شهادات

تقديـم - فتحي عبد السميع
*الشهادات
  الأماكن والناس والحياة -حسين القباحي
الشعر والحياة -سامي سعد
الشعر حنين .. يسكن الذاكرة- سمير سعدى
ممرٌّ صغيرٌ إلى الشعر -عاطف عبد العزيز
مكر الشَّاعِر ومكر العَالَم! -عبد الرحيم طايع
الانتساب لأشياء الحياة الباقية -علاء خالد
سعيا إلى المتعة وفرارا من الألم -عماد غزالي
أن ألعب مع العـالم..أن أراوغ خفّة الشظية-مؤمن سمير
شهـادات -محمد سعد بيومى
رحلة بين النخيل -مصطفى الجزار
* أوراق عمل المائدة المستديرة
 

"القصيدة الجديدة (مراجعات ورؤى)"
من الواحد إلى المتعدد- محمد آدم
الشعرية الجديدة بين الريادة والكهانة- محمود قرني
جيل العامية في الثمانينيات- ربع قرن من الجدل الشعري-مصطفى الجارحي
قصيدة نثر العامية بين الأزمة والمأمول .. ما لها وما عليها منذ التسعينيات حتى الآن- أشرف عتريس

الهيئة العامة لقصور الثقافة
مؤتمر أدباء مصر
الدورة الرابعة والعشرون

رئيس المؤتمر
د عبد المنعم تليمة
أمين عام المؤتمر
فتحي عبد السميع
كتاب الشهادات
وأوراق عمل المائدة المستديرة

المشهد الشعري الراهن ـ الإسكندرية ـ 2009م.

الشهادة والبيت السحري

فتحي عبد السميع

هل من الضروري أن يتحدث الشعراء عن أنفسهم، عن مخزونهم الحياتي أو الثقافي، أو عن تصوراتهم الجمالية، أو عن تجاربهم بأسئلتها أو آفاقها وغيرها؟
إلى أي مدى يمكن أن تنجح شهادات الشعراء على وجه الخصوص، في تمهيد الطريق إلي قصائدهم، ومنحنا فرصة فريدة للتوغل بشكل أعمق في تجاربهم.
أوليس هذا دور الناقد بنظرياته ومناهجه؟ أليست أدواته هي الأنجع في تناول نصوص الشعراء من شهاداتهم؟
أتصور أن الشعر والنقد يخرجان من منطقة واحدة من الدماغ، منطقة أشبه بالبيت السحري، وبينما يقف النقد كثيرا أمام البيت وينطلق غالبا من ملامحه الخارجية، ربما يكون مغامرا ويقف علي العتبة ويمد رأسه في الداخل، وقد يدخل الصالة، لكنه لا يستطيع الذهاب إلي ما هو أبعد، أما الشاعر فيبقي صاحب البيت المقيم، ومن هنا تظل القصيدة أكبر من كل تصور نقدي عنها مهما تسلح الناقد بالعلم، وأكثر رحابة من القبض النهائي عليها، تظل القصيدة مستفزة علي الدوام لجهود آخرين ومناهج أكثر فاعلية، ويصبح الكلام عن شاعر جاهلي ـ مثلا ـ مفتوحا علي مصراعيه حتي الآن، وهكذا يمكن أن تتجدد القصيدة إلي ما لا نهاية كلما تجدد قارئها، المبدع هو صاحب البيت المقيم ، ويرى دائما أكثر مما يراه الناقد ، لأن زاوية الرؤية أكبر، فهو ينطلق من قلب البيت بكل ما تعنيه كلمة قلب هنا من إمكانيات تتجاوز العلم.
ومع ذلك يبقى هذا البيت سحريا كما ذكرت، يقيم الشاعر فيه ولا يحيط به، يتحرك في أعماقه هنا وهناك لكنها حركة المغامر في متاهة لا تنتهي، حركة المكتشف الخلاقة فيما يعز بلوغه ـ نظريا ـ إلا لآخر آدمي علي وجه الأرض، فالبيت هو الآخر يتجدد بساكنه، ومن ثم سيبقي منبع الشعر عفيا إلي آخر الدهر، ومهما كانت حيرة الشاعر أمام عظمة منجزات السابقين عليه، ومهما كان شكه في قدرته علي الإضافة، وهو أمر قديم عبرت عنه معلقة عنترة، إلا أن المجال يبقي مفتوحا علي إنجازات وإنجازات من الآثار الشعرية العظيمة الناتجة عن حركة الشاعر في البيت السحري. بيت الإنسانية المدهش والمعجز.
وحركة الشاعر أو القارئ تبقي هي الأخرى معقدة، وهناك مسافات تظل قائمة دوما بين القارئ والقصيدة، وبين التجربة والقصيدة، بين اللغة وما أراد الشاعر أن يقدمه، فثمة صراع يخوضه الشاعر وهو يكتب، ثمة ما يحذفه ويسكت عنه، وما يضيفه، وقد يهدم القصيدة ويعيد بناءها من جديد، مرة وأخري، وأثناء ذلك يقمع أشياء وأشياء، ويبقي الأمر محكوما بمهاراته ووعيه الفني، ولعل الفرق بين شاعر جيد وآخر رديء يكمن في كمية القمع الذي يمارسه علي القصيدة وهي تتكون، الشاعر الجيد يحرر عبر إصغائه العميق ،واهتمامه البالغ، وأدواته المكتملة فيُخرج لنا كائنا حيا فاتنا ومتألقا ومدهشا، والشاعر الرديء يقمع، ويقمع، حتي يخرج من بين يديه كائنا ميتا لا فتنة فيه ولا تألق ولا دهشة.
إن الممارسة الشعرية عملية معقدة للغاية، كما أن القبض علي قصيدة جيدة قبضا محكما ونهائيا يعد ضربا من المستحيل، ومن ثم فنحن بحاجة إلي كل وسيلة تضعنا في قلب القصيدة، فما بالك بالوسيلة وقد جاءت عبر الشاعر نفسه، كيف نتجاهلها لأنها لا تكترث لنظريات النقاد أو مناهجهم كثيرا.
بشكل شخصي، أعتقد أن شهادات المبدعين هامة جدا، وما من سبيل لجحد أهميتها تحت أي مسمي، لقد انفتحت نظريات التلقي الحديثة لأنماط كثيرة من التلقي، وما الشهادة سوي نمط من التلقي يكون المبدع فيه هو القارئ الفعلي لتجربته ولو بشكل عام، خاصة وهو أقرب الناس لذلك المتلقي الضمني الذي يحلق علي كل قصيدة وهي تتكون، أو تتحور أو تتعدل، ويرصد كل معاناتها حتى تكتسب قوامها النهائي الذي يرضي عنه الشاعر، أو علي الأصح يرضى بحالتها وهيئتها وهي تخرج للشارع، فالشاعر لا يرضي أبدا عن صنع يديه، وغالبا ما يبقي ذلك القارئ الضمني محلقا حتى بعد نشر القصيدة وخروجها عن سيطرة مبدعها . وبعض الشعراء لا يعترف بذلك فيعدل في قصيدته حتي بعد نشرها لأنها لا تعجب قارئا غامضا، شفافا ولا يري لكنه ضاغط ومؤثر.
وتكتسب شهادات الشعراء أهمية أكبر عندما ترتبط بتجارب غير مألوفة، أو ناجزة عن المرجعية المستقرة للشعر، أو صادمة للذائقة المستقرة، خاصة في ظل ممارسة نقدية منغلقة، لا تعرف المغامرة، ولا تقدر أسبقية الإبداع علي النظرية حق قدرها، وما أكثر الكلام أساسا عن أننا نعاني من أزمة نقدية فادحة، تظهر تجلياتها عبر مستويات متعددة، ليس هذا مجال الخوض فيها.
ومن يطالع إبداعات الشعراء علي مدار العقود الأخيرة ، يلحظ بشكل واضح أن المتلقي بشكل عام يفقد تلك الأرض الصلبة التي يستطيع الوقوف عليها وهو يتابع النصوص الجديدة، فالمسافة بعيدة بينها وبين ذائقته، حتي إنه يشعر أمامها بالصدمة التي تقوده إلي موقف وحيد في الغالب، وهو رفض تلك الكتابات، ونفيها عن أرض الشعر وسمائه، وهذا الموقف لا يقتصر علي القارئ العام الذي تكثر أسباب ابتعاده عن الشعر أساسا، بل نجده عند بعض النقاد أيضا. وهو ما يجعلنا ننتظر الكثير من شهادات الشعراء.
قد نتهم الشهادة بلغتها المحلقة، لكننا يمكن أن نعلق بأن تلك اللغة هي الأقرب للغة الشعر وطبيعة تكوينه الجمالية، وقد نتهم الشهادة بعدم الموضوعية، لكننا يمكن أن نشكك في الموضوعية عندما تتعلق بالخبرة الجمالية، وقد نتهمها بعدم الدقة العلمية التي تكتسب صيتا عاليا ومهيبا، وأقول قامعا أيضا ـ لكننا لا ينبغي علي الأقل أن نسمح لها بأن تشكل عزفا منفردا في مجال تلقي الشعر، إن لم نقل إنها لم تثبت فاعليتها بل ارتكبت باسمها جرائم في حق الشعر. فالعلم مهما كان لا يستطيع الاقتراب إلا من مساحة محددة من تلك الكينونة الإنسانية التي ستظل علي الدوام ملغزة ومحيرة، وأكبر من أن يستوعبها العلم، ومن قلب تلك الكينونة السحري ينبثق الشعر.
إن كل المثالب التي يمكن أن توجه لشهادات الشعراء ، يمكن النظر إليها باعتبارها فضائل، فشهادات الشعراء وهي تضيء حياة الشاعر قد تعصف بكثير من الادعاءات التي يسوقها البعض لتبرير عدم قبولهم لاتجاه فني معين يشعرون بالهوة التي تفصله عن آثار الأولين ومن نهجوا نهجهم، وكثيرا ما يثار مثلا في خضم الحديث المكرور عن التجارب الجديدة، أنها ابنة شعراء محدودي الوعي بالتراث، أو ليس لهم علاقة به، فهم نبت شيطاني دفعه العجز عن استيعاب التراث، وخانته القدرة علي النسج علي منوال الفطاحل القدماء ومن يرجع لشهادات بعض شعراء العامية يكتشف علاقتهم العميقة بالتراث، وهو ما يظهر جليا من خلال لغتهم واستشهاداتهم، فليس شاعر العامية هو ذلك الإنسان البسيط الذي تعذر عليه الغوص في بحر الفصحى فكتب بالعامية، بل هو شاعر مثقف، له رؤيته العميقة، وخبرته بالتراث القديم علي نحو قد لا نجده عند الكثيرين ممن يكتبون بالفصحى في زيها التقليدي.
إن شهادات الشعراء يمكن أن تتقدم باختلافاتنا (الرائعة) إلي الأمام، وتذهب بها إلي الجوهر والقضايا الحقيقية بدلا من الوقوف عند القشور، فتتحول روعتها إلي بلادة مكرورة ومملة بدلا من أن تضعنا في قلب الممارسة الشعرية، وتلقي بنا في متاهة من القصف المجاني التافه والقصف المضاد.
إن الشاعر وهو يضع يدنا علي المخزون الذي يستمد منه تجربته بما يحويه من أماكن أو بشر يقودنا إلي الهوية المركزية في شعره والتي ينطلق منها في فيضه الشعري، فيضع يدنا علي مفتاح هام يعيننا علي دخول عالمه، والشاعر وهو يسرد أهم الأحداث العامة والشخصية، والنصوص أو الشعراء الذين كان لهم الأثر البالغ وطبيعة ذلك الأثر، وموقفه من الشعراء السابقين ورموزهم علي الأخص، وخطوات بحثه عن ماهية الشعر بأسئلتها المختلفة والمتجددة، وما راح يتشكل في وعيه حتي تماسك وصار بحاجة إلي أساليب معينة اصطفاها وراح يركز عليها، ومبررات ذلك، كل ذلك يثرينا بلا شك، وعندما يتطرق إلي ما يوجه إليه من اتهامات، يفتح أفقا للحوار الفعال، وقد يلفت الانتباه إلي مناطق ربما تكون محجوبة بالفعل بسبب شيوع وذيوع بعض الأفكار التي غالبا ما تحول بين القارئ والتلقي الفعال.
*****
لا شك أن المشهد الشعري يمتلئ بالكثير من الأسماء والتجارب، وكان لا بد من وضع أسس لاختيار عدد محدد من الشعراء، ليقدموا شهاداتهم عن المشهد الشعري بشكل عام وعن تجاربهم بشكل خاص.
ولم يكن لتلك الأسس أن تبتعد عن الإطار العام الذي رسمناه للمؤتمر، وأبرزها ضرورة أن يسهم في خلق مناخ ثقافي إيجابي، يحتفي بقيمة التواصل العميق بين الأجيال، والحوار الفعال بين الاتجاهات المختلفة، خاصة في ظل شعارات التهميش التي تتردد هنا وهناك، علي النحو الذي تنبعث منه الظلال القاتمة، وتتفشي فيه النظرة التشاؤمية، وتتمزق فيها أواصر التواصل بين الأجيال والأصوات المختلفة.
ومن يتابع الحركة الشعرية في مصر يجد حمي التهميش تهيمن علي المشهد من خلال التصريحات ، والحوارات المنشورة أو الجانبية، فثمة من يتحدث عن تهميش قصيدة النثر ويقول انظروا "المجلس الأعلى لا يمنح جائزة لشاعر يكتب قصيدة النثر" وثمة من يتحدث عن تهميش شعر العامية ويقول انظروا "المهرجان الفلاني يتجاهل شعر العامية، والمجلة الفلانية لا تنشر لمن يكتب بالعامية"، ومن هنا كان حرصنا علي تمثيل تلك الاتجاهات الفنية المختلفة.
ولا تتوقف دعاوي التهميش عند هذا الحد، فهناك ثنائية الكبار والشباب، وثنائية المغمور والمشهور، والمنطوي علي إبداعه والمنفتح عبر علاقاته المختلفة أو منصبه الثقافي أو الإعلامي، وغيرها.
ورغم الضربة العنيفة التي وجهتها وسائل الاتصال الحديثة للجغرافيا، فالشكوى ما زالت قائمة وحادة من مركزية العاصمة، وتهميش الشعراء الذين يقيمون خارجها، وكثيرا ما نسمع صارخا يقول "لقد سقطت من خريطة الشعر المصري لأنني فقط أقيم بعيدا عن العاصمة ومركزيتها".
ورغم قناعتنا بالمبالغات التي تحيط بدعاوي التهميش، ولأننا نسعى بالأساس لتوفير مناخ صحي بقدر ما نستطيع، فقد كان من واجبنا الاهتمام بهؤلاء الشعراء خاصة في ظل مؤتمر يكتسب خصوصيته من الشمولية الجغرافية، ويعبر عن جميع الأدباء في كافة الأقاليم.

