(البحث اللامجدي عن حضور.. قلم واحد وتوقيعين)

محمد النبهان
(الكويت)

زينب عسافأمين صالحسعد سرحانحالة كتابة النص الشعري هي حالة فردية تتطلب أمورا غاية في التعقيد؛ غياب، عزلة، قلق، طقوس ذاتية.. كل ذلك لإحداث الفن الذي تظهر فيه شخصية الشاعر (الفرد) وأفكاره.. الفن في كل مفاهيمه وقدرته على إدهاش الآخر/المتلقي.

في حين يأتي النص المشترك من فكرة ذوبان الأنا في أخرى.. من هذه الثنائية العجيبة بين شاعرين (شخصيتين) بما يشبه تلاقي كائنين في لحظة استثنائية تنتج شخصية ثالثة حسب ما يقول خورخي لويس بورخي.

مولود جديد كهذا بأبوين ناتج يقينا من مزيد من التعقيد، والقلق، وطقس نادر أقرب إلى حلم. كيف يبدو الأمر في كتابة نص مشترك يتحول من حالة فردية إلى حالة جمعية أشبه ما يكون بحوار يحتمل أكثر من «أنا» واحدة في داخله؟ ما مدى الصدق الفني هنا؟ وما اشتراطات كتابة نص مشترك؟
هذه الأسئلة توجهنا بها إلى عدد من الشعراء والأدباء العرب، استكمالا لملف سابق حول الشعر نشرنا منه تحقيقين في «القبس»، جاء الأول حول علاقة الشاعر بالجمهور، والثاني حول برامج الكتابة الإبداعية.. فكانت هذه المشاركات:

انحيازا لرغبة الاكتشاف

الشاعر والروائي البحريني أمين صالح، واحد من أهم الذين عاشوا تجربة النص المشترك، خصوصا في تجربته مع زميله الشاعر قاسم حداد كان لابد أن نستطلع رأيه وأن نستفيد من تجربته، قال: «من الطبيعي أن الكتابة، سواء أكان النص شعرياً أم سردياً، هي حالة فردية تقتضي العزلة وتستدعي طقوساً ذاتية، كما ذكرت. لكن هذا لا يتعارض مع الكتابة المشتركة في جوهرها الإبداعي ولا في تقنية وطقوس الكتابة. فالكتابة المشتركة لا تعني ذوبان الواحد في الآخر، كما يقترح سؤالك، والتلاقي بين كاتبين أو فنانين لا يحدث على المستوى الذي فيه تلتحم ذاتية وشخصية أحدهما بالآخر على نحو يتعذّر فصمهما، بل على مستوى المشاركة والتفاعل والجدل.. بين شخصيتين تتحاوران إبداعياً ويكون ثمرة الحوار، ثمرة الفعل أو الحلم المشترك، نتاجاً أدبياً أو فنياً يكتسب قيمته وأهميته من جدّيته وجدّة شكله وعمق رؤاه.

نص «الجواشن»، الذي كتبته مع الصديق الشاعر قاسم حداد، كان ثمرة رفقة أدبية طويلة، وصداقة حميمة، ورؤى مشتركة فنيا وفكريا. كانت التجربة انحيازاً لرغبة الاكتشاف بواسطة كتابة لا تخضع لأي سلطة.

كان مهماً بالنسبة لكلينا أن يُقرأ نص «الجواشن» كما لو أن كاتباً واحداً قد كتبه. بمعنى أن يأتي القارئ تاركاً خلفه أي إدراك مسبق لخاصية الكتابة عند كل واحد منا، كي لا يشغل نفسه بأمور هامشية لا تتصل بالنص ككيان قائم بذاته.. مثل عقد مقارنة بين الأسلوبين، أو البحث اللامجدي عن حضور كاتب هنا وآخر هناك. لذلك كان التجانس ضرورياً وشرطاً أوّلياً لكتابة عمل مشترك.

