هل في وسع الشاعر الحديث أن يكتب
متجاهلاً القنبلة الذرية والنفاق العالمي؟

السؤال عن الشاعر الحديث يثير ثلاثة إشكاليات:
أولاً : أنه يوحي بالمزج بين الشاعر كـ سيرة والشاعر كـ منتج نصوص. وأعتقد أن المقصود بالسؤال هنا هو النصوص لا أصحابها. لذلك، أقترح أن يكون الكلام على الشعر لا على الشاعر.
ثانياً : أن طرح السؤال بصيغة من الاستفهامية، كما وردت، هو بمثابة استدراج إلى إجابة تعريفية حصرية لم يتوصل أحد إلى صياغتها حتى الآن، لأن الشعر يفر من التعريف. فكل تعريف لا بدل له من أن يُستوحى من واقع الإبداع الشعري، من راهنه وماضيه، ولا يمكنه، بأي حال، أن يستبق مُستقبل هذا الإبداع الذي لابد من أن يؤثر في النظرة إلى ما هو شعري وما هو غير شعري. ذلك أن التعريف إذا انصب على شأن متحرك، منحه شكلاً ثابتاً والصق به صفة الجمود. والشعر شأن متحرك إذا لحقه التعريف كان لابد لهذا التعريف من أن يخضع للمراجعة خضوعاً دائماً، الأمر الذي يجعل منه غير ذي فائدة.
ثالثاً : السؤال من هو الشاعر الحديث يستدعي مقارنة مع غير الحديث وقبل ذلك تحديد المقاييس التي يستند إليها هذا التمييز، ويقضي بأن تكون نتائج هذه المقارنة جزءاً لا يتجزأ من محاولة الإجابة. هذه المقارنة تحيلنا إلى البحث في جملة من المفاهيم والمصطلحات الموروثة التي نلجأ إليها لا بسبب دقتها العملية بل لأنها متوفرة في السوق.
متى تكون الكتابة شعرية ومتى تكون نثرية ؟ متى تكون حديثة ومتى تكون قديمة؟ وما هي معايير التمييز؟ وعند اختيار المعايير، إلي أي حد يمكن اعتبار هذه المعايير سليمة؟ المجال لا يسمح هنا إلا بطرح الأسئلة. والإلحاح عليها. لأننا كثيراً ما نميل إلى التعامل مع المسلمات وكأنها حقائق منزلية. أكتفي بإثارة بعض النقاط :
لا أضيف جديداً إذا قلت أن كل كتابة هي رؤية إطار لتعريف، لا تعريف بالمعنى الدقيق: وليكون تعريفاً من نوع أن الكتابة الحديثة التي قد نسميها أحياناً شعراً هي جملة شخصية معاصرة ذات وعي معاصر . لماذا جملة ؟ أي جملة ؟ ما هي حدودها ؟ أين تبدأ وأين تنتهي ؟ ما هي العناصر الدلالية التي ينبغي أن تحتوي عليها حتى تصبح جملة شعرية مفيدة ؟ كلها أسئلة جديدة بالبحث. لكن المقصود بالجملة هنا هو ما يمكن أن نتفق عليه باعتباره وحدة صغرى لتأليف تركيبي - أسلوبي يخرج على نمطية الجملة الاتصالية التي تهدف وحداتها التركيبية إلى تأمين التواصل الوظيفي بين الناس. وتكون هذه الجملة شخصية بقدر ما تفلت من هجوم التعابير والتراكيب الجاهزة، وتكون معاصرة بقدر ما تستمد مفرداتها والتراكيب من سياق الاستعمال اللغوي الآني، الذي تشكل لغة الصحافة مثلاً بارزاً عليه. إن لغة شخصية معاصرة قد لا تعبر بالضرورة عن وعي معاصر. ولكن كيف يكون الوعي معاصراً وكيف لا يكون ؟ هل يمكن تحديد مضامين المعاصرة ؟ في وسع الكاتب - الشاعر أن يعكس في نصه كيفية حضوره في عصره. في وسع النص أن ينطوي على روافد معرفية، ولكن بمفردات التعبير الشعري وفنياته غير المحدودة : هل في وسع نص حديث بعد أن يستخدم مفردة السيف استعمالاً جدياً للتعبير عن البأس والقوة ؟ هذا لا يعني أن عليه أن يلجً إلى الذدة للتعبير عن حضوره في العصر، لكن، هل في وسع الشاعر أن يكتب، اليوم، متجاهلاً وجود القنابل الذرية والنفاق الدولي ؟ لكن المسألة الفنية تبقى هي الأصل في التعبير الشعري : كيف تكون اللغة شعرية ؟ ما هي عناصر شعريتها ؟ دور الصورة الشعرية ؟ كيف يتحول التركيب النثري إلى قيمة شعرية ؟ كيف تحضر الأفكار والمعاني والرؤى والأسئلة في قالب شعري ؟ إن التمييز بين نص حديث وآخر يقلد شكل الحداثة يمكن أن يحصل في إطار تحاول استجلاء الظواهر الأسلوبية التي تسهم في تحويل لغة الاستعمال العادية إلى لغة فنية.