لقد حاولنا أن تغطي تلك الشهادات المشهد الشعري المصري، وتمثل كافة اتجاهاته وبخاصة الجديدة، وتركنا للشعراء تلك المساحة الحرة، كي يقدموا لنا تصوراتهم، وتجاربهم، وربما كان من المناسب المرور علي تلك الشهادات في عجالة واستخلاص أهم ما في كل شهادة، وما قد تثيره من أفكار، لكننا آثرنا أن نحجب وساطتنا بين الشهادة والقارئ، وفي حسباننا أن ذلك أفضل هنا علي الأقل، مع إلحاحنا علي تشجيع الشعراء ـ بشكل عام، وفي كل نافذة متاحة ـ علي تقديم شهادات وافية لأننا بحاجة إليها، ولا شك أن تراكم تلك الشهادات والعمل عليها نقديا سيسهم في إثراء تلقي الشعر.
هل أطلت؟.
آن أن نصغي لتلك المجموعة من الشعراء، لعلهم يقدرون علي استدراجنا بعمق إلى عوالمهم بشكل خاص، وعوالم الشعر بشكل عام.

أولاً: الشهادات

الأماكن والناس والحياة

حسين القباحي

على أي درب ستورق الكلمات حين أفتح لها باباً إلى فضاءات تطلون منها على ذات تعلن عن نفسها في كل حرف قالته أو خطته لتفضح بها ما حاولت ستره عني وعنكم..
والسؤال الذي أطرحه عليَّ الآن هل أخفيت شيئاً يمكن أن تضيفه هذه الشهادة بعد ربع قرنٍ تقريباً من الكتابة والبوح أنجبت أربع مجموعات شعرية؟، لا أظن.. ولكن فليكن المزيد من الفضفضة المتربصة بما لم أصرح به، وربما جاهدت في إخفائه.
هي مجموعة ليست قليلة للأماكن، والشخوص، والأوقات تداخلت خيوطها أحتار بأيها أبدأ، وقد يجرني بعضها عنوة إلى بعضها الآخر، دون إرادة أو تخطيط.

الأماكن

شجرة زيتون عتيقة

على ساحل رملي ممتد إلى ما لا نهاية ينتشر عليه زبد البحر، حيث تتكسر الأمواج المتتالية بلا هوادة، وأطفال دون الخامسة يبنون بيوتهم الرملية التي سرعان ما تجرفها مياه البحر.. صورة باهتة أتبين بعد سنوات طويلة أنها لشاطئ مدينة العريش، حيث كان يعمل والدي رحمه الله ونعيش معه قبل انتقالنا إلى مدينة الأقصر الموطن الأصلي للعائلة.

نجع القباحي

البيوت الطينية المتلاصقة فوق الرديم الترابي على جانبي ترعة قديمة، هي في حقيقتها مصرف لمياه فيضان النيل المتكرر كل صيف، والذي يتحول بعده النجع إلى جزيرة صغيرة تحيطها اللجة من كل جانب، والصبية الصغار يقضون يومهم بين السباحة عرايا، وتسلق النخيل، وسرقة كيزان الذرة أو ثمار البطيخ من الحقول التي غرقت أو أوشكت، ولعب الحجلة على الجسر الترابي، الذي يكافح الأهل ويحرسونه ليل نهار ليظل متماسكاً ولا ينهار فجأة أمام سطوة الماء فتغرق معه البيوت ويرتفع صراخ النسوة وولولاتهم وينهد حيل الرجال ليكبحوا جموح الماء، بينما الصبية الصغار منصرفون إلى لهوهم ومطاردة الثعابين التي تخرج من شقوقها كلما تسرب إليها واستغلال غفلة الكبار ليظفروا برحلة مائية مجنونة على طوف البراميل الذي يقومون بحل حباله من أمام أحد البيوت.. ليكتشف بعدها أهل الدار أنهم فقدوا وسيلة اتصالهم الوحيدة بعالم النجع وما يحيط به من أطراف المدينة.

المقعد الحجري المكسور

خلف جامع المقشقش المواجه مباشرة لطريق الكباش وواجهة معبد الأقصر وتلميذ الابتدائي الذي قطع الطريق من النجع مشياً على الأقدام، وسار في غير الطريق الذي يسلكه أقرانه ليجلس في هذا المكان، يلتهم كسرة العيش الشمسي المحشوة بالجبن والطماطم أو سمك البساريا المشوي في الفرن البلدي، مستمتعاً بالمقارنة بين أشكال الكباش الحجرية الممتدة على جانبي الطريق الخارج من المعبد ليختفي تحت رديم البربة والبيوت القديمة، أو مطالعة الوجوه الملونة للغرباء الكثيرين الذين يقفون مبهورين أمام الأحجار الكثيرة المرصوصة أو يميلون برءوسهم إلى الخلف ليروا تيجان الأعمدة الشاهقة، بينما رطاناتهم المتشابكة تزيد من إعجاب التلميذ الصغير بالنقوش الغامضة التي يشير إليها الأقصري الوحيد الذي يقف بينهم متباهياً بجلبابه البلدي والخيرزانة الرفيعة التي يلعب بها بين أصابعه، يشعر الصبي الصغير أن الوقت قد فات، واختفى تلاميذ المدارس من الشوارع القريبة؛ فيعدو مسرعاً وهو يعرف أنه سيعود ثانية إلى هذا المكان في صباح اليوم التالي.
نيل أسوان والمرسى الخشبي المتهالك أمام معسكر سلاح التعيينات شمال المدينة والمراكب الشراعية التي تلقي بالوجوه السمراء القادمة من غرب أسوان داخل المدينة، بينما يتسلى فتى الإعدادي بمراقبة الفتيات الناهدات والمراكب الشراعية التي ترفع الأعلام الملونة لدول أجنبية، وتبدو البيوت ذات الواجهات المطرزة برسومات غامضة تأتي من عوالم سحرية بعيدة من خلف الجنادل الجيرانيتية المعترضة على جريان النيل إلى قدره الشمالي المحتوم، موهماً أباه المشغول بزراعة بعض أحواض الجرجير والملوخية والكمون والكسبرة بأنه مشغول أيضاً بالمذاكرة ومتابعة دروسه، بينما شخبطاته الأولى على هوامش الكتب المدرسية تكبر شيئاً فشيئاً لتبرز بعض ما تخفى من جموح وجنوح وراء نبوغه المدرسي الذي يريده الوالد الطموح لولده الوحيد.

