(نال تقديرا عربيا ودوليا واشتهر بالقصائد الثورية)

أربيل: شيرزاد شيخاني

شيركو بي كه س صرع المرض أمس الشاعر الكردي الكبير «شيركو بي كه س» عن عمر يناهز السبعين، وأعلن عن وفاته بمستشفى كارولينسا في العاصمة السويدية ستوكهولم جراء توقف كليتيه.
وكان الشاعر قد أدخل المستشفى قبل أكثر من ثلاثة أشهر بعد وجود اختلال في أحباله الصوتية وآلام في حنجرته، ثم تبين من الفحوصات التي أجريت له لاحقا بأنه مصاب بمرض سرطان الرئة.
وترك الشاعر الراحل تراثا شعريا ثريا أغنى المكتبة الكردية وخصوصا أشعاره الثورية. وكان بيكس أحد البيشمركة في جبال كردستان، وكتب مجموعات كبيرة من قصائده الثورية هناك، منها النشيد الخاص بحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، بزعامة الرئيس العراقي جلال طالباني، الذي ما زال يفتتح به المناسبات الخاصة به والمعروف بنشيد «مشخلان».
وشيركو هو نجل الشاعر الكردي الأكبر فائق بي كه س الذي تجاوزت شهرته آفاق كردستان العراق، وكان قريبا مقربا من الرئيس طالباني الذي رشحه لعضوية أول برلمان كردي عام 1992، ثم أصبح أول وزير للثقافة في حكومة الإقليم قبل أن يستقيل وينتقل للعيش في السويد. وبعد سنوات أقنعه الرئيس طالباني بالعودة إلى مدينة السليمانية ليترأس مؤسسة «سردم» الثقافية التي أنشأها طالباني خصيصا لهذا الشاعر الكبير، وهي المؤسسة التي حققت في ظل الشاعر إنجازات أدبية وثقافية كثيرة.
وبى كه س حائز على الكثير من الجوائز التقديرية الدولية والعربية، وترجمت أشعاره إلى أكثر من عشر لغات عالمية، وكتب الكثير من قصائده باللغة العربية. وأصبح الوجه المعروف المعبر عن الثقافة الكردية في الأوساط الثقافية العربية.

الشرق الاوسط- 5-8-2013

***

الزمان تعيد نشر أشهر حواراتها مع الشاعر الراحل شيركو بيكه س

اللغة هي الأنثى التي نتزوجها عن حب

عادل كامل

إذا كان الشعر، مهماً عرّف، يخفي أسراره فأن الشاعر الكردي شيرك وبيكه س، هو الأخر، لا يقول ــ في الشعر ــ ألا الذي يحمل نبض الشعر الخفي. أنه يحفر عميقاً في ذاكرة الجبل، والينابيع، والعشق، فكردستان قصيدة كونتها الموسيقى والشفافيات والمصائر و.. قصيدة تحاور العالم، بما تمتلك من أزمنة، وخيال، أطياف تجتاز العثرات..
بيكه س، ولد في مدينة السليمانية ــ العراق عام 1940.. وهو أبن الشاعر الكردي الوطني المعروف، فائق بيكه س.1905ــ 1948 كتب الشعر وهو في السابعة عشرة من عمره.. وأصدر أول مجموعاته الشعرية عام 1968 في بغداد بعنوان ضياء القصائد عام 1968. ونشر مع عدد من الشعراء والأدباء الكرد في بغداد البيان الأول المعروف باسم بيان روانكه أي بيان المرصد .. وكان يتبنى الحداثة الشعرية والأدبية.. نشر أول مسرحية شعرية عام 1971 باسم كاوه الحداد .. وقد صدرت له أكثر من 18 مجموعة شعرية باللغة الكردية وترجمت له الى اللغة العربية واللغات الأخرى مجاميع ومختارات.. كما ترجم الى الكردية بعض الآثار العالمية.. وإذا كان الشاعر يترأس الآن دار سردم للطباعة والنشر ــ التي تأسست عام 1998 ــ وسردم تعني العصر ــ فأنه لا يفرق بين الشعر والمستحيلات.. أنهما ندان، الشعر يستنطق أسرار العالم، والمستحيلات تفتح فجوات للسفر في المجهول كلاهما لا شريك له ألا الموت الذي لا يموت أنه هذا البوح، هذا الذي عنده يكون الغائب حاضراً..
الزمان مع شيركو، في هذا الحوار
يصعب تعريف الشعر، خارج الكلمات.. فهل يخترع الشاعر خلاصه في الشعر، أم يرجعنا الشعر، في عصر ما بعد الحداثة، نح والمجهول؟
ــ الشعر دائماً هو الحلم الذي يسألْ، ولا نهاية لأسئلته فتعريف الشعر هو كتعريف السر المجهول أو صنع إطار لكي نضع فيه الضوء لذا فلا إطار لذلك التعريف أبداً واللغة هي الأنثى التي نتزوجها عن حب ومن ثم يأتي الإنجاب والحياة والحركة. والتخيل الشعري هو القوة السحرية التي تجعل الكلمة تطير. لا خلاص للشاعر من الشعر لأن الخلاص هنا يعني الموت أو الصمت. واللا خلاص يعني البقاء في رواية الشعر. فما دامت هناك النار الأبدية للقلق وعدم القناعة والظمأ الذي في الروح. وهكذا كان منذ أن وجد الشعر وهو إن سر بقائه يكمن في احتراقه الدائم
الصمت والكلام، كلاهما يحملان مغزى الوثبات والأمل.. كيف ينظر شيرك وبيكه س الى الشعر، في عصر الأشياء؟
ــ أن الأشياءْ كانت موجودة في كل العصور. ولكن في عصرنا بدأت الأشياءْ تهيمن على الحياة والطبيعة والعلاقات الاجتماعية بسطوة لم يسبق لها مثيل في كل العصور. وبدأت المساحات الروحية بالتقلص وأنكمش الحب في زوايا الخوف وعدم الثقة وكأنه فقد وجوده. ومن الجانب الأخر تدفق التزييف والتزوير وكأنه هو الأصل. حيث أختلط وجه الله بالوجوه الشيطانية. وعمل الشعر هو أن يحافظ على إشراقة وجه الحقيقة ويمسك بالنور الذي يخرج من الكلمات الطبيعة والجميلة لكي يكتب به. ولكن السؤال الأهمْ هنا أي شعر نقصده في هذا الزمن؟ وآنا أقول، أن يجمع في كينونة، أو بتعبير آخر أن يذوب فيه الجمال والحقيقة كما نراها، فالقصيدة هي المرأة التي تبهرنا بجمالها وحقيقة إنسانيتها ووثبات أملها ويأسها أو إن الشعر الذي أقصده. هو الماء الذي لا نرتوي منه أبداً.
عشت في المنفى طويلاً المنفى داخل الوطن، وفي العالم.. فهل كان الشعر شهادة.. أم.. أحد أشكال استعادة أزمنة النذور؟
ــ كلاهما ، المنفى في العالم كان امتداداً لمنفى الوطن حيث افتقدنا في كليهما ذلك الوهج الذي يشع منه الأمل والمستقبل واللقاءْ. فالغربة هي نوع من الضياع حيث عالمها بلا عنوان وطرق تسلكها لأول مرة وإنك لا تعلم الى اين تمتد.. غريب المكان وغريب الزمان هكذا وكأنك في الحلم تمشي ولكن على حافات ضيقة وخطرة ودون أن تسقط في هاوية الموت برغم انك نائم وتمشي، الى المنافي الأخرى حيث تكتب عبر الذكريات أمام تلك المرايا التي تكسرت وأحدة تل والأخرى.. ولكنك برغم تلك الشظايا ترى نفسك فيها ولكن بأبعاد مختلفة وترى الحزن، الماضي، العلاقات التي ذهبت، بوجوه متكسرة العيون ليست في مكانها، والحلم متناثر وغير قابل للعودة مرة أخرى، والرؤيا كأنها ريش طائر والريح تلعب بها نعم الشعر شهادة كأي شهادة أخرى في الحياة. حيث أن اللغة في أصدق خلجانها تتكلم وكذلك تشارك في عملية التغيير المستمر سواءً أكانت في بنية اللغة وجودها وخلقها بصورة مغايرة أخرى، أم خارج نفسها حين تصير صوتاً بجانب العذابات الإنسانية في كل مكان. الشعر لا يكتمل ألا بإنسانيته. شهادة ليست من أجل الشهادة فقط وإنما بدافع من الحب الإنساني وكأنك مسؤول عن قتل فراشة أو وردة في آخر الدنيا. وكذلك لكل حب نذور ،

