زهرة مروة
(لبنان)

الأسئلة الوجودية كثيرة، نجيب عن سؤال فيحضر الى ذهننا سؤال آخر أكثر صعوبة. من بين الأسئلة الوجودية التي تستفزنا سؤال الموت. ما الموت، أهو نهاية أم بداية؟ منذ الأزل شكّل هذا الموضوع هاجسا لدى الانسان، فالموت هو المجهول، لا أحد منا يعرف ما سيؤول اليه بعد المفارقة الجسدية. أتت الأديان وطمأنت الناس بأن هناك حياة ثانية أبدية، وأكدت النظريات العلمية أن ما من شيء في الكون يفنى. فالعالم الكيميائي لافوازييه يقول: "ما من شيء يضيع وما من شيء يخلق، كل شيء يتحول". فكرة الحياة الثانية تطمئن المرء لأنه يشعر بأنه لن ينتهي. لكن على رغم ذلك لا يزال الموت مجهولاً، وبالنسبة إلى الكاتب البرازيلي باولو كويلو فإنّ "فكرة الموت تحفّزنا على العيش أكثر".

ماذا يقول الكتاب والشعراء اللبنانيون في الموت؟ توجهنا الى بعضهم وسألناهم كيف يتخيلون الموت؟ هل يخافون منه؟ هل هم متصالحون مع الفكرة؟ البعض يبدو متصالحاً مع الموضوع والبعض الآخر يخافه ويعتبره مجهولا أو شكلاً من أشكال العدم الذي سيؤول اليه الانسان.

الشاعرة سوزان عليوان متصالحة أكثر من زملائها مع فكرة الموت، فكأنها تعرفه أو تعرفت اليه في زمن ما. تقول:

"أشعر أنني أعرفه وهو ليس مجهولا بالنسبة إليّ. هو الشيء الوحيد الأكيد. إنه فعل مؤكّد أكثر من الولادة. أحيانا نشك في ولادتنا لكننا لا نشك في موتنا". لا تخاف الشاعرة من موتها، فهي حلّت مشكلة الخوف منذ صغرها، وتعتبر الموت "شكلاً آخر من أشكال الوجود. ربما الموت أكثر رحمة أو رأفة من الحياة". لكنها تخاف من موت الناس المقرّبين اليها لأنها تكره أن تفارقهم.
الكاتبة يسرى المقدم تتشارك الرأي مع عليوان كونها لا تحب أن تؤلم أولادها وأحباءها عندما تموت فيفتقدونها. لكنها تخاف الموت وهي غير متصالحة مع فكرته: "ما من كائن بشري لا يخاف الموت". وتضيف ان فكرة أن الموت هو العدم تخيف الانسان كثيرا. العبثيون أنفسهم يخافون الموت، والذين يسخرون من الموت يضمرون خوفا حقيقيا منه: "لا أتقبله ولست متصالحة معه. أتمرن على تقبله وخصوصاً لأنني كبرت في العمر. وأتمنى أن أعيش الى وقت تكون فيه حواسي كلها حاضرة".

