محمود قرني
(مصر)

الحديث عن التجربة الشعرية في إطار ما يمكن أن يربطها بالتغيرات المجتمعية، حديث يرتبط وثيقا بوظيفة الشعر أو ما يمكن تسميته بـ'خرافة المسؤولية' وهو مدخل صعب لحديث - أقل ما يتصف به - أنه ملتبس، هذا إذا ما جعلناه أكثر تخصيصا، وكان على مثلي أن يتحدث عن الأمر في إطار تجربته الشعرية، التي هي بالأساس تجربة في الدراما الذاتية.

ومنعا للحرج والالتباس، ولأنني لا أملك صفاقة أو جرأة كافيتين لتناول الدراما الذاتية باعتبارها كيانا يستحق أو يطلب إلى الآخرين الانتباه، فسوف أتوقف عند القليل من القناعات التي تشكلت لديَّ عبر خبرات محدودة مبعثها وحافزها الأساسي ذلك الألم الإنساني، الذي شكلته خبرات حياتية وقراءات وصراعات تتشكل حول حتمية انتزاع جدارة الوجود والانتصار للتمثيلات والاختيارات الجمالية غالبا، تلك التي تتأسس في جانب منها على انحيازات طبقية وسياسية ومجتمعية بطبيعة الحال.

كنت أتصور حتى سنوات قليلة مضت، أن الدفاع عن الصورة 'البرناسية' للشعر والشاعر معا واجب مقدس، يؤكد على نوع من السمو، بات - منذ زمن - موضع سخرية الفلاسفة، والساسة، ورجال الدين، والمناطق، وربما الجمهور، الذي لفظ بدوره تلك الصورة وإن كانت له اسبابه المغايرة.

كان من شأن هذا التصور أن يحول بين الشاعر وبين محفزات حقيقية، هي المركز الذي تنضج فيه آلية وعيه، وتنمو من خلاله مدركاته، لكن لحسن الحظ لم يكن المقام طويلا حول هذا الوعي الرومانسي، فقد انفك الشعر العربي الحديث ونحن معه، الى اكتشاف صوته الفردي الخاص، واكتشف ذاته في غناء الجموع، وحرر المعرفة العامة من أسر المركزية التي صنعتها الثقافة الأوروبية، لكن الحلم لم يمش على منتهاه واكتشفنا أن الكولونيالية تركت أثرها البالغ في تلك المستوطنات الثائرة والجائعة، وهو ما أعادنا الى اسر الوعي الأبوي بالجملة.

أتذكر أنني قرأت مرة للمفكر الهندي 'إعجاز أحمد' قولا يلخص أحوال قومياتنا الطالعة ويقول إن مشكلتها انها نظرت للنظام الاجتماعي باعتباره 'فكرة' 'أعاد الاستشراق - نفسه - انتاجها'، لكننا لم ننظر اليها باعتبارها فكرة كونية تتشكل بالأساس في إطار نمط انتاج مضاد بطبيعة الثورية. لكن منذ عدة سنوات، عندما تحركت الثقافة المركزية في سياقات حاولت كسر أزمتها في إطار عولمة المعرفة، كانت تقصد استيعاب العديد من الثقافات المحلية التي تتشكل عبرها هويات تبدو مستعصية على النسيان، من هنا يمكننا فهم العديد من التناقضات، على سبيل المثال يمكننا أن نتفهم نسبيا الدور الذي كان على الشعر أن يلعبه، باعتباره آخر الصكوك الروحية التي تمنحها القوة المجتمعية لشاعرها، وكذلك يمكننا أن نتفهم لماذا تثير قصيدة شعرية تقزز الساسة ورجال المال، الباحثين عن منتجعات للراحة دون ضجيج يعيد انتاج الألم الروحي غير المحتمل لكائنات حالمة وضالة، وهو الأمر الذي دفع بعض النقاد الأوروبيين الى وصم الشعر بالتخلف باعتباره يتغذى على الطفولة البشرية ويعيد انتاج الرعوية، ومن ثم - فهو بطبيعته - مناهض للحداثة وبالتالي فهو مرشح للانقراض.

