عن الأميركية ترجمة وتقديم أمال نوّار
(لبنان/أميركا)

نعومي شهابفي المشهد الشعري الأميركي المعاصر، تبدو أعمال "نعومي شهاب ناي" من بين الأعمال الأكثر حميمية وألفة وخصوصية، نظراً لنهلها من قاموس الحياة العادية، وإستشفافها البعد الشعري في أكثر مفرداته عرضية وثانوية. "هي دائماً تستخرج الذهب من الشيء العادي" كتب فيها أحد النقاد. البساطة والعمق هما ما يمنحان شعرها دفئاً رحمياً آمناً، وبعداً ميتافيزيقياً تكاد لا تخلو منه مفردة حياة واحدة في قصائدها مهما بدت سطحية. لأشعارها روح مائية، تتعدى ملكاتها الشفافيّة والصفاء والترشّح والجريان، إلى القدرة على التسرّب، غفلةً، إلى أعمق المشاعر. تأثرّت بأشعار وكتابات كل من و.س. مروين، وليام ستافورد، كارل ساندبيرغ، وجاك كيرواك، وهي على غرار ستافورد، استطاعت اكتشاف وإضاءة الباطن المُدهش لظاهر الأشياء العادية لتحيلها إلى معجزات صغيرة، ولتمرّر عبرها رؤاها وأفكارها، بحكمة وبساطة، وبعيداً عن المنحى الوعظي المباشر. ولدت نعومي شهاب ناي عام 1952 لأب فلسطيني وأم أميركية. ترعرت ما بين مدينة سانت لويس من ولاية ميزوري والقدس القديمة، لتستقر لاحقاً في ولاية تكساس. شعرها يعكس هذا الإرث المتنوع الذي منحها سمة الإنفتاح على تجارب الآخرين وشعوراً بالإستمرارية رغم كل الحدود. لها ما يفوق العشرين مؤلفاً ما بين الشعر والنثر والمقالة والرواية وأدب الأطفال والأنطولوجيا الشعرية وغيرها. من أعمالها الشعرية: "أنت ولك" 2005، "19 صنفاً من الغزلان: قصائد الشرق الأوسط" 2002، "وقود" 1998، "كلمات طي الكلمات" 1995، "حقيبة حمراء" 1994، "قفاز أصفر" 1986. حازت العديد من الجوائز الشعرية والتكريمات، وهي من دعاة السلام، وناشطة فاعلة في مجال العمل الإنساني الخيري والإصلاح الإجتماعي. حالياً تقيم مع عائلتها في مدينة سان أنطونيو من ولاية تكساس وتقوم بالتدريس في جامعة تكساس، أوسطن.

هنا ترجمة لبعض قصائدها ومقتطفات من حوار أجراه معها الإعلامي الأميركي "بيل مويرز" ونشر من ضمن مجموعة حوارات مع شعراء عدة في كتاب بعنوان "لغة الحياة".

فن التواري

عندما يستوضحون، ألا أعرفكَ؟
قلْ لا.
عندما يدعونكَ إلى الحفلة
تذكّر ما تكون عليه الحفلات قبل الإجابة.
أحدهم يخبرك بصوت صارخ أنه ذات مرة كتبَ قصيدة.
قِطَع نقانق منقوعة بالدهن على طبق ورقي،
آنئذٍ أجبْ.
إذا أردفوا، لا بدّ أن نلتقي،
قلْ لماذا؟
ليس أنّكَ لم تعد تحبهم بعد الآن،
إنما أنتَ تحاول تذكّر شيء بالغ الأهمية كيما يُنسى.
الأشجار، جرس الدير عند الغروب.
أخبرهم أنك في غمار مشروع جديد لن ينتهي إنجازه أبداً.
عندما يتبيّنكَ أحدهم في محل للبقالة،
اومىء برأسكَ خاطفاً، واغدُ رأس ملفوفة.
عندما شخصٌ ما، لم تره منذ عشرة أعوام يظهر لدن الباب،
لا تشرع بإنشاده كل أغانيكَ الجديدة،
لن يسعكَ إدراك ما فات قط.
اخطرْ في مشيتكَ وشعوركَ أنكَ ورقة نبات.
اعرفْ أنكَ قد تنهار في كل لحظة.
بعدها، قرّرْ ما ستفعله بوقتك.

