هاتف جنابي
(العراق/بولونيا)

هاتف جنابيلم أكنْ أتخيلُ في يوم من الأيام أن أقدِمَ على تلخيص تجربتي في الكتابة والحياة على أنها مشهدٌ مقتطع من مسرحية المنفى الشائكة غير المكتملة حتى النهاية، بطبيعتها الكوميدية-المأساوية، المشرعة على كافة الاحتمالات. ثمة شعور يلاحقني مثل ظلي، بأنني أسير بخُفين ِ من رمل ومخيلة بسعة الغياب، تلاحقني أنّى اتجهتُ الصحراءُ، وفي ذاكرتي ختمُ اللغة العربية. لا أعرف متى ولدت بالضبط، شأن غالبية العراقيين من أبناء جيلي والجيل اللاحق، وعليه فمرة كنتُ أدعي لنفسي الكبرَ وأخرى الفتوة، وهذا الشيء الوحيد الذي أعْلِنُ فيه انتهازيتي وهذا نوع من الاغتراب! ولادتي في إحدى قرى الفرات الأوسط الحافلة بالخضرة والمياه، في عائلة موسرة غير متعلمة تمتد جذورها حتى أعالي الفرات: أبواي أميان غير أنهما طيبان ومتسامحان. جعلتني القرية مشدودا إلى الطبيعة أكثرَ من أجواء الكونكريت والضجيج. تعلمت من أمّي الشعرَ حيث كانت تحفظ وتنشد على مسمعي الكثير من مقطوعات وأناشيد الشعر الملحون العراقي، ومن أبي التسامح والانفتاح على الآخر بقليل من الأمل وببعض الشك في العالم، إنقاذا للنفس من الطناطل المتربصة بها.

هذه الفسحة بيني وبين الآخر تدربتُ عليها في صغري بحكم التربية العائلية، لكنْ، نظرا لاختلاطها بفكرة احترام الآخرين والانفتاح عليهم والوقوف معهم عند الشدائد، جعلها تتعرض لبعض المُنغّصات، على أساس أن الاختلاط يجلب المنفعة بقدر ما يجلب النحسَ.
كانت طفولتي، رغم قسوتها ورتابة الحياة القروية، تتسم بالوداعة النسبية، لكنها واجهت محاولة محقها في سن الحادية عشرة على الأرجح، حينما تمّ تهريبي من أرض أبي (أثناء غيابه) قبل منتصف الليل، بسبب صراع بين الفلاحين على الأرض. لقد هربنا من أرضنا حفاظا على أرواحنا من الثأر الذي حُمّل أبي، بدون وجه حق، مسئوليته. لم يكنْ والدي آنذاك في البيت الذي لم يَعُدْ إليه مطلقا. أتذكر حدّ التفاصيل المملة، تلك الليلة الحالكة بصراخها وعويلها، برعبها وأحداثها الحاسمة في حياتي وحياة أسرتي. هرّبتني أُمّي تحت جنح الظلام إلى بيت الجيران الذين خبئوني في زريبة مع أبقارهم، ومنها نُقلتُ إلى كراج المدينة الوحيد بقارب عتيق، كنا نجدف بأعصابنا. لقد نجوتُ من الموت بأعجوبة، إذْ كان عليّ أنْ أقتلَ بدلا من الأب البريء الغائب حينئذ. كان هربي بمثابة أول انسلاخ واقتطاع لي من جذوري، أول منفى في حياتي.

كل شيء كان مخيفا يشي بالرعب ولا سبيل لتغييره، كأنه قدر لامفر من مواجهته. فالخوف والارتياب والحذر من الكلمات أشياء دخلت القاموسَ العائلي دفعة واحدة، تبعها إحساسٌ بالغربة وفقدان الأرضية الصلبة التي كنا نستند إليها، حتى خامرنا شعور بذنب لم نقترفه أبدا. انتقلنا من فضاء مفتوح أخضر ولازوردي نمتلك حضورا ملموسا فيه، إلى مدينة صفراء رمادية غامضة كتيمة مغلقة على الغرباء من أمثالنا. كنتُ أكبرَ إخوتي، الأمر الذي جعلني أحسّ بمسؤولية أكبرَ من طاقتي، خصوصا وأن أبي أخذ يخسر في تجارته ويفقد أرضَه تدريجيا. كانت النجف النقيض الطبيعي لمسقط رأسي: خضرة تقابلها صحراء، بيت حدوده البساتين والفواكه والحقول مقابل بيت وأزقة تزورها الوحشة واليرابيع والعقارب والصراصير أحيانا ويرقص فيها الغبار، فضاء ترقبك فيه النجوم والطيور والحيوانات وحكايات الجن والطناطل والمياه وأنت جزء منها مقابل أزقة ماكرة وبيوت محكمة الغلق وأسواق يمخرها الغرباء من زوّار العتبات المقدسة. مدينة غامضة غموض الشعر الحديث، ملمومة كقنفذ، مفتوحة على الصحراء من ثلاثة اتجاهات، وعلى نهر الفرات ونخيل الكوفة من جهة الشرق. الجهة الشمالية مشرعة على المقبرة. بالإمكان الوصول إليها خلل بعض السراديب. طبعا، عليّ ألا أنسى الموتى السائرين ليلا في الطرقات. أغلب السكان المجاورين للمقبرة يعتقدون أن ثمة من يراقبهم نهارا ويسير خلفهم ليلا!

تشعر وأنت في ذلك الجو بأن الجميع يرونك، أنت الغريب الطاريء، يلاحقونك بنظراتهم، يتفحصونك ويتلصصون عليك ثم يرمونك نهبا للمجهول وأنت لاتراهم وإن رأيتهم فلا تجرؤ على السؤال عن سر مثل هذا الشعور. ثمة مقبرة، كان الموتى يحلمون بها، أصبحت جارة دائمية لنا نحن الأحياء. أخذ يتنامى في داخلي إحساسُ بالظلم والفجيعة وانعدام العدالة في هذا العالم. سبايا تاريخية وشعائر اللطم والعويل تُستعاد في مواسم طقسية متوالية يُمثلها أشباهُ ممثلين وسبايا. رغم ذلك، كانت النجف بأزقتها وطقوسها ومقبرتها المهيبة ومكتباتها مكانا ملائما لي لتطوير مخيلتي وتوسيع مداركي وإشغال الروح والعقل بالتعلم والتأمل والقراءة.