جوهر الخطاب

في سياق تجاربك دخلت فضاء الخطاب الحديث.. هل خرجت من رحم الشعر الكردي الكلاسيكي.. أم كنت تمارس طقوس التحدي؟
ــ الخطاب الحديث ليس في شكله وإنما في جوهره. لا شكلانية حديثة ألا وكانت وراءها تجاوزاً في الرؤيا والعقل المتجاوز، وهو في اعتقادي الأهم، أي ان ما يحدث في تغيير الشكل واللغة هو نتيجة في تغير الفكر. هنالك من يكتبون في الوقت الحاضر بشكلانية حديثة تظاهراً بالحداثة، ولكن خطابهم تراجع الى ألف سنة.. مثلاً أن ما قام به السياب في الحداثة الشعرية من ابداع، هو ليس لأنه خرج عن الشكل التعبيري للشعر العربي، وإنما لأنه خرج على العقل والفكر التعبيري في الشعر العربي ومن ثم عبر عن هذا الخروج بشكل مغاير وجديد أيضاً، في بداية هذا العشق، حين كنتُ أقترب من ناره رويداً رويداً وكأنها فراشة والضوء يسجني أو كأنها في محراب سليب. عندما كنتُ أقرأ القصيدة الكلاسيكية الكردية لم أكن متحمساً لها ولا استسيغ لغتها الجافة والصارمة. كانت التعابير تخدش رؤيتي، وكانت مليئة بالمفردات العربية والفارسية والتركية. فكنت أمام قصائد تختلف لغتها عن اللغة التي أستمع إليها في الأغاني الكردية الفلكلورية ومفرداتها تختلف عن مفردات اللغة التي تستعملها والدتي في البيت حيث تعلمني تلك الأبيات الكلاسيكية، متقطعة، ولا أفهمها حيث تبد واللغة فيها غريبة نوعاً ما. السبب ان اللغة الكردية تغيرت في زمني وفي المدارس الحديثة كنا ندرس في اللغة التي تطورت وأصبح كثير من مفرداتها كردية خالصة، وهنا حينما كنت أقرأ لشعراء معاصرين أمثال عبد الله كوران وأحمد هردي قصائدهم الرومانسية والوجدانية. كنت اشعر بنشوة شعرية لا توصف. لقد رجعتُ الى دراسة الشعر الكلاسيكي الكردي في وقت آخر، وهنا أريد ان أقول أيضاً ان إبداع عبد الله كوران يكمن في أولاً رؤياه المتجاوزة.. وثانياً الكتابة بمفردات اللغة التي كانت في متناول الجميع ولكن بفنية عالية وكذلك الرجوع الى أوزان وإيقاعات الأغاني الكردية الفلكلورية الكردية وترك الكتابة بالعروض العربية نهائياً.
أذن فأنا لم أخرج من رحم الشعر الكردي الكلاسيكي تحديداً. حيث بدأ الشعر الكردي المعاصر يمارس هو طقوس التحدي وأنا منذ بداياتي كنتُ منبهراً بتلك الطقوس. وخاصة باللغة الشعرية الجديدة عند عبد الله كوران وأحمد هردي، اللغة التي تتكون من الكلمات التي نمارسها يومياً، كلمات بسيطة ومفهومة، وفي صور مكثفة ومؤثرة. حيث كان الإبداع في تجلياته الجديدة.
في شعرك، لا يغيب المكان، ولا تغيب الحواس، ولا يغيب الأمل.. هل ثمة إضاءة للروحي في تحديد أبعاد تجربتك الشعرية؟
ــ نعم المكان. فهو فسحة وجودنا ومماتنا أيضاً. وما المهد واللحد ألا مكانين. لا شيء خارج المكان وما الزمان بدون المكان ألا خواء كما أعتقد. المكان يعني ما نتحرك فيه ونفكر فيه ونعمل فيه حيث يؤشر لوجودنا بكل ما فيه من أصغر خلية،ولنقل غرفة، الى كوكبنا، هو المكان وهو الحضور الدائم في قصائدي. هو في قصائدي التكوين والاستذكار والهوية. حيث أنني لا أستطيع أن أتصور الحياة بدون الأمكنة. بدون الحركة فيه وبدون الإنسان فيه. ان الرجوع الدائم الى الأماكن يعني ما يتضمن مني ومن ذاتي ومن العقل الإنساني العلاقات التي مزجتهن بمحيطي سواءً عن طريق الذهن أو الفعل. ان عدم غياب المكان في شعري هو عدم غياب الذاكرة أيضاً. أي عدم النسيان الذي هو الموت بحد ذاته. أن قصائدي تحفر في أرض الذاكرة لاستعادة ما نسيناه من الينابيع ولاستعادة مياهها الجوفية لكي تتدفق مرة أخرى. الحواس اختصاراً تعني الإنسان، تعني التواصل الدائم مع الطبيعة والآخرين. وما الروحي ألا شم الأسرار ولون الحُلم والشعر معاً. فإذا فرغنا الحب من الحواس ماذا يبقى فيه غير الفراغ المرعب. أبعاد التجربة الشعرية هي أبعاد للرؤيا وهو نضوج اللغة وثمارها كما وتعني الممارسة في سر تكوين سحر اللغة وآفاقها المتنوعة.

