(المميز في بانتيون الشعر الأميركي المعاصر)

أحمد مرسي
(نيويورك)

ريتشارد ويلبوريحتل الشاعر ريتشارد ويلبور مكانة مرموقة في بانتيون الشعر الأميركي المعاصر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد ظل متسقاً مع نفسه في فكرته التقليدية عن دور الشاعر في إمبراطورية الآداب وتمسكه بالممارسة الشعرية الشكلية وأسلوب خفيف النبرة. ومنذ عام واحد صدر مجلّد الأعمال الكاملة لأحد أقرب معاصريه اليه، روبرت لوويل، والآن جاء دور ريتشارد ويلبور.

ولد ويلبور في نيويورك في 1921، ودرس في جامعتي ألهرستا وهارفارد. وقد بدأ كتابة الشعر أثناء أداء خدمته العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية. وفسر ذلك فيما بعد بأنه حاول أن يعيد النظام لعالم أصيب بالجنون. وقد صدرت مجموعته الشعرية الأولى "التغيرات الجميلة وقصائد أخرى" في 1947، بعد الحرب بقليل وبعد صدور مجموعة روبرت لوويل "قلعة لورد ويرى" (1946) بعام واحد. وكانت هناك تشابهات أكثر من الاختلافات في عمل كلا الشاعرين الشابين، ولكن عندما تحول لوويل الى الموضوع الإعترافي في مجموعته "دراسة حياة" في 1959، التي قادت التحول الى الشخصي الذي ساد الشعر الأميركي منذ ذلك الحين، لم يتبعه ويلبور. وبهذا يبتعد عن عصره الأدبي على الأقل من ثلاث نواح: فهو يعكس حساسية موضوعية كلاسيكية في عصر ذاتي رومانسي، وهو متدفق وسط لاشكلانية لا هوادة فيها، وهو متفائل نسبياً وسط متشائمين مطلقين.

لم يتوقف ويلبور أبداً عن الكتابة في أشكال موزونة ومقفى بعناية والتي قد بدأ الكتابة بها. وهو الشاعر المعاصر الوحيد الذي انطبق عليه مصطلح "أنيق" بصورة منتظمة ومناسبة. لكن، كما يقول يان هاميلتون في "مرشد أو سكفورد لشعر القرن العشرين"، برغم أن اتساق الفورم قد سمح له بأن يطور ملكاته ويعود عليها بالمديح، فقد عرضه للاتهام بأن شعره يفتقر الى التطور. وقد تبعت مجموعته الثانية "احتفال وقصائد أخرى" (1950) بكتابة "أشياء هذا العالم (1956) الذي اعتبره النقاد بصورة عامة أفضل مجموعاته. أما نصيحة الى نبي وقصائد أخرى" (1961)، رابع مجموعات ويلبور الشعرية، فهو أقل كتبه جاذبية لأن ويلبور تخلى فيه عن سعيه الإيجابي الى الروحانية التي تكمن في أفضل قصائده. فهو يتبنى في هذا الكتاب موقفاً سلبياً ويدين بسخرية البشرية الحديثة لماديتها وافتقارها الى العمق.

جائزة

وعلى أية حال، منح ويلبور جائزة بولينجن للشعر عن مجموعته الحالية "السير للنوم: قصائد جديدة وترجمات" (1969)، مما كان يدل على أنه لم يفقد شهرته بدرجة مفرطة. وكان ويلبور قد فاز بجائزة بولينجن عن ترجمته لمسرحية موليير "طرطوف" (قدمت ترجمته لمسرحية "كاره البشر" على المسرح في 1955). وقد أصدر كتابين شعريين للأطفال، وجمعت مقالاته الأدبية في "إجابات: قطع نثرية 1953 ـ 1976 (نيويورك ـ 1976) الخ..