كان القرآن الكريم أوّلَ سِفر اقرأه في حياتي، أعدتُ قراءته أكثر من مرة، إحداها بناء على طلب أبي الذي اشترى لي تلك النسخة القرآنية الجميلة. بعده أخذت أقرأ أشعارَ شاعر العامية العراقية بامتياز(الحاج زاير) الذي تعلمتُ منه تركيب الصورة الغريبة الموحية المفاجئة وإعمال الخيال فظل يلاحقني حتى يومنا هذا. إنه في تاريخ الشعر الشعبي العراقي بمثابة الرسام (-Bosch بوش) في تاريخ الرسم الأوروبي! بعد ذلك أخذت اقرأ أمرؤ القيس وطرفة بن العبد فوجدت وشائج تمردية وتطلعية بيني وبينهما غير قليلة، فألفيتُ نفسي أعود إليهما حتى في غربتي. تبعتهما بقراءة المتنبي مقترنة بمحاولة حفظ أشعاره ألفبائيا(مقلدا ماشاع عن الجواهري من حفظ أشعار المتنبي كاملة) وحين وصلتُ إلى حرف الباء استوقفني بيته الشهير:

أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي وأسمعتْ كلماتي مَنْ به صممُ

فتوقفتُ عن الحفظ واكتفيتُ بقراءته عدة مرات. لقد صدمني بيته بسبكه من جهة ولكن باعتداده المبالغ بنفسه وفخفخته من جهة أخرى- الأمر الذي لم أكنْ أميل إليه البتة، فخفتُ الوقوع أسير شعره. فانصرفتُ عنه لقراءة نسخة"المواقف والمخاطبات" للنفري، اهتديتُ إليها بفضل صاحب المكتبة التي كنتُ أتردد عليها آنذاك وأستعير منها كتبا بمبلغ زهيد وأحيانا بدون مقابل. الكتب الوحيدة التي كانت في حوزتي الشخصية في المرحلة الأولى من قراءتي هي: القرآن الكريم، ديوان أمرؤ القيس، ديوان طرفة بن العبد، ديوان المتنبي(شرح العُكبري، ألحقته فيما بعد باقتناء نسخة ثانية بشرح عبد الرحمن البرقوقي)، "كتاب المواقف والمخاطبات" للنفري، بعض كتب الصوفية ونسخة صفراء تضم أشعار الحاج زاير والكتابات المتوفرة لبقية المتصوفة، وكراسات في السحر والتعزيم. ورسالة الغفران للمعري، ونهج البلاغة.

كنتُ أقرأ بعضَ النصوص المعقدة دون أن أفهم كنهها حتى النهاية. قرأتُ ما أمكن قراءته من كتب التراث والكتب المترجمة التي ازداد عددها لدى دخولي الجامعة أواخر الستينيات. أول كتاب استعرته من زميلتي النصرانية التي عشقتها سرا، هو "الكتاب المقدس" بعهديه القديم والجديد وبطبعة فريدة، فألفيتُ نفسي أعيد قراءته مرات. استوقفني فيه كلّ من المزامير وسِفر أيوب ونشيد الإنشاد وسفر الجامعة، ولما لاحظت زميلتي تعلقي بالكتاب أهدته لي في نهاية السنة الأولى. قلتُ لها آنذاك: "ياليتنا كنا معكم فنفوز فوزا عظيما" فأدركت ِ القصد!

تعلمتُ من امريء القيس وطرفة بن العبد التمرد وعدم الركون إلى المسلمات؛ ومن المتنبي اهتديتُ إلى أهمية اللغة وقضية السبك ودقة المعاني؛ ومن زهير بن أبي سلمى التأني ومراجعة النصوص؛ وبفضل المتصوفة أخذت أحتقر المظاهر والفخفخة باعتبار الحياة حلما قصير الأمد؛ ومن المعري أن الشعر لايمكن أن يكون مجرد احتفاء بالشكل وتنميق الكلمات. الشعرُ بدون معنى لا يُعمّرُ طويلا.
لقنني النفّري درسا مبكرا بأن الكلام يمكن أن يكون شعرا بلا وزن وقافية. ألم يقلْ الشاعرُ والمفكرُ الفرنسي(أوسكار ميلوش) في كتيّبه "بضع كلمات حول الشعر" بأن مستقبل الشعر قد يكون في نص قريب من ترتيلة وشكل العهد القديم بسلاسته وعمقه؟! لو نقلنا ذلك إلى تراثنا الأدبي، لأصبحنا قريبين من مقولة: "السهل الممتنع" بدون أوزان، ولربما حتى أمامَ تجربة النثر القرآني.

رغم ما أخذت أهتدي إليه، خصوصا في غربتي، من دراسات وأشعار ونصوص مثيرة غير متوفرة بالعربية، إلا أن ماصاغه امرؤ القيس في البيت التالي ظل يتمرأي أمامي إلى يومنا هذا، مزيحا بيت المتنبي الآنف الذكر بامتياز:

فلو أنها نفسٌ تموتُ جميعةً ولكنها نفسٌ تساقطُ أنفسا

جعلني هذا البيت أحسّ بأن موتي قد جزأته الظروف لتعبث بي وبأمثالي أطول مايمكن، على أنني أخذت أتماهى مع هذا المصير لأنه أتاح لي أن أتطور على سجيتي وبطريقتي الخاصة وفقا لإيقاع حياتي ومخيلتي وعقلي والظروف التي عشتها. أقول ذلك وأنا أحس بنموّ تصاعدي تدريجي لا قفزوي. القفز السريع يُشبه الانفعال والومضة التي تلمع وسرعان ما تنطفيء.

بقيتُ فيها من الصف السادس الابتدائي حتى نهاية المدرسة الإعدادية، بعدها انتقلتُ إلى بغداد للدراسة في قسم اللغة والأدب العربي بجامعة بغداد.، تخرجتُ منها في 1972 حيث استدعوني إلى الخدمة العسكرية لمدة سنة كجندي مكلف. بعد التخرج، أرسلوني إلى الزبير في البصرة ووضعوني في كتيبة دبابات جاثمة يعلوها الغبار المتطاير من كل اتجاه. تحدها الصحراء من حدب وصوب، وفي جنوبها البعيد يقع "حيّ الطرب" – مبغى غجري، وخلفه الحدود الكويتية. زرته بمعية زميلين من الحامية: محام بصراوي ومدرس لغة إنجليزية. لا أعرف مصير(أبي قتيبة)، بينما هاجر الثاني إلى أميركا حيث أصبح أستاذا.