داخل هذا الزخم المؤلم والضاج بالتناقضات كيف للشاعر أن يقرأ التغيرات المجتمعية؟!
اعتقد أن قراءة هذه التغيرات في إطار التجربة الشعرية وتجلياتها يعني أننا نضع الشاعر أمام مخازيه، وعلى نحو أدق نحن نواجه الشاعر داخل قبو مظلم، ربما هو القبر نفسه، لأن الرباط الذي يمكنه أن يصل بين التغيرات المجتمعية والتجربة الشعرية - على دقته ونعومته - يبدو منطويا على الكثير من التعسف، فالتغيير الاجتماعي هو تغير في بنية الحراك والوعي للجماعة البشرية، وهو ما يمثل وعيا يتجاوز دقة ورهافة البعد الجمالي الذي تقوم عليه التجربة الشعرية، ومن ثم فإن الحديث عن الحدس الشعري المتشوف نوع من الافتئات على الشاعر المسكين الذي لا يستطيع أن يكتب صك الحرية حتى لنفسه، فقد كانت هذه الأوصاف الممزوجة بالسخف والنطاعة أقرب إلى وعي الجماعات الأبوية، التي لا تتجاوز ادوات وعيها حدود الأسرة أو القبيلة، ومن هنا يمكننا إعادة طرح السؤال الجوهري: لماذا لم يساهم الشعر العربي، على عبقريته - قديمه وحديثه - في إنجاز الثورة المجتمعية بالمعنى السياسي؟.

والإجابة على مثل هذا التساؤل تقتضي أن نحذف ونستبعد من المدونة الشعرية العربية أكثر من ثلثيها، ويعلم الكافة أن ما نقصده يتمحور حول الطبيعة البنائية للنظام السياسي والثقافي الذي أبقى لعشرات القرون على الأشكال الشعرية البطريركية التي خدمت في أغلب الأحوال الشكل التراتبي لأنظمة الحكم، فكما حافظ السياسي على موقعه بإطاحة آلاف الرؤوس، حافظ الشاعر على موقعه بعقده صفقة دائمة مع المنتصر، وهو عمل يقع خارج فهم الأخلاقيين الذين يقدسون العمل ومنظومات الانتاج التي صنعت مشروعيتها عبر وسائط عقلية محضة، كذلك يقع خارج وعي الشعر بذاته، باعتباره عملاً ضاغطاً، ضد التكيف وضد نفسه أحيانا ومشايعاً للحرية الإنسانية في كل صوره.

إن الربط هنا حتمي بين الأنساق المجتمعية والثقافية والسياسية التي لا بد لنا أن نختار الأقانيم المناسبة لتحيتها، أو الفؤوس الأمضى لقطع رقبتها، فقد أصابني ذهول 'شخصي' عندما قرأت جانبا من حروب ملوك الطوائف ومؤامراتهم، وكانت مناسبة سيئة تلك التي قرأت فيها تاريخ 'المعتضد'، حيث يقول المؤرخون' إن داره كانت تنطوي على حديقة لا تثمر إلا رؤوسا، فكان نظره اليها أشهر مقترحاته، في التلفت اليها جعل جل بكره وروحاته، فأبكى وأرق، وشتت وفرق، ولقد حكي عنه من أوصاف التجبر ما ينبغي أن تصان عنه الأسماع، أما الأكثر إدهاشا منه أن يخلفه ابنه الشاعر رقيق الحاشية 'المعتمد بن عباد' الذي ظل بدوره يحارب ضد ملوك الطوائف حتى قتل أولاده بين يديه واحدا إثر الآخر، والوحيد الذي تبقى منهم، لم يتسن له أن يراه إلا وهو في سجنه مصفوداً في جنوب الرباط بسجن 'أغمات'، لقد تحالف المعتمد مع أعدى أعداء الامبراطورية الإسلامية آنذاك 'الملك ألفونسو' ليتخلص من خصومه، ومع ذلك فهو يكتب لابن زيدون معاتبا، وما زلنا نقرأ:

'وعدت وأخلفتني الموعدا
وخالفت بالمنتهى المبتدا
وأطعمتني ثم أيأستني
ويمنعني الود أن أحقدا'.

ربما لذلك أتصور أن الكشف عن العلائق بين الشعر والتغيير المجتمعي، لن يكون منصفا لأي منهما، وهذا لا يعني أن وصم المجتمع - أي مجتمع - بالرجعية، يعني بالضرورة نصا إبداعيا داعما ومؤيدا لهذه الرجعية، وعلينا أن نتأمل نموذج 'بلزاك' الكاثوليكي المؤيد للملكية والمناصر لهاو الذي اعتبره ماركس - بما كتبه عن الأقنان والعبيد والأجراء والفقراء - أهم روائي القرن التاسع عشر بلا منازع، لكن توافر الشرط التاريخي في النموذجين المجتمعي والشعري يختلف في أسبابه زمانيا ومكانيا، وفكرة تعميمه تبدو مجافية للموضوعية، إذ أن تجاهل هذا الشرط يوقعنا في قراءة سرمدية للتاريخ، والأجدر بنا أن نتوقف أمام صياغة زمن تقدمي باعتبار أن السياقات الراكدة والمألوفة لنمو المنظومة العقلية كرس لدينا نموذجا خارج كافة أنماط الإنتاج، ومن ثم فهو نموذج يدافع عن اللا مساواة، ولا يؤمن بالعمل كقيمة مجتمعية، ويستبعد الكفاءة لصالح الولاءات الشخصية ومنظومات الفساد، وأخيرا هو نموذج يبحث عن مخملية على أكتاف الأقنان من العامة، الذين لا يجب أن يتعلموا لأن في ذلك شكلاً من أشكال الافتئات على مقاعد السادة والكهنة في آن.