سور الأزبكية وكازينو لاباس

وسط الحديقة, عين شمس الشرقية, شارع يوسف عباس، شارع نجيب الريحاني، و26 يوليو، شارع عبد العظيم مسعود، وحارة عبد الباري, خان الخليلي وشارع المعز, حديقة الأندلس وكوبري قصر النيل, وسط البلد ومحطة مصر, الأزهر والحسين ومسجد الرفاعي والسلطان حسن، السيدة زينب والسيدة نفيسة, معرض الكتاب والأوبرا, قصر الغوري والخيامية, العتبة وشارع محمد علي، قصر بشتاك، وحارة اليهود وقلعة صلاح الدين،.. القاهرة الفاطمية بكل تفاصيلها وعوالمها.
فندق سافوي أمام محطة سوهاج بمبناه المتهالك وغرفته الضيقة في الطابق الثالث، وطبق الفول النابت الذي أدمنته على الإفطار واعتاد عم دسوقي أن يصعد به إلي كل صباح ثم يجادلني لماذا أنا لا أذهب إلى الكلية ما دمت جئت إلى سوهاج.. هناك وخلال أربع سنوات غير متصلة قرأت معظم ما أعيش عليه إلى اليوم. كان يكفيني لاجتياز الامتحانات في فروع التاريخ المختلفة أن أتفرغ لمدة أسبوعين قبل الامتحانات وفي غيرهما قضيت معظم السنوات الأربع فى قراءة الفكر الاشتراكي وأمهات الكتب ثم الغث والثمين من إصدارات الشعراء والكتاب والنقاد وأيضاً الفلسفة وعلم الجمال. كنت أحضر في مدرجات الأقسام الأخرى لكلية الآداب أكثر مما أحضر في قسم التاريخ وفيه كانت تستهويني مجالات الإبداع الإنساني في الدين والمعتقدات والمنجز الأدبي والفلسفة والخطابة والرسم والنحت والزراعة والهندسة وغير ذلك. في هذه الغرفة المتهالكة جالست واستمعت بعضا من قيادات الفكر السلفي والجهادي في جامعات جنوب مصر أواخر السبعينيات وقرأت عدداً لا بأس به في تنظيرات هؤلاء وأوراقهم ومعظم نشرات وكتب محمد بن عبد الوهاب وتراث الأئمة الأربعة وفكر ابن تيمية في هذه الغرفة أيضاً طالت لحيتي ومزقت أوراقي التي كتبتها وأشعار البدايات السبعينية، أعادني والدي رحمه الله إلى توازني عندما منعني من دخول البيت بهذا المنظر والفكر فحلقت لحيتي إرضاءً له لكني لم أحلق أفكاري إلا بعد عامين آخرين قضيتهما في تنفيذ ما طلبه مني "اقرأ كمان" خسرت في هذه الغرفة كل الكتابات الأولى لكنني كسبت قدراً كبيراً من الوعي بالكثير من القضايا الشائكة التي غُمَّت عن الكثيرين ممن ساروا في دروب لا نهاية لها.
مطار دبي سبتمبر1995وفور دخولي إلى صالة القادمين حيث يتم ختم جوازات السفر بختم الدخول معنا الشاب الإماراتي الودود والمبتسم منذ اللحظة الأولى والفرح بلقاء مجموعة جديدة من المعلمين المتعاقدين للعمل، أطالع الوجوه الكثيرة لحاملي جنسيات تعودت أن أراها في الأقصر، أقرأ اللافتات خلف موظفي الاستقبال: (مواطنون _ مواطنو دول مجلس التعاون _ أجانب) كان لا بد أن أقف أمام الآنسة الجميلة والمبتسمة أيضا التي تختم جوازات الأجانب جاءت قصيدتي "لحظات قصيرة للموت" بعد ساعات من استقراري في الفندق وأنهيتها بصيحة ظللت أطلقها في وجوه الكثيرين طوال اثني عشر عاماً "أنت مصريٌّ.. ها هنا باب الأجانب" وبعدها صمت عن الكتابة حوالي العامين إلى أن استعدت توازني.

النادي الثقافي العربي

.. بعد أيام قليلة جداً من استقراري في إمارة الشارقة قلت لمدير المدرسة إنني متضايق ولا أستطيع أن أتكيف مع وضعي الجديد، نصحني بالتريث والذهاب إلى شاطئ بحيرة خالد للفسحة والخروج من الملل والوحدة، لم أكذب خبراً وفي المساء سألت عن موقعها فعرفت أنها قريبة جداً من سكني، خرجت متسكعاً أطالع الوجوه وأقرأ اللافتات فجأة قرأت (النادي الثقافي العربي) ما عساه يكون؟ بدا العنوان مغرياً لواحد تغنى في طفولته بأناشيد "الله أكبر فوق كيد المعتدي" و"بلاد العرب أوطاني"، دخلت من الباب الرئيس لم يسألني أحد إلى أين ؟ طاولات كثيرة وسط الحديقة والساحة يتحلق حولها رجال ونساء عرفتهم فيما بعد وصاروا أسرتي الجديدة التي أعادت إليَّ بهجة المساء ودفء العلاقات الإنسانية الراقية: السوري مجد أرسلان واللبناني زاهر أبو حلا واليمني عمر عبد العزيز والجزائريان محمد دحو وحسين طلبي والتونسية ريم العيساوي والعراقيون صالح هويدي وعبد الكريم الجبوري وقاسم سعودي وعشرات من أبناء الجاليات العربية كلها حتى من جزر القُمُر... عندما توغلت في الداخل وجدت في إحدى القاعات عدداً قليلاً من الناس وأحدهم يدير أمسية شعرية يقرأ فيها بعض الحاضرين أرسلت إليه ورقة صغيرة طالباً المشاركة رحب بي وأراد أن أكتب له بعضاً من سيرتي الذاتية ليعرف بي الحاضرين قلت له عندما أقرأ سيعرفونني.. وقرأت. بعد أقل من عام كنت رئيساً للجنة الثقافية أو الأدبية بالنادي _ عندما نفصلهما _ وأصبحت عضواً في مجلس إدارة النادي ممثلاً للجالية المصرية حتى مغادرتي الإمارات، في هذا المكان عشت عروبتي كأنصع ما تكون؛ تظاهرنا من أجل جنين وغزة وحملنا أعلام العراق، ولبسنا الكوفية الفلسطينية ونظمنا الأمسيات الشعرية النشاطات القطرية، وتعرفت أيضاً على الكثيرين من كبار مبدعي الوطن العربي ومثقفيه وبعض سياسييه واستقبلت الكثير من الوجوه الثقافية المصرية، وكتبت بعضاً من قصائدي.. ظل النادي الثقافي العربي بيتي وموطني حتى عودتي النهائية إلى مصر.

مقهى أم كلثوم بشارع بدر في مدينة عجمان

.. الفتى الأسواني الأسمر الذي يشبه أصدقائي القدامى.. طاولة مستديرة على الطرف البعيد أجلس بعيداً عن ضوضاء لاعبي الطاولة وصراخ متابعي مباريات كرة القدم، ظهري إلى الشارع والفتى الأسمر يبدل فناجين القهوة السادة دون أن يسألني، كتب وأوراق هي الشريك الوحيد لوحدتي لا يقطع خلوتي سوى التحايا التي يلقيها بعض الذين يعرفونني، ليس بوسعي أن أقرأ أو أكتب في غير هذا المكان.. هو ملاذي بعد أن ابتعدت عن مقهى ميرغني بشارع المحطة بالأقصر حيث تعودت الجلوس وظهري إلى الشارع ثم يكون فعل القراءة أو الكتابة.

ساحة الشيخ الطيب القديمة

.. على تبة عالية يضع الجالس على دككها المتراصة أقدامه على قمم تيجان أعمدة معبد الرمسيوم وعلى يمينه أطلال مدينة هابو وخلف ظهره معبد الدير البحري وغير بعيد منه مقابر وادي الملوك وتكون الأقصر ببيوتها وفنادقها ومعابدها وبرها الشرقي هي الصورة الماثلة أمامه.. تختلط روائح البخور بنسيم البر الغربي بثرثرات رواد الساحة وأدعية المريدين وصراخ المجاذيب وصياح الدراويش وهم يتلون بأصواتهم وأجسادهم المتمايلة منظومة الشيخ أحمد الدردير "تباركت يا الله ربي لك الثنا: فحمداً لمولانا وشكراً لربنا" والساحة تحمي البيوت الطينية الكثيرة التي تحتضنها يميناً ويساراً ويدرك ساكنوها أنه لولا الساحة وشيوخها وبركتهم لامتدت إليهم أيادي الهدم والتشريد وطردتهم من هذه المساكن التي تقع فوق المقابر الفرعونية وبعضها ترتفع أسقفها على بعض الأعمدة المليئة بالنقوش وتصرف مخلفاتها الصحية في تجاويف الأرض التي ربما تكون واحدة من المقابر التي لا يعرفها أحد (حكى لي الشيخ ذات مرة أن خزان المياه الكبير الذي كان المصدر الوحيد للوضوء في الساحة سقط فجأة ذات يوم واختفى في باطن الأرض ولا يعلم أحد أين ذهب). تزاحم الحاضرون - ومعظمهم من القرى والمراكز المجاورة للأقصر وبعضهم جاء من سفر بعيد – لتقبيل يد الشيخ أو الفوز بدعاء أو مسحة على الرأس والظفر لمن تباسط معه الشيخ في الحديث أو مازحه, النزول إلى حلقات الذكر وقراءة الأوراد والأذكار والاستماع إلى المنشدين والثرثرة مع الدراويش والبسطاء القادمين بيقين الشفاء وتحقيق الغايات ونيل المراد بمجرد الولوج إلى الساحة والأكل من طعامها الذي يشفي المرضى, منذ عرفت الطريق إلى الساحة وصادقت الشيخ محمد الطيب وتزاملنا في العمل الشعبي وتحاببنا وصار الأهل ورواد الساحة يروننا متقاربين مودة وصحبة أدمنت الذهاب إلى هذا المكان الفريد بأهله ورواده وطقوسه ومعطياته التي تسحر العقول وتأخذ بالقلوب القاسية فتلين وتسامح وتنتهي الخصومات والثارات بمجرد كلمة من الشيخ ينزل بها حكمه.. والويل لمن خالف أو أبى الانصياع فسيظل متوجساً طيلة عمره ما سوف يحل به خاصة إن كان قد وضع يده على المصحف وأقسم حانثاً بكتاب الله في بيت الشيخ فاللعنة ستلاحقه وذريته ولن يكسب في حياته أبدا، أعود من الساحة محملاً بتواشيح وأذكار وتراتيل لأشعار حفظتها قديماً وحالات جديدة لبشر ممتلئون بقطوف من وهج الحياة وخربشاتها في تفاصيلهم الخفية والجلية.