ثمة تأكيد هنا على الرفقة الحياتية والثقافية، وعلى التجانس الرؤيوي في ما يتصل بالفكر واللغة وفعل الكتابة، وعلى الطموح التعبيري الجمالي المشترك.. كشروط ضرورية لأي كتابة مشتركة.

أود الإشارة إلى أن تجربة الكتابة المشتركة، أو الفعل الإبداعي الناتج من تفاعل أكثر من مجال فني، ليس شيئا جديدا أو محض نزوة عابرة. إنه نتاج تجربة إنسانية خلاقة رأت في تداخل الذوات المبدعة، وفي تلاحم الأشكال الفنية والأدبية المختلفة، حقلا خصبا ينبغي ارتياده واكتشافه واستثماره على نحو خلاق.

المتعة من العناصر الأساسية التي تتأسس عليها مثل هذه التجارب. المتعة تجنبك الوقوع في شرك الأنانية والتعصب والهيمنة التي قد ترافق أي فعل مشترك يقوم به شخصان أو أكثر. إنك تذهب إلى الفعل لتتحاور وتتفاعل مع الآخر (من دون أن تفقد حريتك واستقلاليتك)، لتتوحّد معه بحيث يتحقق التناغم في الرؤية والطموح والرغبة.. ولا تناغم من دون متعة».

لا أثر لمسمار في الخشب

الشاعر المغربي سعد سرحان لديه هو الآخر تجربة مماثلة مع صديقه الشاعر ياسين عدنان، هذه التجربة شجعته عليها تجربة أمين وقاسم، حول هاتين التجربتين قال: «قرأتُ قبل سنوات كتاب «الجواشن» للمبدعين قاسم حداد وأمين صالح. كان قاسم وقتها قد ساهم في تعبيد جزء كبير من ذلك الطريق السيّار الذي ستعبره القصيدة الخليجية صوب قريباتها في المشرق والمغرب، فيما كان أمين يصلنا بالتقسيط عبر المجلات والجرائد. معرفتي بشعر قاسم أرْخَت بظلالها على قراءتي للكتاب، إذ كنت طوال صفحاته أحاول أن أقيم عدالتي: ما لقاسم لقاسم وما ليس له فلأمين. تلك، طبعاً، كانت قراءةً مغرضة لقارئ يمتحن نفسه فلا ينجح إلا واهماً. قرأت الكتاب مرة أخرى بمتعة أكيدة وأنا أعرف أمين صالح نصاً أكثر من ذي قبل: قاصاً ذا حس سينمائي. وأعد نفسي أمامكم بأني لن أعيد قراءة «الجواشن» مرة أخرى بعد أن أكد قاسم علو كعبه النثري في غير ما كتاب لاحق، وبعدما ارتفعت نسبة السكر في دم أمين، أقصد سكر الشعر في دمه النثري طبعاً، وهو الوعد الذي أعدكم، مرة أخرى، بأني سوف أنقضه.

قبل «الجواشن» وبعدهُ قرأت نصوصا وكتبا مشتركة عديدة، ولم أنج من القراءة المُغرضة إلا أبداً. إن قراءة النصوص المشتركة، وليس كتابتها فقط، تستحق ملفا خاصا. فإضاءة القراءة لا تقل جدوى عن إضاءة صنوها: الكتابة.

إذا كان الصديق قبل الطريق والجار قبل الدار فإن الشريك في كتابة النص، وهو طريق ودارٌ معاً، أهم من النص نفسه. لذلك، قلما نجد كاتبا يكتب نصا مشتركا مع غيره، اللهم إذا كان هذا «الغَيْرهُ» هو نفسه أو، على الأقل، في مقامها شخصاً وفي قامتها نصاً، وإلا كان النص بقلم واحد وتوقيعين.