الالتقاء والافتراق

مع تجارب عربية في الشعر الحديث.. أين تلتقي وأين تفترق.. وهل كنت تستعين بمرجعيات أخرى؟
ــ مرجعيتي الأولى، بعد اللغة الكردية هي مرجعية اللغة العربية. ومن خلال تلك اللغة تعرفتُ على الآداب والثقافة العالمية. أي من خلال مكتبتها، فتحت أمامي كثير من النوافذ الشعرية والأدبية غربياً وعالمياً. لقد دخلتُ الى هذا العالم من خلال ممرات مضيئة للإبداع، أتذكر ان أول ما قرأته وبصعوبة، في الشعر العربي، مستعيناً بالأصدقاء والقواميس كان نتاجات شعراء المهجر وأولهم كان جبران خليل جبران وبعدها بسنوات كان للسياب حضوره الدائم في خطا حياتي الشعرية. وأود أن أقول هنا. برغم مرور كل تلك السنوات بعد رحيل هذا الشاعر المهم. ما زالت حرارته الشعرية ونبض قلبه ولغته الشفافة وصدق عذابه، أكثر تأثيراً على مشاعري مقارنة بكثير من القصائد التي تنشر في هذا الأيام. ان خارطة الشعر العربي الحديث هي خارطة كبيرة وجغرافيتها الشعرية واسعة ومتشعبة الفروع والأنماط والأساليب والتكوين. سوف أقول وباختصار شديد ان للحداثة الشعرية العربية وغيرها، عيوبها، وأبرزها هي في لغتها المقفلة في كثير من نماذجها وكذلك لذهنيتها المغرقة في التجريد اللفظي. وكأنها تلعب بالكلمات عبثاً وكيفما كان. أو كأنها مترجمة من لغة أخرى ترجمة باهتة لا روح فيها. لا معنى ولا إيقاع ولا انبهار ولا ضوء ولا استعارات مهمة. وما هو الشعر؟ ، أي أن لم يعد الشعر ديوان العرب، فغياب الوضوح ــ كوضوح بحيرة عميقة ــ وغياب الإيقاع والرنة وظلال الكلمات، ومروره في ذهن القارئ مروراً بارداً دون أن يترك أي أثر حسي فيه. فكثير من النتاجات الشعرية في الوقت الحاضر غير مقروءة حتى من قبل النخبة المثقفة، لأنها لا تمس لا شغاف القلب ولا الفكر. ويبدو ان تقديس الحداثة اضرت كثيراً بالشعر الحديث. لأن كل تقديس ولآى شيء، يغلق في النهاية الطريق أمام الإبداع الجديد. وتنفي الأسئلة. وهكذا يكون التقديس في نهاية المطاف ضد الانفتاح والتنوع في الرؤيا.
أنني دائماً ألتقي بالقصائد التي هي كالماء ولكن في اسراره. أقصد الشعر الذي يخترقك قلبياً وعقلاً ودون أي تنظير مسبق. وستبقى في اعتقادي قصائد السهل الممتنع من أجمل القصائد وأخلدها في كل اللغات دائماً. وهذه لا علاقة لها لا بالزمن ولا بالقديم والحديث وما بعد الحداثة. أنها لكل الأزمنة، مثل الحب والطير والشجر والهواء.. فهي تختلف عن القصائد المغرورة وثقيلة الدم وثقيلة اللغة على القلب والأحاسيس حيث لا يتم التواصل معها أبدأً
الحداثة ــ وما بعدها ــ مفاهيم مازالت تستكمل معمارها.. كيف تنظر أليها في عصر التصادمات والتحولات.. أي ما دور الشاعر في عصر العولمة؟
ــ في كل العصور. هناك شعر أو لا شعر. أي ان الإبداع لا زمن له فباستطاعة قصيدة جميلة أن تجري مثل نهر خالد عبر الأزمان كلها. فمثلاً قصائد عمر الخيام أو حافظ شيرازي أو نالي أو المتنبي أو أب ونؤاس تعيش في دواخلنا الى حد الآن وهنالك قصائد تولد اليوم وتموت في اليوم نفسه أيضاً ، في عصر العولمة، عصر التصادمات، والتحولات، كما تقول. على كلمات الشاعر أن تزهر فوق العالم الصلد كي تؤشر برغم الحروب والأحقاد والضغينة على بقاء الحب والتداخل مع الأتي الجميل. الشعر يعني بقاء الأغنية برغم قسوة الطلقات وهدير المدافع. أنه الطفل والينبوع في زمن تسحق في هو بدون رحمة الأزهار والطيور. النص هو الوعاء دائماً ولا يعزل عن ما فيه فكيف نستطيع ان نعزل مثلا مزهرية عن ما فيها. أو قلباً على ما يختلج فيه، المعنى في الشعر كالضوء في القنديل. وهي اللغة حين تحلق في صورها الشعرية وهذه تكمن في قوة الرؤيا والتخيل عند الشاعر، والمعنى بهذا التعبير حساسية بالدرجة الأولى وغير عقلانية كما في النصوص المعرفية. وبالمناسبة أقرأ كثيراً من النصوص الشعرية وكأنها مقالات معرفية وهي بعيدة عن الخيال والفضاء الشعري. أي ان النص لا قلب له ولا حُلم. والشعر دائماً يتكلم الحلم. لهذا فأن المعنى هنا له منطقه المجازي والصوري والتساؤلي. وبهذا المفهوم فأن المعنى له فضاءات أوسع بكثير كما تحتويه المفردة أو الكلمة في قاموسها الأولي. في الشعر، كما تعلم، لا أجوبة نهائية ولا قناعات مطلقة. لذا فأن الإمساك بمعنى محدد وتفسير محدد صعب المنال. ولكن القصيدة تتكا مل بكل ما فيها من الصدر والإيقاع والمعنى ولا تحلق إلا من خلال الإلقاء الجيد، إن الشعر والإلقاء الجميل كالطير والأجنحة. والشعر سمعي أكثر منه تبصري