الناس

الشيخ مصطفى العيع

.. لا زلت أذكره بزعبوطه الجوخ الذي لا يغيره صيفاً أو شتاءً، وعصاه الجريد الطويلة، وقد تربع وأسند ظهره إلى الجدار المصنوع من جواليس الطين في الناحية الغربية من ديوان عائلة القباحي الكبير واضعاً إلى جواره وبشكل واضح لجميع الصبية المتحلقين حوله شومتين طويلتين بينهما حبل مفتول من ليف النخيل، والويل لمن يومئ الشيخ إلى كبار الصبية ليختطفوه في سرعة البرق واضعين قدميه في هذه الفلقة المميتة جزاءً لتقصيره في حفظ السور التي كلفه بها الشيخ أو عقاباً له على نسيانه ما سبق حفظه أو مشاغباته وانصرافه عن الترديد وراء الشيخ. كان المشوار اليومي القصير إلى الكتاب والانتظار فيه إلى صلاة الظهر ثم انتظار الشيخ في المنزل بعد صلاة العصر ليقوم بالتسميع علىَّ وتحفيظ أخواتي البنات اللواتي يحرص والدي - رحمه الله - على تحفيظهن القرآن الكريم وتعليمهن في المدرسة وعقوبات الشيخ التي لا ترحم طفولة ولا صبا سبباً في حفظي أكثر من نصف القرآن الكريم الذي تفلَّت مني أغلبه _ للأسف _ فيما بعد وبقيت مخارج الحروف وطريقتي في القراءة ولغتي وموسيقى التلاوات المنغمة التي كانت وسيلتى للحفظ السريع وإلى الآن ألاحظ أحياناً أنني أتمايل مع تلاوتي للقرآن كما كنت أفعل في الكتاب.

خليفة البعيري

.. في بيتنا القديم المبني من الطوب اللبن نافذة غرفتي في الطابق العلوي تطل على منزله الطيني المستور بعض أجزائه ببوص الذرة والمكشوف أغلبه عندما يصحو قبل الفجر بقليل تتعالى أدعيته غير المنظمة والتي يرتجل فيها ما شاء أو تيسر له من بسيط الكلام ملحاً على الله تعالى فى طلب الستر والرزق الحلال وسترة البنات والرحيل من الدنيا على خير, بعد الدعاء الطويل الذي يوقظني من النوم يصلي الفجر وأغتاظ لأنه لا ينطق السور القصيرة التي يحفظها بشكل صحيح، يحمل الرجل فأسه الصغير وجوالاً من الخيش قاطعاً الطريق إلى البندر على قدميه ساعياً على رزقه وأولاده الذين يستقبلونه مبتهجين صاخبين عندما يلمحون الجوال وبه بعض ما يأملون من عشاء عند عودته قبيل الغروب، بعد أن يصلي المغرب ويتعشى مع أطفاله الأربعة يخرج إلى المصطبة الطينية أمام الدار وقد عم الظلام، نجتمع عند قدميه مؤتنسين ببصيص من ضوء مصباح الفتيل وبصوته المبحوح يطلق الموال تلو الموال ونحن نصفق ونهلل ونردد معه ما يقول، ثم يختم وصلته الليلية ببعض الحكايا التي يعيدها أحياناً في ليال تالية وقد غير فيها وبدل ما شاء، أما وقد أصغت آذاننا وخفتت أصواتنا يهب واقفاً ليمثل أجزاء الحكاية وتفاصيلها وأدوار أبطالها المنتصرين أو المنهزمين، ثم يغافلنا ويتخطى العتبة الطينية للبيت إلى داخله عندما يلمح الشيخ عبد الله يرتقي السلم الخشبي للمصلى المجاور ليؤذن لصلاة العشاء غير آبهٍ بصراخنا وتوسلاتنا. كان خليفة البعيري رغم فقره الشديد قادراً على صنع بهجته وبهجة أولاده وجيرانه من داخله الذي لا أعرف الآن شبيهاً له.

يوسف التِلب

.. بعد عصر كل أربعاء نحتشد خلفه رافعين سعف النخل وعيدان البوص هاتفين بملء حناجرنا "يستاهل ضرب السكين" ويمضي يوسف التلب مفرود القامة متباهياً بالعجل الذي يجره ليرى أهل النجع ذبيحة يوم الخميس التي سيشترون لحمها، وكثيراً ما كنا نرى العجل نفسه في الأسبوع التالي وربما لأسابيع عديدة، ويكتشف الناس أن ما أكلوه كان جاموسة فلان العجوزة أو بقرة علان التي سقطت في الساقية, وعندما أفلس ووقف حاله احترف استدعاء الغوازي من بنات مازن وأبو حراجي الزمار، وكانت ليالي الطبل والمزمار البلدي ورقص بنات مازن لا تنتهي من أمام داره كل أسبوع تقريباً، ودائماً هناك مناسبات سعيدة لاصطياد النقوط الذي يضعه أصحاب المزاج ومحترفو لعب العصا والرقص على المزمار فى الصحن الكبير المغطي بالبشكير القطن المزركش، وتزيد كمية النقوط عندما تكون المناسبة ختان أحد أولاده الذين تكرر الاحتفال بهم عدة مرات، وكانت الليالي تلك سهرات صيفية نسعد فيها بالغناء ولعب العصا خلف دكك الكبار ونحفظ الأغاني والمواويل التي تتكرر أو تختلف باختلاف المناسبة، وعندما اكتشف يوسف التلب في إحدى الليالي أن النقوط الموجود في الصحن الكبير أغلبه قطع من شقف القلل القناوي الرقيق وبعض أغطية زجاجات القازوزة والقروش القليلة المتبقية لا تكفي لدفع أجور الزمارين والغوازي، أو لسداد ثمن الجدي الصغير الذي ذبحه لعشاء الضيوف القادمين من أماكن بعيدة أمسك العصا وتوسط الجمع الغفير راقصاً بعنفوان الشباب وهو يقول "اضرب يا ريس دي ديرة راس"..، وبعدها توقف هذا العالم السحري، ولم يعد له وجود إلا في ذاكرتنا.

عبد الحافظ أحمد عبد الرحمن

.. هو جدي لأمي، والرجل الوحيد الذي رأيته في حياتي يركب حماراً وقد وضع له شكيمة على فمه حتي لا يأكل من زرع الجيران عندما يمر به قاصداً القراريط القليلة التي يزرعها بكل احتياجات المنزل من البصل والثوم والفجل والجرجير والكسبرة والكمون والفلفل بأنواعه إضافة إلى الملوخية والبامية والسبانخ وغيرها، عندما أرسلتني إليه جدتي ذات صباح بالفطور المكون من بيضة واحدة مسلوقة وقطعتين من خبز البتاو وبصلتين وبعضاً من دقة الملح والكمون وقلة الماء.. وقف شامخاً واستند إلى فأسه الكبير وتعالى صياحه منادياً جيرانه العاملين في الحقول المجاورة ليجتمع إليه منهم في دقائق أربعة نفر يشاركونه هذا الإفطار وينصرفون شاكرين كرمه حامدين الله على نعمه الوفيرة، كنت أصحبه في عمله لأستمع إليه، وهو يحكي لي عن القباحي والقرى المجاورة وأصول العائلات ولأتقرب من خالي الذي يصحبني معه إلى سينما آمون مساء كل اثنين.. في صباح الخامس من يونيو (حزيران) سنة 1967 وبينما نحن نعمل في الزرع خرقت آذاننا أصوات مرعبة لطائرات مرسوم عليها نجمة غريبة ظلت تتمايل وتلعب في الجو فوق رءوسنا ونحن نشير إلى راكبيها الذين كنا نلمح وجوههم الغريبة وعندما اتجهت صوب المطار وسمعنا دوي الانفجارات ورأينا النيران المشتعلة وقد ارتفعت إلى عنان السماء حمل جدي رحمه الله شومته الملقاة إلى جانبة وظل يطارد الطائرات التي في السماء ويتوعدها حتى اختفت عن الأنظار مخلفة النار والرماد والأنقاض في مطار الأقصر وفي النفوس.. بعد هذه الواقعة بقليل مرض جدي لسنوات ولم يعد يذهب إلى قراريطه القليلة وتوقفت أنا عن الذهاب للعمل في الزرع أو زيارة أرضنا شرق البيوت إلا قليلا.

الحاج سيد أحمد نوبي

.. ألف رحمة ونور عليه، والدي. بعد هزيمة 5 يونيو 1967 بحوالي الشهر أرسلت هيئة شئون الأفراد بالقوات المسلحة المصرية خطاباً يفيد بأنه من مفقودي الحرب وبناءً عليه سافرت والدتي إلى القاهرة لتسلُّم متعلقاته وبعض الأموال. كنت في الحادية عشرة عندما تلقيت العزاء مع رجال العائلة في والدي وكان علي أن أكبر كثيراً وأن أحلم كل مساء باليهود الذين قتلوه، وعندما بدأت وأسرتي اعتياد المسألة جاءنا خبر من أهالي بعض رفاقه في الجيش من أصحاب حالات مماثلة لنا كنا نعرفهم بالاسم بأنهم سمعوا والدي يتحدث في البرنامج الإسرائيلي الذي يذيع على المصريين نداءات الأسرى لذويهم ومن ساعتها أمسينا وأهالي النجع نتحلق كل مساء حول الراديو أمام بيتنا وينقطع أملنا ليلة بعد أخرى حتى مللنا وملَّ معنا الآخرون المسألة.. وفجأة ما بين مصدق ومكذب سمعنا صوته وانقلب ليل النجع نهاراً ولكن الغصة ما زالت في الحلق وتمضي الأيام بطيئة كئيبة إلى ليلة شتائية باردة في ديسمبر 1969، وبينما أنا غارق في النوم يشتد الطرق على الباب الخارجي للمنزل، وأنظر من النافذة لأجد رجلاً لا أعرفه يصيح "افتح يا حسين أنا أبوك" وأوقظ أمي التي تصرخ مبسملة ومحوقلة "سلامتك يا ولدي اسم الله عليك" لم تكن أمي رحمها الله ولا أنا ولا أي أحد يصدق أن سيد أحمد أبو نوبي حي وسيعود. وعاش أبي رحمه الله، بعد هذه الليلة ثمانية وثلاثين عاماً قبل أن أتلقى العزاء فيه للمرة الثانية.. ظل يحكي دائماً فيها عن حياته في الأسر وقتل اليهود لزملائه وتعذيبهم طوال مدة أسرهم التي لم تنته سوى بمساعدة عرب سيناء لمن بقي منهم على الهرب.. التفاصيل الكثيرة التي رواها لي وحفظتها ودونت أغلبها لا مجال لذكرها الآن ولكنه أورثني كراهية لليهود لا تنتهي ومقتاً وازدراءً لمن قايضوا بدماء الشهداء ولم يكترثوا لموت أسرانا غدراً.