منذ أكثر من عشرين عاما ونحن، ياسين عدنان وأنا، نتبادل الكتب، ما يعني أننا اشتركنا في القراءة قبل أن نشترك في الكتابة. كما أطلقنا مع بداية التسعينات «أصوات معاصرة» وقُدنا بعدها «الغارة الشعرية» وأثثنا معاً أكثر من منبر وأكثر من فضاء: ياسين بكل ما يملك من ضوء وأنا بكل ما أوتيت من ظلال... هذه فقط بعض محتويات كعكتنا المشتركة التي توَّجناها بحبة كرز كبيرة تحمل عنوان «مراكش: أسرار معلنة».

حين شرعنا في كتابة الكتاب كان ح.برُ ياسين قد تفرَّق بين القبائل: الشعر، القصة، الصحافة، النقد... فيما كان مدادي القليل لا يزال وقْفاً على القصيدة. كان علي، لذلك، أن أختار م.ن مراكش ما يناسبني، كأن ألتقط الدهشة من مكامنها وأن أزج بها في ضيق العبارة مثلا، وهو ما تورطتُ فيه قبل أن يطل من بين السطور قارئ الجواشن الذي كنته. ولأن الكتاب المشترك مثل حفل تنكري، بقناعين على الأقل، فقد عمدت إلى مراوغة القارئ ذاك بأن أصير ياسين لحظة أن يضع يدهُ عليه، حتى إذا فطن إلى المقلب وضعت قناعي فحس.بَ أني ياسين مُقَنَّعاً وهكذا... هكذا أفوّ.تُ عليه إقامة عدالته: ما لسعد لسعد وما لياسين لياسين. على الكتابة أن تكون أذكى من أي قراءة. لذلك استعرتُ قلم صاحبي مراراً وتكراراً أعَرتُه ممحاتي النهمة.

الكتاب المشترك هو فرصة الكاتب لكي يكون آخر حقاًّ، آخر كما قصد رامبو وليس كما عنى سارتر. لذلك، فالنصوص العَشرة التي تشكل الكتاب لا تعدو أن تكون أصابع يدينا التي لم تكفَّ عن تبادُل بصماتها طيلة صفحاته.

لقد كُتب عن مدينة مراكش من الصفحات ما يناهز مساحتها: كلود أوليي، أدونيس، غويتيصولو، سعدي يوسف، جورج أورويل، إلياس كانيتي... والقائمة طويلة جدّا. وحين كتبنا عن مراكش، فلا لكي ننضاف إلى هذه القائمة وإنما فقط لكي نُسدد للمدينة فاتورة الهواء.

لقد وظفنا أساليب وح.يَلا عديدة في الكتابة عن مراكش إخلاصاً لتنوع وثراء مجلاتها. ففي هذه المدينة: عشر دقائق مشياً على الأحلام تفصل بين القرن الخامس للهجرة والقرن الواحد والعشرين بعد الميلاد، بضعة أزقة تفصل العمارة الإسلامية بكل جلالها عن أحدث طراز أوروبي، التنانير الحسيرة شقيقاتُ البرقع، السرر المكشوفة بنات الخمار الأسود، الأحصنة والسيارات أمام إشارة المرور نفسها... في مراكش: ليس بين الأصالة والمعاصرة سوى واو العطف.

لطالما قلتُ: على الأدب أن يستفيد من غير الأدب. فلحم أكتافنا ليس فقط من اللحم الذي نأكل. في كتابتي الشخصية استفدتُ كثيراً من فن البَسْتَنَة، فالتشذيب يسمح للشمس بإعادة تشكيل الظلال وللأنساغ أن تعيد توزيع نفسها وهو ما يحدث للتنقيح مع الكتابة. أما في كتابنا عن مراكش حيث أكثر من قلم وأكثر من أسلوب وحيث كثيرٌ من اللغات العربية.. فقد استفدنا في تركيبه من النجارة الحديثة: لا أثر لمسمار في الخشب.

