والتفعيلات أو يلبي التزاماتها.. كان يكتب شعرا حرا وليس قصيدة نثر. كما أن أي مقطع من شعر الماغوط، حتى الذي نشر بعد ظهور مصطلح قصيدة النثر، يدلل علي أنه مكتوب من داخل إطار التفعيلة لكن علي نحو طلق وحر:

لأجلكَ أيّها الطائش
أيّها الرخيمُ كالعصفور
أمسك الملعقة من ذيلها
أمرِّرُها بين نهديّ كالزنبقة
منذ شهور وهو راقد بجوارنا
متلألئا كالسّيف تحت المياه
يكتب ويدخن ويبكي
ولا ينظر إلينا ( غرفة بملايين الجدران ص 121)

أبيات مصدرها أوزان عربية وفق جوازات شعر التفعيلة، وهذا ما لانراه لا في شعر شوقي أبو شقرا، ولا في شعر أنسي الحاج الذي كان واعيا للمصطلح، ربما ليس علي مستوي النموذج الفرنسي، إلا في عدد صغير من القصائد... لكن بالتأكيد علي صعيد البيت - الجملة حيث الوقفة / التقطيع أشبه ببداية فقرة جديدة في عمل نثري طويل مقطع إلي فقرات. ومما يؤسف له أن معظم شعراء الشعر الحر اللاحر (قصيدة النثر العربية) وجد أسلوب التشطير كمحاولة توفيقية مع التراث.
الشعر الحر مشتق من المصطلح الفرنسي Vers Libre "الشعر (والمقصود النظم) الحر"، الذي وضعه شاعر الرمزية غوستاف كان عام 1886 أي بعد مرور مايقارب ثلاثين عاما علي ظهور قصيدة النثر الفرنسية... ويرتكز علي وحدات مقطعية syllabes دون الالتزام بعدد ثابت لها. أي الانتقال من التفعيلة الثابتة إلي الإيقاع النبري المنفتح. وشعر التفعيلة العربي لايختلف كثيرا عن المبدأ فمرتكزه الوزني هو أيضا وحدة التفعيلة دون الالتزام بعدد ثابت من التفعيلات. علي أن ما حصل من تطور أساسي للشعر الحر الفرنسي خلصته نهائيا مع ظهور السوريالية، من وحدة التفعيلة. الشيء نفسه حصلَ عندنا لكنه لم يؤخذ كتكملة لشعر التفعيلة، ولا كتطور منطقي للإيقاع الموسيقي يمليه روح العصر... وما ديوان "ثلاثون قصيدة" (انظر أنه لم يلحقها بـ"نثر") لتوفيق صايغ، المطلع علي تطورات الشعر الحر الأمريكي، سوي علامة من علامات هذا التطور (أُجهِضَ في مهده) الذي كان يجب أن يُفهم علي هذا النحو وليس علي النحو الخاطئ الذي حد من ديناميكة مشروع الشعر الحر وحجب كل الآفاق التي كانت ممكن احتضانها كما حصل في العالم، وبالتالي شوّه حقيقة قصيدة النثر علي أنها تصد لشعر التفعيلة، وليس كجنس أدبي مستقل. وتجدر الملاحظة هنا إلي أن توفيق صايغ كان واعيا إلي أن شعره ليس قصيدة نثر وإنما شعر حر، وذلك بمحاولته التمييز بين ما سمي خطأ قصيدة النثر العربية كتمرد علي شعراء التفعيلة، وبين قصيدة النثر الحقيقية كنمط أدبي جديد، فنشر في مجلته "حوار" عددا من النصوص الشعرية (لتيريز عواد، أسعد عاصي، يوسف غصوب الخ وهي أقرب النماذج الشعرية المكتوبة بالعربية آنذاك إلي نموذج قصيدة النثر الأوروبية)، تحت عنوان "شعر بالنثر" وهي ترجمة للمصطلح الأمريكي: Poetry in Prose الذي بدأ بالانتشار في أمريكا اعتبارا من منتصف خمسينات القرن العشرين ويطلق علي نتاج قصيدة النثر الأمريكية.

كما أن الأعمدة الثلاثة لقصيدة النثر الحقيقية (إيجاز/ توتر/ جُزاف)، فقلما تتجلي في شعر الماغوط... ذلك أن الماغوط في قصائد كثيرة، يبقي يلهث دون توقف... بل ما إن يتجلي التوتر في شعره حتى يضيع في اللوذعية والضحك والسخرية الواقعية من العالم. وهذا بسبب ميله إلي مسرح شعري عابث ينطوي علي خطة ملفقة في ذهن المؤلف... وهذا تهديم للعمود الثالث "جزاف" أي أن تكون مادة القصيدة حادث لا معني له ولا غرضية شخصية.

باختصار: محمد الماغوط شاعر بكل ما تحمله هذه الصفة من تأويلات، إمكانيات وأضغاث أحلام... فمكانه ساطع في شمس الشعر الحر التي حجبها شعراء التفعيلة ورهط من جهلة النقاد.
شاعر من العراق يقيم في باريس
انظر أطروحة جان كرمة عن قصيدة النثر العربية، باريس 1981

*****

شاعر التبدد اليومي

محمود نسيم

أفكر دائما، وأنا اقرأ شعر الماغوط متمثلا صوره ومجازاته المرسلة، مفارقاته الضدية ولغته التي تبدو اعتيادية وشفوية، أفكر في صورة الذوبان والتبدد التي أشار اليها (مارشال بيرمان) مستعيرا اياها من احدي فقرات البيان الشيوعي، تلك التي يجسد فيها ماركس واحدة من أعمق صور الحداثة وأكثرها امتداداً وكثافة: الاشياء تتهاوي، المركز لم يعد صامدا، المقدس ينقلب الي دنس، الصلب يتبدد ويتحول الي أثير.
هذه الصورة هي الدراما المركزية للحداثة الشعرية،بمداها الكوني وجلال رؤيتها، بقوتها المكثفة، تلميحاتها الكارثية الغامضة، وهي ايضا ـ في تصوري ـ الصورة المركزية في شعر الماغوط، حيث انكسار النماذج والتبدد اليومي في مدن شائهة وانتفاء المرجع سواء كان ذاتا او تاريخا، لغة او واقعا، وشيوع نموذج جمالي مداره الأساسي هو الذات المستلبة، الرافضة والمتمردة، المحاصرة في نهارات ضيقة ومكان محتجز.