تعتبر المقدم أنّ الموت شيء غامض. "انه السؤال الوحيد الذي لم يجب عليه أحد، ليس عندي جواب للموت. أحب أن يكون الموت سفرا. ومن الممكن أن يكون هذا السفر بلا عودة ومن الممكن أن يكون كينونة أخرى. الموت في حد ذاته مسألة حتمية"، موضحةً ان الدين أجاب بأن هناك ثواباً وعقاباً والأساطير أجابت بالخلود.
الكاتب سليمان بختي يعتبر الموت "الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة ". يقول ان الموت هو انتهاء المساحة الزمنية، المساحة التي نعيش ونفكر فيها. ويعبّر عن خوفه من الموت وعن عدم تصالحه مع فكرته، ويتمنى أن يصل الى مرحلة يتعامل فيها معه كصديق. ثم يتدارك قائلاً ان الموت رمزي ومعنوي وهناك أشخاص يموتون مرات عدة. الموت هو موت الحلم والمعنى. ويجب أن نقوّي حياتنا وندعم لحظات وجودنا بالحب والفن: "أنتصر على الموت بالحب والفن، بأعمالي وأولادي". ويستعين بقول محمود درويش "الفنون وحدها هزمتك أيها الموت".
"هناك شيء فظيع في الموت لأن الانسان يتحول لا شيء، أنا ميال الى فكرة العدم"، يقول الكاتب عبيدو باشا، ويضيف "أرى الموت مثل أي سياسي في لبنان". يفضل أن يكون الموت حياة ثانية: "هناك نظريات كنظرية التقمّص تتكلم عن حياة ثانية لكن للأسف لم يذهب أحد ويرجع". يخبرنا باشا عن الذين وصلوا الى حافة الموت وعادوا يتكلمون عن اللون الأبيض. بالنسبة اليه فإن الموت شيء غامض ومجرد، لم يستطع أحد أن يكتشفه بعد
. "انه يشبه المسرح العبثي".

الشاعر علي زراقط ينظر بتشاؤم إلى الموت: "ان الموت هو عندما يخرب جسم الانسان فيحرقونه أو يأكله الدود، انه نهاية الانسان". يعتبر أن ما من حياة ثانية، لذلك فإنه لا يحب أن يموت: "لست متصالحاً مع فكرة الموت".

تربّص

أحيانا نكون في خضم الحياة ويحضر الموت الى أذهاننا، يتربص بنا، كلما سمعنا بموت قريب لنا أو بحرب جديدة. لكن لا بد من أن نطرد تلك الفكرة من أذهاننا أو نفكر في الموت بطريقة ايجابية فيحفزنا ذلك على مزيد من المتعة والاحتفال بالحياة. بالنسبة الى الشاعر جان دو لا فونتين، فإن الموت "لا يتربص بالانسان الحكيم، انه دائما مهيأ للخروج منه". فماذا يقول الكتاب والشعراء رداً على سؤال: كم يحضر الموت في أفكارك اليومية؟
يسرى المقدم تقول إن الموت حاضر في كل تفاصيل حياتها اليومية وهي تتأثر بموت الناس من حولها: "أتذكر دائما الأموات بأسمائهم. أنا محاطة يوميا بثلاثين ميتاً من حولي".
سليمان بختي: "الموت يعيش معنا في كل لحظة. لديه حضور دائم في حياتي". يستشهد بقول للنبي محمد "الناس نيام اذا ماتوا انتبهوا"، ليومئ الى أنه يجب أن نستشف الموت أكثر في حياتنا.
علي زراقط يرى أن الموت "يحضر دائما في أفكاري اليومية ولكني لست مهووسا به".
عبيدو باشا تفكيره في الموت ظرفي. يخبرنا أنه بعد اجتياح إسرائيل لبيروت عام 1982، أصبح الموت هاجسه. وكان كل يوم ينتظر موته ويعدّ دقات قلبه. ولكن بعد انتهاء الحرب خفّ تفكيره في الموت: "لم يعد الآن هاجسي ولا يخطر في بالي كثيرا. كلما كبرت تصالحت معه أكثر. إنه المكان الوحيد حيث لا تمييز فيه أو درجات اجتماعية".
سوزان عليوان لا تفكر كثيراً في الموت: "لا يحضر بشكل يومي ولكنه يحضر في كتاباتي. هناك طمأنينة لسنوات طويلة. بالتأكيد لا يمكن ان ننتهي".