فكرتك حين تجرّها عربات الآخرين

الشاعرة اللبنانية زينب عسّاف كانت لها تجربة مغايرة في كتابة نص مشترك، تتوجس من طرحها شعرا، وتنحو بها إلى المقالة، تقول: «أفكر في أن النص المشترك هو مولود لقيط. لأن أيا من الكاتبين أو الكتاب المشاركين فيه لا يسعه ادعاء أبوة ما تجاهه.

النص المشترك فسيفساء أو خلايا ترصف واحدة تلو أخرى. هو فكرتك حين تجرّها عربات الآخرين. وبذلك يقترب ربما من الجدل الشفاهي، ولذلك يحتوي مساحات مبهمة لا تنتمي إلى أحد. ولعل هذا هو السبب وراء تمتّع هكذا نوع من النصوص بجاذبية خاصة، لكونه نتاج تكثيف وازدواج ومواءمة، ولكونه خلاصةً أو فضاءً حوارياً جرى تدوينه. النص المشترك يشبه الصفحة البيضاء بحياده ومحوه للملامح الخاصة وتطهّره من أنانية الإبداع. إنه ابن عاق قبل أي شيء.

تجربتي مع النصوص المشتركة كانت في مجال المقالات وليس القصائد، هذه المقالات كانت أفكارا منفردة حول تيمة واحدة جرى تجميعها و«تقميشها»، أو وضعها في إطار شكلي، يشبه أسلوبي تارة أو أسلوب شريكي تارة أخرى.

***

النص المشترك بين التحام ذات وأخرى.. أو التفاعل والجدل (2)

(أنانية الشعر وتبريرات الآخر.. عزلة مشتركة)

لينا الطيبيكتب محمد النبهان:

النص المشترك، هذه الثنائية العجيبة بين شاعرين (شخصيتين) بما يشبه تلاقي كائنين في لحظة استثنائية تنتج شخصية ثالثة حسب ما يقول خورخي لويس بورخيس.
مولود ناتج يقينا من مزيد من التعقيد، والقلق، وطقس نادر أقرب إلى حلم. كيف يبدو الأمر في كتابة نص مشترك يتحول من حالة فردية إلى حالة جمعية أشبه ما يكون بحوار يحتمل أكثر من «أنا» واحدة في داخله؟ ما مدى الصدق الفني هنا؟ وما اشتراطات كتابة نص مشترك؟

نشرنا أمس بعض المشاركات التي أجابت عن هذه الأسئلة، وتحدث أصحابها عن تجاربهم في كتابة نصوص مشتركة، ونعرض اليوم مشاركات أخرى، مرحبين بأي رد أو تعقيب على هذا الملف:

النص لا يتخلى عن أنانيته
الشاعر الكويتي نشمي مهنا له تجربة خاصة من خلال برنامج «إقامات الإبداع» في دورته الثانية التي أقيمت مؤخرا في الجزائر، وهي تجربة شعرية جديدة لمهنا خرج منها بحصيلة معرفية جيدة، يقول:
«النص الشعري المشترك قد يُكتب من باب التجريب، أو حضور موضوعات آنية مشتركة، أو حتى «إخوانيات» غير تقليدية وُلدت في لحظة شعورية مشاغبة، لكن لا أؤمن به مشروعاً كتابياً جاداً وحقيقياً، حيث اختلاف حرارة جسديّ. النص، وتنافر الدَمَين المجبرين على السَريان في شريانٍ واحد.

لي تجربة في كتابةٍ من هذا النوع، هل أقول «شخصيّة»؟
الشعر أنانيةٌ مفرطة، هكذا هو، ولا تتيح لنا هذه الأنانية الإيثار والتضحية والتنازل.

كنت متردداً وغير مقتنع في خوض مثل هذه التجربة التي كانت ضمن فعاليات «إقامات إبداعية» في العاصمة الجزائرية، ولكني لبيت الدعوة لرغبتي الدائمة بالطيران ولهامش الحرية الذي تركه لي صديقي المشرف على الفعاليات الشاعر بوزيد حرز الله في مكالمته الهاتفية وطمأنته لي «حاول... ولن نشترط الكتابة».