صباح

..واحدة من آلاف النسوة في قصر المأمون.. تلك امرأة كانت ذاكرة للنيل وتفاحات للقلب الطفل وبهرجة للعيد .. لم يكن في جيبها سواي.. تحيك ثوبها العناء من فراقنا وتشعل الحرائق الدُمى..غداً ستجيء ترفع فوق كفيها

الأهلة والفراعين.. تزاحمت بثغرها النجوم واحتست دون ضجة فرات وقتها.
بعضاً مما ذكرت وغيره كثير شكّل المخزن الطبيعي الذي خرجت منه وبه تجربتي التي أرجو أن تكون صادقة كصدق هؤلاء...
أما بقية الحكاية؛ فسأحكيها لكم في جلسة الشهادات بالمؤتمر.

الشعر والحياة

سامي سعد

فى البدء: لماذا الشعر؟

وإنه نفس السؤال: لماذا الحياة؟، وإذا كان الشعر ضرورة كضرورة الحياة نفسها، فلماذا ينبغي أن يكون قريباً من العظم (كما قال بودلير)، ولقد فهمت الجواب على أنه ينبغي أن يكون قريباً من الحقيقة (أي الجمال) مناصفة بالعدل بين الحقيقة كمطلق، والإنسان كجمال.

البدايات

لا أحد يعرف بالتحديد تاريخ الينابيع، فقط نبدأ الالتفات، حين يشرع الينبوع فى الولادة، توقظنا الصرخات، الدفقات، العذوبة فيما بعد، لكن انبثاق النبع ليس معناه اكتمال الولادة، فكم من نبع طمرته الرمال حال ولادته، وكم من نبع ظل على حال الولادة.

الأشكال الشعرية

أقصد الإناء الذى يحمل القوت، القارورة التى تحتوى العطر، المحارة التى تحيط باللؤلؤة. لكن الشكل سيظل شكلاً وحسب. مجرد وعاء ولا خلود لوعاء مهما كان معدنه، أو إتقان صانعه، الخلود وحده للجوهر، ولأن الجوهر شموس متوالدة عز على شكل أن يحتويها، وظلت الأواني ليل نهار، تتغير وتتسع عساها أن تجد الشمس منزلاً يوائم ضوءها النافذ، وتوالي على الدرب رواد ومبشرين، آملبن فى اكتشاف مناطق يمكن لغزال الشعر أن يرعاها، ويجول فيها، دون قيد ولا شرط. إلا قيد نفسها وشروطها، وهي قيود وشروط لا يحتمل أسرها إلا عاشق، موقن بقيمة الإخلاص. لا شكل إلهى أو مقدس، ولا شكل خالد، المعيار الذى يمكن الوثوق به ها هنا: الجمال والصدق.

التجـربة

أن تمر على كل الدروب، أن تشرب من كل الينابيع، أن تتعرض لكل المناخات، وأن يأخذك الدرب للأقاصي، أو يعود بك إلى البدايات،كل ذلك ليس من أجل أن تتوه أو تضل، ليس من أجل أن تتوقف عند شيء أو أحد مما رأيت، ليس بغرض الحب أو الكره، وإنما لتجد لنفسك فى غابة الضوء تلك، لتعرف أنك عثرت على صلب روحك، فكل الأنهار التي تصب فى البحر لا تجعل منه نهراً. حين ذلك سيكون الشعر هو أنت، هو الحياة التي دخلتك خاماً أبكم، صلصالاً أعمي، ثم خرجت مختومة بأنفاسك، اسمك، لغتك، لون دمك، تفاصيل خلاياك، بطاقة التعريف بوجودك الحق، والأمانة والشرف يقتضيان أن تكون مخلصاً وأميناً لذلك الدفق الإلهي، لقد عرفت دائماً أن الاستخفاف نقيض الشعر.
إذن إنه لمن باب العبث أن تكتب وحسب، لا تجوز الكتابة أبداً إلا عندما يصبح الأمر ضرورياً ولحده الأقصى، وحين توقع باسمك فى نهاية السطور، عليك بالسؤال: أهذا حقاً أفضل ما يمكن لى عمله؟، ولن تجد الجواب سهلاً قط.

الشعر والحياة

إن هذا أرقى بكثير من الحديث عن وظيفة الشعر. إذ إن سؤال طفل عن أهمية الشمس، يبدو أسهل بكثير في الإجابة عنه، لا يمكن لكلمة أو كلمات مثل (وظيفة – روتين- هدف – قواعد – أجر) أن تلحق بمعنى الشعر أو توائمه من قريب أو من بعيد. لكن أن يرتبط الشعر بفكرة ما، فلسفة ما، نهج محدد، يدعو إليه ويكرس نفسه في خدمته؛ فذلك ما تعذر على قبوله أو حتي فهمه طوال سنوات الكتابة.

لقد رأيت الذات الشاعرة، دائماً، دائماً أبعد من كل الأوصاف الجاهزة، أكبر من كل الأطر المرفوعة، فى وقت ما، ومكان ما، ولا يليق بتلك الذات الكبيرة الواسعة (والتي هي فى الأصل كل الحياة) أن تقبل طواعية أو قهراً أن تغل نفسها، وتصير أسيرة ذلك النهج، أو تلك اليافطة البراقة، لقد رأيت أن بيت الشعر كان دائماً أوسع من كل القصور التي يريدون أن يدفنوا روح الشاعر فيها، ولا أحد يملك الحق فى مسار رحلة الريح/ البرق/ الشمس، كذلك الشعر، لا أحد، لا أحد أبداً.
سيقولون عن شعر القضية (نيرودا – إيفيتشنكو ـ درويش)، سيقولون عن شعر الذات الإنسانية (باييخو – ويتمان – أودن)، وكذلك عن شعر فلسفي ومعلم (المعري – دانتي – بريشت)، لكن واحدا من أولئك لم يتوقف قط ليتم حشره فى خانة صنعها النقاد وحدهم. حين يتألق العادي قد يصير نثراً، حين تكتمل الرؤى قد تصير فلسفة وحكمة، حين يفيض كأس الجمال، وراء العادي والفلسفة والحكمة، فى نهاية النهايات، عند آخر قطرة فى نور الأرض، حين تكاد الكلمة تضيء وتطير، هناك: يقبع مولاي وسيدي الشعر. ذلك هو السعي، وقد يتطلب الوصول إلى تلك البقاع إراقة أعمار من كوكب الشعراء، إنما لا بد من وصول، فالغنيمة تستحق العذاب.

التجــاوز

إذا لم يوقفك شيء فى الحياة؟ إذا لم تعثر على سطر فى رواية، شطر فى قصيدة، وجه من بين كل الوجوه، شيء له أثر ما، فما جدوى الحياة؟، ما جدوى الكتابة؟، ما نفع الشعر؟، نعم، سيذهب الزبد جفاء، لكن الجمال خالد، عليك أن تؤسس للجمال، وترعاه، أن تقاتل كي تترك أثراً على صفحة الريح، هذا هو التجاوز، وبدون هذا التجاوز لكنت قد تجمدت، تحجرت، أصابني العفن، غرقت فى الوحل (اللحظة – الواقع – القبول)، وصرت عادياً، ميتاً فى صفوف المقبرة الطويلة، التجاوز وحده سيقودك كطفل إلى بوابة التمرد الخلاق، إذ إنه بدون تمرد – رفض – سخط – تجاوز الخطوط – خرق السائد – تجربة حرة – إيمان بالجدوى لن تتحرك قيد أنمله، فأن تعرف يعنى أن تواصل الغوص، لا قاع لمعرفة، ولا قداسة لحدود، ولا هيمنة لشعار. أنت تحلق وراء المطلق الفذ، اللانهائي الجمال، وعليك أن تحتمل المهالك، قد تصل، وقد لا تصل، ما عليك من هذا، أنت لست معنياً بعلم الحساب، يكفيك أنك لم تكن سوى أنت.
ما الذى أريد قوله؟
لأكثر من ثلاثين عاماً، وأنا أسأل هذا السؤال دون أن أحظي بجواب شاف، فهل الشعر أصلاً هو مجرد سؤال أبدى؟
- كتبت فى كل شيء، عن أى شيء، عنى، وعن الآخرين، عن الذي رأيته وتخيلته، وعن كل ما تحتويه الحياة والموت والإنسان. عن الحلم والخيال والواقع والأسطورة، ثلاثون عاماً وأنا مطارد بما لا أعرف على وجه التحديد، أرضى قليلاً وأخجل من رضاي، واليقين عندي: أنه ليس بعد، دائماً ليس بعد. فى الليل والنهار، فى المنافي وسرادقات العزلة والفراغ، فى الذبح القاسي، فى الفقد المتواصل، الحنين الغامض، التوق، الرغبة، الغضب الساطع، والحزن الثقيل الخفيف، الحب، الوهم، التاريخ، الموسيقي، البحر، الخوض فى المتاهة، إنما دائماً، دائماً ليس بعد: حيث الاستحالة هي شرطي الوحيد لمواصلة الحياة/ الحرب.