اللغز

الجمال أو السر أو اللغز.. لا تنعزل عن مشكلات النص.. فكيف يتحقق المعنى داخل الشعر..؟
ــ إنك تعلم، إنني أكتب باللغة الكردية فقط. يعني بلغة الأم. وآنا أعتقد، مهما تضلعت في لغة أخرى فأنت لا تعرف كل أسرارها بدقة كما في لغتك الأصلية والتي تكبر معها من البذرة الى اكتمال شجرتك الحياتية، نعم كردستان هي الوجود التام والتي كانت على مر العصور قد تحولت على يد الغزاة والبرابرة الى محرقة دائمة لنا. وكنا على مر العصور غرباء في عقر دارنا. لم يكن لنا أصدقاء سوى جبال بلادنا. لقد اقتطعت كردستان الى أوصال وتمت بيعها في سوق المساومات الدولية وتمت تقسيمها بين العراق وتركيا وإيران وسوريا. إذن فأنا شاعر لغة وأرض وتاريخ قد تلطخت كلها بالدماء. لقد كبرتُ مع هذا الألم. ودخلت تلك العذابات الى مسامات جسدي خلية فخلية. فكانت الحرية الهاجس الأول والأخير لنا. وانا شاعر فماذا أفعل؟ والفعل هنا بالنسبة ألي هو الكتابة. ولكن المعضلة هنا. كيف نكتب شعراً للحرية أو القضية ولا نساوم على خطابها الفني؟ لقد سقطت كثير من القصائد الى هاوية النسيان أو تلاشت كما تعلم، لأن لغتها أصبحت خارج الفضاء الشعري وتحولت الى لغة ساذجة ومباشرة. أي لغة غير شعرية. أنا أعتقد بأن موضوع أو فكرة القصيدة لا تختلف القصيدة المبدعة لوحدها، وإنما الجوهري هو كيفية استخدام اللغة هنا كما ونحن نعلم هنالك كتابات شعرية كثيرة في اللغة العربية مثلاً قصائد في التصوف ولكن قليل منها بقيت في النهاية حيث ان معظمها خالية من أي إشراق أو انبهار ، ونفس الشيء في المساحات الشعرية الآخرى في الوطنية ووقصائد الحب والغزل والغربة.. الخ.. ومن خلال تجربتي توصلتُ الى أيجاد مساحة وسطية وهو ان الشعر إذا فتحت جميع أبوابه الكل يخسر الشعر، وإذا أغلقت جميع جميع أبوابه يخسر قراءه. أن معظم القصائد المنشورة في الوقت الحاضر هي من النوع الثاني في الحداثة الشعرية. ولكن هنالك المساحة الوسطية. ومن الجهة الأخرى هنالك قراء الشعر، حيث لا نستطيع المساومة عليها لخاطر القراء. مهما كان الموضوع مقدساً أيضاً.

لأضرب مثلاً بسيطاً. فأنا أقول في إحدى قصائدي القصيرة
داخل المضيق الجبلي
كل المصابيح كانت مطفأة
ما عدا واحداً
هو قنديل شاعر سهران
فوق جُرح قصيدة ساهرة.. مثله

هل هذا شعر؟ وهو السؤال الأهم في نظري. فإذا كان شعراً، هل هو مغلق تماماً؟ وكذلك هل هو مفتوح تماماً وتحولت بساطتها الى سذاجة شعرية. أترك الجواب للآخرين ،
أعود الى السؤال. ان حجم الكوارث عندنا هائل ومرعب ففي سنة 1988 لوحدها وفي حملات الأنفال سيئة الصيت وفي قصف مدينة حلبجة بالأسلحة الكيماوية. في الأولى اختفى عن الوجود 182 ألف كردي على يد الديناصور البعثي وفي الثانية خمسة آلاف في ثواني معدودة. فماذا يفعل الشعر أمام هذه الكوارث؟ هل نصمت؟ أنا أعتقد أن موت الفنان والأديب في صمته ولكن كيف نكتب؟ أن سلسلة الكوارث هذه حولتني الى شاعرينحاز الى كتابة الملاحم. في هذا العصر الغير ملحمي. ولماذا لا؟ وهكذا كتبت مضيق الفراشات و سفر الروائح والتي ترجمها الى اللغة العربية الأديب آزاد البرزنجي. وكذلك الصليب والثعبان ويوميات شاعر والتي ترجمها الى العربية المترجم والباحث دانا أحمد في الآونة الأخيرة وسوف تطبع قريباً. وأخيراً أناء الألوان والذي ترجمه المترجم والكاتب شا هو سعيد قبل عامين حيث تمت طباعته في مطابع دار الآداب في بيروت قبل عام. نعم تلك هي المحركات وأنا شاعر الذاكرة الكردية حيث أحفرها بالشعر على الدوام