تربطني بالشاعر الجزائري عبدالله الهامل، شريكي في النص، صداقة سابقة، أتاحت لكل منّا معرفةً بكتابات الآخر، قد تكون مهدت لي «تبريراً» كنت أحتاجه في نفسي، لكنها بالتأكيد خلقت لاحقاً حالة كتابة «مشتركة» على طاولات المقهى، بل إن قلقه الصامت في أواخر أيام الملتقى حرضني كثيراً على البدء.

ماذا نكتب؟ كيف نكتب؟ وبأي لغةٍ نحاول اقتسام النص؟ أسئلة مرعبة، تدفع إلى التهيّب أو حتى إلى التهّرب، لكن ما المانع من المحاولة خصوصاً بعد أن استنزفنا طاقاتنا في أيام «الإقامة» في الفرجة والتجوال والمتع ومطر «زيرالده» الشتوي حيث نقيم، وركنّا إلى خشب المقاهي، والصمت البارد في غرف الفنادق؟!
الشعر أنانية ــ قلت ــ وصديقي الهامل يعرف ما يمكن أن نتقاسمه على الطاولة، وفي المخيلة، ومن اللغة، لم تخدعني طيبة قلب هذا الصحراوي ولا «ديموقراطيته»، ولكني مثله ما إن بدأتْ تتقلب المسوّدات بين أيدينا، حتى تلمست مساحات «المشترك».
لا أحاول أن أبرّر التجربة، لأني لم أجزم بعد بحاجتها إلى التبرير. وقد أكررها وقد لا أكررها، لكن النص المنجز الذي ولد هناك في ساحات «الإقامات الإبداعية» لاقى إعجاباً من الهامل ومنّي أولاً، وثانياً من أصدقائنا الشعراء «المقيمين» معنا.

ولي أن أفخر بنصف مقدار المديح الذي لاقاه النص، فأنا نصفه!
إذاً؛ سأنقلب على رأيي وأقول إن النص المشترك هو «كانتونان» من العزلة لكنهما يفتحان بوابات الليل بعضهما على بعض إن أَم.نا الاشتباك و الغزو المدمّ.ر للجينات.
هو... محو الفواصل على ألاّ ترتبك العبارة.
هو... جزيرتان مدّتا ألف جسرٍ لكسر الوحشة، وعبور هواء جديد لم تألفه صدورنا ليكمل الناقص فينا من أحاسيس.

بدأت بوصف النص المشترك بـ«تنافر الدَمَين» وانتهيت بـ«جزيرتين بألف جسر»!
بصراحة؛ ما زلت متردداً، وغير متيقن، ولا أدري... رغم تجربتي في كتابة «النص المشترك»!

فخ مشترك

الشاعرة السورية لينا الطيبي هي الأخرى عاشت عدة تجارب في كتابة نص مشترك، ولها تجربة مغايرة مع شاعر من الإكوادور من خلال لغة وسيطة، تقول لينا:

«أحب فكرة كتابة نص مشترك مع آخر يختلف عني أو يشابهني، الاختلاف أحيانا يأخذ إلى مناطق جديدة، كما الائتلاف.

كتبت نصوصا مشتركة مع شاعرات وشعراء آخرين لكن كلها كانت وليدة اللحظة، أولها كان مداولة في ورقة بين زملاء شعراء كنا نجوز الحدود بين لندن واسكتلندا في قطار خلال كتابتها، وكان فيها شيء كبير من العفوية، بعدها كانت لي تجربة أيضا في قارب نهري في أمستردام خلال مهرجان شعري عربي وكانت ربما التجربة الوحيدة التي نشرت بمشاركة الزملاء قاسم حداد وصادق الصائغ ومروان علي وأنا.