-لا أعتقد أن أحداً يستطيع الادعاء أنه اطلع على كافة الآثار الشعرية التي ظهرت في الثمانينات في كافة البلدان العربية. وفي المهاجر لذلك فإن الحكم على الآثار التي ظهرت في الثمانينات لا يمكن إلا أن يكون جزئياً. لكن ما اطلعت عليه منها يسمح لي بالقول أنها شديدة التنوع والتفاوت، لكنها تتميز، عموماً، بميل يترسخ إلى اعتماد لغة عادية تبحث عن قيمه الشعرية خارج البلاغة الاستعارية، هذه النصوص الحديثة تواكب متغيرات اللغة، مفردات وتراكيب وتستجيب لراهن التجريب الأسلوبي، نعثر في نتاج العقد المنصرم، وقبله، على نصوص يتجلى فيها وعي لغوي حاد ورؤية معاصرة ذات قلق إنساني منقطع الصلة بشعر الأجوبة والتفاؤل والنبوءة والترميز الحضاري الذي يعبر عن عوالم مغلقة، أو عن مشاريع لـ عوالم جاهزة كالشقق. بالطبع، هناك الكثير من الثرثرة والإنشاء والخواء يغري بها الاستسهال. وهذه أمور مرافقة لكل تجربة جديدة. وقد رافقت أيضاً الشعر العمودي وسماها العرب بـ النظم لكن الطموح يبقى أن تنال النصوص الأصيلة حظها في التقدير خارج إطار الاستحسان الذاتي والتقييمات الانطباعية. وهناك كثير من النصوص الحديثة. في الثمانينات وقبلها، يستحق تقييماً إيجابياً.
السؤال عن النقد العربي الراهن في علاقته بالمستجدات الشعرية والمنجز الثمانيني خصوصاً، يطرح مسألة المواكبة النقدية. وينبغي القول أن المواكبة لا وجود لها إلا في المتابعات الصحافية السريعة، كون النقد عملاً تابعاً للأدب فهو، بالضرورة، متأخر عنه في الزمن. لكن المسألة في الشعر الحديث. أن هذا التأخر صار تخلفاً. وكم من تقييم متداول، ابتداء من الرواد وحتى نهاية الثمانينات، لا يستند إلا إلى الحضور الإعلامي للشاعر، ولا علاقة له بأي تقييم أكاديمي هادئ ومقارن. لا يزال المنجز الشعري الحديث، في مجمله وليس المنجز الثمانيني فحسب، في حاجة إلى دراسات أسلوبية وسوسيولوجية تربطه بمرحلته التاريخية وبتطور الفنون الأخرى في العالم العربي وربما في العالم. وهو في حاجة أيضاً إلى رؤية هادئة تضع مساهمات الشعراء الحداثية في مكانيها ولا تظل مرتبطة بمدى قرب الشاعر أو بعده عن وسائل الإعلام أو بامتلاكه لمنبر أدبي يستطيع من خلاله أن يفرض حضوره بقوة الخدمات المتبادلة من هم الشعراء الذين نسمع بهم اليوم ؟
هم الذين كانو ولا يزالون على علاقة بالمنابر الإعلامية أو الأدبية، يستوي في ذلك الرواد ومن جاء بعدهم. كثيراً ما نخلط ما بين الحضور الإعلامي والحضور الإبداعي. والدراسات الأكاديمية الرصينة، حين توجد، لا تحظى بجزء يسير مما تحظى به مجموعة شعرية جديدة لشاعر راسخ في العلاقات العامة. يبقى العزاء في أن النقد العربي الكلاسيكي استغرق قروناً حتى استقر على بعض المبادئ والمقاييس، فلا عيب في أن يتخلف النقد، اليوم، عن حركة شعرية ما زالت تحبو، لولا الخشية من أن يكون هذا التخلف وجهاً من وجوه الانحدار المطرد والمعمم.
هذا سؤال له علاقة بـ تكوين المتخيل الشعري عموماً، ويشرف، في جانب منه، على مسألة التأثر والتأثير في الكتابة الإبداعية كما في الكتابة النظرية. أما المتخيل الشعري فإن تكوينه عملية معقدة ومستمرة ترقى إلى الانطباعات البصرية والسمعية الأولى، إلى أساطير الطفولة وأخيلتها، ولا تشكل القراءات الأدبية سوى رافد متأخر لها. هذه القراءات لا تأتي لتحتل مكاناً خالياً بعكس القراءات النقدية التي يمكن أن تدفع قارئها.