كتبتُ مجموعة من قصائدي على الرمل، بغرض التمرن أولا، ولخوفي من التهلكة فيما لو نقلتها على الورق ثانيا. كل شيء محته الريحُ. وردتْ مقاطع منها في قصيدة "العزف على الجمجمة"(1972):

قد أسفحُ فوق الجلد بكائي،
قد أرسم فوق الرّمل ضريحا،
يحمل عنوانَ الروح".

عدتُ فيما بعد إلى هذه الفكرة عدة مرات وفي أوقات متفرقة، وبتنويعات مختلفة.
كان قد أشيع بأننا لن نتعيّنَ في سلك التعليم طالما بقينا خارج صفوف الحزب الحاكم، لكن بعد انتهاء الخدمة صدرَ قرارٌ بتعييني في مدينة كركوك، فكان ذلك بمثابة إبعاد لي. كانت الملاحقات والمداهمات تتم في تلك الفترة بنوع من التكتم لكنها أخذتْ تنفلت بوتيرة متصاعدة، حتى بلغتْ أوجها في أواخر السبعينيات.

في مكتبات النجف الخاصة والعامة وأيامها المستسلمة للكتمان شرعتُ بتلمس نفسي شعرا. الشعرُ هو الذي بحثَ عني وليس العكس. جاءني الشعرُ منقذا ووسيطا بين عوالم متناقضة: العسر بعد اليُسر، الريف والمدينة، الانفتاح والانغلاق، الخضرة والصحراء، الاكتفاء الذاتي بما تهبه الأرضُ مجانا، بحقولها وبساتينها ثم البحث بصعوبة عن لقمة العيش: (بائعا للسجائر وبعض ملابس النساء الداخلية خفية، في آخر كل أسبوع، في المقاهي والشوارع، طيلة سبع سنوات)، الانسلاخ عن الجذور والبحث عن مأوى، فقدان الطفولة دفعة واحدة وترميم حياة بالغة على عجل.

الخروج من المعتقل بكفالة المنفى (2-3)

خروجنا الأول مسرعين من الدائرة الأولى وسَمَ حياتي حتى النهاية بميسم الرحيل والمنفى وعدم الاستقرار، وصعوية الانتماء إلى المكان. ما الذي يربطك بمكان أنت عابرٌ فيه؟

في بغداد
في بغداد عشتُ ودرستُ وكتبتُ وصادقتُ طيلة أربع سنوات، تحولت العاصمة بعدها إلى مكان أعود إليه بمثابة عابر سبيل. لاعلاقة مباشرة لي بتجمعاتها الأدبية والسياسية. كنتُ ومازلتُ أعمل كسولاً، على طريقة العزف المنفرد، متوجسا من التجمعات وكثرة العلاقات التي قد تمتص طاقتي ووقتي فيما لا نفع فيه. لكنني ألحقت بنفسي ضررا مؤقتا، لأن حالتي المذكورة قد ساهمتْ في تأخر نشر كتبي.
حياتيا، كان عليّ مواجهة إفلاس أبي وغربتي وقدري كإنسان عاش في واقع الحال أعزل إلا من الشعر. أنقذني الشعرُ ومنحني جلالة العزلة وأناقة الكلمة ومناعة ذاتية لاتتوفر للغالبية من بني البشر، بحيث وَفرَ عليّ مواجهة معاناة الشعور بالوحشة والتجاهل، وعدم الاستقرار وحيدا.

أصبح الشعر رفيقي وشفيعي في مواجهة أمكنة متغيرة وحياة متلونة وقاسية. علمني الشعرُ والحكايات أنْ أصمد وأتخيل بسعة الكون، لكن قراءة النثر من قصة ورواية وتاريخ وميثولوجيا وفكر وسِيَر ذاتية ومسرحيات أعطتني بعضا من المعرفة وسعة النظر.

اول قصيدة
كنتُ أقرأ بنهم. كتبتُ القصة القصيرة والشعر بنفس الوقت، لكنني توقفتُ عن ممارستها في العام 1989 بعد أن احترقت مخطوطتان شعريتان لي ومخطوطتي القصصية الأولى الوحيدة في حريق شب في شقتي في وارسو أثناء حضوري أمسية شعرية في بيت الثقافة وسط المدينة القديمة. كان صديقي الشاعر البولندي يقرأ قصائده الصادرة عن البيت الثقافي ذاته في سلسلة تحمل عنوانا لافتا "المخطوطات تحترق"! غريبٌ أمرُ هذه الدنيا. كتبت بعدها قائلا:

"الحياة،
هي الأمل الوحيد المتبقي
للموت
يالها من قصيدة عظيمة
هذه الفكرة المحتضرة!".

وفي مكان آخر قلتُ:

"إذا أردتَ الضحك فاضحكْ
وإذا أردتَ البكاءَ فابكِ،
لكنْ لاتتكلمْ بهاتين اللغتين".