محرك المكان

كردستان.. ليست المكان أو حتى الزمن.. أنها الوجود التام.. فهل كانت، في شعرك، أحد المحركات.. ما الذي يضاء في هذا المجال لقراء يجهلون قضايا الكرد؟
ــ لا أدري لماذا كثير من النتاجات الشعرية والأدبية الجميلة في العالم خرجت من رحم العذابات؟ عذاب الشعر كعذاب زهرة تنبتُ فوق الصخر تماماً ، عذبني الشعر لكي أنم وشعرياً. أنه كعذاب السنبلة في مخاضها الأرضي ولكن في النهاية تعلم أنها تدخل في تكوين خبز ويسعد الآخرين ، نعم صار الشعر حياتي. والشعر عهد أيضاً حيث قررتُ أن لا أخونه أبداً حتى بكلمة واحدة طوال 35 عاماً. وبسبب حبه حملته في قلبي والتحقنا سوية بالجبال وبصوت المقاومة. وبسببه أبعدتُ الى منطقة هيت ومن ثم للمرة الثانية والثالثة كنا في الكهوف الجبلية. وأخيراً طالت المسافات وشقائها. القصيدة هي الحياة وللحياة أبعاد كثيرة خارج دلالاته المتداولة أيضاً من الدلالات اليومية الى الدلالات الوجودية. إنها تتحول الى كل شيء. لقد تحولت القصيدة الى تجربة شعرية، الى بندقية ومنها الى بسمة امرأة والى بكاء طفل وحنجرة حمامة والى اللون والرائحة وتحولت الى فراشات في مضيق الغربة والى دمعة صوفي في خلوته أيضاً..الشعر هنا وجود يجد مكانه ابتداءً من قطرة الماء الى أخر كوكب في الكون ،
ما الذي يخسره الشاعر، وما الذي يكسبه، في نهاية المطاف.. في رحلة تشبه دخول عتمة بحثاً عن هدف غير مرئي أو لا وجود له؟
ــ الشاعر الحقيقي كالعاشق تماماً. لا يلتفتُ الى الخسارة والربح أبداً. وإنما الى احتراقه المتواصل دون أن ينتظر شيئاً ما. أنه الجدول الذي يجري في العتمة وتحت الشمس والمهم ان لا يتوقف ولا يصمت. ليقل كلمته ويرحل. وفي النهاية حين يجئ الموت لا يأتي إلا كحقيقة مطلقة. فالذي يبقى بعد الشاعر هو فقط ثمة قصائد قليلة تصمد أمام الزمن وبإصبعها تؤشر الى الحقيقة والجمال.
هل كان الشعر، عندك، مثل الذهاب الى المستحيلات.. أم كان الشعر، محض علامة لوجود يتمم غموضه المتواصل؟
ــ الشعر هو الخوض في الأسرار. أو الولوج الى سويداء اللغة. أنه البحث عن الضوء في العتمة أو محاولة كشف مستمر داخل المجاهيل التي لا نهاية لها. أنه قدر كقدر سيزيف مثلاً. الشعر عندي مثل الذهاب الى وسط بحر متلاطم الأمواج، أو الدخول الى حَلم يخيفك قبل أن تطأ إقدامك فيه. وما القَلَق إلا الطريق المؤدي الى الشعر. لا طمأنينة في هذا السفر الدائم. فكل مرة حين أكتب شعراً يراودني الخطر ولا تراودني السلامة ، وفي كل مرة تتغير الطرق والمسافات والمجاهيل هنالك اللحظات الشعرية التي تسبق الكتابة وكأنك أمام نار وأنت تفكر بتجاوزها ولكن من أين؟ أنها البداية التي توقفني دائماً قبل الدخول الى عالمه. إنه علامة أيضاً ولكن ليست لها محطة ثابتة، علامات تشير الى علامات متلاحقة. لا ارتواء لي ولا قناعة بما أنجزه. فأنا أحب أخر ما أكتبه وبعد ذلك أعود الى حالة من الخواء وكأنني لم أكتب أي شعر على الإطلاق. هنالك فترات أكتب خلالها قصائد مثل المطر تنزل مدرارا. وهنالك فترات ربما تمتد الى شهور وأنا لا أكتب فيها أي شيء، كأني نسيت الكتابة أصلاً.. سماء وسحابة ولا قطرة ، وفي الحالات هذه أقترب من حافة الجنون واليأس ، إن كتابة الشعر هي كتابة القلق الذي لا حدود له وكلما توغلتُ فيه تجد أمامك عوالم متغيرة على الدوام. حيث للغة متاهاتها وألغازها وسحرها.. أسفار في البحار وثمة سراب يظهر على شكل ضفاف وكلما اقتربت منها يختفي السراب وكأنك في بداية الأسفار ولم تتقدم خطوة كأنه لا يوجد الأمامْ . هل وهو الضياع؟ لا أدري. ولكنني متأكد من أن شيا واحدا وهو أنني مازلت أكتب حتى هذه اللحظة ولم يجئ الموت..الحقيقة الوحيدة التي باستطاعتها أن تجبرني على الصمت