وكما أشار في محاضرته "الزجاجات تصبح جديدة أيضاً"، يضمر ويلبور احتراماً للعالم الفيزيقي: لا يملك الشعراء أن ينسوا أن هناك واقعاً من الأشياء التي تتجاوز جميع الأنظمة كبيرة وصغيره.. ولا يستطيع أي شعر أن يتحلى بأية غرامة ما لم يصطدم بواقع الأشياء". ويتوازن بالاحترام، في نظرته للعالم وفي عمله الشعري معاً، عن طريق حس قوي على نحو متساو بأن قوة روحانية غير منظورة تكمن في ذلك العالم الفيزيقي. وكما قال ويلبور في مقابلة مع بيتر ستيت: "ببساطة، أشعر أن الكون يزخر بطاقة مجيدة، وأن الطاقة تميل الى أن تتخذ نسقاً وشكلاً، وأن طبيعة الأشياء المطلقة جميلة وحسنة". ويبدو أن الغاية المطلقة لشعر ويلبور هي أن يشيد بجوانب الواقع هذه وأن يظهر اتحادها المتأصل. ويحاول ويلبور، عن طريق قوة الخيال في خلق الاستعارة، أن يوحد هذين العالمين، كما ذكر.

الخيال

"عندما يكون الخيال في أحسن حالاته الصحية.. لن يقلل من شأن عالم الواقع ولن يتوقف عنده، لكنه يسعى الى الخفي عن طريق المائي". والاستعارة تمكّن ويلبور من أن يشير الى شبه فيزيقي شديد (بين الأجنحة وأوراق الشجر، على سبيل المثال) بتحول شيء الى شيء آخر (تحول نبات السرخس الى أمواج محيط) أو الإيحاء بوجود اللامرئي داخل المرئي (الأركاديا داخل أُشنة أشجار عادية). ولذلك، ينجز شعر ويلبور، من الناحية التقنية، عن طريق الاستعارة، ما كان يؤمن بأنه حقيقة العالم بحس وصفي. وتبدو الحركة دائماً كجانب من أكثر استعاراته فاعلية، إذ تعكس تقدير ويلبور العالي لمفهوم الرهافة، والذي يجمع بين الحركة الجميلة والمباركة. ومفهومه للإله قد يبدو ثنائياً بالمثل، شيء ما يوجد داخل الشاعر، كذكاء خلاق، جانب من الخيال ـ وخارجه. ويعمل في تساوق في قصيدة ويلبور: "لكي تدرك الروحانية التي توجد داخل الكون ويعبر عنها، لا بد من توافر ذكاء خلاق نافذ الرؤية في المراقب والذي يمكن أن يضاهي على نحو ضعيف ذكاء الإله".

وفي مراجعة لمجلد "الأعمال الكاملة، 1934 ـ 2004" الذي صدر مؤخراً، كتب الناقد إرنست هيلبرت تحت عنوان "صوت لا نظير له" يقول.. يعتبر ريتشارد ويلبور منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أحد أكثر شعراء أميركا نشاطاً ونجاحاً وفرادة في الصوت. وشعره رصين ومتسق بشكل لا يصدق تقريباً، وهذا التوازن هو أعظم تعبير.. في زمن الشعر الحر المبعثر بقسوة وبلا تبصر وجوقات عديمة المذاق لا حصر لها من التغني بالذات، تبدو قصائد ويلبور كأنها تأتي من عصر آخر تماماً.

لقد بدأ ممارسة كتابة الشعر في توافق مع عصره وجيله. كانوا يؤمنون بتقليد شعر غنائي أنيق لا يقف في طريقه عائق، وعالم طبيعي كمصدر للحكمة الروحية، وأن يتركوا معظم الغضب والأشياء الصغيرة الخام وراء بوابات شعريتهم الهادئة المقاسة. وبحلول أوائل الستينات، مع ذلك، كان ويلبور قد بدأ يشذ عن إيقاع مسيرة التقدم الشعري، وبحلول 1970 كان تقريباً بلا نظير. وكانت درجات البارناسوس قد ازدحمت بسياح شبان يدخنون ويعزفون الجيتارات، وبقي هو وحده في صحن الكنيسة يتأمل في هدوء وقد علق على شعر الاعتراف الذي يسود الشعر الأميركي في قصيدة "هزليات": "لو أحبطت الموسيقى الخيالية قيثارتك اعترف حتى لو لم تعترف بطبيعة الحال بأية سعادة". وفي مقابلة في 1995، لاحظ ويلبور أن الحركة الاعترافية تؤدي الى "مسرحة ـ الذات وانتحال النجومية، وهي أشياء لا تصنع قصائد جيدة".

