باريس ـ أنطوان جوكي

(الشاعر ابولينر جريحاً في الحرب العالمية الأولى.)

المعرض الذي يُقام حالياً في متحف "تاريخ الحرب العظمى" للشاعر الكبير غييوم أبولينر (1880 1918) هو بدون شك الأول الذي يُخصص للفترة الأخيرة من حياته. فمن خلال عشرات الوثائق الأصلية التي تتألف من صور ومخطوطات ورسائل وكتب ورسوم وأشياء خاصة يُعرَض معظمها للمرة الأولى، يحاول القيّمون على هذا المعرض رواية حياة الشاعر ـ المقاتل بين عامَي 1914 و1918 وإظهار العلاقة المباشرة بين تجربته اليومية كجندي على الجبهة وكتابته الشعرية التي، بدلاً من أن تتوقّف، استمدت مادتها من وقائع الحرب بعبقرية فريدة وحسٍّ إنساني نادر.

ففي كانون الأول عام 1914، يتطوّع أبولينر، البولوني الأصل، في الجيش الفرنسي لمدّة الحرب ويطلب الهوية الفرنسية. وكان آنذاك في قمة إبداعه ونقطة التقاء الطليعيين في العالم. ومثل كثير من الأدباء والفنانين الأجانب، سيختار الدفاع عن فرنسا التي اعتنق لغتها وثقافتها لاعتباره باريس مُلتقى الإبداع العالمي وفرنسا رأس حربة الحضارة. وسيقبل الشاعر الذي كان يقود موكب الفنانين والشعراء ويتمتع بشهرة قل مثيلها وبحضور نسائي دائم حوله، بالذوبان داخل خفاء العمل الجماعي، مسلحاً بزادٍ مزدوج: الحب والشعر.
وفي 6 نيسان 1915، يصل أبولينر إلى الجبهة في مدينة شامبانيا تاركاً خلفه الجنوب الفرنسي وعشيقته لو دو كولينيي. وسيكتشف المبدع الذي كان يشتعل بنار الشعر المضطرمة سماء الشمال الرمادية والخطر والموت. كما يختبر ذلك الذي كان ينشد: "لا شيء مشترك بيني وبين الذين يهابون الحروق"، معمودية النار ما أن يصل إلى الجبهة. ولن يلبث أبولينر المدفعي ثم جندي المشاة أن يشبه جميع المقاتلين. فأسلحته كانت المدفع والبندقية والقنبلة والخنجر، وعتاده كان يتألف من قناع الغاز وخوذة ولباس عسكري أزرق. ومن ضابط صف سيُرقى بسرعة إلى ضابط ويتميّز "برباطة جأش وشجاعة في جميع الظروف"، كما يشهد عليه التنويه الذي حصل عليه في حزيران 1916. ومن جهته، يصقل الشاعر أبولينر أسلحته الخاصة: الحلم والمراسلة والرسم والشعر وحب خطيبته مادلين باجيس. وهي أسلحة دفاعية مثل قناع الغاز والتمويه وبزّته العسكرية الحاضرين في جميع القصائد التي كتبها من الجبهة. وبالفعل سيغذي الشاعر إبداعه المتواصل بالوقائع الحربية بدون تعظيمها، "كي لا يفقد الجمال حقوقه". فبالنسبة إليه، الشعر والحياة هما، أكثر من أي وقت مضى، شيء واحد. شاهد وعلى الرغم من مظهر أبولينر المثالي كمحارب، إلا أنه بقي في العمق فريداً ومبتكراً حاذقاً. إذ ستثير أعماله المنشورة بين عامَي 1915 و1918 الجدل باكراً، خلال الحرب وبعدها. وسينعته البعض بالخفة وعدم الأصالة، والبعض الآخر بحبّ الحرب، متجاهلين أن هذا الكائن المتغيّر الشكل هو أفضل شاهدٍ على عصره، يتميّز بوطنية بعيدة كل البعد عن القومية المتزمتة أو التطرف. وكتاباته ليست شهادات بطولية بالمعنى السلبي الذي وُصفت به آنذاك. فمخيلته التي تتسم في المرحلة الأولى من الحرب ببُعدٍ فروسي أكيد ستنحسر بسرعة أمام هول الصراع ونتائجه المأسوية وتتحول إلى مصدر إزعاج بنظر الضمير التاريخي. وبالفعل يتضمن شعره فكاهة تتناول الحياة بعنف وقسوة، وتعبره ابتسامات صفراء ونزواتٍ أصيلة تشذ عن النظرة المألوفة للحرب. أما غنائيته وطموحاته الشعرية فتشن معركة غير متكافئة على الدمار المريع.