الزمان - August 4, 2013

*****

ستذهب حلبجة إلى بغداد

شيركو بيكه س

ترجمة: رؤوف بيكه رد

اخبروهم ..
ستذهب حلبجة إلى بغداد قريباً
عن طريق غزلان سهول شيروانه "[1]"
حاملة معها . سلة من الغيوم البيضاء
وخمسة آلاف فراشة .
تذهب حلبجة إلى بغداد
وعند وصولها
تنهض دجلة بوجل ..
تنهض بكامل هيبتها .. وتحتضنها
ثم تضع طاقية الجواهري على رأسها
بعدها ..
تقترب يمامتان من النجف
يغمر حنجرتيهما الهديل
ليحطا على كتفيها
عندها ..
وعلى مرأى ومسمع من النهر
تتراقص أشجار الزيتون والصفصاف والنخيل
من جدارية جواد سليم المتينة
يخرج الحصان الأبيض
يملأ العاصمة بصهيله
والشمس ... تفلت لتمطر الضياء
تذهب حلبجة إلى بغداد
ثوبها ورد الرمان
وقامتها شلال أحمد آوا "[2]"
في لحظة وصولها
ينزل أبو نواس من على دكته
يصنع من الزهر والرمان وتدفق الشلال
خمراً جديداً
يسكب الكأس أولاً لـ - حسين مردان -
يرتشفه بسرعته المعهودة
وبعده
يتقدم رشدي بشعره المنفوش
وربطة عنقه المائلة
ليسكر مع (حديقة علي) "[3]" حتى الثمالة
تذهب حلبجة إلى بغداد
ترى الحصيري مثلما كان ..
زجاجة خمر وسترة متهدلة
واقفاً أمام تمثال الرصافي
يترنح ، يخبو ، ويندفع
وقد اشتعل وجهه احمراراً
يتلكأ بأبياته العمودية
يلعن الكون
ويشتم ابن صبحة ومدرسة العفالقة
والرقمين 17 ، 30
تذهب حلبجة إلى بغداد
تجول ببصرها نحو الحيدرخانة
وقد عاد لها شبابها
وفي مقهى حسن عجمي
تنزل من على الرفوف والمواقد
النرجيلة والسماور.
أباريق الشاي والاستكانات المزركشة
تتراصف على الرشيد
تترنم بنغمة الأجراس
وترقص فرحاً
تذهب حلبجة إلى بغداد
تنظر إلى سدارتي القبانجي وعلي الوردي
بجناح المقام ونبراس الفكر
تحلقان كالفاختة
على القبة الزرقاء والشناشيل
وتنثران السرور
تذهب حلبجة إلى بغداد
تمر بـ - الشورجة-
يتعطر جسدها بعبق الهيل والقرفة والمسك
تحيط بها قبلات الفيليين
وبعد هنيهة
تستحيل هذه القبل إلى نحل
وقامة حلبجة إلى خلية عسل
تأتي الحرية
لتوزع العسل على الجميع
تذهب حلبجة إلى بغداد
في طريقها تقف في شهربان "[4]"
تنزع عن نفسها
في بساتين البرتقال
آخر قطعة من رداء البكاء
بعدها
تتقدم برتقالة ذات شعر نارنجي
عبر سياج البرسيم
لتهديها
فستاناً طويلاً مطرزاً بورودها
ترتدي حلبجة
ثوب الشمس
ثوب الكرنفال
ثم تذهب إلى بغداد.

* مقاطع من قصيدة نثرية طويلة بنفس العنوان ، كتبها الشاعر قبل سقوط النظام الدكتاتوري في بغداد بأيام.

إشارات

هذه القصيدة كتبها شيركو بيكه س قبل سقوط النظام المباد بأيام.
[1] سهل شيروانة : سهل شاسع يقع في منطقة كرميان يشتهر بمرتع الغزال وهناك قلعة أثرية بالاسم نفسه .
[2] أحمد آوا : منطقة وقرية في الشمال الشرقي من مدينة السليمانية ، وهي منطقة سياحية خلابة .
[3] حديقة علي : ديوان شعري للشاعر العراقي الخالد رشدي العامل .
[4]شهربان : مدينة كردية في محافظة ديالى .

الحوار المتمدن-العدد: 4033 - 2013 / 3 / 16 - 17:52

***********************

شيركو بيكه س.. «لا أحد» الذي ظلل الجميع

ابراهيم محمود

شيركو بيكه سالشاعر الكوردي الذي ودَّعته الحياة عن عمر بلغ الثالثة والسبعين عاماً، فهو من مواليد السليمانية في إقليم كوردستان العراق العام 1940، ترك جمهرة غفيرة من المعنيين به: أهلاً مباشرين ومقرَّبين منه عبر شعره، ويعني ذلك أنه كان محاطاً بهم ولو أنه أسلم الروح في السويد بتاريخ 4-8-2013. نعم، كان له أهله وأحبَّته، وليس من دونهم»، كما هو معنى لقبه: بيكه س: لا أحد، ولعله الدال على أكثر من معنى تجاوزه في شخصه وعناه في حسبه ونسبه الكرديين».
بيكه س كتب قصيدته الطويلة جداً لحظة النظر في ومضاته الشعرية، أعني ما يبقي كل ومضة نزيلة خيالات قارئه أو شواغل ناقده الأدبية والفنية، عندما يضفي على كل قصيدة شعرية تنتهي سريعاً عملياً ما يبقيها جديدة، ولكنها من هنا تباشر عملها عبر استدراجات لها غوايتها بأكثر من معنى، كمن يحفّزك على رؤية الهواء، أو تأبط الماء، أو مساكنة النار ومصادقتها.. الخ.
في أكثر من ثلاثين أثراً شعرياً، من «شعاع القصائد» (1968)، حتى «فتاة هي وطني» (2011). ربما كان في وسع هذا الشاعر الشديد المحلية أن يعرّف بنفسه وفيه نبض عالمية، كونه آثر استلهام النفحة الشعرية من كل ما كان يمت بصلة إلى وطنه الممزق كوردستان، وما عاشه ككوردي الجبل والسهل والوادي والنهر والفراشة والوردة والماء والتراب والهواء والمنغصات وغيرها، في طبعة تحمل اسمه، كما لو أن لقبه كان يقتفي أثره ليزداد عمقاً، وهو يطلق أسماءه الكوردية الصرفة على أشيائه الكوردية المدماة واقعاً، أي حيث يكون القهر علامته الفارقة، وكونه تجاوز محنة القهر مراراً وتكراراً من دون نسيانه، ليتمكن من التأريخ لرموزه وضحاياه.