ويعالج الجانب الأعظم من قصائد ويلبور تيمات الطبيعة: مسار الفصول المتغيرة، وتفاصيل نباتات الفصول المختلفة وحيواناتها، وهو في ذلك مدين لتجربة نشأته في مزرعة بنيوجيرسي الى جانب روبرت فروستا، الذي التقاه أثناء دراسته في هارفارد.

كما يستشف إرنست هيلبرت تأثيرات ذات قوة جاذبية على ويلبور مصدرها "تقويم الراعي" لسبنسر، القرن السادس عشر و"مرثية في صحن كنيسة في الريف" لتوماس جراي. وقلما توجد المدن والبلدات في عالم ويلبور. وعندما توجد، فهي مربعات من الضوء تبدو من بعيد.

ويشير الناقد الى وجود ميل، في الذي يحتفى فيه بمشاهد الشاعر الطبيعية، الى إهمال حساسيتها التعبدية. ويقول هيلبرت إن معظم القصائد التي كتبت بالانكليزية قبل القرن التاسع عشر كانت على نحو أو آخر تعبدية ـ حتى الشعر الميتافيزيقي تعبدي من الناحية الوظيفية ـ لكن هذا النوع اختفى كلية من الشعر الأميركي المعاصر الجاد. وكما يقول الشاعر والناقد دانا جيويا (مؤلف "هل يهم الشعر؟): يتحول العالم الطبيعي عند ويلبور الى وسيلة شعائرية أو طقوسية للكشف عن النظام الإلهي".

وقصائد ويلبور المبكرة ملونة بنغمات من المعجم الشعري الموروث، متأثرة بتوماس هاردي وحتى لونجفيلو أكثر من تأثرها بإليوت أو باوند. وهي، برغم بعض النغمات العتيقة الى حد ما، أعمال بارعة على نحو مدهش، وهي شبيهة بشكل متميز في نبرتها بالقصائد التي ما فتئ يكتبها حتى الوقت الحاضر.

ومن أروع قصائده المبكرة "الريف الملغوم" التي نشرت في مجموعته الأولى "التغيرات الجميلة" (1947)، وهي تتناول الآثار المتخلفة من الحرب من خلال الصورة غير المرئية للغم أرضي لم يكتشف بعد.

من شعره:

الريف الملغوم

ذهبوا الى التلال الرمادية المغضنة بأشجار البتولا،
يجرون الآن مدفعهم الى أعلى الجبال الصقيعية،
لكن سوف يطول الوقت قبل
أن تنتهي حربهم الى الأبد.

أقول لكم إنه يوجه طلقاته الى الطفولة أكثر مما يوجهها الى الكنائس
المليئة بسماء أو نافورات البلدة المدفونة،
والغرف التي بقرت أو أي شيء
أحجار أو أخشاب مقطوعة.

إذ أشاهد الأولاد يديرون ببطء فوق العشب
أطباقهم الفضية (مثل بندول لاعب)
يخطون بحرص وينصتون جيداً
لصرخة معدن مخبوء.

تسمى عن حق بلفويب ـ العذراء التي يمكن أن لا يراها البعض،
البعض، المهور ذات الاثني عشر شهراً عند بوابات كنتكي،
لكن الأبعد يمكن أن يخمنوا أن
بعض الخطط قد فشلت.

غاص الخطر في المراعي، الغابات ماكرة،
المهارة تغطيها الزهور!
كنا نعتقد أن الغابات حكيمة لكنها لم
تتورط، لم تنخرط أبداً.

الأبقار انتثرت على السماء وهي لا تزال تمضغ،
الورود مثل العاهرات تبتسم من تعريشات البستان،
ينبغي أن يتعلم الرعاة لغة جديدة، هذا
لن يحل على وجه السرعة.

عشب الحقل المشرق، أرضية الغابات، ممتزجة تماماً
بثقة مبكرة، عليك أن تسترجع من
ماض سحيق كل ما تعلمته، أن
تحرم من الميراث الطفل الغبي.

اطلب منه أن يثق بالأشياء على حد سواء
وألا يكف أبداً عن إفراغ الأشياء، لكن لا يدعها تفتقر الى الحب
المستعاد بطريقة ما، ليتأكد أن العالم بأسره وحشي.

المستقبل
الأربعاء 29 حزيران 2005