الشعر والشاعر

عرفت نماذج من الشعراء قادهم الشعر إلى منصات التتويج فى الواقع، وما العيب فى أن ينال العامل أجره قبل أن يجف حبره؟ ما عيب أمير الشعراء "شوقي" أن ينال الحظوة والتكريم؟، وأن يحصد أحدهم جائزة؟ لكن الجمهور الأعظم من الشعراء قادهم الشعر إلى حيث يُقاد المذنبون وأصحاب الجرائم، ربما كان الشعر نفسه قاضياً غير منصف، وكلما التصق الشاعر بالشعر نأي بذات المسافة عن صخب الجموع، قانون السائد، موسيقي الشارع، لا أتحدث عن البرج العاجي، وليست النظرة الفوقية من أعلى التل، لكن العصر الذي اقترن فيه الشعر بالجائزة قد انتهى، لا جائزة فى الحقيقة توازى الشعر، غير الشعر، حتى وإن جاء الاعتراف فى نهاية الزمان، حتي وإن لم يحضر الشاعر نفسه حفل التتويج، أتذكر "خليل حاوي" حين حول إيمانه إلى بشارات وجنان، أتذكره يعاين خيانة الحلم، صبيحة اجتياح بيروت, فيطلق النار على الرأس الذي حلم كثيراً، ولم يحتمل الخيانة، أتذكر "السياب" مروراً من الحزب الشيوعي إلى القومية إلى الأيوبيات، إلى الموت وحيداً فى سرير مشفي غريب، أتذكر "أبو الطيب"، غريباً، مسكوناً بالقلق الذى تحمله الريح، حتي "درويش" وهو يرفع القضية أو القضية ترفعه، ما الذي يبقي من كل هؤلاء وغيرهم غير الإخلاص؟، لقد فعلها الرواد (بودلير – هولدرلين – سيلفيا بلاث – بوشكين) حتي الهرم الأخير "بورخيس" فعلها دون أن يحظى بغير رضا مولاه الشعر، إذ نادراً ما تصح حسابات الحياة مع الشعراء.

أنا والشـعر

أعترف..لم أخلص فى حياتي للشعر، ولم تدعني الحياة أبداً وشأني، كان الشعر ويظل: فرحى المختلس، دمعتي السرية، عزلتي الأليفة، مهرجان الزوابع لروحي المتوترة القلقة، صلاتي التي بها أنجو من براثن الحياة، ومن نفسي، ملذتي الوحيدة، صوفيتي وانشطاري، حريتي الكبرى، ذاتي التي حلمت بها، ولم أقدر أن أكونها، أناي التي كنت أحاول تدميرها، سلوتي وعزائي، جمالي الوحيد الذي أقبل به وأنصاع إليه.

الشعر حنين .. يسكن الذاكرة!!

سمير سعدى

(1)

التجربة/ ماعرفش ليه/ كل ما ابدأ فى الدخول/ بيهزنى صوت المسيح/ ماعرفش ليه/ الريح معاند رغم إنى فى اتجاه الصح/ البكا مرغوب/ يخفف طعم لون الحزن/ آخر متاريسك ورق/ شهادة مكتوبة بدمك/ ف الحيطان مكسوفة ما عادت بترمى الضل/ الحيطان مكسوفة ما عادت بتستر حد/ الحل كامن ف السما/ تفرض خيوط من شمسها/ يمكن تشغل فى الفراغ شىء م الحضور!!
من نص التجربة، كتابة شعرية بالعامية المصرية، ذلك النهر الواسع صاحب الفروع والجداول التى تروى ذاكرة الوطن، من جنوبه فى أقصى صعيد مصر، إلى شماله فى نقطة مصب النيل فى البحر البعيد المالح!!
غنية بلادنا بالتجارب الإبداعية الشعرية، الفصيح منها والعامى، ويأتى غنى تلك البلاد ومبدعيها من غنى ذاكرتهم الإنسانية المحتفظة بكل التفاصيل والأحداث والموروثات. أغان/ أمثال/ حكم شعبية/ قصص وسيرة وغيرها من الحكاوى التى مرت على تاريخ هذا الوطن، الممتدة من آلاف السنين والأزمان البعيدة، فتشت فى معنى هذا النتاج المبدع من الشعر فى مصر فلم أجد سوى مفردة (الحنين) هذا البئر المملوء بالجواهر والكنوز المخفية للشخصية المصرية قديمها وحديثها، ولم أجد أيضا معنى سوى الشعر "هو حنين يسكن الذاكرة"

وطرحه هو محاولة للوجود الكونى، وإثبات الحضور فى لحظة تمر كوميض الشهاب فى السماء!! إنه السؤال الأصعب فى حياة أى مبدع حقيقي: لماذا نبدع؟.. وما أقسى الإجابة وأصعب الطرح لمحاولة الإجابة بأي شكل كان!!
أنا أكتب فأنا موجود، وكائن وأشغل فى الفراغ حيزاً، أنا أكتب فأنا أعبر عن وجودى بشغل مساحات من الورق الأبيض بحبر الكتابة، إنها نقطه من الحبر فى بحر واسع من الإبداع والتخيل وضع كل مبدع نقطته فيه.. وما يبقى إذن هو تجمع هذه النقط فى البحر الواسع لكى يمكث فى الناس للنفع والفائدة وسوى ذلك يذهب جفاء، يذهب كما يذهب ريم الموج

لا أعرف متى بالتحديد تشكلت فكرة أن تكون كاتباً أو مبدعاً (شاعر بالعامية بالتحديد) العودة إلى 25 عاما مضت تعود معك الذاكرة للبدايات وعندها تعبر الذاكرة عند أسرار لم تكن تعرفها فى وقتها.. إنها الإرهاصات الأولى لفكرة التعبير عن ذاتك ومرحلة تكوين تجربتك الإنسانية.. وسنعود مرة ثانية إلى أصل الحكاية أو مفردة التفجير (الحنين) ذلك الوجع الشفيف العميق/ الرهيف/ الغميق/ المباغت/ المشاكس!!

(2)

"للشقاء لون الحداد.. وللحداد مرارة الصبار بينما طفل يغنى للصباح"
تلك كانت البدايات.. جغرافيا بعيدة فى الزمان والمكان إنها مدينة البدء: قنا، تبعد عن القاهرة 609 كيلو مترات جنوبا، محصورة بين الجبل الشرقى وجباله العالية الوعرة، وصحراء شاسعة فى الغرب إلى نهاية حدودنا، ويشكل النيل فى تلك البقعة هلالا جغرافياً طبيعياً، "ثنية" قنا الوحيدة بطول نهر النيل!! إنها الحضن الذى يلف بذراعيه النيل على هذه الأرض السمراء الطينية، ليشكل بطبيعتة ملامحمهم، وصفاتهم وطباعهم، وظروفهم الإنسانية، والأهم يشكل مشاعرهم تجاه الآخر والطبيعة والناس.. يحمل أهالى قنا طبيعة لا يمكن أن يحملها سواهم

الكثير من المتناقضات المتنوعة بين القسوة والحنية، والخشونة والرهافة الحسية، الصراع والحب الشديد، الدهاء والبراءة، الصبر الطويل والاندفاع المباغت، الصمت العميق والبوح الرائق العذب، الجد الصارم والكوميديا المفرطة فى العبث!!
من هذه البيئة يكتسب ابن قنا كل صفاتة وطباعه، وما عليه إلا أن يضعها فى إطار أو برواز، ويقدمه للمجتمع والناس كقنائى له شكله ومعناه وجوهره!! أنجبت قنا منذ القديم، الفرعون المهندس، والمبدع وصانع حضارة، لم يخلق مثلها على مر السنين. وأنجبت أيضا الشاعر والعبقرى الذى ترك بصمته على وجه الكون، والمشترك بينهما هو كيف للإنسان أن يوجد فى الحياة ويمر مرور العادي، دون أن يترك خربشته، وبصمته على صفحاتها!!
من هنا كانت البداية إذن وكان موضوع "الحنين الذى يسكن الذاكرة" ويبقى لكى يطرح نفسه فى اللحظة المناسبة!!
عشرون عاما كافية، لتحمل الذاكرة تفاصيل البلاد والناس.. عشرون عاما كافية، لفهم معنى ما تجود به أرض الجنوب لأبنائها الطيبين البسطاء.. عشرون عاما كافية لكى تختار ما تكتب وتدعى فيه المعرفة "صوتك بيوت/ أزهار وتوت/ أنا وانتي/ ف دروب البساطة/ حلم/ خايف يتولد/ علشان يموت!!" إنه الشعر!!
لم نقرأ فى كتب الدراسة والمراحل التعليمية شيئاً عن العامية المصرية، ولم نعرف أن هناك وجهاً آخر للشعر الفصيح فى النصوص المدرسية (اسمه شعر العامية المصرية)، ولم يدرج فى كتب المدرسة خلال فترة التعليم "إعدادي وثانوى" اسم بيرم التونسى، أو عبد الله النديم أو فؤاد حداد أو صلاح جاهين، بجوار أسماء صلاح عبد الصبور أو عبد المعطى حجازى وقبلهم أحمد شوقى وحافظ إبراهيم والبارودى وشعراء الجاهلية وما بعدها المتنبي وأبو نواس والحلاج.. وكأن للعملة وجهاً واحداً!!
هناك كانت أول إشكالية تقابلنا فى الحياة، وهنا الحاجة ملحة للكتابة بشكل يعبر عن ذواتنا وطبيعتنا، المكتسبة من الحياة. هنا ميراث من الغناء نسمعه ليل نهار فى الإذاعة وجهاز التلفاز بلغة أقرب إلى قلوبنا وسلوكنا ولا نعرفها من قريب أو بعيد في مناهجنا الدراسية ولا يتحدث عنها أحد رافضاً أو موافقاً / معها أو ضدها.. وكأن للعملة وجهاً واحداً!!

البدء كانت الخواطر والكتابة التى تميل إلى الوزن من الكلام المقفى حاملاً معانى عن الحبيبة والأرض والحرب والأم أحياناً.. كانت الخواطر دوماً تعليقاً علي الأحداث وكانت "سرية".. إنه البوح المغلف بالخجل الصعيدى الإنساني!!
وبعد انتهاء المراحل الثانوية للتعليم ودخول مجتمع التعليم العالى تكبر مساحة المعرفة والتعرف علي الآخر في كل شيء.. إنها الحياة، نخرج من قيود وإلزام المناهج إلى براح أكبر يتيح لنا حرية أكبر واختياراً أنسب!!
فى القاهرة كان الاحتكاك الحقيقى بما يسمى الثقافة المصرية، سياسية كانت، أو أدبية أو فنية كالسينما والمسرح، وتتنوع الفنون فتتنوع المعارف وتتراكم الخبرات وتبدو الذاكرة فى الاحتفاظ بملفات المعارف بحنكة ومهارة، إنها مرحلة النضوج فى الذاكرة تحتفظ بالقديم وترتب الجديد وتفرز ما تحتاج إليه وما لا تحتاجه.. وتبقى دائما مادة (الحنين) هى المادة الفعالة لذاكرة تضع نفسها على طريق الإبداع ودخول عالم الكتابة الشعرية، واختيار شعر العامية بالتحديد!!

