برتولد بريشت
(ألمانيا)

ترجمة
نجم والي

XXXXXXXXXX كنت أجلس مع عدد من الأدباء ورجال المسرح في صحن حديقة مقهى بمدينة ميونيخ. كانت الموائد قد اصطفت في الخارج. وكان آذار أو نيسان، ولكن الشمس كانت سلفاً حارة. عند الطاولة المجاورة جلس رجل بهيئة تقليدية تقريباً، غائر الجبين بشكل كريه، بلون بشرة مريضة وبجلسة سيئة. كان يتكلم مع بعض الرجال، الذين بدوا كما لو كانوا ضباطاً بملابس مدنية. كان محرضاً متعصباً، ألقى للتو خطاباً ضد اليهود أمام تجمع جماهيري كبير في سيرك عند أطراف المدينة، شخص يدعى أدولف هتلر.

حكى لنا أحد الممثلين بخبث أن هتلر يأخذ هذه الأيام دروساً في التمثيل عند «بازل»، الممثل في مسرح البلاط الملكي، ويدفع لقاء ذلك ثمانية ماركات عن الساعة الواحدة. تسلينا بذلك غير عابئين بأن الداعية في الطاولة المجاورة بإمكانه سماعنا.

كان بازل هذا ممثلاً من المدرسة القديمة ويلعب طبعاً أدواراً ذات صفات بطولية، يلوح بيديه مثل مغني فاغنر، ويشعر فقط بالراحة عندما ترطن يامبات شيلر (Jamben: وزن شعري من الأنتيك) على لسانه. كان ذكاءً خارقاً من هتلر القادم من مدينة صغيرة من مملكة النمسا، أن يأخذ درس إلقاء ويتعلم كيفية تجنب المرء لبحة الصوت. هذا يعني أن بإمكانه الصراخ بصورة مرعبة أثناء تكلمه. ولكن من الطريف أيضاً بأنه كان يزور بالذات هذا الكوميدي الشيخ. كما سمعنا، تعلم هتلر ما عليه فعله بيديه أثناء التكلم أمام الجمهور، وكيفية تنفيذ حركات إيمائية ضخمة وكيف عليه أن يمشي. ومن أجل النجاح بذلك، كان عليه أن يتعلم كيف يقف المرء أولاً على الأطراف العشرة، فيما تظل الركبة محافظة على تصلبها. يبدو هذا السلوك ملكياً، وبخاصة عندما يضم المرء حينها الذقن. يجب أن أعترف بأن ذلك كف تباعاً عن أن يثير انطباعاً يدعو للسخرية.

ذات مرة زرت أحد تلك التجمعات الجماهيرية وراقبت هتلر كخطيب أمام الجمهور. كانت طبقة صوته بالضبط ذكورية وبطولية، مثلما يتوقع المرء من تلميذٍ للكبير بازل، دائماً يحمل بعض التذمر، ونبرته تحمل نبرة رجل اشتكاه المرء صراحة نتيجة لشر خالص، من دون أن يعني أن المرء كان على حق. ولكنه كان تعلم من بازل أموراً أكثر، مثلما تأكد لي. كان عوّد نفسه في خطاباته الكبيرة أن يُسلسل ويُرقّم حججه وخططه: بـ»أولاً»، «ثانياً»، «ثالثاً»، وإلى آخره. لمرة واحدة بدا لي، كما لو أن شيئاً ما لم يختمر في ذهنه بصورة كاملة. ذات مرة قال «خامساً» وكان عندي الشعور غير الأكيد بأن الـ»رابعاً» لم تُذكر أبداً.