ان أول ما يمكن ان نلاحظه في شعرية الماغوط، هو ان العقيدة، نقيضا لما يظن كثيرون، صادرة عن إرادة بناء وتنظيم واعية، ما يشكل القصيدة هو حركة النظام لا حركة الكلمات والصور، داخل هذا النظام لعب فردي حر بالتشكيلات اللغوية والبصرية والإيقاعية، وهنا أولى المفارقات وأكثفها: نظام وإرادة تنظيم للشكل، ولعبة تبدو مرسلة وعضوية واعتيادية.

ورغم امتلاك الشاعر طاقة اكتشاف الكلمات ودلالاتها المتعددة الا انه غالبا ما يحصرها في معان أحادية، كأنه يريد لعبة أخري: كلمات متعددة تحمل تناغما صوتيا مركبا ودلالات محددة محصورة أحيانا في مجالها المعجمي المتواتر، كأنه بغني الكلمات وثرائها الصوتي يود التخلص من زوائد المعني، او كأنه يرد الصورة بالكلمات الي أصولها الاولي حينما كانت طقوسا او حينما كانت تدل علي أشيائها دون معان اصطلاحية تكونت تدريجيا لها.

الكلمات هنا ـ في رهان مستحيل ـ هي الاشياء ذاتها، او هكذا يريد لها شاعرها ان تكون.

لقد كان شيلر كما نعرف، هو أول مفكر يعزو الي اللعبة قوة تفسيرية، وذلك في إطار محاولته تحديد وظيفة الفن ولكنها لدي الشاعر، هنا، لا تقتصر علي وظيفتها بوصفها ما يشكل العلاقة التوليدية بين الكلمات، بل تتعدي ذلك لتصبح المبدأ المولد للعمل الشعري، أي بوصفها ممارسة تفضي الي إنتاج النص، ويمكن هنا إجراء تحوير معين علي جملة شيلر الخاصة بالإنسان اللاعب، فنستبدل الشاعر بالإنسان في عبارته لتصبح الشاعر لا يلعب بالمعني الكامل لهذه الكلمة الا حينما يكون شاعرا، والشاعر لا يكون شاعراً تماماً الا حينما يلعب، هذا الاستبدال لا تفرضه القصيدة لدي الماغوط فقط وإنما تبرره كذلك، فاللعبة لدي الشاعر ليست ضرورة فنية قدر ما هي ضرورة وجودية، لقد واجه الماغوط العالم، من زاويته المحتجزة، بلعبة لغوية، حادة، حرة وعضوية ومرسلة، ولكنها، كما وشت، لعبة منظمة صادرة عن إرادة بناء وقصدية تنظيم.

وبشكل عام، يمكن اعتبار الماغوط شاعر مدينة بالمعني العميق، رغم أن عمالة المرئي لا تتجسد في مدينه ما.

هناك بالضرورة أشياء المدن وعلامتها، المقاهي والأرصفة والحوانيت، المصابيح والممرات والبيوت، لكن هذه الأشياء توجد مستقلة عن إطار مكاني يجمعهما، رغم ذلك فهناك مدينه غير مسماة وغائمة التفاصيل، عابرة ولها أسرارها، مطلقة متحولة تتخذ أشكالاً ومواصفات، ولكنها لا تحل كاملة في أي من صورها، وتظل نائية، مستقلة بذاتها ومنطوية علي نفسها، وهي تمثل نقيضاً لتجارب المدينة التي ألفناها في الشعر.
لقد كانت مدينة الستينيات، فيما يري محمود الربيعي، نقطة ارتكاز أبعد من كيانها المادي، حيث ارتبطت بالقلق الفردي والاستلاب الوجودي، مدينة البناء والسياج والبناء والسياج بلغة حجازي، المربعات والمثلثات والزجاج، المدينة الساكنة المصمتة، الجليدية، لقد توقف حجازي، الشاعر القروي، أمام المدينة بمعالمها المادية الترام والسيارة والمجنحة واللافتات المضاءة ومعالمها المعنوية السرعة والزحام واللامبالاة واستغرق في تجربة هجائية، ضدية، في حين يظل مغزاها العام ممتداً في الوصول إلي السيدة.

ولكن مدينه الماغوط ليست موضــوعاً يــقابل ذات الشـاعر، هي ـ بتعبير مختلف ـ ليست جزءاً من ثنائية تهميش الشاعر وتفضي إلي التغرب والانسحاق، ربما يكون النقيض إذا إعتمدنا الثنائية مدخلاً لقراءة العلاقة بين الماغوط ومدينته، فهي موضع إغوائه، كامرأة، تسعي إلي ملامسته والامتزاج به في لحظة وجد، وفي حالة ثانية، يري فيها شيئاً يولد، فيحتويها ويبغي تثبيتها، عصية علي الزوال والمحو، وفي تلك الحالة تكون المدينة نازفة، ويحملها الماغوط بداخله متوحدة به.

ولا يلجأ الماغوط عادة إلي المونولوجات الداخلية والتداعيات المرسلة، ولا يسعي إلي خلق معادلات للذات أو أقنعة، ولا توجد لديه استلهامات ما للتراث أو الأسطورة، وإن عالمه هو عالم السطح، عالم الموجودات المرئية، عالم الأشياء اليومية، الظاهرة، عالم السطوح والقيعان الموجودة والماثلة أمام الرؤية المباشرة بدلالات حدية، قاطعة، وأحادية، لا التباسات أو تأويلات.

وفي تعامله مع أشياء العالم وظواهره الجزئية تلك، يفتقد الماغوط أحياناً إدراك الكلية التي تنتظم بها الظواهر والمرئيات، فينقل الأشياء ولا يكتشفها، يرصد العالم ولا يراه، فضلا عن أن بناءه للصورة يتم أحيانا وفق منطق شكلي يراه، فتبدو الصورة حلية أو زينة مضافة، ومزدحمة ومختلطة، وربما يضيق عالمه ليصبح صيغا محدودة لها نمطيتها الخاصة، فتقف القصيدة عندئذ وقفة مرتبكة بين أرضين.
لكن الماغوط، وفي جميع حالاته، لا يتشابه أو يتكرر.
إنه نسيج واحد.