خلال هذه الحرب، سيتعلم أبولينر على حسابه بأن النار تدمّر أكثر مما تطهّر. فهل الشعر لا يزال قادر على إنقاذ كل شيء؟ يأمل الشاعر بقوة في ذلك ويسعى في هذا الاتجاه حتى آخر رمق من حياته: "الحرب بالذات زادت من طاقة الشعر فيّ، وبفضل الاثنين معاً تختلط السماء بعد الآن مع رأسي المنجّم". كما تجدد قصيدته الأخيرة "الصهباء الجميلة" الاهتمام بالعقل الملتهب والشعلة الخلاقة. لكن الشاعر سينطفئ في 9 تشرين الثاني عام 1918 بفعل الغازات التي استنشقها وجرحه البليغ والحمّى الأسبانية، بدون أن يعرف السلام. ولحسن حظنا تبقى أشياؤه الخاصة التي حوفظ عليها بعناية ورسائله المؤثرة التي كتبها على عجلة في الليل وقصائده التصويرية )كفٌٌىهْفٍٍمَّ( التي نقرأ داخلها حركة الحياة والموت معاً وأبياتٍ تشتعل بحبٍّ لا ينضب وتبكي الألم والجنون. قصائد تُشكّل إلى حد اليوم مرجعاً ثابتاً للحداثة الشعرية.

أعماله

وليس صدفة وضع أبولينر الحرب العظمى تحت شعار "الحفلة الراقصة". فالرقص بالنسبة إليه ليس متعة بريئة. وحيث هنالك رقص، هنالك امرأة وبالتالي خطر وموت. وتحالف الرقص والموت له اسم في الفن: رقص المقابر )ٌف لفََّم ٍفكفقْم(. ومنذ أبحاثه الشعرية الأولى، ينخرط أبولينر في تقليد هذا الرقص. وتمثّل قصيدته "منزل الأموات" بامتياز هذه الألفة السعيدة بين الأحياء والأموات. وحتى كامل ديوانه "كحول" الذي تنتمي إليه هذه القصيدة يمكن أن يُقرأ كرقصة مقابر مسكونة بالأشباح الواقية. وللانطلاق بالرقص، ينتظر الفارس اختباراً خطيراً. إذ عليه مواجهة الموت بالذات، الذي يدير الرقص. وخلال الحرب، يدخل الشاعر مباشرة حلقة رقص المقابر ويستمع إلى الموسيقى المُسكرة لطبول الحرب. يرقص مع الموت كامرأة تغازله عند حدود الغابة وتمنحه "ثدييها الجميلين الذهبيين". وكما في كل حفلة راقصة، ينبهر المشاركون بكم من الأنوار، تماماً مثل ليالي الحرب التي تضيئها الصواريخ والطلقات النارية القاتلة. وفي هذا السياق، تنبأ الشاعر مسبقاً بموتٍ يأتيه "كإعصار صافر" يحمله خارج العالم وكواكبه.
وإذا كانت قصيدة "الفتاة والموت" هي التي تجسّد موسيقى ديوان "كحول"، ينتشر في كامل ديوان فٌٌىهْفٍٍم الشعري الحربي ضجيج قصيدة "السيمفونية الخارقة". ففيه يقول الشاعر: "خلال الحرب، ذهبنا إلى أبعد حدود في فن الاختفاء"، ويقصد بذلك فن التموّيه )كفٍُِّنٌفهم( الذي يمكن مقارنته بالفن التكعيبي نظراً إلى أن الفنّين يعتمدان على إرباك النظر من خلال تشويش الحدود بين الشيء الحاضر ومحيطه. وتستحضر هذه الكلمات أيضاً نوعاً آخر من الاختفاء، ذلك الذي وقع ضحيته جميع الذين قتلوا خلال هذه الحرب (تسعة ملايين نسمة). كما يُطبّق أبولينر في قصائد هذا الديوان استراتيجية تمويه شعري تحجب النبرة الايجابية فيه تعبيره عن الحقيقة المحزنة. إذ يُصوّر الشاعر حجم المجزرة الهائل، لكن ردّة فعله تتميّز بتحفّظ مصبوغ بالسخرية والدعابة السوداء اللتين لم يقبلهما جميع قرّاء هذا الديوان. وبفضل الأبحاث النقدية التي خُصصت له خلال الربع الأخير من القرن الماضي، أصبح من السهل فهم شعر أبولينر وفكره اللذين تأثرا باكتشافه التدريجي للحرب. وبالفعل يكمن أحد إسهامات هذا الديوان في إشراكنا بمغامرة هذه الحرب المتعددة الأبعاد بشكلٍ مباشر ويومي. وإذ لا يسعنا هنا ذكر جميع تفاصيل الشبكة الواسعة من المراجع الحربية التي يتضمنها هذا الديوان، ندعو القارئ إلى قراءة قصائد مثل "تسديد" و"إلى إيطاليا" و"تزامن" و"قطن في الآذان"، متوقفين فقط عند قصيدة "بحرٌ من اليابسة" التي كتبها أبولينر بعد تأقلمه مع الواقع المرير داخل خنادق الجبهة، ويقول فيها: "في الواقع، لا يمكن لأي كاتب أن يقول الرعب وحياة الخنادق الغامضة". وسيستخدم داخلها جميع الوسائل المبنية والمعنوية للإشارة إلى حالة المقاتل اليائسة كضحية دائمة لخطر الموت الذي يتهدده من جميع الجهات.