إن تكويني النقدي، إذا جاز التعبير، هو مزيج من قراءات مختلفة وتأمل في النصوص.. ويصعب، هنا، تحديد الأعمال التي كان لها أثر فاعل. وأميل إلى القول أن كل قراءة تترك أثراً، حتى تلك التي لا تتفق معها على ما جاء فيها. فهي تترك أثراً بما تثير من تأمل شخصي. علاقتي بما أقرأ هي علاقة جدل وتمثل وارتقاء. وبما أنني لا أتبع منهجاً نقدياً منتهياً، محدد المعالم والمبادئ، ولست مقتنعاً بإمكانية وجود مثل هذا المنهج، فإنني أحاول، قدر الإمكان، الاستفادة من كل ما يساهم في توضيح مصدر الجمال في النص، ومنع الكثافة التي تشدنا إلى التوقف عند بعض النصوص بينما نمر بغيرها عابرين.
أعتقد أن من مواصفات النصوص الحديثة عدم قابليتها لـ الانضباط في تيار شعري أو مدرسة أدبية. أما إذا كان المقصود بـ الجماعة الشعرية تجمع شعراء لإصدار منشورة أو لتأليف ملتقى أدبي، فأنا بعيد عن ذلك. قد يكون هناك شيء من التقارب بين عدد من الخيارات الشعرية عائدة لمجموعة من الشعراء يسمح بالالتقاء حول مشروع لكن الفاعلية الشعرية تبقى فردية،حتى لو لعبت التجمعات أحياناً دور الحافز. - الشعر عندي أقرب إلى الهواية، أو ما دون الهواية. فمن شروط الهواية أن تمارس في أوقات الفراغ. أما الكتابة الشعرية عندي فهي غير مرتبطة لا بأوقات الفراغ ولا بأوقات العمل. هي انبجاس مفاجئ لا أعتقد له بـ الوحي ولم يحصل مرة أن اتخذت وضعية من يكتب شعراً. تلح جملة عليّ، ثم تستجلب غيرها وقد يكتمل المقطع قبل أن أكتب كلمة واحدة. بعد ذلك أتركه يستقر على الورق وأترك الحكم على نشره خاضعاً لمرور الزمن وابتعاد المسافة بيني وبينه.
- معظم التعبيرات السارية الجيل الشعري، الرواد ... أضعها بين مزدوجين. ففائدة هذه التعابير توصيلية، في الدرجة الأولى، وهي غير صادرة عن دراسة منهجية، كما أنها جزء من كل يتناول الاستخدام الاعتباطي للمصطلحات في مختلف ميادين المعرفة الحديثة، ثم أننا مضطرون، في الكلام النقدي الصحافي لاستخدام هذه التعابير لأننا لا نستطيع أن نقترح تعبيرات جديدة أكثر دقة ونبررها في مقال ستريع. لا أريد أن أخل في ذكر أسماء الشعراء الأقران لأنها مسألة لا يمكن أن تخضع للحصر، ونسيان بعض الأسماء يدفع أصحابها إلى الاعتقاد بأن ذلك يعني إسقاطا قصدياً لهم، في ضمن منطق الإلغاء المتبادل الذي اعتادته الأوساط الثقافية العربية وربما غير العربية. لكنني أتابع، قدر الإمكان، كل ما أستطيع الوصول إليه من إصدارات جديدة، ويهمني أن أذكر أن كثيراً من الأعمال الشعرية وغير الشعرية التي كتبت عنها، في إطار عملي الصحافي، كنت أسمع بأصحابها للمرة الأولى، وكثير منهم كانوا ينشرون للمرة الأولى.
يهمني دوماً أن أرصد الكتابات الجديدة، خصوصاً تلك التي لا يحظى أصحابها بـ نعمة القرب من وسائل الإعلام. وقد فوجئت أحياناً بنصوص أعجب أن أصحابها غير معروفين على نطاق واسع.

نصوص

1

لأنني أعرف كل شيء فقدت الرغبة
لأني أرى الآتي
مثل ميت يتذكر

2

الحجارة ثقيلة على الأرض
الكلمات لا وزن لها
على حين غرة
نشيخ ونغادر

3

لا أحد يعرف
أين أكون الآن
قد أتغيب بعد قليل
بلا سبب واضح
وقد أعود
إذا سمحت الظروف

4

إذا قررتُ أن أذهب
سوف أختفي فجأة
وسوف أذكر
أنني مررتُ من هنا
ذات يوم

5

لماذا لا تخرج الوردة من حيادها
إلا لتذليل
كل شيء قابل للصدأ
الأسماكُ في البحر
والمواعيد
قد يتلف البحر
إذا استمر هكذا

6

لا أحد يعرف لماذا
حين انتهت السهرة
صمتنا جميعاً
تفرقنا إلى جهات معلومة
خفت الضوء قليلاً
تواعدنا على أن نلتقي
لا أحد يعرف لماذا

7

لا أحكي عن الجثث السائرة
بل عن الجثث
التي تسد الطرقات
وتمنع الموظف المثابر