كولومبا ان يرى بلده ثانية

ترجمة وتقديم: فوزي محيدلي

ستانلي ميروييعتبر وليم ستانلي ميروين واحداً من اهم شعراء اميركا المعاصرين اذ كيل له المديح منذ صدور ديوانه الاول برغم صعوبة شعره، الا ان هذا لا ينفي ان هذا الشعر يستحق كل جهد يبذل لتقريره وفهمه والسبب في ذلك ان شعره، حسبما اورد لورانس ليابرمان مجلة "يال ريفيو" يتميز "بالقدرة علي ملاقاتنا وإشغال عزيمتنا كما لم يحدث سابقا عند العتبات التي تفصل بين اليقظة والنوم، الماضي والحاضر، الذات وضدها، الرجل والاله، الحي والميت".

مع ان كتابة ميروين الشعرية عرفت تغيرات اسلوبية عديدة عبر مسار تجربته، الا ان ما يجمعها هوالموضوع المتواتر الحضور لانسلاخ الانسان عن الطبيعة. ويرى الشاعر تبعات ذلك بأنها كارثية للجنس البشري ولبقية العالم. وقد قال ميروين في احدى المقابلات: "يغضبني كثيرا الشعور بأن العالم الطبيعي يعامل على ان له اهمية بسيطة. وكدليل على اهتمام الشاعر والتزامه بهموم البيئة فانه قد عاش منذ اواخر سبعينات القرن العشرين في مزرعة لاشجار الاناناس في هاواي حيث بذل جهوداً مضنية لاعادتها الى حالة الغابة المطرية التي كانتها.

ويأس ميروين من تدنيس الطبيعة افضل ما تعبر عنه مجموعته "القمل". وقد كتب ليابرمان "قراءة هذه الاشعار تنطوي على تنقية للذات. كل قصيدة في الديوان تعلن حكما ضد الرجل المعاصر.. الديوان هو شهادة على الخيانات. لقد قمنا بخيانة كل الاشياء التي تمتاز بالقدرة على انقاذنا: الغابة، الحيوانات، الموتى، الروح في داخلنا، الكلمات. والان ونحن في آخر لحظات وجودنا كأحياء تعود هذه لتتملكنا".

اذا كان "القمل" قد نشر عام 1969، فقد عاد ميروين بعد خمس وعشرين سنة في ديوان "الذئبة" الى كتابة قصائد أخاذة تستند الى الطبيعة كخلفية لها. وهذا الديوان عبارة عن استكشاف للغابة الرعوية في جنوب غرب فرنسا (فرنسا التي اسماها ميروين الوطن على مدار سنوات عدة). وقد اورد الناقد ج.د. ماكلاتشي في مجلة النيويوركر ان الديوان "مليء بتفاصيل حياة الريف ـ نزهات منفردة، اعمال بستنة، حرق الحطب، تغريد العصافير، شلالات الضوء".

بالنسبة للاسلوب يمكن القول ان اشكال العديد من الحقبات والمدارس تشكل الاساس لقسم كبير من شعر ميروين. ثمة في الدواوين الاول، استناد الى حكايا الانجيل، الاسطورة الكلاسيكية، اغاني الحب من عصر الفروسية والنهضة. ويعلق الناقد ايريك هارتلي على اهمية هذه الخلفية لميروين قائلاً: "منذ بداية عمله كشاعر، اغرت ميروين الثقافات الاخرى والتقاليد الادبية المغايرة، كما واشيد به كمترجم. وقد امدته هذه الخلفية بشعور قوي بحضور الماضي، وباللازمن داخل الزمن، وكل ذلك حاضر بقوة في شعره".

وبخصوص صعوبة شعر ميروين يقول جون فيرمون "ان قصائد ميروين ليست صعبة ضمن معيار دراسي. المشكلة تكمن في الاذن المنهكة للقارئ الحديث "قصائده تنضم الى بعض اكثر القصائد غير الاكاديمية التي قرأتها، بمعنى انه لا يمكن مناقشتها ابدا داخل صف جامعي كونها لا تمتلك معنى ضمن المفهوم العادي.."

ولا بد من الاشارة الى انشغال ميروين بمعنى اميركا وبقيمها، مما يذكرنا بوالت ويتمان. اذ يتميز شعر ميروين بالشك في قيمة اميركا. وحسب الناقد ل. فولسوم، فان رده على ويتمان، بل واستجابته له، بدأ في ديوان "القمل"، الذي هو عبارة عن "اغنية مضادة للذات التي احتفى بها ويتمان وبتوحدهما مع الطبيعة.
هنا بدلا من توسع نفس ويتمان وتجرعها بل تمثلها كل شيء، مع تسمية ذلك بنشوة التوحد نقع عند ميروين على ذات مجردة من المعنى، غير قادرة على التوسع، داخل منظر طبيعي يرفض بدوره التوحد مع الذات، ويرفض ان يصار الى تمثله وامتصاصه، داخل مكان منسلخ وغير مسمى.. وهكذا بدلا من ان يعمل ميروين على توسيع حواسه، كما ويتمان، وعلى تكثيف حواس اللمس، والبصر، والسمع ليتسنى له احتواء الجموع التي حوله، نرى حواسه تنقرض وتتلاشى لتغدو عديمة النفع.. ولا يبقى سوى الصمت.. الذات تحتضر، رأسها يعود الى الرماد داخل اللهب الراهن للقرن العشرين. سعت ذات ويتمان الى استيعاب كل شيء، الى تجسيد الماضي، الحاضر والمستقبل، بالمقابل تسعى نفوس ميروين الى احتواء لاشيء، الى افراغ ذاتها من ماض ميت. واذا عاد الى الحاضر فانما مع تأكيد على غباء الانسان ولاانسانيته وعلى خواء لا يمكن رده، كامن في ظهرانية هذه القارة". ويضيف فولسوم "بعد ان يعيش من جديد عملية خلق البلاد عبر حقل الشعر، يجد ميروين ان عملية الخلق الاميركية لا تمت الى الخلق على الاطلاق، بل انها عملية تدمير، عملية محو او طمس يؤمن الشاعر ان ثمنها لا بد آت".