وفي المطلق، يستحضر الشاعر في عملية وصفه لبؤس الحياة على الجبهة عناصر الطبيعة الأربعة. كما تجعلنا بساطة مساكن الجنود وطريقة حياتهم المتقشفة نتصوّر حياةً رهبانية، فإذ بالفضاء الحربي يتحوّل إلى فضاءٍ مقدّس. فقصيدة "قصر الرعد" مثلاً التي هي استعارة لطلقات المدفعية المتواصلة، تنقل في الوقت ذاته حياة الجنود في الخنادق إلى نطاق ملحمي لكونها تذكّرنا بالإله زويس وقصره الأولمبي. كما يتحول الفضاء الحربي أحياناً إلى شخص، مما يمنحه إيروسية واضحة وإن بقي فضاءَ موتٍ قبل أي شيء. وهذا يذكّرنا بالتقاء الحب والموت الذي تحدّث عنه فرويد، والذي يبدو جلياً في إحدى قصائد أبولينر إلى خطيبته مادلين، حيث يتوجّه الخندق المشخَّص كامرأة إلى الجندي الشاب بالعبارات الآتية: "تعال معي وضاجعني كي أسعد بلذةٍ دامية".

ولا بد من الإشارة في النهاية إلى أن هذا التواصل الموضوعي في ديوان فٌٌىهْفٍٍم يشهد على أن شعر أبولينر الحربي وإن عبّر عن الحوادث التاريخية للحرب العظمى ينخرط داخل مشروعٍ إبداعي واستكشافي أوسع على المستوى الشعري. وبالتالي، ترتكز عظمة هذا الديوان على نجاح الشاعر في التوفيق داخله بين الضرورات الجمالية وتعبيره الأصلي والعفوي عن الانطباعات والمشاعر التي خلّفتها الحرب فيه.

المستقبل
الثلاثاء 26 نيسان 2005

كيف تنعكس تجربة الحرب على الكتابة الشعرية؟

باريس - أنطوان جوكي

أبولينريُنظم متحف "تاريخ الحرب العظمى" معرضاً مهماً للشاعر الفرنسي الكبير غييوم أبولينر (1880-1918) هو من دون شك الأول الذي يُخصص للفترة الأخيرة من حياته، ويتألف من صور ومخطوطات ورسائل وكتب ورسوم وأشياء خاصة يُعرَض معظمها للمرة الأولى، يحاول القيّمون من خلالها رواية حياة الشاعر - المقاتل بين عامَي 1914 و1918 وإظهار العلاقة المباشرة بين تجربته اليومية كجندي على الجبهة وكتابته الشعرية التي، بدلاً من أن تتوقّف، استمدت مادتها من وقائع الحرب بعبقرية فريدة وحسٍّ إنساني نادر.