بعد مطالعة كل أبطال ذلك النوع من فرسان "العامية المصرية" القدماء والمحدثين من خلال معرض القاهرة الدولى للكتاب، الذى كان يقام فى جزيرة الأوبرا بالقاهرة. تعرفت على كتب الشعر العامى من صفى الدين الحلى، وبديع خيرى والمصري وبيرم، والنديم... إلى أحدث شعراء شباب يكتبون العامية من جيل السبعينيات فى تلك الأيام، عمر نجم، ومحمود الشاذلى، وماجد يوسف، وحمدى منصور، وغيرهم الكثير من مبدعى مصر.. ما أروع الاكتشاف!!، وما أبرع الوجه الآخر للعملة!!

تقرأ كل هذه الإبداعات، وتعمل ذاكرتك على حفر طريق وتمهد لك مساحة، لتنضم إلى تلك الكوكبة أنت وشباب جيلك من جيل الثمانينيات من القرن العشرين.

(3)

فى دهاليز الثقافة المصرية، وحاراتها الضيقة، والفسيحة، تسمح الفرصة لكى تتعرف على ناس تشبهم ويشبهونك، يحمل البعض منهم ملامحك الإبداعية وتحمل أنت تجاههم الحب (أول مرة تقابل/ واحد يشبهلك/ وتكون صحاب) إنه الشعر!! لا تحده الجغرافيا، ولا يخاف الغربة، ولا يجهل الأماكن ولا يشعر بالعزلة بين الناس

كانت ندوات القاهرة ومقاهيها أو تجمعاتها.. هى ساحة اللقاء - تعرفنا على بعضنا البعض بحب وحميمية كان العمر متقارباً والهم واحدا يجمعنا، والمناخ العام لا يفرق بيننا.. وليس لدينا معركة وهمية مع أحد، كان الهم هو القصيدة والشعر ولا سواهما!!
ما أقول بالضبط عرفت وتعرفت على أصدقائي: محمود مغربي وفتحي عبد السميع، وتعرفت على أيمن حمدى ومصطفى الجارحى ومحسن يوسف وأحمد على وخالد عبد المنعم وماجد يوسف وفؤاد حجاج ونهاد ناشد ومحمد الحسينى وناجى شعيب ومجدى الجابرى ومجدى السعيد وياسر الزيات ومدحت منير ورجب الصاوى وعمر طاهر وصادق شرشر وحجاج الباى وفنجرى التايه وأحمد فؤاد جويلى، وبعد عشر سنوات كان العشرات من شعراء العامية المصرية يعرفون بعضهم البعض من خلال أهم تظاهرات ثقافية أقامتها الهيئة العامة لقصور الثقافة فى منطقة الجمالية القديمة وخاصة قصر بشتاك ووكالة الغورى وحديقة الخالدين وغيرها من ليالى رمضان الثقافية، بالإضافة لما أنجزه الراحل الدكتور سمير سرحان فى تظاهرة معرض القاهرة الدولى للكتاب بعد تحوله إلى أرض المعارض بمدينة نصر، وبرنامج المعرض خلال عشر سنوات مازالت الذاكرة تحمل تفاصيلها الكاملة!!
كانت هذه التظاهرات الثقافية المنتج الحقيقى لكل الإبداع الشعرى المصرى فصيح، وعامى، نثر/ وقصة/ ورواية/ ونقد/ والعديد من فنون أخرى كالمسرح والسينما، وخلال عشرين عاماً تشكلت تجارب للمبدعين الشباب!!
وتبلور المشهد الأدبي وأصبح أقل شاعر له كتاب أو كتابان من هيئة ثقافية أو دار نشر خاصة!!
ولكن الذي افتقدناه حقا كان المناخ العام الذى تستثمر فيه هذه الإبداعات وتأخذ حقها من الانتشار والتفاعل مع جمهورها المطروح له ومن أجله.. وانحصر في السنوات الأخيرة الأدب وخاصة الشعر وأصبح فى ذيل المادة الإعلامية المقدمة للناس عبر وسائل الإعلام الحكومية والخاصة كافة

فعكف المبدعون وخاصة المجيدين منهم على مشروعاتهم الأدبية وكما كانت البداية البعد عن وهم المعارك استمرت حركة حالة إبداعنا دون أدنى
تركيز فى المقولات والنظريات والتنظيرات النقدية "الجيد منها وغير الجيد" عن انتهاء زمن الشعر ورهان زمن الرواية، كذلك الشاعرية ونفيها عن الشعراء، وأخيراً قصيدة النثر، وسواها وغيرها من المعارك (التكنو وهمية) _ إن جاز المصطلح _ هذه المصطلحات التى تمر مرور النار فى الهشيم كل فترة وحين فى جماعة الثقافة المصرية والعربية.

(4)

"يبقى الحنين/ الشعر/ يسكن الذاكرة"
وعلى الذاكرة أن تنتج ما تحمله من تفاصيل وهموم وتراث ومعرفة وخبرات لا تحملها أية ذاكرة على امتداد بلادنا العربية ليستمر إبداعنا المصرى الخاص محافظاً على هويتنا المصرية ذات الجذور الضاربة فى الإنسان/ النيل واهب/ الحياة لمصر/ هبة النيل/ والناس/ والشجر.

***

ممرٌّ صغيرٌ إلى الشعر

عاطف عبد العزيز

من مأساة آل عاكف في رواية "خان الخليلي" بدأت سكتي إلي الحزن، كان ذلك في طفولتي الفقيرة التي خلت من المتع التي عرفها أطفالي فيما بعد.
فهناك في شوارع الزيتون ـ الحي القاهري الذي يجسد البرجوازية المصرية في شرائحها الصغيرة إبان ستينيات القرن الماضي ـ مشيت بركب مجروحــة من أثر لعب الكـرة حاملاً أشواقي؛ الملاح التائه، وراء الغمام، الأيام، ألف ليلة وليلة، وكتاب العصيان لهنري ثورو.
وكما خذلتني الجيوش العربية حين عادت مكسورة عشية يونيو 1967، خذلتني بعد ذلك ابنة الجيران التي كتبت الشعر من أجلها، تزوجت الحبيبة فألقيت مكتبتي من النافذة.
في الجامعة، أعادني ديوان "العهد الآتي" إلي الشعر مرة أخرى، كي أراوح بين صلاح عبد الصبور وأمل دنقل في ترددي الدائب بين الحزن والغضب. وعبر سنين طوال كتبت قصائد كثيرة كي أقرأها فقط علي أصدقائي، تلك القصائد التي لم تعرف طريقها إلي النشر إلا فيما ندر لأسباب لم أعد أذكرها الآن، ربما كان الأمر حينها لا يشغلني.
في شتاء 1992 قالت لي فتاة سمراء بينما هواء الليل البارد يطّير منديلي علي كوبري الجامعة: بالأمس حلمت بك ، فنشرت ديواني الأول "ذاكرة الظل"، واستأنفت سكتي إلي الحزن.
ثم ذات مساء رطب من صيف عام 1993، قادتني المصادفة إلى قراءة قصيدة اسمها "المرآة في القاعة" لأجدني أقفز في الهواء، كانت القصيدة للشاعر السكندري اليوناني "قسطنطين كفافيس"، وكان المترجم ـ علي ما أذكر ـ هو البارع الفنان "بشير السباعي" الذي كان قد قام نقلها إلي العربية عن ترجمة فرنسية للنص الأصلي الذي كان قد كتب باليونانية بطبيعة الحال، أتذكر الآن أنني حين انتهيت من القراءة برقت في ذهني العبارة التي دأب البعض علي نسبتها إلي ت. س. إليوت.. "العالم قبل القصيدة ليس العالم بعد القصيدة".
نعم.. وقعت في أسر هذا الشاعر السكندري الفاتن شديد البساطة ، شديد العمق، بليغ الأثر، لأجدني مشدوهاً حيال هذه الشعرية الفارقة التي جعلتني أري العالم علي نحو مختلف، وجعلتني أعيد النظر إلي ما حولي بكثير من الدهشة، كأنما أستعيد حواسي الضائعة من جديد.
أدركت منذ تلك اللحظة البعيدة كم أضعت من الوقت، وسألت نفسي كيف أمكن لهذا النص أن يخترق حاجزي اللغتين والثقافتين المختلفتين هكذا محتفظًا بطاقته الشعرية الفذة علي هذا النحو، مع تسليمنا المبدئي بأهمية دور مترجم فنان يحمل وعيًا إبداعيًا خاصًا مثل بشير السباعي، كيف تم هذا في غيبة الوزن، وغيبة الأشكال والقوالب الصارمة التي ظلت تلعب دور الحدود الفارقة بين الشعر والنثر، لينتصب السؤال الذي سوف يتبعني فيما بعد، من أرض إلي أرض: أين يكمن الشعر؟.
وعلي جانب آخر، وفي الوقت نفسه، كنت أرى تلالاً عالية من النصوص التفعيلية التي يكتبها الشعراء من حولي وهي تتراكم دون إنجاز حقيقي سوي التكريس لعزلة الشعر عن الإنسان، وبالطبع بقيت هناك استثناءات قليلة لشعراء كانت لتجاربهم وضعيات خاصة مثل أمل دنقل، ومحمود درويش، وسعدي يوسف، بالإضافة إلي جيل الرواد الذي كان قد غادر دنيانا مثل عبد الصبور، والسياب.
أذكر في ذلك الوقت البعيد، أنني توقفت عن الكتابة لفترة من الوقت لم تكن بالقصيرة، بل انتابني شعور قوي بأنني لن أستطيع الكتابة ثانية مشاركًا في تزييف الوعي وفي تظاهرة الإدعاء التي يقودها آنئذ الكثرة من الشعراء، وباتت عودتي مشروطة بالتوصل إلي تفسير لهذه الأحجية ، أين يكمن الشعر؟.
وفي لحظة نادرة، بدا الجواب لي كما لو كان يكّون نفسه في الأفق شيئًا فشيئًا، بدأت في ترتيب وعيي علي نحو جديد، مؤمنًا بحتمية اكتشاف ماهية الشعر علي ضوء تلك الترتيبات والقناعات الجديدة، تلك التي كانت تتأسس تلقائيًا فوق بعضها البعض.