***

قَبْرٌ بَطِيْءٌ كَسُلَحْفَاةٍ

تحسين الخطيب

طَالَمَا عِشْرُوْنَ أَلْفَ مِيْلٍ بَيْنَ الرَّأْسِ وَالوِسَادَةِ
بَيْنَ الحَلَمَةِ وَالحَلَمَةِ
لَنْ أَعُوْدَ إِلَي المَسْرَحِ بِأَصَابِعَ مُحَطَّمَةٍ
وَالحِبْرُ يَنْزِفُ مِنْ غُرَّتِيْ عَلَي الجُدْرَانِ وَالقَاعَاتِ.
سَأَعِيْشُ هَكَذَا
زَهْرَةً يَرْوِيْهَا الدَّمُ وَتَقْصِفُهَا الرِّيْحُ
لِأَرْوِيَ ظَمَئِي العَمِيْقَ
إِلَي الرَّمْلِ وَالجُنُوْنِ..."
ـ أَوْرَاقُ الخَرِيْفِ، غُرْفَةٌ بِمَلايِيْنِ الجُدْرَانِ (1960)

بِهَذِا العُنْفُوَانِ المَهِيْبِ أَدْخَلِنِيْ المَاغُوْطُ، حِيْنَ قَرَأْتُهُ، أَوَّلَ مَرَّةٍ، إِلَي خَزَانَتِهِ الزَّرْقَاءَ، وَلَمْ أَخْرُج بَعْدُ. كَانَ، بِالنِّسْبَةِ لِي، وَلا يَزَالُ، شَاعِرَاً مَلْعُوْنَا، عَلَي شَاكِلَةِ إِدْغَار ألآن ?ُوْ، بُوْدْلِيْر، رَامْبُو، بَا?ِيْزِيْ، آنْ سِكْسْتِنْ، وَتِلْكَ العَائِلَةِ الطَّوِيْلَةِ المُنَاهِضَةِ لِكُلِّ مَا هُوَ امْتِثَالِيٌّ.
لَمْ يَكُنْ المَاغُوْطُ يَبْحَثُ عَنْ فُتُوْحَاتٍ شِعْرِّيَةٍ (وإِنْ فَعَلَ) بَقَدْرِ مَا كَانَ "بِبِضْعَةِ أقَّاتٍ مِنَ الحِبْرِ وَالكَسَلِ وَالفَوْضَي" يُؤسِّسُ لِقَصِيْدَةٍ نَافِرَةٍ، فَرِيْدَةٍ، مُتَوَحِّدَةٍ حُشِرَتْ - قَسْرَاً - فِيْ خَانَةِ مَا اصْطُلِحُ عَلَي تَسْمِيَتِهِ - خَطَأًَ - فِي الشِّعْرِيَةِ العَرَبِيَّةِ بِـ "قَصِيْدَةِ النَّثْرِ". هُوَ شَاعِرُ قَصِيْدَةٍ حُرَّةٍ لا تُشْبِهُ إِلاَّ صَاحِبَهَا. قَصِيْدَةٍ بِـ "رَائِحَةِ الضّمَادَاتِ المَنْزُوْعَةِ بَغَضَبٍ" تَسْقُطُ "بِهُدُوْءٍ... كَالمَنَادِيْلِ الحَرِيْرِيَّةِ" وَتُحَلِّقُ "كَغُيُوْمٍ لا أَرْجُلَ لَهَا".

فَفِي الوَقْتِ الَّذِي كَانَ فِيْهِ أُنْسِي الحَاج يُقَدِّمُ لَنَا - فِي مُقَدِّمِةِ لَنْ (1960) - قِرَاءَةً " لِقَصِيْدَةٍ "مُتَمَاسِكَةٍ، لا شُقُوْقَ بَيْنَ أَضْلاعِهَا"، كَانَ المَاغُوْطَ يُقَدِّمُ الشِّعْرَ مُجَرَدَّاً مِنْ أَدَوَاتِهِ التَّقْلِيْدِيَّةِ. الشِّعْرَ عَارِيَاً. الشِّعْرَ نَيْئاً. الشِّعْرَ المُتَدَفِّقَ، العَفْوِيَ، الَّذِي لَيْسَ لَهُ شَكْلٌ مُغْلَقٌ يَحُدُّهُ. كَانَ يُحَقِّقُ، عَبْرَ تَقْطِيْعِ القَصِيْدَةَ فِي أَسْطُرٍ، تَتَفَاوَتُ أَطْوَالُهَا، وَوِقْفَاتٍ قَصِيْرَةٍ حَادَّةٍ، تَتَفَاعَلُ فِيْهَا التَّمَاثُلاتُ وَالاسْتِعَارَاتُ الفِطْرِيَّةُ، ذَلِكَ الإِيْقَاعَ المُؤََثِّرَ الَّذِيْ يَسْعَي الشَّاعِرُ الكلاسِيْكِيِّ إِلَي تَحْقِيْقِهِ. فَلا مَعْنَي لِلْقَصِيْدَةِ، عِنْدَهُ، خَارَجَ اللَّغَةِ الَّتِي تُكَوِّنُهَا، وَلا وِحْدَةَ بِنَاءٍ لَهَا إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا تُحْدِثُهُ حَرَكَةُ النَّفَسِ مِنْ انْقِطَاعَاتٍ عَنِيْفَةٍ تَتِشَكَّلُ فِي عَنَاقِيْدَ عَلَي بَيَاضِ الصَّفْحَةِ.