البساطة

الحديث عن الطبيعة وللطبيعة، ولكن المخاطَب هو الإنسان دون استثناء، إنما المسكون برهبة المأخوذ به هو الشاعر. إنه أثَره الموقَّع باسمه.
يظل الإنسان هو مقياس الأشياء ليس على طريقة بروتاغوراس أو غيره سفسطائياً، إنما يكون البحث في العالم والسعي فيه، كما هو التوقف عند العلامات المميزة في الطبيعة شأناً إنسانياً، ويتضح مما تقدم أن الوردة كاسم اصطلاحي بلغة محددة، لا تعود وردة في صياغتها الشعرية، كما أنها تفارق حقيقتها النباتية على قدر إدخالها في اللعبة الشعرية، وحتى بالنسبة إلى التاريخ الذي يظهر أنه متحسس منه كثيراً، لأن ثمة ما يكتَب باسم الجلاد، وثمة ما يحاكم الضحية باعتبارها مؤذية الجلاد، والتاريخ يكتَب باسم الأخير، ولهذا يكون حجم الحزن عصياً على القياس.
إن البساطة هي صنعة المبدع الذي يثير انتباه القريب والبعيد، باعتباره المؤتي بالمختلف والمراهَن عليه لاحقاً، وما في ذلك من لصوصية مسلحة، لا بل ومن مداهمة له حيثما يكون، عبر التكتيم والتجاهل، بينما يكون في الطرف الآخر تحوير أو تزييف له، وفي الوقت نفسه محاولات متعددة، لكيفية استثمار ما جاء به كأنه الآخر بينما هو في الواجهة، وبيكه س كان ظله ذاتياً بقدر ما كان يسمح للكثيرين في أن يتفيأوا به حباً، سوى أنهم كانوا يريدون إبراز ظليّتهم في التقليد، ولكن الظل العائد لكل منا يسمّيه ويعنيه، من خلال المتعارَف عليه بـ«السهل الممتنع». ثمة إغراء دائم بالمحاكاة أو التقليد، خروجاً من القطيعة التي ينظَر في أمرها كثيراً، مثلما أن ثمة عدداً ملحوظاً من ذوي الاحتياجات الأدبية مع ضعف في الموهبة وتصحّر في الذات الأدبية، يتلمسون في ذلك فرصتهم السريعة بوضع المقابل، لكن البساطة في مرجعيتها الينبوعية تفضح السر المزعوم وتشهر في الساعي إلى لفت الأنظار باعتبار إبداعي، كما في السالف ذكره.
كأن الشاعر الكبير الذي خبر الحياة ببساطة المدوَّن شعرياً، يرسل تحذيراً إلى جانب طلقاته الشعرية التي تحيي ولا تميت من يهمه الأمر: الحية/ نفخ لهب على ناره/ ليطفئها/ عندما لمح حية مقرورة/ تجيء لتلتف قربه».
وبين الحية وبين المسكون بالحياة ثمة تاريخ، ثمة ثقافة، ثمة مناورات وحسابات، إنما ليس بوصف الحية حية، إنما بوصف المندفع صوب اقتناص الفرص يشاكل الحية، يتلبسها في الوضعين: أن تكون متجمدة، وأن تكون دافئة.
بالطريقة عينها، يمكن إجراء مسح ميداني في دوائر الحياة وفي الوجوه البشرية ومراتبها وصفة هذه المراتب، كما تقول التجربة، والأمر لا يتطلب أكثر من مرونة وليونة في تعقب الروائح وأساليب التحرك وخاصيات التحادث باختلاف المجتمعات وليس عبر التعميم، لكن ذلك يعني إمكان توسيع حدود الرؤيا الروحية، كما لو أن الجسد العائد إلى المبدع وليس الشاعر وحده يتنفّس ما هو كوني، لبلوغ الأوفى والأصفى في المعتبَر سهلاً.
أظن أن بيكه س يمنحني فيما تركه من آثار لا تخفى روعتها، المزيد من الفرص لتذوق سلالات الإبداع، عبر النظر في كل ما هو قائم في محيطنا، حيث إن «الطريدة» الشعرية لا ترعى بعيداً أو تقتَنص في غفلة، إنما تكون في روح تسيطر على أفق يتسع باضطراد، والحكمة قائمة بتنوع لوائح جمالياتها في كل ما نشمّه ونضمّه ونتلمّسه ونتذوقه ونتخيله.. الخ، إنها العجينة التي لا تنفد، سوى أن على يدي الإبداع أن تكونا على مستوى المعطى زمكانياً، وفي كل موجود ما يصلنا بوجود له مردوده الجمالي، كما في مثاله الذي نعايشه، ولكنه القلة القليلة جداً مثله تخلّده أدبياً حتى خارج لغته المعنَّاة مثله كثيراً: الفراشة:
«لا تحزني أيتها الفراشة/ لعمرك القصير/ لأنك وفي الغمضة تلك/ منحت طولاً لعُمر الشعر/ لم يعطه حتى «نوح/» فلا تحزني... أيتها الفراشة».
وحده الإنسان هو الذي يحزن، وما عليه كي يُطرب أن يُمعن في سر هذه الفراشة وعلامتها!
هل ثمة ضرورة لتقليب المشهد الشعري على وجوهه لقراءة النافذ فيه إلى ما وراء المنظور؟ حيث الفراشة تعنينا وتتمثلنا خفة ورفة وتحفة!
ربما من هذا المنطلق الإبداعي النفيس ترك الراحل الكوردي الكبير قصيدته الطويلة جداً. على النقاد النقاد إذاً التمكن من قياسها!

إبراهيم محمود
(دهوك)

***********************

تغريدة
"أمير الشعراء الكرد"