ليس لأحد القدرة على الاحتفاظ حتى النهاية بطفولته مثل الشاعر، فهو الوحيد الذي يتمثلها ويستحضرها بفتوة بالغة. أنا صنيعها في المقام الأول، وثمرة انتكاستها في المقام الثاني. تشظت طفولتي إلى رحيل، قلق، خوف، معاناة، عدم استقرار وفقدانات مكانية متكررة، جعلتني لا أشعر بالانتماء لمدينة عراقية بحد ذاتها. تجمّعَ انتمائي في موشور يَشي بطقسية كلية. تحول مفهوم المكان لديّ من أبنية وشوارع ووجوه وطبيعة، أي من سيماء مستقرة ذات ملامح محددة إلى شيء انسيابي خاضع لمزاج الذاكرة والبصر والهمّ العام، ولأحداث وشخصيات ذات أثر ما. أصبح المكان ذا طبيعة وأفق ميتافيزيقين أكثر منه كشوارع ومبان ٍومعالم أخرى. عموما، سارت الأمور على الوجه الآتي: القرية- مدينة النجف- بغداد- البصرة(الزبير على التحديد)- الكويت - كركوك- تركيا- بلغاريا- رومانيا- يوغسلافيا- المجر – جيكوسلوفاكيا فبولندا(مدينة وودج – وارسو) – الجزائر(تيزي-وزو، بما في ذلك "جبل البلوى" الذي يكتنف المدينة بالأحضان)– بولندا- هامبورغ- بلجيكا – باريس – لندن- كوبنهاغن – مالمو- وارسو - برلين- عمّان - الولايات المتحدة الأميركية(نيويورك - بيترسبورغ – إنديانا – شيكاغو- بلومنغتن) – وارسو- تونس- طرابلس – وارسو- تشيكيا - ليتوانيا- النيبال- سراييفو- دمشق – كردستان العراق- وارسو- أمستردام – روتردام – وارسو – زاخو – زاخو(خارجا من العراق وداخلا له بمحض الصدفة من نفس المنفذ الحدودي- وارسو- فيجاك - لابوبي في جنوب فرنسا - يابلونا: حدود الغابة(استعادة بعض ملامح الطفولة القروية/السكن جوار الغابة). نقاط السيطرة: الريف/الغابة. من بين معارفي وجوها وأشياء وأصنافا، ضمن حدود المرئي، في الوقت الراهن: الخنازير البرية، طيورُ الدرّاج، بعضُ الغزلان والثعالب، أنواع شتى من الطيور المهاجرة، قطط، كلاب أليفة وسائبة، كتب عديدة بعضها يحمل آثار الحريق، بالإضافة إلى بعض رجال الشرطة والعمال الطارئين والعيونُ المستغربة، وعدسات مخفية لرصد الغرباء(خصوصا من خارج أوروبا). ضمن النطاق ذاته ثمت زمنٌ ينضج ألمحه من خلال الفتيات اللواتي أخذن يبلغن على عجل.

مفاصل الخوف والامل
ثمة مفاصل ينبغي عليّ التوقف عندها. في العام 1963 أثناء الإطاحة بحزب البعث الذي حكم عقب انقلاب دموي لمدة تسعة شهور ومجيء الأخوين عارف للسلطة تباعا، أذكر وأرى جيدا أننا شلة من المراهقين وبعض الكبار في السن قد تجمهرنا في شوارع المدينة بدافع الفضول. كنتُ أرقب الوضع من الرصيف المقابل لمقر الحزب الرئيس في المدينة، فلاحظت هروب أعضائه على عجل متسللين عبر السطح إلى المقبرة الواقعة خلفه بعد مرابطة مصفحة أمامه. دخلنا المقر فوجدنا مسامير ضخمة مثبتة في الجدران ومراوح منزوعة الرياش وشعورا متناثرة ودماء تغطي الجدران. في اليوم التالي دخلتُ مسجدا قريبا من بيتنا، كانت تدور حوله حكايات غريبة، عثرتُ على بعضها في كتيب أصفر الصفحات لايكترث به أحد، اقتنيته في العاصمة الجزائر أواسط الثمانينيات لمعرفة ما قد ينتظر الآثمين من أمثالي وكان بعنوان "أهوال يوم القيامة". هذه اللقطات انطبعت في مخيلتي وشكلت هاجسا وكابوسا حقيقين حاضرين في حياتي، أتضح فيما بعد أنها مقدمة لعذابات عراقية لاحقة متوالية ومتصاعدة في عنفها. وسببا في هروب موجات متلاحقة من المثقفين إلى الخارج – موجة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وماتلاها.

كانت تجربة النجف الدينية تشكل عائقا أمامي لمباركة التيارات السلفية، وحينما برزت أمامي المشاهد المروعة للأفعال المشينة شعرت بأنني منقذفٌ في الجهة الأخرى المعاكسة للتيارات القومية المغالية. أصبح من المستحيل إقناعي بصحة الشعارات القومية والدينية المطروحة بعنف في تلك الفترة الحالكة. كانت تلك الشعاراتُ تقطر دما. إذن، لم يبقَ أمامي، سوى العزلة أو مواساة النفس بالاستماع إلى فصيل ضخم من المثقفين المحسوبين على اليسار العراقي المهيمنين آنذاك على الحركة الثقافية إلى أن فقدوها داخل العراق بفعل حماقة وسذاجة قادتهم من جهة والحملة الشعواء من التنكيل والملاحقة التي طالتهم ومؤيديهم أواخر السبعينيات من جهة أخرى. فكانت تلكم الخديعة الكبرى! كانت علاقتي بالتيار العلماني العراقي محاولة للبحث عن أمل، وهي التي عجلت بهروبي شبه العلني في العام 1976. وربما بفضلها لم تزهق روحي مبكرا. إذن، لقد حُسمَ مصيري تماما. لم تدمْ علاقتي الفعلية بتلك الحركة أكثر من حدود مطلع الثمانينيات، لأنني اكتشفت عدم صلاحيتي التامة لأن أكون مؤدلجا أو تابعا ولو عن طريق الخطأ لأي طرف. كان عليّ صيانة نفسي من الزلل والتمسك باستقلاليتي الفكرية التامة إلى أبعد الحدود والمحافظة على ما فضل من ريشي أولا، وتطوير أدواتي الكتابية والعقلية ثانيا، والمحافظة على ماتبقى من الوطن وانتمائي الثقافي والحضاري ثالثا، ومواصلة الانفتاح على الآخر رابعا.

وعي الحاضر والماضي
كان ثمة وعي أو طموح قد يكون غير واقعي يتملكني: قد يكون بإمكاني أن أشكل حلقة نافعة حداثوية الروح والجسد ما بين التراث العربي والإنساني، بدون تقليد أحد أو تقليعة موسمية. هذا الإحساس جعلني أحاذر إلى حد ما من الوقوع في مطبات ومقالب الالتفات إلى الماضي بدون روح نقدية شكاكة، ومن الجري وراء التقليعات السريعة البراقة المنتشرة في سوق الثقافة العربية التي وصلت متأخرة إلى حد ما، وهي في الغالب الأعم ذات مرجعية أجنبية أخذ يهجرها أهلها. هذا الإحساس الذي أصبح بمرور الوقت إحدى سمات شخصيتي الأدبية، الثقافية والفكرية، جعل من الصعب خداعي شعريا وفنيا وفكريا، على أن رجحان كفة الحداثة هو المهيمن في تصوري ورؤيتي للعالم ولنفسي. الإيمان الحقيقي بالأشياء يجعل الكد المتواصل من أجلها أمرا طبيعيا وتلقائيا.
النقطة اللاحقة الجديرة بالتوقف عندها ولو سريعا تتعلق بمقبرة النجف الهائلة التي كنتُ أتردد عليها كثيرا بحيث شكلتْ أحدَ أهم الأماكن الموحية الحية التي أغنتْ حياتي الأدبية، حتى أنها أثرتْ على مزاجي اللاحق ورؤيتي للكون ولمصير بني البشر. لقد اكتشفتُ بأن الإنسان مصيدة للمبالغة في كل شيء وأنه ربما يكون الكائنَ الوحيد الذي ينصب الفخاخ لنفسه ويتباهى بذلك. قبل سنة شرعتُ بكتابة قصيدة مركبة بعنوان "أنثروبولوجيا العائلة" جاء فيها:

"كنا جميعا ننصب الفخاخ
للحيوان والطيور
ننصب الفخاخ للحياة".