لَمْ تَكُنْ دُمُوْعُ هَذَا الشّاعِرِ الَّذِي عَرِفَ مَوَاعِيْدَ صُرَاخِهِ جَيِّدَاً "سَماَداً لِأَزْهَارِ الآخَرِيْنَ". كَانَتْ فِي دَمِهِ "رَقْصَةُ ال?َالْس" وَفِي عِظَامِهِ "عَوِيْلُ كَرْبَلاء". وُلِدَ، وَمَاتَ؛ فِي فَمِهِ لُفَافَةُ تَبْغٍ، وَفِي يَدِهِ كَأْسُ نَبِيْذٍ. بَرِيَّاً، طَافِراً فِي الشُّرُفَاتِ العَالِيَةِ "سَفِيْنَةً وَعَاصِفَةً، غَابَةً وَحَطَّاباً". لَمْ تُرْغِمْهُ قُوَّةٌ عَلَي حُبِّ مَا لا يُحِبُّ، وَكُرْهِ مَا لا يَكْرَهُ. وَهَا هُوَ، الآنَ "بَيْنَ عَرَبَاتِ الرِّيْحِ... وَأَسْنَانِ المَطَرِ" يُقُوْمُ برحلتهِ المَلَكِيَّةِ إِلَي الشُّرْفَةِ، سَيِّداً لِلأَحْلامِ وَزَعِيْمَا لِلأَرَائِكِ الفَارِغَةِ... لَيْسَتْ مَأْسَاةُ المَاغُوْطِ فِي تَمَرُّدِهِ وَسُخْرِيَتِهِ السَّوْدَاء، بَلْ فِيْ كَوْنِهِ شَاعِرَاً عَظِيْمَاً فِي أُمَّةٍ تَتَوَزَّعُ حَيَاتُهَا بيْنَ "المَطْبَخِ وَغُرْفَةِ النَّوْمِ".

****

حياة مليئة بالغياب

زياد عدوان

لا أعرف متى غاب محمد الماغوط عن حياتنا.
ربما بدأ غيابه عندما قرر الاعتكاف في منزله مع كآبته، أو بدأ عندما تهكم الآخرون علي مزاج الشاعر، أو قد تكون بداية رحيله عندما توقفنا عن قراءته، وعن شراء كتبه و تشجيع أصدقائنا علي قراءته.
من أين للماغوط هذا الرحيل كله؟
هل بدأ رحيله عندما رحلت زوجته سنية صالح؟
في الآونة الأخيرة جرت العادة أن يتحدث الجميع ممن يهتمون بالشعر والمسرح، عن مزاج الماغوط واعتكافه وانتقاد الجوائز التي تمنح لاسمه دون أن يتطرق أحدهم للحديث عن نتاجه الشعري والمسرحي. بات الماغوط متداولاً في الجلسات والسهرات أكثر وأكثر كلما ازدادت أحاديثه الصحفية وجوائزه. واستمر الأمر بهذه الصورة، الماغوط يزداد مزاجية وجوائز واعتكافا، وتزداد المراهقة الساخرة والمستنكرة لوجوده ليعوما علي المشهد الشعري والمسرحي وعالم الجوائز في سورية. والتصقت تهم لها علاقة بالتنفيس وموالاة السلطة بمسرح الماغوط، وأصبح هذا المسرح أسير التصنيفات التي كانت تفرز ولا تزال تفرز المسرح إلي مسرح جاد من جهة ومسرح غير جاد أو هزلي أو تجاري أو ... أو ... أو.، فأضاع هذا التصنيف الفرصة لرؤية مسرحيات الماغوط بطريقة جادة أو علي الأقل الاستمرار بمحاولة مسرحية بدأها الماغوط وتعتمد البساطة والأنماط المسرحية، وانعدمت الدراسات الجادة عن مسرحه، وتجربته مع دريد لحام وكأن شأنها أقل من أن يدرس. وازداد الأمر سوءاً مع تهمة التنفيس وتشويه المسرح السياسي. وحتى أن المعهد المسرحي في دمشق تجاهل هذه التجربة كما تجاهل العديد من التجارب المسرحية علي قلتها، ولم تستطع أن تتناول مسرح أي كاتب بموضوعية بعيداً عن السجالات التي تدور حول مزاجيته، والآراء الشخصية عنه.
لا بد من الإضافة هنا أن تجربة الماغوط المسرحية كانت أسيرة الهم السياسي والهم العام كما هو حال المسرح السوري في الستينات والسبعينات. هذا الاتجاه السياسي للمسرح هو أحد الاتجاهات التي يمكن للمسرح أن يخوض بها ولكنها كانت الموضة المسرحية وقتها. وبالطريقة نفسها التي فرضت فيها السياسة والسياسيون أنفسهم علي كل المنازل والأحاديث والمشاعر السورية عبر تحريمها، فرضت السياسة نفسها علي المسرح. ومضي المسرح إلي الانتقاد والصراخ ومضي الشعر إلي الانكفاء والاكتئاب. فأصبح معني الشعر سوداوياً ومعني المسرح هو الثورة.

لا أريد من كلامي هنا أن أفضل بساطة تجربة الماغوط المسرحية علي التجارب الأخرى، ولكن لا بد من القول إن إلغاء مسرحه من المشهد المسرحي السوري (الشاب) هو أبعد ما يكون عن المسرح بصلة. ولا يمكن تجاهل البساطة والأنماط في المسرح لمجرد أن الرؤية المسرحية المنقوصة في دمشق والتي تتمتع بأربعة مسارح فقط لم ترد أن تقبل به كنوع من أنواع المسرح. والمفارقة أن من ينتقد الشمولية وإلغاء الآخر علي المستويين السياسي والاجتماعي بصخب مستمر هو نفسه الذي يلغي مسرح الماغوط من مناهجنا ومن ثقافتنا، كونه أبعد ما يكون عن رأيه بالمسرح وبالمسرح السياسي.
من المخجل الآن أن أقول إن غيابه الأخير سيكون السبب لعودتي لقراءته ومشاهدته مرة أخري، ولكن هذا ما حصل...
رحيل محمد الماغوط السابق والبطيء باعتكافه وكآبته لم يوقظ فضولي لأعرف هذا الشخص المعتكف في بيته والذي ينتقده من حولي، وبقيت مكاني أتعرف علي الماغوط عبر الأحاديث التي تدور حولي عندما أعود إلي سورية دون قراءته.
كم من المخجل لشاب من عمري يدرس المسرح أن يعرف عن حيثيات ثراء الفاسدين في سورية أكثر مما أعرف مسرح الماغوط وشعره.
من أين للماغوط هذا الرحيل كله؟
ومن أين يأتي الغياب بهذه القدسية كلها، وكيف لي أن أعتذر لشخص بهذا الرحيل؟
هناك الكثير من الأسباب التي منعتني عن قراءة الماغوط جدياً، ولم يكن هو أحدها، بل كانت غالبيتها متعلقة بما يدور حول الماغوط، ولهذا أعتذر لكل المحاولات المسرحية السورية.