المرات الأخرى التي شاركت فيها في كتابة نص مشترك تمت كلها عبر الجدار الإلكتروني، تحديدا عبر المسنجر، لم يكن من ترتيب مسبق لها، كان الحديث مع زميل أو زميلة يقود إلى فخ المشترك، وأعتبره أكثر صدقا في حساسيته، لأنني -أتحدث عن نفسي هنا- أكتب وأنا بمعزل عن العالم ليس من شخص آخر يلحظني لحظة تقلباتي وأنا أنادي النص، عزلة غير مخترقة إلا بالكلمات، والكلمات لا تخترق العزلة أبدا بل تساومها على النضوج والإيغال في الحضور.

لي تجربة مختلفة مع شاعر من الأكوادور، وجد عالما متشابها بين شعري وشعره، ولكن التجربة لم تلد من عفوية، لذلك أعتقد لم يقيض لها الاكتمال، فقد طلب مني أن يتعرف على خلفيتي الدينية والاجتماعية والسياسية، وبدأ يعرفني على نفسه من خلال النوافذ نفسها، وكانت اللغة الوسيطة بيننا هي الانكليزية، مازالت بي الرغبة لإنجاز هذا النص، من غير أن أنظر إلى مسألة نشره أو عدم نشره فتلك مسألة مرهونة بالمستقبل وبما يستطيع أن يقدمه هذا النص، لكن الكتابة بلغة وسيطة لكلينا أعتقد أنها تحتاج مرانا طويلا قبل أن تصل إلى عفويتها.

أنا أعتقد أن شعراء كثيرين مثلي يشعرون لدى كتابتهم لنصهم أن هناك حيوات تتوزعهم لحظة الكتابة، شيء ما يشبه تردّد أصوات مختلفة داخل الصوت الواحد، قد أسمي هذه أيضا حالة جمعية إلى حدّ ما، اختراق آخر فيك هو منك أصلا لحظة الكتابة، تداول هذا الآخر وتصفيته داخلك.

الشاعر بطبيعته أناني، الأنانية هنا ليست في الشخصية بل في شعريته، ليست تلك الأنانية السلبية بل الأنانية الإيجابية التي ترغب دائما في التميّز والمغايرة والتي تؤمن أيضا بذاتها أولا، ومن ثم تحاكم النص الآخر وفقا لتجربتها الشخصية، أو لأقل بتعبير أدق وفق نظرتها الخاصة وتفكيرها، ولهذا يظلّ غالبا النص المشترك عصياً على الحضور الكامل.

من تجربة خاصة، أعتقد أن توافر شيء ما يشبه الرسائل، كما المسنجر يوفر عزلة مشتركة لشاعرين في اللحظة نفسها، ويمنحهما معا أن يكونا مستغرقين بشكل كلي في النص، لكن هذا وحده لا يكفي، لأن شرط تحقق اللحظة هو الأهم في رأيي تماما مثلما لا يكتب أحدنا قصيدته إلا في لحظتها.

خيانة اللغة والذات

الشاعرة العمانية فاطمة الشيدي في المقابل كان لها رأي آخر في الموضوع، من صعوبة وضع ابهامين على جرح واحد في ذات اللحظة، وبوصف النص المشترك خيانة للغة وللذات. تقول:

«كتابة النص هي محاولة إنتاج الذات/الفكرة في حالة ما «التباسات شعورية أو معرفية» في شكل آخر جديد دائما، أو محاولة إعادة صياغة جزء من العالم/العام أو ترميمه وفق أدواتنا الفكرية واللغوية، ليكون شبيها بنا أو كما نريده أو نتخيله، هذه الحالة الإنتاجية هي حالة خاصة بالضرورة، لذا فالنص أيضا هو حالة خاصة وبالضرورة أيضا. «لأنه من الصعب اتفاق كائنين -أيا كانت درجة قربهما - على شكل بنائية الصورة البدئية أو النهائية لحالة ما دون مقاربة، ما قد يتخلل هذه الصورة من تعاريج، وكما من الصعب جدا وضع إبهامين على خلل واحد في ذات اللحظات المقلقلة، ومن المستحيل امتلاك كائنين لذات الأدوات الفكرية واللغوية وإن خرجا من رحم واحد في ساعة واحدة، وعاشا ذات الظروف التربوية والاجتماعية والمعرفية، وإن تقارب الناصان في كل هذا، فمن الصعب توحد الرؤية الفنية للذات وللعالم، والتحليق في ذات المدارات النصية، التي هي أكثر من الثقافة واللغة والشعرية، وكل مكونات التنظير النصي، لأنها مكونات غير محددة في صناعة النص، وغير ملموسة في كتابته، وربما لا يمكن القبض عليها إلا بفكرة «النفَس» في علم الطبخ!