ثمت تلقائية بعلاقتنا بالطبيعة والمحيط، لكنها تفتقد إلى الوعي بأهميتها.
في جامعة بغداد

شكلتْ جامعةُ بغدادَ نقطة مفصلية أخرى في بلورة مصيري، ليس كمدرس للغة العربية في مدينة كركوك وحسب، إنما في غلبة الخيار الشعري والكتابي في حياتي. قُبِلتُ في قسم اللغة العربية بسبب غلق باب القبول لقسم اللغة الإنجليزية، وقد شجعني على ذلك الأستاذ علي عباس علوان الذي كان جالسا خلف طاولة استلام الطلبات آنذاك(درّسَنا فيما بعد مادة العروض). كان أبي قد رفض تقديمي للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة، بسبب تصور مضحك لدى العامة بأن طلابها وطالباتها من النوع الخفيف: الطالبات ساقطات والطلاب مخنثون! وبناء على فكرة الفحولة الشاخصة في العقل العربي، أخذني إلى الكلية العسكرية لتقديم أوراقي، فرفضوني، ومنها إلى كلية الشرطة فلم يكُ حظي أوفر. أشاع ذلك روح الفرح في داخلي: لسقوط ذرائع أبي لعوامل خارجية، وانعتاق روحي وعقلي ومستقبلي.

كانت دورتي في جامعة بغداد محظوظة، بأن درّسَها كلّ من الشاعرة نازك الملائكة والشاعرة عاتكة الخزرجي والأساتذة: مهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر وإبراهيم السامرائي وعناد غزوان وفاضل السامرائي وعلي عباس علوان وسواهم. أُطْلِقتْ عبثا على دورتِنا تسميةُ"كلية التربية الملغاة"، أم أننا كنا قطرة في بحر ممارسة الإلغاء والمحو المبرمجة الشاملة؟ كنا آخر مجموعة تتخرج من كلية ذات تاريخ علمي وأدبي رفيع، كونها تشكل امتدادا للكلية التي تخرج منها السياب والبياتي ونازك الملائكة وزملاؤهم الآخرون. صدر قانون إلغائها والشروع بتأسيس كلية جديدة بديلة تحمل نفس الإسم ليُقبل فيها منتسبو حزب السلطة فقط. عُرفِتْ كليةُ التربية الملغاة، حتى بعد نقل كلية الآداب مكانها، بأنها منتدى أدبي – ثقافي يَؤمه الشعراء والكتاب من كل مكان. كانت (قاعة ساطع الحصري) ملتقى للمحاضرات والندوات والمهرجانات الشعرية والفنية الطلابية وذات الطابع القطري والعربي، وفيها ساهمتُ أكثرَ من مرة في مهرجانات الجامعة الشعرية. هناك تعرفت على عديد من الشعراء والنقاد وتعرفوا عليّ. كان عدد الشعراء من المشاركين معنا يربو على الثلاثين، لم يبق منهم سوى حفنة مشردة طموحة تمارس الكتابة شعرا ونثرا.

بعد انتهاء مهرجان الجامعة الشعري في العام 1970 جمع الناقد ماجد السامرائي كل ما قرأته ونشره في جريدة الصحافة التي كان يصدرها قسمُ الصحافة والإعلام في جامعة بغداد. وماجد هو الذي وقف موقفا مشرفا آنذاك لمتابعة مصير ديوانيّ الشعريين في وزراة الإعلام. كان ذلك أول نشر لي، انقطعتُ عنه، وعاودته بطلب من الشعراء: مصطفى جمال الدين ومحمد حسين الأعرجي وهاشم الطالقاني الذين نشروا لي قصيدة "العزف على الجمجمة" (1973) في مجلة الرابطة الأدبية الشهرية الصادرة آنذاك في النجف(كانوا في هيئة تحريرها)، ويرأس تحريرها الشاعر الراحل مصطفى جمال الدين. جرى الاحتفاء بالقصيدة بطريقة ملفتة أغرتني بمواصلة الكتابة والنشر.

***

3-3

في كركوك الملونة، بسهولها ومرتفعاتها وشعلتها الدائمة وموزائيكيتها الاجتماعية والثقافية وعبقها الخاص، توثقت علاقتي بالأقليات الدينية والأثنية التي اغتنيتُ بفضلها روحيا وصرتُ أدافع عن كينونتها. بفضل كركوك أخذت أعود إلى أحضان الطبيعة التي افتقدتها لسنوات. هناك توثقت علاقتي ببعض الكتاب من أمثال جليل القيسي وجان دمو(نشرَ في العام 1975 في جريدة التآخي جزء من حوار طويل أجراه معي والظاهر أنه قد أضاع القسم الأهم منه!، أنظرْ تذييل قصيدتي "ذكريات شقة فارغة").

كان جليل(أبو أميمة) يستقبل ضيوفه القلائل عادة في غرفته-مكتبه المحاذي للباب الخارجي، بحيث لاترى من العائلة أحدا سواه. كان عادة ما يجلس قبالة منحوتة-بورتريه للسياب، وكلما نظر إليه شكا لي من ألم في رجليه، كان يخفف من وطأته بالمشي اليومي. تكررت لقاءاتي به في العامين 1975/ 1976، زارني في شقتي مرتين والبقية فضلها أن تكون في بيته حيث كنا نتناقش في امور حياتية وثقافية شتى، تتوجت في حوار طويل أجريته معه ونشر فيما بعد. أما المرحوم جان دمو فكان يرى في شقتي ملاذا له من "لهيب نفط كركوك" كما كان يكرر ذلك على مسمعي مقهقها. كنتُ أنا ألوذ كذلك من نفطها متنقلا بين محلة آزادي والقلعة والسينما وبيوت بعض الأصدقاء الخاصين. كما كنتُ أدخل بيوت الكلدو-آشوريين والأرمن مدعوا فأحتسي من نبيذها الزلال. لم أشربْ بعده نبيذا بهذه الكثافة والمذاق أبدا. كان يعمل في البيوت بوصفات مجرّبة عبر قرون، ويوضع في دنان زجاجية أو جرار خاصة ويقدم للضيوف أحيانا.