آخر ديوانين لميروين صدرا عام 2005 وهما "الهجرة: قصائد جديدة ومختارة (حاز جائزة الكتاب الوطني)، و"صحبة حالية". وميروين المولود عام 1927 في نيويورك احرز العديد من الجوائز: جائزة بيس هوكين للشعر (1962)، جائزة هارييت مونرو للشعر" (1967) "جائزة بوليتزر للشعر" (1971) عن ديوان "حامل السلالم"، "جائزة شيلي" (1974)، "جائزة بولنجين للشعر"، (1979)، "جائزة لينور مارشال للشعر" (1994)، "جائزة تانينغ للشعر" (1994).

********

أسرار

الوقت غير مرئي، الوقت قصتنا المستمرة
مهما يكن، نقول عنه انه يراوغ آمالنا العزيزة ومنطقنا

وهذه حالة صافية للحكاية
وأما المكان الذي تحدر منه اهلنا فانه قرن اخر

عصر بالكاد يستطيعون تذكره
لكنهم حملوه معهم على انه ملكهم سنة بعد سنة

وكونه مخبأ نادرا ما نظروا اليه الى ان
قام السر ودون انتباه منهم باخفاء كل التفاصيل

بالنسبة لأمي بدا ان شريط الستارة التي تغطي
مقدمة عربة الطفلة التي كانت

تدفع عربتها عبر حديقة الالهة حين كان
والداها لا يزالان على قيد الحياة كما اخبرت لاحقا

وبالنسبة لوالدي كان الوهج الذي سفح
النهر اذ هو جالس تحت التوهج الابيض

للشمس داخل القارب المسمر فوق صفحة الماء
حيث تسمح له الامساك بالمجذافين والتخيّل

ومع تركه المكان لم يستطع رؤية شيء حين
كان يحتضر صيفاً بعد منتصف الليل قبل انقلاب الشمس

ساعلاً لم يعتوره الخوف بل كان الستار لم يزل موجودا
حين قفلت والدتي عائدة من حديقتها ذات مساء من تلك السنة

لتخبر صديقتها على الهاتف
انها ستنال بعض الراحة الان، فيما نظاراتها على الارض

بعيدا عنها.. ولم ينقض اكثر من ساعة
بعدها حين دفعت جارة الباب ووجدتها.

*********

السنونوات

تدور الأرض مع كل ذكرى سنوية لها التي لا تحصى
بين مجموعة المجرات

مضى الآن عشرة اسابيع بأيامها
ولياليها منذ ان تنفست آخر مرة واليوم تحديداً نصف قرن
منذ ان وقعت الأوراق
التي اعطتني مفتاح المنزل
نصف المدمر حيث لم يكن احد يعيش
على مدار معظم سني حياة المرأة
الطاعنة في السن التي ولدت هنا والسنونوات
عرفت دربها الى الداخل والخارج عبر الشبابيك
أيام الربيع كما اعتادت أن تفعل دائماً وكما
يتذكر أهلها قبلها
ولم يكن من كلام تعليقاً على عودتها
ولا تعداد لأيامها أو توقيت لمغادرتها
التفجع على حجر
الخليج حيث وجدتك يطل على الضوء الطويل
الذي يتوهح في الغرب تحت السماء الباردة

هناك، كما تقول الحكاية، نظر كولومبا
الى الوراء ولم يعد بمقدوره رؤية إيرلندا ثانية

لذا صار بإمكانه البقاء، هذا ما قرّ رأيه عليه
داخل ذاك الجزء الكثير الحصى من البحر

الآخذ شكل مروحة حول الهلال العريض
المتشكل من حصى أخضر غير موجود في مكان آخر

المنقط بالأحمر والموجود في الأعماق الزرقاء والمصقول
ناعماً كما الماء لدى تدحرجه كما يفعل الماء

حصاة تتدحرج فوق حصاة وكأنها
تتدحرج عند قدميه، ويقال انها

برهان ضد الغرق ورأيتك تأخذ
شكل القلب الطويل لعصفور

وحين وضعتك في راحتي طرنا سوية
عبر السنين التي سمعناها تندفع تحتنا

أين طرت الآن تاركا اياي لأسمع
ذات الصوت وحيدا دون ان تكون في يدي.

المستقبل
الاحد 4 حزيران 2006