****

العبد الآبق

محمود القرني
(مصر)

لم أتعلق بالكثير من تراث مدرسة شعر ، لأسباب ترتبط ـ علي الأغلب ـ بمنجزها الشعري في الكثير من تجلياته، بأكثر مما تتعلق بتراثها المتعاظم في تطوير وتهجين القصيدة العربية.
فعلي درجات التفاوت الواسعة بين الشعراء الذين قدمهم هذا التيار، تظل القيمة التحريضية ضد المتون المتكلسة والراكدة هي أهم هذه القيم تأثيرا في تطور النص العربي في الأربعين عاماً الأخيرة.
وربما أنضجت السنوات وعي كثيرين منا، لا سيما فيما يتعلق بالدوافع التي جعلت من مشروع محمد الماغوط الشعري خروجاً سافراً علي المقولات التليدة للمدرسة التي تربي في كنفها.
وأتصور أن الشعر العربي، في امتدادات كثيرة منه، تجاوز كثيرين ممن قدسوا تجربتهم داخل مدرسة شعر ، فهؤلاء الذين كانوا أكثر إخلاصاً للمقول النظري بدوا أكثر بؤسا علي الصعيد الشعري، وفي المقابل نجد صعوداً واضحاً للآبقين من أبناء المدرسة، هؤلاء الذين كانوا أكثر نكوصاً وضلوعاً في مؤامرات مجنونة تحولت بهم إلي الضفة الأخرى من الوعي.
فقد كان هذا الآبق ـ محمد الماغوط ـ واحدا ممن ضربوا عرض الحائط بمقولات جذرية لدي القرناء من قبيل التكثيف والمجانية والوحدة العضوية، وما ترتب علي ذلك من قصائد سيمترية تشابهت وتناسلت، وكانت المحصلة اقل قامة مما ينبغي.
في هذه الأجواء المشحونة استطاع الماغوط أن يؤلف بين اتشاحات واسعة ترتبط بوعيه الذاتي أولاً، ثم بوعيه بعناصر جوهرية مثل مفهومه للحرية وللوظيفة اللغوية وطاقاتها الممكنة، والوعي النقيض بمفهوم المجانية الذي كان من أكبر وأكثر الالتباسات التي أحاطت بقصيدة النثر ففيها تنفي أدبيات القصيدة أية غاية خارج ذاتها وتتماهى في الزمن المطلق باعتبارها بالأساس ضد مفهوم الزمنية، وكذلك ضد موقفها السلبي من مفهوم الغرض. يتجه الماغوط ـ في المقابل ـ إلي مفهوم أكثر اتساقا مع الوعي الجمعي الذي استمسك بغناء ناسه ودبيب أقرانه، ليتحدث، بفجاجة لا تخشي أحداً، عن هذه الأبقار والحمير الضالة وعن الحدادين والشيالين وعن العربي الكسيح، وعن أغلال الحكام الذين لم ينجحوا في كسر إرادته.
وينتقد بمرارة هذا التركيب الدعي الذي كتب عنه في إحدى مقالاته الطريفة التي ينتقد فيها المثقف العربي المفتون بالمقولات منقطعة الصلة بواقعها عندما أشار إلي أن بعض هؤلاء يعتقدون أنهم لكي يكونوا مثقفين لا بد من أن يستلقوا في حمام السباحة وهم يقرأون ماركس وإنجيلز ويتحدثون إلي خادماتهم عن الصراع الطبقي، ولا يألون جهدا في السخرية من كل ما يمت للشعوب بصلة، وليس غريباً علي هذا الوعي أن يقرر مستقبله قائلاً: أنا أكتب لكي أعيش .
بهذا المعني لم يكن نص الماغوط خطوة شديدة الأهمية نحو تخليص قصيدة النثر من أسر القاموس الفرنسي فحسب، بل كان بطبيعه الحال خطوة تعريبية مهمة تنفي ـ في واقع الأمر ـ الأهمية المعقودة علي كثيرين انتسبوا للريادة في قصيدة النثر مثل توفيق صايغ وجبرا وأمين الريحاني وعلي احمد باكثير وحسين عفيف وبدر الديب وغير هؤلاء.
فمن ناحية لا تبدو هناك أهمية معقودة علي وعي هؤلاء بالضرورة التاريخية لهذا النص ومن ثم فقد ولد علي أيديهم وهو فاقد لمبرر وجوده، ومن ناحية أخري لم يبرر النص حضوره جماليا لأسباب ربما تعلقت بموهبة هؤلاء من ناحية، ومن ناحية أخري بسبب وقوع هذه المشاريع في أسر مرجعيات متعدده أولها النص الفرنسي، وثانيها النص الإنكليزي في صورته الفيكتورية أما التيار الثالث فقد وقع في براثن المقامة العربية وسجع الكهان بزعم التأصيل والتجذير.
وفي المقابل كانت تجربة الماغوط أكثر إيمانا بأهمية الاكتشاف سواء كان ذلك علي مستوي لغته الشفيقة التي امتازت بجرأة الكشف والتوليد، في صيغ بلاغية غير مسبوقة دلاليا، أو علي مستوي وعيه بمفهوم الحرية، وهو وعي دفعه لتجاوز الأسقف التقليدية للثالوث العربي المحرم بامتداداته التاريخية والحاضرة، ويبقي لدي الماغوط هذا الاجتراح الذي أجراه علي المواصفات البائسة التي رافقت مشروع قصيدة النثر وأودت بالكثيرين في غياهبه، واكتشفنا مع حزن في ضوء القمر و الفرح ليس مهنتي بالاضافة لمسرحه الصارخ بكل المعاني التي تعالت عليها قصيدة النثر، أن التعقيد كان يسبق الظاهرة بكثير، وثمة حاجة ملحة لان يحترم النقد تبعيته ولا يتطاول الي هذه الحدود الاستثنائية.
كان هذا الاستشراف المبكر من الماغوط سببا كافيا ومبررا موضوعيا لخروج أشبه بالأسطورة علي إجماع ترهيبي كانت تنشره فصول الدرس الأول في مدرسة شعر وقد أنصف التاريخ القريب تجربة الماغوط وسط الضجيج الممض للحداثة العربية.
في المقابل تبدو هذه التجربة ضميرا ناقصا يقض مضجع الشعرية العربية الحديثة التي ارتبطت بقصيدة التفعيلة، والتي انتهي كثير من رموزها الي أسلاف يستعيدون الخطي المتعثرة التي بدأوا في أجوائها.
وثمة تصريحات مضحكة لعدد من هؤلاء الكبار تشير الي أنهم يقبلون بقصيدة النثر من أجل عيون محمد الماغوط فحسب، فيما يعني أن قصيدة النثر مرفوضة في الإجمال تحت تعلاًت رخوة نعرفها جميعا، ونضج من سخف تكرارها، وكأن درس الحرية الذي ألقاه الماغوط علي مسامع الكافة لم يلق صدي.
لذلك ستظل قصيدة الرجل أكثر طليعية وأكثر تقدما من مقولات مدرسة شعر ومن مقولات الرواد المهتزة التي تسير علي استحياء.
لقد كان الماغوط عبدا أبقاّ في معبد لايمنح البركة الا للأوابين، ولأنه عاش ومات في زمرة العصاة، فقد أطلق تراتيله بالطريقة التي أرادها لا بالطريقة التي أرادها لنفسه.