***

مويرز: كيف حصل كيما أشياء يومية عملية من قبيل قفازات وشوك وعروات أزرار وبكرات وغيرها، تجد طريقها إلى الكثير من قصائدكَ؟

ناي: هذه الأشياء الملموسة الصغيرة هي ما أعيش معه. أنا مشدودة إليها. هي نقاط جاذبية. مذ كنت طفلة صغيرة، شعرت أن الأشياء الجماد حكيمة جداً، تنطوي على نوعها الخاص من الحكمة، على شيء تلقنني إياه فقط حينما أرعيها اهتمامي المناسب. قصائد وليام ستافورد وقصائد العديد من الشعراء الآخرين التي أحببتها في حياتي، تعيدنا إلى أشياء العالم؛ الأشياء التي غالباً ما يُغفل عنها، هذه القصائد كلها تقول: " توقّف قليلاً، سجّلْ ملاحظة، ثمة حكاية تُقصّ عبر هذا الشيء". لا أنظر إلى أي شيء في وصفه ثانوياً. أعتقد أن هذه هي هبة أخرى للشعر أُغفل عنها. أحياناً كثيرة، يتصّور الناس أن الشعراء ينتظرون تجربة ما، عارمة، كيما تهزّهم، لكني أعتقد أن اللحظات الأصغر هي الأكثر روعة. هذه هي الحكمة التي كل هذه الأشياء الصغيرة، تعلمها.

الرجل الذي يصنع المكانس

هكذا إذاً، تأتي أنتَ وهذه الخرائط في رأسكَ
وآتي أنا وأصوات تعنّفني كي "أنطق بلسان حال شعبي"
ونغذي السير من حولنا كحرّاس ذاكرة
حتى نجد الرجل على الكرسي الواطئ
الذي يصنع المكانس.

إبهام فوق إبهام، قشّة فوق قشّة، لن ينظرَ إلينا.
في زاويته الحجرية، بالكاد ثمة متسع لسلالٍ وخيط،
وبقدر أقل بكثير لثقل وجهينا المحدّقين إليه من الشارع.
ما خسره أو لم يخسره لهُوَ سرّه.

أنتَ تقول أنه مثل كل الرجال،
الرجل الذي يبيع الفستق، الرجل الذي ينشر بُسُطه.
أكبر سناً الآن، أنتَ تجد قداسة في كل شيء يدوم، حلماً بعد حلم.
أنا أقول أنه مثل لا أحد، اللفة الأنيقة التي يحبكها
على الوجه المسطّح الذهبي لهذه المكنسة
هي مقامه المقدّس، ولتتغاضَ عن الدموع.

في القرية، الأعمام سيرفعون كوفياتهم عن دشاديشهم ليقولوا،
لا مكانس في أميركا؟!
والفتيات اللواتي ينحنين لكَنس فناء الدار
سيتوقفن لبرهة ويملن برؤوسهنّ.
هي أغنية صغيرة، هذه الإبهام فوق الإبهام،
لكن أحياناً، عندما تنتظر سنين كيما ينشقّ الهواء وينبثق وعيٌ
فإنها لربما الأغنية الوحيدة.

***

مويرز: تقولين في الرجل الذي يصنع المكانس، أنه يجد "قداسة في كل شيء/ يستمر، حلماً بعد حلم". قداسة في ماذا؟

ناي: في حالته، كرجل فلسطيني في مدينة القدس القديمة، فإنه يجد قداسة في استمراره في ممارسة عمله بخصوصية فائقة، وإتقان، وجمالية عالية، في ظل ظروف يومية للإحتلال شديدة الصعوبة. بالنسبة إليّ، هذه قصيدة سياسية، تماماً مثلما هو في نظري فعلٌ سياسي أيضاً، أن تستمر في فعل شيء صغير جداً بأناقة وإتزان. الطريقة التي عقد فيها الخيط، الطريقة التي كان فيها حانوته مرتباً حيث القش في الدلاء، كل شيء في حالة جهوزية. لقد كان معلماً في صنع المكانس. في العديد مما أعتبره من قصائدي الأكثر سياسية حول فلسطين والفلسطينيين، أشعر أني ركّزت على علاقتهم بالحياة اليومية. حتى تحت الظروف الأكثر ضغطاً وفظاعة، فإنهم حافظوا على شرف الإستمرارية، يوماً بعد يوم، حلماً بعد حلم.

شهير

النهر شهير للأسماك.
الصوت الصاخب شهير للصمت
الذي أدرك أنه سيرث الأرض
قبل أن يقول أي شخص بذلك.
الهرّ النائم فوق السياج شهير للعصافير التي ترقبه من بيتها.
الدمعة شهيرة لأمد قصير للخدّ.
الفكرة التي تضمها بحميمية إلى صدرك شهيرة لصدرك.
الجزمة شهيرة للأرض، أكثر شهرة من الحذاء الرسمي
الذي هو شهير للأرضيات فقط.
الصورة المطوية شهيرة للشخص الذي يحملها
وليست شهيرة إطلاقاً للشخص المصوّر فيها.
أودّ أن أكون شهيرة للرجال الذين يجرّون الخُطى
الذين يبتسمون وهم يجتازون الشوارع،
للأولاد العرقى في صفوف متاجر البقالة،
شهيرة كالشخص الذي يبتسم في المقابل.
أودّ أن أكون شهيرة بالطريقة التي تكون فيها بكرة شهيرة،
أو عروة زر، ليس لأنها قامت بفعلٍ مُذهل،
بل لأنها لم تنسَ قط ما في وسعها فعله.