كما أن كتابة النص غالبا ما تكون غير مقصودة، فهي تجبر الناص عليها، في حين أن النص المشترك لابد أن تدخله عناصر التنظيم والإعداد، فلابد أن يخطط لكتابته بتوفير عناصر الزمان والمكان على أقل تقدير، هذا إذا حيدنا الحالة النفسية التي نفترض فيها المقاربة بين الكاتبين لأن التماثل مستحيل الحدوث وفق أبسط البديهيات المنطقية.
إذن! فكل هذه التفاوتات البينية تشكل علامة تعجب حول النص المشترك ومدى مشروعية الإيمان به أو اعتناقه بدءا.

إن النص المشترَك هو حالة خيانة مقصودة أو مرغوبة للذات وللغة وللنص، وربما للآخر المشتر.ك أيضا، فنحن حين نعلن ذهابنا باتجاه كتابة كهذه، نعرف جيدا وسلفا أننا ذاهبون بعيدا عنا، ذاهبون باتجاه آخر نجامله، أو ظرف جبري نحياه، فنكون بذلك في حالة تخطيط غير طيبة، وبمبررات غير كافية لإنجاب نص ميت قبل أن يولد، نص سيأتي بلا قلب، وبلا هوية! هوية النص ليس اسم كاتبه الذي سيوضع إلى جوار اسم آخر، بل فكر ذلك الكاتب ومساحاته الشعورية التي ينطلق منها، تلك المنطقة الخاصة جدا، والتي تمثل بصمة الروح التي لا تتماثل ولا تكرر مهما حاولنا.. أو بصمة النص على اعتبار أنه إفراز الروح المادي.
عني: لا أؤمن بفكرة النص المشترك.. وقد أغفر فقط:

ـــ كتابة عاشقين بدرجة الشعور نفسها «وإن كانت فكرة التوازي الشعوري التام غير جائزة أصلا» فيأتي النص أشبه بحالة تعبير مشتركة لحالة العشق المشتركة، أو حالة تراسل للحواس وتماس مشترك مع حرقتها، أو رسائل مشتركة بينهما!
ـــ ونصا مشتركا، ولكنه منفصل بفقراته الخاصة بكل ناص، سواء كان ثنائيا أو جمعيا، وسواء كان مفتوحا في فضاءاته على سديم الفكرة الغائبة وتداعياتها المطلقة، أو محددا في فكرة واحدة، لكنه يحتفظ بحضور كل ناص وفق أناه وفكره وشعوره، بشكل خاص ومحدد، بحيث يستطيع المتلقي أن يدرك كل ناص من خلال سيميائيات لغوية محددة وظاهرة في النص، فهو إن وحّد الفكرة إلا أنه ترك للناص كيفية التعبير عنها فيأتي النص الصغير ينتمي إلى ناصه من جهة، ويشترك مع النصوص الأخرى كمتعالقات نصية أو وحدات أو ثيمات جزئية تشكل نصا مشتركا أكبر.

أما خارج هذا التصور فلا أؤمن بفكرة النص المشترك، وغالبا ما يكون لغة ناص واحد وبعض تداعيات الناص المقابل، ويكون لغرض المجاملات باسم الصداقات وأشياء أقل حتما من قيمة النص وموضوعية الناص المفترضة!

القبس
يوليو 2008