أعادت لي تلك المدينة بعضا من الطقسية الغائبة في بغداد، منحتني قسطا من حرية الحركة لكوني خارج العاصمة، إلا أنها زادت من همومي وقلقي الذي اتضح لي فيما بعد بأنه جزء من الحيرة العامة والخوف من المجهول الذي أخذ يعمّ العراق مثل كابوس وقدر لافكاك منه إلا بالمحق الشامل. على أن كل ذلك لم يمنعني من الشعور بفقدان ما أسماه ذات يوم الشاعر البولندي (تشيسواف ميووش) "بفقدان الأرض تحت القدمين".

حينئذ، تسربتْ إلى قاموسي الشعري هواجسُ وهلوسات وكوابيسُ وأحلامٌ ورؤى، جرى التعبير عنها في شعري، بمفردات وتراكيب وعناوين من قبيل: العزف على الجمجمة، عثرات، خيانات، أشباح، خذلان، المحق، الخراب، الكابوس، التراب، الغبار، الحجر، الحجارة، الجبروت، الغياب، الانسلاخ، مشاعية محبطة، التشظي، الأبالسة، الوباء، المُلاحَقة، شيخوخة العشب، مرثية العقل، أنياب السماء، جبل البلوى، حسرة الماء، تلويحة الذئاب، أرصفة مهجورة، رحيل، سيول، المكر، وردة الرمل، مديح المحبة، حذاء الوردة، خطوات الصحراء، الحسك، السراب، السديم، العماء، العَمَى، المجهول يستحضرك، نشيدُ العدم، الجحيم، من هنا البحر إنني بانتظاركم، أقنعة، رثاء الطبيعة، أحراش، مستنقعات، ذكرى المعادن، قلاع، ذاكرة الآتي ماضيا، أسمعك ولا تصغي إليّ، استغاثة النخيل، تهدل الكشح الفتي، غضون الطفولة، تلويحة الجبل، المجد للابتسامة، سراب، صداقة القسوة، ياعدوتي المحبوبة، أبوّة الجحيم، بسالة الوحشة، تلويحة الأفعى، الأنا المبجلة، احتضار، الطمي، أحلام وأباطيل، وهلمّ جرا. كلها تعابير وكلمات تشير إلى عالم تلقائي، وإيقاع حياتي- اجتماعي- سياسي وثقافي موروث يحتضر. طفولة ضائعة، جهد مشكوك فيه، تجربة شمولية قاسية ذات عواقب جدّ وخيمة، مستقبل تعبث به الرياح، منطقة ستشهد ظلامية ماحقة. زعزعة المفاهيم والقيم، ثمت دخول الحقيقة والحق والقانون إلى العالم السفلي، إضافة إلى اندحار مفهوم الشخصية المتفردة وخصوصية الفرد واستسلامهما لقبضة شمولية ماكرة بحق.

في العام 1973، بناء على تشجيع من بعض الأصدقاء شعراء ونقادا، قدمتُ مجموعتي الشعرية الأولى "من هنا البحر إنني بانتظاركم" إلى وزارة الإعلام العراقية بغرض نشرها ضمن سلسلة "كتابات جديدة". فصدرت أخبار في الصحافة تشير إلى قرب صدور "المجموعة الشعرية الأولى للشاعر الشاب الواعد هاتف الجنابي". لكنني وبعد نصف سنة فوجئت برفضها "لأسباب لاعلاقة لها بالجوانب الفنية"، كما ذكر لي عبد الرحمن الربيعي في الوزارة بحضور الكاتب برهان الخطيب القادم من موسكو آنذاك الذي التقيته فيما بعد، مطلع التسعينيات، في مدينة بلومنغتن في الولايات المتحدة الأميركية فأصبحنا أصدقاء. أثارَ الموضوعَ متسائلا ومستهجنا حينئذ الشاعر شاكر لعيبي في مقالة مقتضبة له نشرت في إحدى الصحف العراقية. ما زلتُ محتفظا بها في أرشيفي الخاص. بعدها بسنة أخذ مني أحدُ النقاد العراقيين الأحياء مجموعة شعرية أخرى بعنوان "المحاولة الثالثة" للمساعدة في نشرها، ولم يُعرفْ مصيرها حتى اليوم. كان ذلك الحدث بمثابة إنذار مبكر لي بضرورة اتخاذ الحيطة والحذر. على أن من مفارقات القدر، وكما اتضح آجلا، أنه بسبب قلة لقائي المنطقي والمعقول بالوسط الثقافي والأدبي على الخصوص، وعدم انتمائي للحزب الحاكم، قد تكوّنتْ عني فكرة وانطباع خاطئان وساذجان، بأنني ناشط في صفوف المعارضة مهم وخطير! لحقتني هذه السمعةُ المُضللة إلى منفاي الأوروبي، فاستأنستُ بها لفترة!

لكركوك الفضل الأول في رحيلي في (آب 1976) عبر معبر زاخو الحدودي الذي وصلته من بغداد في حافلة كبيرة عند الغبش، خوفا من المطار، بجواز سفر كان يُمنح لمدة أربع سنوات، لكنه اخْتُصِر لي بسنتين فحسب، بحقيبة صغيرة وبعض الكتب وحفنة من الدولارات ودموع أبي الذي ودّعني وكأنه أحسّ بأنني لن أعود سريعا. يبدو أنني كنتُ مراقبا بدقة رغم حذري الشديد وتحركاتي غير المريبة. كانت عيونُ السلطة في كل مكان، بحيث أصبحَ لها قسط لابأس به من أحلامي!
اجلسْ في المقهى ترَ مَنْ يتلصصُ عليك، اجلسْ في الحانة تجدْ مَنْ يرفع كأسَه محييا. نديمك القلقُ فالأرقُ:

"مرحبا أيها الأرقُ فرشَتْ أُنسَا لكَ الحدقُ
لك منْ عينيّ منطلقٌ إذْ عيونُ الناس ِتنطبقُ
لك زادٌ عنديَ القلقُ واليراعُ النضوُ والورقُ"(الجواهري، مرحبا أيها الأرق)

اكتشفتُ بعد الخروج من القمقم العراقي ودخولي الأراضي التركية أن عليّ الشروع بترتيب أوراق حياتي وتبويب فصولها من جديد. غفوتُ طويلا، فأيقضني جاري في أنقرة، استيقظ يا رَجل، وكلْ من فاكهة الترك، تعارفنا وإذا به الكاتب المصري ( رؤوف مسعد) الذي جمعتني وإياه الصدفة فصرنا أصدقاء عن بعد. كان رؤوف متجها إلى بولندا فقلتُ له: وأنا سأسافر إليها كمان. ضحكنا وتناقشنا حتى أغلقَ أفواهَنا النومُ. حينما دخلنا بخارست، قال لي: سيسافر إلى بولندا عبر الاتحاد السوفيتي، كانت لديه تأشيرة مرور أخذها وهو في بغداد حيث كان يعمل في المؤسسة العامة للسينما والمسرح العراقية ولم تكنْ لي مثلها، فذهب معي بغرض المساعدة إلى سفارة الاتحاد السوفيتي طلبا لتأشيرة المرور فرفضوا منحي إياها بعد نقاش عقيم مع القنصل. كانت تلك أول صدمة لي كلفتني عدة أيام إضافية وخسائر لم أكنْ مستعدا لتحملها. دخلتُ وارسو بالقطار بعد توقف في بلغراد لمدة يومين، قضيتهما لدى سودانيين لطفاء جدا قد أعانوني في حيرتي البلغرادية.

من وارسو بدأتْ رحلة المنفى الحقيقية بقطار من الدرجة الثانية. حصلت فيها على منحة لدراسة الأدب واللغة البولندية ومن ثم التخصص في مجال المسرح. بعد مرور عشر سنوات على إقامتي أخذتُ أكتب باللغة البولندية كذلك، فأصبحتُ عضوا في اتحاد أدبائها ونادي قلمها وأصبحت منغمسا تدريجيا في حياتها الثقافية والأدبية. لكنني كلما مضيتُ فيها خطوة إلى الأمام تراجع اسمي خطوة في بلادي من حيث التعتيم وانعدام النشر حتى اصبحت في عداد الأدباء المفقودين! كتبت وبحثت وترجمت ونشرت وكُرّمتْ، وتعرفتُ على أسماء شعرية وأدبية بارزة بولندية وعالمية. وحينما دخل اسمي في قواميس الكتاب وأنثولوجيات الشعراء أصبحتُ أكثر غربة من ذي قبل وخوفا من نفسي. شكلت سنوات الثمانينيات البولندية تجربة ودرسا بليغين لي.

أتذكر، مرة أثناء افتتاح مهرجان الخريف الشعري العالمي في وارسو منتصف الثمانينات(أحد أكبر مهرجانات الشعر في أوروبا آنذاك)، كيف وقفَ الشاعر (رسول حمزاتوف) بمعية زوجته دون أن يكترث بهما أحد! كان ينظر عبر شبّاك نادي الاتحاد وكأنه يرتقب رسولا من سماء أخرى. اقتربتُ من أحد أصدقائي المنظمين وقلتُ له: أتعرفُ ذلك الشاعرَ الفارعَ القامة؟ فأجابني: لا، ومنْ يكون؟ قلتُ: مؤلف "داغستان بلدي". لا، للأسف، لم اقرأ هذه الرواية!
الظاهر، لقد تمتْ دعوته من قبل أحد أعضاء اللجنة المركزية لحزب العمال البولندي الموحد كعضو لجنة مركزية للحزب الشيوعي السوفياتي أولا وكشاعر ثانيا، ثم تم نسيانه، أو تجاهله، لأنّ مَنْ دعاه لم يحضْر! شعرتُ حينها بالخيبة والتقزز، وانتابني إحساسٌ غريب، بأن شيئا ما سيلوح في الأفق القريب، مُغيّرا وجهَ العالم. يا لها من دلالة على زوال منظومة سياسية- فكرية- ثقافية لم تنجُ من دهاقنة ومتزلفين ودعاة فارغين وَأدوها قبل أن تفعل شيئا له فعل الأثر الأركولوجي. لكن، هل كان بإمكانها حقا أن تنجز مثل ذلك الأثر الموعود؟ كنت ُأشك في ذلك، ويا ليتني كنتُ مخطئا.

في فترة الطفولة والمراهقة كان الخاص طاغيا على العام بحيث جاءت مقولة النفري: "إذا لم يعمل الخاص على أنه خاص هلك" مطابقة لمنطق حياتي. أخذ الخاص يتقهقر بدء من الجامعة وحتى أواسط الثمانينيات تحت وطأة العمل الجماعي وسطوة الأفكار الاشتراكية والدينية والشمولية.
الكل: الدين والقبيلة والحزب والأيديولجيا السائدة في السوق، تفوح منها رائحة الشمولية ووجوب خدمة منطق العمومية لا التفرد والخصوصية. من يخرج على ثقافة الجماعة يهلك. عليك أن تبقى جنديا مطيعا ووفيا للجميع، باستثناء ذاتك. من بين المفارقات في حياتي الأدبية، أن أول ديوان شعري يصدر لي متأخرا، كان باللغة البولندية/ مترجما من العربية! وأول مختارات شعرية صدرت لي كانت باللغة الإنجليزية أولا، ومن ثم بالبولندية وبعدها جاء دور العربية! وارسو ليست لندن ولا باريس ولا ولا، إذ لايوجد فيها أية مكتبة عربية ناهيك عن دور النشر العربية. كتبت تحت تأثير حالتي ذات يوم ما يلي:

"ابك، ابكِ، أيها الشاعر
لعل دموعك تصير لآليء"

في 1986 صدر في وارسو كتيب هام للغاية للشاعر (تشيسواف ميووش) بعنوان: "شهادة الشعر – ست محاضرات عن مواجع قرننا" لفتت انتباهي الفكرة التالية: " التعميم عدو الإنسان الحقيقي". لقد أيقظتْ تلك العبارةُ في نفسي شرَهَ العودة إلى الخصوصية، فشرعتُ بمواجهة التعميم باللجوء إلى التكثيف ومتابعة التفاصيل والجزئيات والغور في الداخل أكثر من ذي قبل. حتى بلغتُ مرحلة يصلني فيها صوتُ الناس بمقدار ما أريد. إذا اردتَ أن تفعل شيئا جماهيريا ينبغي أن تختلط بالجماعة، لكن إذا نويت كتابة شيء ذي قيمة فما عليك سوى إيجاد فسحة لعمل ذلك خارج العمومية.
المنفى يبدأ منذ اللحظة التي تُضْطَرّ فيها للمغادرة ويستمر حتى تزول أسبابه. المنفى يمنحك الحرية وسعة النظر وقوة الإرادة، لكنه لن ينقذك من مصير مواطن من الدرجة الثانية، والسفر بقطارات الدرجة الثانية. ولكل قاعدة استثناء!

