حسن النواب
(العراق/الأردن)

فايز محموديالسخفي .. تأخرت كثيرا بالكتابة عنك بعد رحيلك، لم ار نبيا يمشي على قدمين في شوارع عمّان سواك لما وصلتها، كنت قد رأيتك قبلها بسنوات في البلاد وبمناسبة مهرجان كانت ضجة الأبواق به عالية لكنها ليست اكثر صوتا من الريح التي تنبعث من رئتيك الطيبتين، اجل يا فايز محمود.. قبل اكثر من ثلاثين سنة جئت الى بلادي بصحبة زوجتك المغربية وكنت حينها رئيسا لتحرير مجلة، اذكر في فندق نينوى اوبري جلسنا معا، لست وحدي جلس معك جميع الشعراء الشبان جلسوا حولك كنبي اعزل، وكان الحصار يضرب بنخاع الروح، حتى اننا التهمنا المقبلات في الفندق وكل توقعنا انه العشاء ولما جاء العشاء لم نأكل شيئا لإننا شبعنا، حينها كنت ترقب مشهد الجوع بعينين جائعتين الى الإنسانية وقلت لنا:

- يا الهي.. كيف ستكون قصائدكم اذن؟

ليلتها تجرأت وجلست الى جنبك واعطيتك قصيدة نثر وكنت حينها بيأس تام من جوعي، وان قصيدتي ستذهب الى اقرب حاوية ازبال تصادفها. لكن الذي حدث بعد فراقك بسنوات، ان ماجد السامرائي التقاني في اروقة الفندق وقال لي:

- هذا صك لك من قصيدة نشرتها في مجلة 'صوت الجيل'.

لم اصدق حينها ان قصيدة اقبال الدولة عطايا ستنشرها، لكني تأكدت من ذلك عندما حصلت على المجلة من اديب اردني طيب مع مقالة نقدية عنها، كان فرحي عظيما، خاصة وان الصك يعلن عن خمسين الف دينار كان بوسعها في تلك الفترة ان تعقد الخطوبة مع امرأة من منزلة برجوازية، افرحتني القصيدة وكان حبوري لا يضاهى بثمن نشرها.
ولما وصلت الى الأردن هاربا من جحيم العراق وطاغيته، رأيتك تجلس هادئا في رابطة الكتاب الأردنيين، عرفتني قبل ان اعرفك بسبب ثمالتي حينها، واصطحبتني الى مطعم فول هاشم وقلت لي بصوت مشبع بالحنان:

- حرام عليك ان تقتل موهبتك بخمرة.

اصبحنا اصدقاء من نوع خاص طيلة بقائي في الأردن وكنت ازورك بين يوم وآخر الى وزارة الثقافة الأردنية لأجلس معك لساعات، كنت تحرص ان تجيء لي بعصير البرتقال بين آونة واخرى وكنت تعرف جيدا ان ضيفك لم يتناول طعامه منذ يومين بسبب شحة الحال، حد ان العامل في الوزارة بسبب الحاحك على جلب العصير الثمين قال لك:

ـ ان ثمن العصير الذي اقدمه على ضيوفك اكثر من مرتبك الشهري.

توطدت علاقتي بك وصرت تنام في غرفتي المتواضعة بين ليلة واخرى هربا من جحيم العائلة ومن عسر الحال الذي كان يحيط بك من كل حدب وصوب، لم انس يوم اخذت بيدي الى شقتك المؤجرة والتي لم تدفع ثمن ايجارها بعد، وطلبت من زوجتك المغربية ان تجيء بالمشعل النفطي فوق السلالم حتى يتنسى لي ان استحم على لهبه بماء ساخن في غرفتي المتواضعة، لم انس ابدا يوم اعطيتني خمسة دنانير في ذلك الوقت وانحنيت وقبلت يدك وقلت لي:

- شرف عظيم ان يقبل يدي شاعر من بيت النواب.

ودارت الأيام ومازلت في الأردن، احلت على التقاعد من وظيفتك كمستشار في وزارة الثقافة، وصرت تجيء الى منزل يسكنة ثلة من الشعراء المخبولين، ستار موزان، ماجد عدام، حميد المحنة وعمال وكسبة كلهم يبحثون عن لجوء في عالم يمنحهم الأمل والعيش الرغيد، كنت تشرب بطحية الويسكي وتستمع الى اشعارنا، وكنت تحاول ان تكتب مقالا عن عذابات الإنسان، لكن عبراتك كانت تسبق مداد قلمك، وفي لجة فوضى الشعراء كنت صاغيا لك، كنت تمسح دمعتك الثقيلة عن خدك وتخبرني بصوت متهجد:

- ياحسن.. لقد كسرت العائلة موهبتي وجنوني وقلمي.. انا بحاجة ان اجعلهم يعيشون مثل البشر.

وتغفو على بساط منسوج من قماش رديء وقديم في منزلي الموبوء بحشرات ما انزل عليها من سلطان..
نخرج صباحا وبيدك حقيبتك الجلدية السوداء.. كنت اراك مثل جمل عظيم اضناه عطش المدينة والصحراء، تأخذ بيدي الى حلاق، تسلم عليه يستقبلك بحرارة وتقول له:

ـ احلق ذقني.

ولما ينتهي لا تعطيه اي شيء انما تأخذ منه بعض الدنانير بحساب مؤجل، كنت ادرك عظمة روحك وانا اسير مثل فأر صغير الى جنبك، كنت اعرف منزلتك التي تضاهي فنادق فارهة مررنا بها ونحن لا نملك اجرة سيارة تاكسي تصل بنا الى البيت، لكم كنت حنونا على عائلتك، كانت دمعتك الهاطلة من عينيك على خدك، اشعر بها لو سقطت على جبل في الأردن لكسرته الى ذرات تراب، وكان الشاعر علي مبارك حنونا عليك، مثلما كان الشاعر العراقي عبود الجابري حريصا ان يجيء لك بين حين وآخر بحقنة الإنسولين التي كان ثمنها يعادل سبع مكافآت في جريدة، ذات نهار رأيتك تنتظرني في مقهى السنترال، وقبل ان اجلس قلت لي:

- هل معك خمسة دنانير؟
- معي
- لنذهب ونشتر حقنة انسولين
لم اخبرك حينها ان الخمسة دنانير التي كانت بحوزتي هي آخر ما املك لنهاية الشهر لسد رمق جوعي من 'اقفاص الدجاج'، اشترينا الحقنة وراح مصلها يسري بعروق دمك.. ولما شعرت بالراحة رفعت ناظريك نحوي وقلت:
- سترى كم ان الله سيهبك..

اجل يا فايز محمود لقد وهبني الله ما كنت اتمنى ما يسد رمقي ولكم كنت اتمنى لو انك مازلت حيا، مع امي وابي..
وهبني ثروة لا تدعني اخنع الا الى الفقراء.
ثروة تدعى الضمير.
فايز محمود اعذرني.. لم اكن الإبن البار بحقك.. ارجوك اعذرني.. ارجوك.

القدس العربي
2011-09-14