في المرة الثانية انتبهت جيداً. نعم، نعم، ها هي هناك مرة ثانية: «أولاً»، وثم استراحة صغيرة مؤثرة. كان يريد للتو أن يُثبت بأنه كان من الخطأ لألمانيا أن تدفع التعويضات إلى الحلفاء. جرى ذلك بالصورة التالية تقريباً: «أولاً، من الصعب على ألمانيا الحصول على هذا المبلغ الضخم، إننا مرهقون مالياً جداً». أدار تلك الحجة بميوعة بعض الشيء، من دون أن يأتي بإحصائيات بيانية، ولكنه كان مؤثراً تقريباً. «ثانياً» كان ذلك شيئاً مثل: «لأن ألمانيا لم تبدأ الحرب»، و»ثالثاً»: «لأن التعويضات جلبت فوائد هائلة لليهود فقط». «رابعاً» كان شيء ما مختلفاً، وبعدها جاء «سادساً» غريباً! نظرت حولي. كنا نجلس في قاعة كبيرة لشرب الجعة. كان أمام الجمهور الذي كان يتكون بصورة رئيسية من الطبقة الوسطى، أصحاب دكاكين وعمال يدويين مع نسائهم، أكواب من البيرة كبيرة. كانوا بالآلاف، وكانوا يسمعون بعمق. كان هتلر يقف على المنصة، بعيداً جداً، لدرجة أنه بدا ضئيلاً. ولكن من خلال دخان السجائر، كان من الممكن رؤية خصلة شعره تلتصق على جبهته التي عرقت. كان كمن يتكلم من علو، لدرجة أنه بدا كما لو أنه يستطيع السقوط في أي لحظة على الجمهور. الـ»أولاً»، الـ»ثانياً»، الـ»ثالثاً» وتلك الـ تباعاً، أكد عليهم، وهو يرفع عالياً أعداد الأصابع المطابقة مع الرقم. لم يلاحظ أي واحد في القاعة بأن «خامساً» لم تُذكر على الإطلاق! هتلر كان خدع الجمهور بحجة واحدة: بعبث دفع التعويضات. لقد أصبح ممثلاً محترفاً. ولكن الأمر تطور أكثر. عندما وصل إلى «ثامناً»، أو «تاسعاً»، بدأ ـ دون همزة وصل ـ في التكلم عن شيء مختلف بعض الشيء تماماً، مع ذلك أكمل ترقيمه. لقد أكمل عدّه بغضب شديد: «عاشراً»، لأنهم اضطهدوا الحركة القومية (كان يعني الحزب النازي)، «إحدى عشر، لأنه كان لأصابع اليهود دور في اللعبة»، وهكذا دواليك، ـ لا شيء غير الـ»لأن» ـ جمل جاءت بسياق ليست له أي علاقة مع عبث دفع التعويضات. على هذا الشكل، جاء حتى «عشرين»، على ما أعتقد.

كان بإمكان المرء الاعتقاد بأن سلوكه مجرد ألعاب أكروباتيكية طفلية مع الأعداد، وأن ذلك أمراً ثانوياً تقريباً، ولكن بالطبع لم يكن ذلك بالنسبة إليه على هذه الشاكلة. لقد صنع هتلر من تلك الـ»عشرين» شواهد، تتابعت بمنطقها غير المتزعزع مثل ضربات مطرقة، لكنها أنتجت تعبيراً قوياً. ليس أكثر من عشرين جريمة وعمل غبي ارتكبتها حكومة الجمهورية (يقصد جمهورية فايمار: المترجم)، وهتلر أثبت ذلك. لقد فند الجمهورية وكشف القناع عنها في عشرين نقطة. بتلك الطريقة صعدّ من خطبته بعنف. وهناك، حيث تغيب الإثباتات عن الخطيب، عرض، رغم كل شيء، بشكل جميل حركات ووقفة رجل يملك إثباتات. تلك كانت حيلته. كان يلعب دور «المنطقي». كان عرضه المسرحي مقنعاً. الثمانية ماركات التي كان يدفعها إلى بازل عن الساعة كانت موظفة بشكل جيد.

كما ذكرت سابقاً، لم أعرف كل شيء في تلك العصرية في صحن حدائق المقهى، حيث كنا جالسين تحت شمس الربيع، لأننا كنا نضحك حينها من درس التمثيل. كنا نعتقد، بأن درس التمثيل كان ضرورياً. تلك الساعة في صحن الحديقة انتهت إلى خاتمة مرحة.
عندما دفعنا وشرعنا في المغادرة، أراد ليون فويشتفانغر، مؤلف «يود الجميلة»، رفع معطفه عن مسند الكرسي. لكن هتلر قفز من مكانه في منتصف حديثه، وأخذ بانحناءة واحدة مفاجأة معطف فويشتفانغر من اليد وساعده بأدب وهو يتمتم «تسمح لي أيها السيد الدكتور».
من أجل فهم خلفية النكتة، يجب أن يعرف المرء بأن هتلر كان يختلط بحلقات الفنانين وكان يعرف بأن فويشتفانغر يهودياً وجمهورياً. عدم اطمئنانه وحده، بما يتعلق بأتيكيتات السلوك الاجتماعي، واضطراره لكي يظهر بمظهر المؤدب، هو ما جعله يلعب دور «رجل من العالم»، وجعله يساعد «عدوه» في لبس المعطف. فوجئ مرافقوه مثلنا.

لم يكن في الوضع الذي وصل إليه ليلعب فيه أربعة وعشرين ساعة في اليوم شخصية المعادي للسامية الذي لا يرحم، وكان يحتاج لذلك ساعات معدودة أخرى عند بازل.
طبعاً لم تحتج تلك الحادثة في صحن الحديقة في عام 1922 لتصنع لي من هتلر «الشخصية التي لا تُنسى أبداً». فمن أجل ذلك اهتم هو، عندما أتم دوره كـ«قائد»، وهو ينجز تحوّلاته بصورة متقنة، تحولات أدت بنا، فويشتفانغر وأنا وآخرين كثيرين إلى الذهاب للمنفى مثلما ألقت في الوقت نفسه العالم كله في أتون حرب مرعبة.

-------------------
المستقبل - الاحد 24 تموز 2011 -