من أين أنت يا حبيبي؟ أنا من الكوسموس أو الأسكيموس، لا فرق. سؤال يتردد على لسان الأغلبية التي لاتعرفك، يلسَعكَ شتاءً ويشويك صيفا. أذكر، حينما كنتُ مدعوا لإحدى الحفلات الطلابية في كامبوس جامعة إنديانا، رقصتْ معي فتاة وسألتني ذات لحظة: منْ أينَ أنت؟ قلتُ محرجا ومتهيبا وخائفا من ذكر اسم العراق: من بولندا(كان ذلك مباشرة بعد عاصفة الصحراء)، حدجتني بنظرة ازدراء، وقالت لي: ألستَ عربيا؟! نعم، قلتُ، لكنني قدمت من وارسو لأنني أعيش فيها، ثم ما للعرب والعجم بالموضوع؟ فتركتني فورا واختفت في زحمة المحتفلين. سالَ عرَقي وعِراقي فشعرتُ بلزوجة العار تغطي كياني. نعم، كان للعرب دور في تلك الحادثة الصغيرة، لأن طالبة عربية قالت لزميلتها -تلك الفتاة: انظري لهذا العربي الحقير الذي أهملني!

في العام 1979 وصلتني لأول مرة دعوة للمشاركة في مهرجان شعر الشباب المنعقد في مدينة (غنيزنو) – أول عاصمة لبولندا. كانت الفعالية مهمة للغاية، لأنها جلبت لي علاقات شعرية وأدبية كنتُ بأمس الحاجة إليها. وصلنا إلى مكان المهرجان بحافلة أقلتنا من وارسو. كان جالسا خلفي (بيوتر كونتسيفيتش) وزوجته، كان بيوتر أحدَ أشهر النقاد البولنديين، أصبح فيما بعد رئيسا لاتحاد الأدباء البولنديين. بادرني بأسئلة استفزازية، من قبيل: هل تعرف ماذا يفعل السائحون العرب في وارسو؟ ولماذا دولة صغيرة مثل إسرائيل قد هزمت أمة كاملة؟ وما هو دور العرب في الحضارة الحديثة. قلتُ له: سأجيبك عن السؤال الأخير بسرعة وأقول لك: لاشيء. أما السؤال الأول فهو سخيف لأنه من الضروري أن تسأل عن الطرف المضيف، وهل هؤلاء السواح الفاسدون يلتقون بعائرات وقوادين وسماسرة من كوكب آخر أم من بولندا ذاتها، وفيما يتعلق بالسؤال الثاني فمن الأفضل أن تقول لي: لماذا هذه الدولة تتحكم بكم أنتم الأقوياء المتحضرون قبل غيركم؟ كانت إجاباتي قاطعة ولكن بأسلوب تغلب عليه الفكاهة. حينئذ، طبطبَ على كتفيّ ودعاني بعد عودتنا من المهرجان لزيارته في وارسو. كان هذا الناقد هو الذي قدم أمسيتي الشعرية الأولى(1980) في نادي(هبردي) الشهير آنذاك والذي سُمِّيَتْ حركة شعرية بولندية حداثوية مؤثرة باسمه. وقام بنشر مقدمته فيما بعد مع مجموعة من قصائدي في المجلة الأسبوعية البولندية المعروفة آنئذ(رازم)، مشبها دوري على الصعيد البولندي بدور كونراد البولندي الأصل على الصعيد الإنجليزي، فضحكت لهذه المفارقات العجيبة والحياة الخرافية. مات صديقي مؤخرا وانتهت مرحلة كانت تنتمي إلى أدب وثقافة السنوات المنصرمة: موت النظام السابق، حتى أن غالبية المجتمع البولندي لم تعدْ تتذكره. لقد ماتَ كبار ممثلي تلك الحقبة من الكتاب والفنانين والسياسيين. مَنْ ينظر إلى الوراء باستمرار يُصِبْهُ الصدأ وتلتف حول عنقه الخيبة.

كنتُ انتظرتُ العودة إلى العراق حوالي خمس عشرة سنة، بجواز سفر غير صالح، وأوراق مؤقتة تُمَدّدُ كلّ نصف سنة بفضل محاضراتي في جامعة وارسو. لم أطلب الإقامة خلالها ولا الجنسية. والآن أشهدُ قُربَ نهاية العام الحادي والثلاثين، فلم يَعُدِ العراقُ لي، ولم أتمكنْ حتى اليوم من هضم كل ماجرى. إنها حجارتي تسّاقط من فمي.
كانت أمي، بعد موت أخي الأكبر في مهده(لا اسم له)، وأختي الصغرى(أمل)، وأخي الرضيع (عادل)، وأخي (محمد) المضرج بدمه على الرصيف، قد دأبتْ على تعليق ثلاث صور في البيت: للمسيح، ومريم العذراء والإمام علي. وَلدَى تساؤل الفضوليين، كانت تجيب: درْءا لغفلة الحياة!

سمعتُ أنها قد أضافتْ إليها صورة ابنها الذي لم يَعُدْ من غيبته*

ما هي أخبارك أيها المنفى الخرافي؟ ألمْ نكنْ نديمينِ وخصمينِ معا في في أربع قارات: في العراق وبولندا والجزائر وأميركا؟
مقاربة ذلك في الفصول اللاحقة.

* لقد سقط هذا الهرم الحياتي بموتها في 31 آب 2007.
* شهادة الشاعر هاتف جنابي التي كان من المزمع المشاركة بها في مؤتمر الكتاب العرب في المهجر المنعقد في الجزائر في الفترة مابين 24 -28 حزيران 2007. لم تلقَ بسبب انسحابه من المؤتمر.