***

القرمطي الذي واجه الموت اثنين وسبعين عاما

محمد عبيد الله

أخيرا حقق محمد الماغوط رغبته في مواجهة الموت لمرة أخيرة، وهو الذي سخر منه وتلاعب به في شعره ونثره، كما لو كان الموت كائنا أو شيئا ملموسا قابلا للتجريد وللمحاورة. هكذا مضي الماغوط الي المقبرة لا ليخطف منها بعض جمله الشعرية بل ليستقر جسده فيها نهائيا، أما روحه فمن المؤكد أنها لن تجد مستقرا الا في عالم الشعر والسحر الذي يختلط بحالة من النبوة المجروحة المخذولة التي أتقن الماغوط رسمها ومعاودة النظر في تفاصيلها.
العودة الي السلمية
في مطلع شبابه غادر الماغوط (السلمية) الي دمشق ومنها الي بيروت ثم عاد الي دمشق مجددا، واستقر فيها معظم سنوات حياته. ولكن ها هو يلوذ بالسلمية من جديد كأنه يعود لأمه التي كثيرا ما كرر الحديث عن حنانها، وفي رواية (الأرجوحة) التي تشبه أن تكون سيرة للسجن وللحب، وكتبها في مطلع حياته ولكن نشرها تأخر الي سنوات قريبة، رسم للأم الريفية صورة مضيئة من الحنان والجرأة، وكيف ظلت تبحث عنه من مكان الي مكان لتنقذه من السجن والمعاناة، لتعيده الي الرحم مجددا وتنصره علي معذبيه وسجانيه.
ولد الماغوط كما هو معروف في قريته السلمية (من قري الريف السوري قرب حماة) عام 1934، وتتميز هذه القرية، فضلا عن فقرها وبؤسها كشأن الريف السوري والعربي ، بأنها من القرى القليلة المتبقية للطائفة الإسماعيلية التي يعد الماغوط واحدا من أبنائها. وفي مدارس قريته نال تعليمه البسيط، كما تعرف علي الأحزاب الشائعة آنذاك وخصوصا حزب البعث والحزب القومي السوري الذي أسسه أنطون سعادة، وحقق شيئا من النجاح في أوساط المثقفين السوريين واللبنانيين في أوائل الخمسينات، وقد انتمي الماغوط الي الحزب القومي السوري في بداية شبابه، ولكنه ظل يواري حكاية انتمائه ويغلفها بتسويغات ساخرة كلما سئل عنها، فيعيدها مثلا الي أسباب طريفة مثل وجود مدفأة في مقر الحزب القومي، وغياب المدفأة عن مقر حزب البعث، ولأن الحزب القومي أقرب الي مسكنه من الحزب البعثي، ولكن مثل هذه الإجابات والتعليلات الساخرة لا تكفي القارئ المدقق، ونستطيع أن نلاحظ أن انتماء الماغوط الي حزب أنطون سعادة لا يبتعد عما جذب المثقفين الي هذا الحزب دون غيره، كأدونيس وسعيد عقل وهشام شرابي وغيرهم في الفترة نفسها. ونتيجة لذلك الانتماء الحزبي يدخل السجن لمدة تسعة أشهر منتصف الخمسينات، ويكتب أبرز قصائده الأولي في سجن المزة الشهير، وكان أدونيس من السجناء السياسيين في الفترة نفسها، ولكن أدونيس لم يحوّل الشهور القليلة التي قضاها مع آلاف مؤلفة من السجناء الي مشكلة تهز الوجود كله كما فعل الماغوط، بل سرعان ما تجاوز هذه التجربة منطلقا الي آفاق أرحب من الشعر والفكر والمعرفة والحياة.
من العجيب أن تجربة التسعة أشهر التي عاشها الماغوط في السجن، تتقدم عنده علي كل اعتبار أو مؤثر آخر في تجربته، وكأن السجن قدم له فرصة نادرة لاستكمال رؤية كوارثية رثائية كان مستعدا لها منذ تكوينه الأول، فظل دائما مرتبطا بها لا يكاد يغادرها الا ليغرف منها. ويبدو لمن يقرأ شعره مرة بعد مرة أنه ذو تكوين شعري نادر يستدعي المأساة ويبث فيها مزيدا من الكارثية لتغدو ملائمة للشعر، أي أنه تدميري ومعذّب بطبعه ربما أكثر من وجود مسببات حقيقية في حياته أو ظروف بلده.