***

مويرز: أرى الآن لماذا أحببت قصيدتك "شهير". أنتِ تكتبين عن رغبتك في "أن تكوني شهيرة على غرار ما تكونه بكرة شهيرة أو عروة زر..."، تمهّل لحظة، هجستُ! عروات الأزرار والبكرات هي أدوات مغمورة صغيرة، في حين أن الشهرة ترتبط بالنجومية.

ناي: أعتقد مجدداً أنها الطاقة. أنتَ تثق بعروة زر، أليس كذلك؟ ألا تثق ببكرة في أن تعرف ما الغرض منها؟ البكرة أداة حكيمة، حاذقة، وجد مفيدة وهامة. هذه القصيدة هي ببساطة تعيد التمعّن في كلمة "شهير". في أحيان كثيرة، عندما أقوم بزيارة مدرسة ابتدائية، والتلاميذ يوجّهون أسئلة، فإن السؤال الأول الذي يطرحونه: "هل أنتِ مشهورة؟" كتبت هذه القصيدة رداً على سؤالهم. قلتُ، "كل شيء شهير إنْ أرعيتموه انتباهكم. ورقة الشجر هذه، المرمية هنا، شهيرة إذما التقطتموها."

البصلة المرتحلة

"الإعتقاد السائد، أن البصلة جاءت أصلاً من الهند. في مصر، كانت غرضاً للعبادة- لماذا لم أستطع اكتشاف ذلك. من مصر دخلت البصلة بلاد اليونان ومن ثم إيطاليا، ومنها إلى سائر أرجاء أوروبا."

من "كتاب الطبخ لأجل حياة أفضل"

عندما أفكّر كم من المسافات قطعت البصلة
فقط كي تضحي في يخنتي اليوم، أستطيع أن أركع وأمجّد
كل المعجزات الصغيرة المنسية.
ورق هشّ يتقشّر على لوح التجفيف،
طبقات لؤلؤية في انسجام ودّي،
في الطريقة التي فيها تباشرُ سكينٌ بصلة
فيما البصلة تنفرط على خشبة الفرْم،
إنما تاريخاً ينكشف.

ولن أعيبَ البصلة أبداً لتسبّبها بالدمع.
من العدل أن تنهمر الدموع لأجل شيء صغيرٍ ومنسي.
كيف وقت الطعام نجلس لنأكل
منوّهين بنوعية اللحم، أو بالنكهة العشبية،
لكن أبداً ليس بشفافية البصل،
الليّن الآن، المتفرّق الآن،
أو برسالته المهنية المشرّفة تقليدياً:
في سبيل الآخرين،
يتلاشى.

***

مويرز: "البصلة المرتحلة" هي واحدة من أحبّ القصائد إليّ. ما الذي يجعل من البصلة "معجزة صغيرة منسية"؟

ناي: البصلة كليّة الوجود عبر ظهورها في أمكنة عدة وفي وصفات طعام مختلفة.هذا الإقتباس الذي تُستهل به القصيدة، مأخوذ من "كتاب الطبخ لأجل حياة أفضل". لقد أحببت الطريقة التي مجّد فيها تاريخ البصلة. لقد جعلها تبدو أنها تنقلّت في كل مكان كي تصل إلى البلدان الموجودة فيها الآن؛ تاريخ البصلة بدى كأنه واحد من تلك الأشياء التي فعلاً لم يأتِِ على ذكرها أحد. الناس يتحدثون عن الطعام عندما يتناولون وجبة شهيّة، لكن كم من المرات يثنون على بصلة؟! ثم انظرْ كيف البصلة مبنيّة- عظمتها، توليف طبقاتها- لقد قرأت العديد من القصائد الرائعة التي يلجأ فيها الشعراء إلى استخدام البصلة كاستعارة متقنة، متأنقة، للدلالة على البشر، الحياة، الزمن، ومع ذلك فإنها شيء شبه منسي في ذاتها وبسبب منها. البصلة تتلاشى لتضحي جزءاً من طعامنا، فنحن لا نجلس لنأكل بصلة وحسب كيما نرعيها بعض اهتمامنا.

مويرز: ورغم ذلك، فإنها تخلّف مذاقها، تساهم بدورها.

ناي: إنها تساهم، لكنها أيضاً تتلاشى. أظن أن لديّ هوساً بالتلاشي.

مويرز: فعلاً، أنتِ كذلك.

القصائد في النهار
13 أيلول 2006