في كانون الأول عام 1914، يتطوّع أبولينر، البولوني الأصل، في الجيش الفرنسي لمدّة الحرب ويطلب الهوية الفرنسية. وكان آنذاك في قمة إبداعه ونقطة التقاء الطليعيين في العالم. ومثل كثير من الأدباء والفنانين الأجانب، سيختار الدفاع عن فرنسا التي اعتنق لغتها وثقافتها لاعتبارها رأس حربة الحضارة وكون عاصمتها مُلتقى الإبداع العالمي. وسيقبل الشاعر الذي كان يقود موكب الفنانين والشعراء ويتمتع بشهرة قل مثيلها وبحضور نسائي دائم حوله، بالذوبان داخل العمل الجماعي، مسلحاً بزادٍ مزدوج: الحب والشعر.

وبالفعل، يصل أبولينر إلى الجبهة في مدينة شامبانيا في 6 نيسان (ابريل) 1915، تاركاً خلفه الجنوب الفرنسي وعشيقته لو دو كولينيي. وسيكتشف المبدع الذي كان يشتعل بنار الشعر المضطرمة سماء الشمال الرمادية والخطر والموت. كما سيختبر ذلك الذي كان ينشد: "لا شيء مشتركاً بيني وبين الذين يهابون الحروق"، معمودية النار ما إن يصل إلى الجبهة. وبسرعة يتحوّل الشاعر أبولينر إلى مقاتل يشبه جميع المقاتلين. فأسلحته كانت المدفع والبندقية والقنبلة والخنجر، وعتاده كان يتألف من قناع الغاز وخوذة ولباس عسكري أزرق. ومن ضابط صف يُرقى بسرعة إلى ضابط لتميّزه "برباطة جأش وشجاعة في جميع الظروف"، كما يشهد عليه التنويه الذي حصل عليه في حزيران (يونيو) 1916. ولكن على الجبهة، سيصقل الشاعر أيضاً أسلحته الخاصة: الحلم والمراسلة والرسم والشعر وحب خطيبته مادلين باجيس، وهي أسلحة دفاعية مثل قناع الغاز والتمويه، ويغذي إبداعه المتواصل بالوقائع الحربية من دون تعظيمها، "لئلا يفقد الجمال حقوقه". فبالنسبة إليه، الشعر والحياة هما، أكثر من أي وقت مضى، شيء واحد.

ومع ذلك، ستثير أعماله المنشورة بين عامَي 1915 و1918 الجدل باكراً، خلال الحرب وبعدها. وسينعته البعض بالخفة وعدم الأصالة، والبعض الآخر بحبّ الحرب، متجاهلين أن هذا الكائن المتغيّر الشكل هو أفضل شاهدٍ على عصره، يتميّز بوطنية بعيدة كل البعد من القومية المتزمتة أو التطرف، وكتاباته ليست شهادات بطولية بالمعنى السلبي الذي وُصفت به آنذاك. فمخيلته التي تتسم في المرحلة الأولى من الحرب ببُعدٍ فروسي أكيد ستنحسر بسرعة أمام هول الصراع ونتائجه المأسوية وتتحول إلى مصدر إزعاج في نظر الضمير التاريخي. وبالفعل تتضمن هذه الكتابات فكاهة تتناول الحياة بعنف وقسوة، وتعبرها ابتسامات صفر ونزوات أصيلة تشذ عن النظرة المألوفة للحرب. أما غنائية أبولينر وطموحاته الشعرية فتشن معركة غير متكافئة على الدمار المريع.

وخلال هذه الحرب، يتعلم الشاعر على حسابه أن النار تدمّر أكثر مما تتطهّر. فهل لا يزال الشعر قادراً على إنقاذ كل شيء؟ سيسعى أبولينر في هذا الاتجاه حتى آخر رمق من حياته: "الحرب بالذات زادت من طاقة الشعر فيّ، وبفضل الإثنين معاً تختلط السماء بعد الآن مع رأسي المنجّم". كما تجدد قصيدته الأخيرة "الصهباء الجميلة" الاهتمام بالعقل الملتهب والشعلة الخلاقة. لكنه سينطفئ في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1918 بفعل الغازات التي استنشقها وجرحه البليغ والحمّى الاسبانية، من دون أن يعرف السلام. ولحسن حظنا تبقى أشياؤه الخاصة التي حوفظ عليها بعناية ورسائله المؤثرة التي كتبها على عجلة في الليل وقصائده التصويرية "كالليغرام" calligrammes التي نقرأ داخلها حركة الحياة والموت معاً وأبياتٍ تشتعل بحبٍّ لا ينضب وتبكي الألم والجنون. قصائد تُشكّل إلى حد اليوم مرجعاً ثابتاً للحداثة الشعرية.