هامشية وصعلكة أصيلة

هامشية السلمية في الريف الفقير وهامشية الإسماعيلية كطائفة محدودة في محيط مغاير نسبيا ربما تكون وراء انحيازه المبكر والأبدي للهامش، حتى لو كان يمتلك فرديا كل مباهج المتن وحقوقه، انها هامشية مغروسة في الداخل العميق ولا سبيل للتخلص منها، وأبرز ما فعله الماغوط أنه نجح في تحويلها الي شعر طازج حي ومغاير لشعر عصره، فعندما حذفته الهامشية والفقر الي الشعر ظل رافضا لإغراءات الذوبان في المجموع ليس التزاما بموقف سياسي واضح (وهو الذي يسخر من الحزب والحزبية ويردد أنه فردي بطبعه)، وإنما لأن الهامش هو أضمن منطقة يمكن أن يمارس فيها مغامراته المواربة التي لا تتطلب أي التزام. كأنه يطلب حرية مستحيلة، لأنها حرية الشاعر العائد الي العالم الغجري الخالي من أي تنظيم، وهكذا اختار منطقة النثر دون أن يمر بالوزن، وربما دون أن يكون في نيته كتابة نصوص سيصنفها (تجمع شعر) أواخر الخمسينات ضمن قصيدة النثر التي كانت معركتها قد نشطت كعنوان لحداثة مجلة شعر في بيروت الخمسينات.
اشتهر الماغوط في حقل الشعر بأعماله الثلاثة الأولي: حزن في ضوء القمر 1959، وغرفة بملايين الجدران1961، والفرح ليس مهنتي 1970. ورغم أنه لم ينل تعليما متقدما وليس في سيرته أو حواراته أية مصادر ثقافية واضحة انطلق منها أو تأثر بها، فان تلك الأعمال كانت أمرا جديدا علي الساحة الشعرية، وفي سيرة الماغوط أن أدونيس هو الذي قدمه الي تجمع شعر في احدي جلسات الخميس التي كانت تعقد أسبوعيا، وتروي الشاعرة الراحلة سنية صالح (زوجة الماغوط ورفيقة روحه) هذه الحادثة في تقديمها لأعمال الماغوط فتقول: عندما قدمه أدونيس في أحد اجتماعات مجلة شعر المكتظة بالوافدين وقرأ له بعض نتاجه الجديد الغريب بصوت رخيم دون أن يعلن اسمه، وترك المستمعين يتخبطون: بودلير...؟ رامبو...؟ لكن أدونيس لم يلبث أن أشار الي شاب مجهول، غير أنيق أشعث الشعر وقال: هذا هو الشاعر . لا شك أن تلك المفاجأة أدهشتهم وانقلب فضولهم الي تمتمات خفيضة، أما هو ،وكنت أراقبه بصمت، فقد ارتبك واشتد لمعان عينيه. بلغة هذه التفاصيل وفي هذا الضوء الشخصي نقرأ غربة محمد الماغوط. ومع الأيام لم يخرج من عزلته بل غير موقعها من عزلة الغريب الي عزلة الرافض .

الشاعر المطبوع

للماغوط دهشة نادرة في شعره، الذي يبدو شديد الارتباط باليومي والتفاصيلي والمنسي، ورغم أنه لم يحظ الا بمستوي تعليمي بسيط ، حيث ترك المدرسة الزراعية في صباه المبكر مثل كثير من طلبة الريف، فقد غلبت عليه الموهبة والاستعداد للشعر، ولكن ذلك لا يعني أنه لم يسع لاستكمال عدة ثقافية وشعرية مناسبة، ويمكننا من خلال شعره، أن نلمس ولو بصورة متوارية آثارا للثقافة المذوّبة في قصيدته، ولكن الشائع والظاهر في قصيدته أنها نتاج التجربة الخالصة، لا الثقافة والقراءة، ويبدو أن الماغوط نفسه كان له نصيب كبير في إشاعة فكرة الشاعر الفطري الذي ولد موهوبا، نسيج وحده، دون مؤثرات.. ولكنها مسألة تحتاج الي نظر ومراجعة قد لا يكون هذا السياق ملائما لها.
الماغوط شاعر موهوب حقا، تجري في شعره أنهار من العذوبة المسننة، والعفوية الجارحة، وقد تمكن في مجموعاته الشعرية الثلاث أن يثبت اسمه في صورة أحد أعلام الحداثة الشعرية وقصيدة النثر تحديدا. في هذه الأعمال رؤية متكاملة تصدر عن قوس واحدة (كما يقال) تأخذ صورة رؤية كوارثية تنطلق من الواقع ومن اليومي والسياسي ولكنها تفككه وتحطّمه علي نحو صارم مراوغ، وتبدو قضية الحرية محركا أساسيا لكتابته، حتى دون أن يبلغ بها شعر الماغوط الي مستوي مستقيم من الوضوح كمعطي معرفي انساني.
وعلي المستوي التقني للشعر، يبدو معجم الماغوط معجما مألوفا بسيطا، ينتزع مفرداته من الشائع المألوف، وليس فيه أية ميزة أسلوبية من ناحية الانتقاء، بل يمكننا القول ان واحدا من أسرار قصيدة الماغوط أنها دمرت فكرة (اللفظ المنتقي) ومبدأ (المعجم الخصب) معجمه علي مستوي الكلمات محدود جدا وشديد الفقر، بمعني أنه يستخدم كلمات شائعة مما هو مطروح علي الطريق ويتجنب الارتفاع بلغته الي مستويات أعلي، ولكنه عبر تلك الكلمات المحدودة، يمتلك مهارة نادرة في بناء الجملة الشعرية والمشهد الشعري، انه مثل قناص ماهر وحكيم، يمتلك طلقات قليلة لكنه يتقن التصويب، فيصيب بطلقاته القليلة ما لا يصيبه صياد أو قناص آخر يحمل سلاحا حديثا كثير الطلقات، لكنها تتناثر ولا تصيب أهدافها. الجملة عند الماغوط تركيبيا ودلاليا، هي سر حرفته الشعرية، جملة تميل الي القصر، تشبه الطلقة أو السهم، وهو عموما لا يميل الي الجملة الطويلة، ولا القصيدة الطويلة، انه يوحي للقارئ بالضجر من الإطالة في أي شيء، انها مرة أخري: مهارة القناص في إطلاق الجملة ـ السهم، قصيرة ومدببة وجارحة، تصيب هدفها بقوة، أما كيف يتشكل ذلك فغالبا من خلال وضع الكلمة في سياق غير متوقع، وهو ما يقترب من مفهوم (الانزياح) أو (الانحراف ) عند الأسلوبيين، يفاجئك بجمل غير مألوفة، مبنية من الشائع المألوف، ويعتمد غالبا علي تراكيب العطف والإضافة والصفة والنداء نحويا، وعلي التشبيه في مجال الصورة ..العلاقات بين الكلمات هي الجديدة عنده وليست الكلمات نفسها:

كنت أود أن أكتب شيئا
عن الاستعمار والتسكع
عن بلادي التي تسير كالريح نحو الوراء

في هذا المقطع يتداخل المألوف بغير المألوف، الكلمات العادية والتراكيب المألوفة، ولكنه يبث في بساطتها روحا جديدة متدفقة، كما في تركيب العطف الذي يجمع بين الاستعمار والتسكع، ولو اكتفي بإحداهما لكان التعبير من المألوف العادي، والجملة الثالثة فيها تشبيه: كالريح (دلالة السرعة) ثم السير المعاكس الي الوراء، مع أن السير المألوف الي الأمام .. هذه الطريقة في كسر التوقع باستخدام لغة شائعة محببة هي من ميزات أسلوب الماغوط، الذي استخدم اللغة اليومية البسيطة وبث فيها شاعرية عالية.
منذ (حزن في ضوء القمر) وقصيدة (القتل) التي تمثل أول قصيدة عبرت بصاحبها الي هذا العالم المدهش، اكتشف الماغوط طريقه، البساطة والصدق ومظهر العفوية، مع المحافظة علي عنصر الإدهاش الذي لا يتأتي من السخرية أو الغرابة، بل من كسر المألوف بالمألوف، ومن خلال تغيير العلاقات بين الكلمات والأشياء.
كثير من جمل الماغوط تظل في الذاكرة أشبه بحكم مجنونة حادة: (انني مليء بالحروف، والعناوين الدامية) أو (أيها الحزن، يا سيفي الطويل المجعّد) أو (سئمتك أيها الشعر، أيها الجيفة الخالدة)، هذه الطريقة الحادة في تكثيف الجملة الشعرية وفي غرابة المعني لا تتأتي من غموض التعبير ( كما هو الشائع في الشعر الحديث ) بل من جدة المعني، المعني الجديد، الاكتشاف الجديد هو ما يستهويه ، وليس الغموض.. الغرابة كما يبدو عند الماغوط تختلف عن الغموض، وهو يميل الي الغرابة وينفر من الغموض، وهكذا يجمع بين الشاعرية والبساطة، ويسمح لبؤرة الشعر ولنصاله أن تلمع أو تضيء.

الخارجي المتمرد

ورغم أن الماغوط وفق شهادة سنية صالح ( رفيقة عمره وشقيقة خالدة سعيد ) قد انطلق كاسم شعري من تجمع شعر ، فان الماغوط خرج مبكرا علي هذا التجمع، وسخر منه، بما يذكر بسخريته من الحزب القومي السوري الذي انتظم في صفوفه وسجن بسبب انتمائه اليه، ويومئ في نقده اللاذع الي ابتعاد تجمع شعر عن التراث وولعهم المفرط بكل ما هو قادم من الغرب، يقول الماغوط " قل لأحدهم ثلاث مرات : المتنبي.. يسقط مغشيا عليه، بينما قل له وله علي مسافة كيلو متر : جاك بريفير.. فينتصب ويقفز عدة أمتار عن الأرض كأنه شرب حليب السباع، لأن هذا غربي وذاك عربي".
ولا شك أن هذا النقد الساخر ليس الا أحد أسلحة الماغوط في مواجهة التجارب والأحوال التي تمر به، حتى لو انتفع منها ، ورغم ما يواجهنا في شعره وكتاباته من صدق حاد وعفوية إنسانية ، فان تكوينه النفسي، ومزاجه الحاد المتعكر، إضافة الي إغراقه في الخمر كان يحوّله الي إنسان فيه شيء من شبهة الاستعلاء وقلّة الوفاء. حتى للأصدقاء والمقربين منه .. ولكن لأن الجميع يعرف مزاجه ويقدر شعره وموهبته فلم يحاسبه أحد علي إغراقه في السخرية ممن أعانوه وساعدوه في مسيرته. ولعل الماغوط القادم من الهامش ( طبقيا وثقافيا ) كان يري قوّته القصوى في كلمته وجملته، وينتظر أن ينهض الجميع بواجبهم تجاه موهبته، كل من في العالم ينبغي أن يحتفل الي ما لا نهاية بالشاعر النادر صاحب الكلمة الجبارة.. هذا الإحساس المتواري بالتفوّق هو الذي يفسّر ما سميناه بقلة الوفاء، اذ يكشف شعره عن اجتماع الهشاشة المرتبطة بالتكوين (تعليما وفكرا وحياة وانتماء) مع قوة الشعر وسلاطته، ومن هذه الثنائية تتشظي الروح الباحثة عن مستقر لها في عالم لا يسير حسب هواها ووفق متخيلها، وهكذا يحول الماغوط العالم الي كرة خرقاء يركلها في الحلم كيفما يشاء ، يسيطر عليها باللغة والجملة الشعرية القاسية المدببة.

الماغوط والمسرح وكتابات أخري

لم يكن الماغوط شاعرا فحسب بل كان مسرحيا مميزا في مشواره مع دريد لحام في مسرحيات نالت شهرة شعبية واسعة: غربة، ضيعة تشرين، كأسك يا وطن..وآخر أعماله مسرحية عرضت مؤخرا في دمشق هي مسرحيته: قيام جلوس سكوت، كما أعدت بعض الأعمال المسرحية عن كتابه الشهير: سأخون وطني. وقدم مع دريد لحام أفلاما معروفة: التقرير، الحدود. وكتب للتلفزيون دراما: وادي المسك، و وين الغلط وغيرها. وله مسرحيات أدبية نخبوية منها: المهرج، العصفور الأحدب. أما آخر كتبه فصدر مؤخرا باسم: البدوي الأحمر. من عناوين كتبه يمكن الإطلالة علي عالم الرعب الذي رسم ملامحه.

في ديوانه: غرفة بملايين الجدران كتب الماغوط:
سأعيش هكذا
زهرة يرويها الدم وتقصفها الريح
لأروي ظمأى العميق
الي الرمل والجنون
للتشفي من بلاد حزينة
تتأرجح أسنانها كالحبال علي مدخل التاريخ

هكذا كتب وهكذا عاش، ساخرا كئيبا يتقن بلاغة السخرية السوداء، ويحول الحياة اليومية الي شعر حاد مدبب، سيظل الناس يقرأونه زمنا طويلا ويتذكرون الماغوط شاعرا قرمطيا جديدا الي الأب

القدس العربي
2006/04/15