احمد بزون

"لا تنتظروا، صاحبكم قتل".. هذا ما يقوله الكرسي الفارغ عندما ينتظره الناس ولا يأتي. وهكذا تكلم الشاعر العراقي الكردي شيركو بيكه س، في مجموعته الشهيرة "الكرسي"، التي أنسن فيها الكرسي، وجعله يتكلم ويتذكر سيرته من الغابة إلى النجار فالمدينة فالمقهى... إلى أن يصبح هذا الكرسي متعلماً، فينطق ويفصح عن أن صاحبه الشاعر قتل في "الأنفال".
لم يقتل بيكه س، لكنه كاد، فقد عَبَر بحياته الكثير من المخاطر، إلى أن قتله المرض أخيراً، وبقي كرسيه يتكلم عنه. الكرسي نفسه الذي بحث عنه عندما عاد إلى الوطن. فالملحمة التي كتبها تحت عنوان "الكرسي" كانت بين يديّ العام 2007، وأنا أستمع إلى صاحبها يقرأ، في المهرجان الثقافي الذي أقيم تحت راية الجواهري، بعضاً من قصائده البرقية، لتظهر لنا المسافة بين ما نسمع ونقرأ، أي يظهر ذلك التنوع الذي كان يضج في شعر أهم شاعر كردي في كردستان العراق، إذ يضم النقائض في طبيعة الشعر، تماماً مثلما هي مشاهد الطبيعة الكردية التي تغنّى بها كثيراً في شعره.
أقول "تنوعاً" لأنه في الحوار الذي أجريته معه حينها رفض أن يسمّي انتقاله من السرد إلى الشعر إلى المسرح، بـ"النص المفتوح"، إنما اعتبره نصاً متنوعاً. فهو الشاعر الذي لم ينوّع في شعره وحسب، إنما نوّع في حياته، فكان يعتبر الحياة أوسع من الشعر، فالشعر نفسه ليس إلا تنويعاً في الحياة. وحياته التي تنقل فيها بين الشعر والترجمة والانضمام إلى صفوف البشمركة ثم انضمامه إلى حكومة كردستان وزيراً للثقافة، ليست إلا تعبيراً عن هذا التنوع في شخصيته، والذي لا يفسر إلا بالغنى وسعة الاهتمامات، التي من شأنها أن تجعلنا ننظر إليه من زوايا مختلفة، وبشكل عام، فهو شاعر مبدع وسياسي في آن.
قد نختلف مع أحلام بيكه س، التي لم تقف عند المطالبة باستقلال كردستان العراق، بل تعدت ذلك إلى حلم أكبر طالما صرح به، وهو "كردستان الكبرى"، الحلم الذي لا يتحقق اليوم إلا بمزيد من الجراحات الدموية، وإن لم يرد شاعرنا تحقيقه إلا سلماً، على حد قوله لي... قد نختلف معه في هذا البحث المتأخر عن الصفاء العرقي، في الوقت الذي يتجه العالم الحديث إلى الاختلاط والتمازج والتعايش وتغليب الحس الإنساني الأممي في بناء الدول على الحس العرقي والقبلي والطائفي والمذهبي، والوصول إلى مجتمع لا فضل فيه لانتماء على آخر إلا بمقدار وطنيته... لكن الاختلاف السياسي لا يحكم تقديرنا الكبير لواحد من الشعراء الذين تركوا إبداعهم الساطع يرثهم.
يعترض بيكه س على أحمد شوقي لأنه لم يُشهر كرديته. فهو لو فعلها لخسر لقبه، في حين أن شاعرنا الراحل الذي يقدّره العرب، وكل نتاجه ترجم إلى العربية، ويعرفه العالم، وقد ترجم إلى أكثر من 15 لغة، كان يكتفي، برأيي، بأن يحمل لقب "أمير الشعراء الكرد".

السفير- 6 – 8-2013

*******************

شيركو بيكه س: رحيل لوركا الكردي

حسين بن حمزة

شيركو بيكه س على إيقاع ديوانه الأخير «استعجلْ .. ها قد وصل الموت»، خسر شيركو بيكه س (1940 – 2013) معركته مع السرطان، ورحل أول من أمس في السويد، البلد الذي استقبله منفياً في ثمانينيات القرن الماضي، ومنحه جائزة «توخولسكي» (نادي القلم السويدي) سنة 1987. مزج الشاعر الكردي/ العراقي بين الشعر والنضال السياسي، والتحق بالمقاومة الكردية المسلحة، وتم إبعاده ووضعه تحت الإقامة الجبرية في السبعينيات. وبعد خمس سنوات أمضاها في المنفى السويدي، عاد سنة 1991 إلى مدينته السليمانية في كردستان العراق، وانتُخب نائباً في أول برلمان كردي، ثم عُين وزيراً للثقافة في أولى حكومات الإقليم. كان الشعر حصيلة هذه السيرة. كان شيركو «شاعر لغةٍ وأرضٍ وتاريخٍ تلطخ بالدماء»، وكان عليه أن «يكتب عذابات هذه الأرض، وأن لا يساوم على الخطاب الفني»، بحسب رأيه.
قرأ صاحب «مضيق الفرشات» الشعر الكلاسيكي الكردي، ولكن الأوزان والقوافي كانت تُضجره، إضافة إلى أن اللغة كانت مخلوطة مع العربية والفارسية. مع تجارب شعراء معاصرين مثل عبد الله كوران (1904 – 1962) وأحمد هردي (1922 – 2006)، اهتدى بيكه س إلى النبرة أو الحساسية الشعرية التي يمكنها أن تتسع للتجريب وللقضايا الوطنية معاً. هكذا، أسس مع عدد من أقرانه الشعراء والروائيين جماعة «روانكه» (المرصد) سنة 1970، وأصدروا بياناً يشرح طموحاتهم الكتابية. تحرّر الشاعر من قيود الشعر الكردي القديم وتقاليده، ولكنه ظل أسيراً لمأساة شعبه وهويته الكردية. ظلت المذاقات الرعوية والرومانسية والأسطورية تنبعث من قصائده القصيرة ومسرحياته وملاحمه الطويلة. كان التجريب محكوماً بلغةٍ محكومة بدورها بمعجمها الشعبي والغنائي، وكانت فكرة أن يكون ناطقاً باسم شعبه جزءاً من حضوره الشعري والثقافي. حضورٌ لاقى حفاوةً عربية مع ترجمة أعماله إلى لغة الضاد، إضافة إلى صداقاته مع عدد كبير من الشعراء العرب. بطريقة ما، انتمى الشاعر إلى الحداثة، ولكن هويته الكردية جعلته شاعر شعب وأمة. شيركو يشبه ذلك النوع من الشعراء الذين ارتبطت سيرتهم وإنجازتهم مع قضايا بلادهم. إنه يشبه لوركا بالنسبة لإسبانيا، ونيرودا لتشيلي، وناظم حكمت لتركيا، ورسول حمزاتوف لداغستان. كان في استطاعته أن يكتب تجريباً مثل «لا مثيل للوحتي/ رسمتُ الهدير لا الموجة/ رسمتُ هيبة الجبل لا الجبل/ ابتسامة الطفل لا الطفل/ نشيج الخبز لا الخبز/ صراخ الحجر لا الحجر/ رسمتُ حبّ حبيبتي/ وليس حبيبتي»، لكنّ شيئاً لا يفهمه سوى الأكراد يمكن أن يمرّغ لغته وذاكرته بتاريخ كردستان، وهو ما نقرأه في قصيدة عن أمه: «حين كبرتُ/ رأى معصم يدي اليسرى الكثير من الساعات/ لكنّ قلبي لم يفرح مثلما كان يفرح/ حين كانت أمي تعضّ معصمي الأيسر وأنا طفل/ وتصنع بأسنانها ساعتها على يدي».

الاخبار- 6-8-2013