"الحفلة الراقصة"

ومن بين الأسباب التي أدّت إلى سوء فهم هذه القصائد، وضع أبولينر الحرب العظمى تحت شعار "الحفلة الراقصة". ولكن ما لم يفهمه منتقدوه هو أن الرقص بالنسبة إليه ليس متعة بريئة. فحيث هنالك رقص، هنالك امرأة وبالتالي خطر وموت. وتحالف الرقص والموت له اسم في الفن: "رقص المقابر".

وإذا كانت قصيدة "الفتاة والموت" هي التي تجسّد موسيقى ديوان "كحول"، ينتشر في كامل ديوان "كالليغرام" الشعري ضجيج قصيدة "السيمفونية الخارقة". ففيه يقول الشاعر: "خلال الحرب، ذهبنا إلى أبعد حدود في فن الاختفاء"، ويقصد بذلك فن "التموّيه" الذي يذكّرنا بالفن التكعيبي الذي كان أبولينر يعرفه جيداً، نظراً إلى اعتماد الاثنين على إرباك النظر من خلال تشويش الحدود بين الشيء الحاضر ومحيطه. وتستحضر هذه الكلمات أيضاً نوعاً آخر من الاختفاء، ذلك الذي وقع ضحيته جميع الذين قتلوا خلال هذه الحرب (تسعة ملايين نسمة). كما يُطبّق أبولينر في قصائد هذا الديوان استراتيجية تمويه شعري تحجب النبرة الإيجابية فيه تعبيره عن الحقيقة المحزنة. إذ سيُصوّر حجم المجزرة الهائل بتحفّظ مصبوغ بالسخرية والدعابة السوداء، الأمر الذي لم يقبله جميع قرّاء هذا الديوان. وبفضل الأبحاث النقدية التي خُصصت له خلال الربع الأخير من القرن الماضي، أصبح من السهل فهم قصائده التي تأثرت باكتشاف الشاعر التدريجي للحرب. ويكمن أحد إسهامات هذا الديوان في إشراكنا بمغامرة هذه الحرب المتعددة الأبعاد في شكلٍ مباشر ويومي.

وفي المطلق، يستحضر الشاعر في عملية وصفه لبؤس الحياة على الجبهة عناصر الطبيعة الأربعة. كما تجعلنا بساطة مساكن الجنود وطريقة حياتهم المتقشفة نتصوّر حياةً رهبانية، فإذ بالفضاء الحربي يتحوّل فضاءً مقدّساً. قصيدة "قصر الرعد" مثلاً، التي هي استعارة لطلقات المدفعية المتواصلة، تنقل في الوقت ذاته حياة الجنود في الخنادق إلى نطاق ملحمي كونها تذكّرنا بالرمز زويس وقصره الاولمبي. كما يتحول الفضاء الحربي أحياناً إلى شخص، مما يمنحه إيروسية واضحة وإن بقي فضاءَ موتٍ قبل أي شيء. ويبدو ذلك جلياً في إحدى قصائد أبولينر إلى خطيبته مادلين، حيث يتوجّه الخندق إلى الجندي الشاب كامرأة بالعبارات التالية:"تعال معي وضاجعني كي أسعد بلذةٍ دامية".

ولا بد من الإشارة إلى أن شعر أبولينر الحربي في ديوان "كالليغرام"، وإن عبّر عن الحوادث التاريخية للحرب العظمى، ينخرط داخل مشروعٍ إبداعي واستكشافي أوسع على المستوى الشعري. وبالتالي، ترتكز عظمة هذا الديوان على نجاح الشاعر في التوفيق داخله بين الضرورات الجمالية وتعبيره الأصلي والعفوي عن الانطباعات والمشاعر التي خلّفتها الحرب فيه.

الحياة
2005/04/22