الأثر الطيّب

كل من يغادر الحياة، لا بد من أن يترك وراءه شيئا كالذكرى الطيبة مثلا أو الأثر الأدبي أو الفني. كثر من الأدباء والشعراء رحلوا وتركوا بصمات. لا يزالون حاضرين معنا، نتذكرهم كل يوم، نتمثل بهم، ونتكلم عن أعمالهم الفنية والأدبية: بودلير والمتنبي وبيكاسو... الخ. سألت الكتاب والشعراء: ماذا تحلم بأن يبقى منك بعد رحيلك؟ الأجوبة لم تكن صريحة كثيرا لأن معظم الذين سألتهم كانوا ميالين الى أن يتركوا ذكرى طيبة وبدوا غير آبهين كثيرا بالأثر الأدبي أو الفني.
سوزان عليوان يهمها أن تخلّف وراءها ذكرى طيبة أكثر من الأثر الأدبي: "العمل الأدبي يعنيني ولكن ما إن ينتشر العمل الأدبي حتى يموت. تنتهي علاقتي به. يصبح بين يدي الأبد ومن الممكن أن يموت، أو أن يخلد كأعمال بودلير وبيكاسو...".
يسرى المقدم بدورها تحب أن تترك وراءها ذكرى طيبة: "أحب ان يتذكرني اولادي دوما وأن تبقى المحبة الحقيقية التي زرعتها فيهم. أحب أن يتذكروني بحب ويتذكروا كيف أقبّل أقدامهم عندما يستيقظون. أحب أن أكون جزءاً من ذاكرتهم. ذكرى جميلة".
علي زراقط يحب أن تبقى الأشياء الطيبة التي قام بها. يقول إنه متأكد من أنه سيترك أثرا فنيا، ولكن ليس هذا المهم بالنسبة إليه، "فأنا لا أمارس الفن بهدف الخلود المعنوي". يضيف: "الناس تقرر ماذا يبقى مني".
سليمان بختي يحب أن يترك شيئا له معنى انساني، وينطوي على هدف جميل يعطي الآخرين الأمل والفرح: "تجربة جديدة ومنظار جديد للحياة".
عبيدو باشا لا يحب أن يترك شيئا: "أنا ميال الى فكرة العدم وأشعر أن الانسان يصبح عدماً في النهاية ويبقى للآخرين فقط"، متداركاً "أن المثقف يعمل ليبقى".

هل كتبتَ وصيتكَ؟

هل كتبت وصيتك؟ كان هذا السؤال مؤثرا كثيرا بالنسبة الى البعض فتمنوا عليَّ أن لا أطرحه ثانية. البعض الآخر ضحك عندما سمعه، ربما لعدم استشعاره خطر الموت حاليا، أو لاقتناعه بأن الموت مجرد عملية تحول، أو بأنه سفر وليس فناء أو انتهاء.
سليمان بختي لم يصل بعد الى هذه المرحلة. يضحك وهو يجيب: "ما من شيء محرز. ما زلت أشعر أن الموت بعيد وأنه لا يزال هناك وقت للعب. وصيتي المعنوية هي استمرار القيم الطيبة التي تعطي الحياة معنى".
يسرى المقدم لم تكتب وصيتها: "لا أحب ان أترك أشياء عالقة ورائي. ليس لديَّ ملكية لأورثها الى أحد. علاقتي بالخالق ليست علاقة وسائط. الأثرياء يأبهون بهذه الأشياء". لديها وصية معنوية، وضعتها في كتاباتها وهي "دعوة الى المحبة، دعوة الى الضعيف ليترك ضعفه والى المظلوم كي يدافع عن ظلمه، والى الفقير ليجتهد".
عبيدو باشا ليس لديه شيء يمنحه: "لم أفكر في الموضوع. عشت حياتي كما يقولون. انا ابن مرحلة وظروف وبيئة. نحن أولاد تجربة وخبرة عميقة ومفاهيم عميقة".
علي زراقط يجيب مستنكرا: "كلا، ما زلت صغيرا". ثم يردف: "كتبت أشياء تشبه الوصية. هناك أشياء عن الموت في شعري".
سوزان عليوان: "لم أكتب وصيتي. كل مرة أتكلم عنها ممازحةً، فتنهرني والدتي".

النهار
22 سبتمبر 2010