وأتصور أن عمل الشاعر رأي شاعر خارج هذا الوعي المدعوم بقدرة على تحليل الواقع، أو على الاقل، الحدس بآلامه الجسدية والروحية، يعني أن الشاعر والشعر معا يعملان على تكريس وتعظيم المرض، يتساوى في ذلك الشعر الذي يعمل على تحرير الأوطان مع الشعر الذي يعمل على تكريس اللوطية أو تقبيل الخدود وتحرير الخدور.
من هذا المنطلق، أتصور أن الشعر بكل أغراضه ينتمي لفعل الحرية، ومن هنا كانت العديد من المذاهب الشعرية الحديثة، ربما كلها، تعتقد ان الشعر فعل تحرير، وكان 'لوتريامون' صاحب 'أناشيد مالدرورو' يقول: 'الشعر يجب أن يكتبه الناس جميعا'، وأعتقد أن الإرادة التي تنعقد للجماعة هنا: ليست فعلا ماديا خالصا، لكنها تعني حلولا روحيا للشاعر في ضمير جماعته ومن ثم فهو عندما يعود من حلوله ليتحدث إلينا، فهو يتحدث بضمير جماعته البشرية.
فعل التحرير هنا يقتضي منا أن نعيد اكتشاف أنفسنا بعيدا عن مرايانا الذاتية، وبعيدا عن تقديس مقولاتنا ومرجعياتنا، فالشاعر لا يملك شيئا مقدسا، ربما يكون مخربا بأكثر من كونه بناء.

وقد نستطيع تفسير تلك الشقة الواسعة بين النص الشعري الراهن، وتجلياته المجتمعية.
فالقصيدة العربية التي ننتمي إليها كجيل حديث وهي قصيدة النثر، تبدو الأكثر استجابة لمناخات التعدد والتنوع التي تقوم عليها فلسفة ما بعد الحداثة، ومن ناحية أخرى تبدو أكثر الأشكال الشعرية العربية خروجا على طوطمية الموروث الشعري الشفاهي والكتابي، ومع ذلك فإن الواقع الذي تستجيب القصيدة لحاجته هو الذي يعاديها ويفعل فعله في إقصائها، فمعاني التحرر التي تنطوي عليها تلك الشعرية أكثر اتساعا من حاجة الواقع الذي تكتب فيه، لذلك تبدو حريتها فائضة عن حاجة مستهلكيها، وأعتقد أن دعم هذه النظرة يأتي من التحولات المجتمعية السافرة التي فرضتها معارف واقتصادات وسياسات تابعة، تتقلص أدوارها في الحدود الدنيا للبقاء، ويبدو مجتمع الرفاه الموعود مجرد صور عارية وفاضحة أو حياة مخملية تصدرها الفضائيات، وتعد الكافة بأنماط حياة مسرفة في رفاهها ومن ثم استهلاكيتها، فإلى اين يذهب الشعر؟!

لقد تحول الإبداع الى نوع من هذا الاستهلاك ومن ثم أخرجته الأدبيات الحديثة من حقل المعرفة، بل ربما صار فعلا مضادا للمعرفة ذاتها، فكيف ننتشل الشعر من هذا الجب اليوسفي؟
لا أتحدث عن صواب النص الشعري، فالشعر لا يملك الصواب، كما أنه لا يملك الخطأ، ولا أتحدث عن خطيئة البناء السياسي أو المجتمعي ولا خطيئة النخبة، إنني أتحدث عن القوة الغاشمة التي تخلق أنساقا مجتمعية مضادة ومناهضة لذاتها، ومن ثم مصالحها، ومع ذلك فإن الفن وحده يبقى الراية الوحيدة التي تشير إلى الطرائق الرمزية للخلاص، حتى لو كان فنانها يقف - في أوقات فراغه - في طوابير الضلال، فالشاعر الحقيقي هو الذي يملك - دائما - القدرة على قتل سادته، الشعر دائما لا سيد له.

شهادة ألقيت في افتتاح الملتقى الأول لقصيدة النثر، الذي انعقد في القاهرة في الفترة من 17 إلى 19 آذار (مارس) الماضي.

القدس العربي- 01/09/2009