أولاً

الشعر هو ذلك النص الذي يجعلنا نعيد اكتشاف العالم من حولنا كما لو أننا نراه للمرة الأولى، ويجعلنا نستعيد حواسنا، التي نكون قد فقدناها بفعل التكرار، وبفعل الخضوع للخبرات الذهنية التي وصلتنا جاهزة عبر الآخرين دون اختبار فعلي، أي أن الشعر هو النص الذي يقدم لنا العالم الذي تحسسناه، لا فكرتنا عنه.
يمكننا أن نزعم ـ والأمر كذلك ـ أننا سنكون حتمًا حيال شعرية تعتمد المشهدية، بديلاً للصورة الشعرية التقليدية، والمشهدية هنا تصبح بديلاً منطقيًا مناسبًا لشعرية تعلي من شأن الحواس، وتقارب العالم عبر البصر والسمع والملامسة، شعرية تعترف بحضور العالم داخل النص، شعرية بوسعها مجابهة طوفان التشيؤ الذي ظل يجتاح حياة الإنسان منذ ربما الثورة الصناعية إلي اليوم، وهي مجابهة حقيقية تتم في الميدان الصحيح، وهو عالم الأشياء، وليس بالفرار إلي عالم المطلقات المقدس الذي طالما احتكر الشعر تحت وطأة القناعة السائدة بأن الواقع المعيش ليس جديرًا بالشعر ولايخص الشعراء، إنما هو يخص التجار، والساسة، وعمال المناجم.
والمشهدية من هذه الزاوية، تعد إيمانًا بالإنسان العادي الذي كان مطرودًا من جنة الشعر، واحترامًا لسعيه اليومي، واحتفالاً بأشيائه الصغيرة التي هي بوابته إلي التفكر في الكون وأسئلته الكبري، إنها مصالحة للإنسان مع الشعر.
المشهدية أيضا كانت التفاتًا حتميًا إلى تلك العوالم الزاخرة بالمتعة والجمال التي شيدتها لنا فنون النحت، والتصوير، والموسيقي، والسينما، وهي الفنون التي طالما استفادت من الشعر طـوال الوقت.
من تلك الزاوية الجديدة يصبح الشعر موجودًا حولنا، يتنفس في أشيائنا البسيطة، لكنه يحتاج فقط إلي بصيرتنا لاكتشافه، يعود الشعر إلى نقسه، بحسبانه ابن العالم بتفاصيله اليومية، التفاصيل التي هي بطبيعة الأمر العناصر المكونة للمشهد الشعري، وليس بحسبانه ابنًا للغة ونشاطها الذاتي، تلك اللغة التي دأب البعض علي استحلاب طاقاتها عبر أنساق استعارية تصنع بشكل ميكانيكي أفقد المجاز قيمته، وقدرته علي الإدهاش.
ونحن حين نتحدث عن التفاصيل وعن اليومي، فإننا نعلم المزالق الخطرة التي قد يقع فيها الأدعياء والمتسكعون، حين يجعلون من النص الشعري مسرحًا لمراكمة النفايات المنزلية، دون الوعي بجوهرية الانتقاء الدقيق لهذه التفاصيل، واختبار قدرتها علي الإيحاء، ودور الوعي بأهمية إعادة ترتيب هذه الجزئيات داخل التكوين الجديد علي نحو ذي مغزى ، ونحن هنا لا نصطنع بدعة جديدة، ولا نجتلب من الخارج لكننا نكون فقط قد أنصتنا لتراثنا العربي القديم عندما كان امرؤ القيس يحتفل في شعره بالتفاصيل اليومية من الناقة إلي الوتد إلي روث البعير، ونكون قد أنصتنا أيضا لتراثنا في الأدب المصري القديم الذي كان يتعامل مع المحراث والنهر وصومعة الغلال والطيور المنزلية بمحبة وبتقديس.

ثانيـاً

الشعر لا ينطلق من المواضعات أو المسلمات، لأنه يكتشف نفسه بنفسه، ويبتكر بنيته الإيقاعية في لحظة الكتابة ذاتها، وبالتالي فهو يخاصم منذ البداية كل نظام عروضي جاهز، إنه بذلك يجسد الجوهر الصحيح لمصطلح القطيعة مع الماضي، تلك القطيعة التي تقترح أبنية جمالية جديدة فوق أنقاض أبنية فقدت قدرتها علي استيعاب أشواق الإنسان، إنها القطيعة الواعية والقادرة علي التمييز بين الثابت والمتحول في الثقافة، والقادرة علي فتح سماوات الحرية علي آخرها، دون الوقوع في فخ الاستلاب، أو إعادة تدوير قمامة الآخرين.

ثالثـاً

النص الشعري إذن عمل جمالي ومعرفي في آن واحد، أي أنه طريق إلي المعرفة، وليس استعراضا لمعرفة متكوِّنة ككتلة صماء لدي الشاعر قبل الكتابة، لم يعد للتفكير الدوجمائي مكان في هذا العالم، فقد انتهي دور الشاعر المتعالي، النبي، العارف الذي كان يري نفسه مركزًا للكون، ليبدأ دور الشاعر المتسائل الذي يري نفسه من آحاد الناس، والذي لا يملك سوي قدرته علي صياغة السؤال بطريقة صحيحة.
ولأن الشعر كما قلنا هو ابن العالم، لم يكن له أن يظل علي تماسكه القديم في عالم يعاني من حالة سيولة مرعبة، سيولة تجاوزت مجالات المعرفة والمعلومات، إلي الثقافة والتراث والهوية، عالم يفتش عن شكله الجديد منذ انهيار النظام الكوني تحت ضغوط الغرب الأمريكي، ومحاولاته للسطو علي الجغرافيا والتاريخ.

رابعـاً

العروض الشعري ذاكرة ثقيلة، لأن العروض حين يحضر لا يجيؤنا منفردًا بل يصطحب معه تاريخ الشعر، أجل .. حين يحضر البحر الشعري يحتل الحيز الذي كنا قد أعددناه لأرواحنا المرهقة فلا تملك هذه الأرواح ساعتها سوى أن تجلس على حجره، ولا تملك سوى أن تأخذ شكل التجاويف الضيقة التي صنعتها التفعيلات.
أما الشعر فهو عمل دائم ومستمر ضد الذاكرة التي تعيد استنساخ الماضي، هو ذلك النص الذي يبدأ من الحدس لا من المعرفة، الشعر هو طريقة في مقاربة العالم وفحصه، بل إننا نقول بثقة كاملة إن الشعر هو أحد أهم طرائق المعرفة، باعتباره سؤالاً لا بيان.

خامسـاً

العروض العربي ابن اللغة العربية، خرج من رحمها فجاء حاملاً ملامحها كاملةً وجاء مستجيباً لطبائعها وقوانينها الداخلية، ومستجيبًا لنحوها وصرفها وطرائق الاشتقاق فيها، ومنصتًا لصوتياتها، هذا ما نعرفه ونؤمن به بل أن هذا مما هو معروف بالضرورة.
على أن للعروض أيضًا آباءً آخرين ينكرهم أصحاب الأفق الضيق، إنهم الآباء الذين أسهموا في بناء هذا العروض وتكوينه، نعني مفردات البيئة التي كانت تحيط بتلك اللغة، نعني التاريخ والجغرافيا، نعني الصحراء ذات الأفق المترامي التي قد يقطع العربي أميالاً في فيافيها دون أن يتغير المشهد في عينيه، والإبل التي تُحْدَى فنخال حداءها نبض الحياة في المكان، ونعني أيضًا تعاقب الفصول، هذا التعاقب الذي لم يكن يقطع تواتره طارئ.
والآن بدورنا نسأل عن مدى ملائمة هذا العروض الصحراوي - الذي جاءنا من خلف ألفي عام - لحياتنا المعاصرة ! ما مدى استجابته لعالم المدينة في القرن الحادي والعشرين بصخبها وتلوثها وعلاقات الإنتاج فيها! وما مدى توافق روحه المطمئنة الوادعة وشكله الدائري مع اضطراب عالمنا وانفجاراته النووية وتآكل أوزنوه وانفراط فصوله حتى صرنا نرى الشتاء في الصيف، وحيث لم يعد هناك ربيع من الأساس!
العروض إذن ليس فوق المساءلة.

سادسـاً

كثير من الذين يفتشون عن الموسيقى لا يدركون جوهرها على الأرجح، ولا يدركون احتمالاتها التي لا حصر لها ظانين - وبعض الظن جهل – أنها التكرار والتماثل والسيمترية، ويظنون أيضًا أن مجالها الأوحد هو عالم الأصوات غافلين عن أن للمرئيات موسيقاها، وللأفكار والرؤى موسيقاها، الموسيقى تنهمر إذن على المتلقي من حيث لا يحتسب من المعاني والأصوات والصور البصرية، بل تأتي من المسكوت عنه .

**

لذلك كله بدت قصيدة النثر كطوق نجاة للشعرية العربية، أعني الشعرية التي اقترنت بالمشروع القومي العربي المنهار الذي أفلس تماما عبر إخفاقاته المتوالية، من هزيمة يونيو، إلي اتفاقيات الكامب، إلي اجتياح بيروت، إلي غزو الكويت، هذا المشروع الذي قادته أنظمة فاشية حطمت كبرياء الإنسان علي أرضه.
قصيدة النثر هي التي فتحت باب السؤال من جديد، وفتحت قوس الاحتمالات علي آخره، وبرهنت بأفقها الإنساني الرحب، البريء من

الادعاء باحتكار المعرفة، علي أنها الحيوان الصغير الحي، القادر علي بناء المحارات الجديدة بديلاً عن المحارات القديمة التي ماتت حيواناتها، وباتت محض تكلسات فارغة ملقاة علي الرمال.
وقد يعيب البعض على قصيدة النثر كثرة أدعيائها ومتشاعريها، وهذا في ظني أمر طبيعي ويمكننا أن نراه بوضوح في كل لون من ألوان الكتابة، غير أن هذه القصبدة في ذات الوقت تمثل الجزء الحي من الشعرية العربية الآن، الجزء الذي يعد ويحلم، الجزء الذي يحتفل بالضعف الإنساني وفتنته ويعلي من قيمة الاعتراف.
مع ذلك فإننا لا نعطي لأنفسنا الحق في نفي الآخر كما يفعل البعض، فنفي الآخر مسألة قد تجافي الروح المنبسطة لقصيدة النثر، الروح التي تؤمن يالتجاور و التعدد، وترى ما تراه الحداثة في أطوارها المتأخرة من أن العالم ليس سوى معرض مفتوح تتجاور في رفوفه كل منازع البشر وتوجهاتهم.
ربما تفتقر هذه القصيدة للأسوار الحجرية التي ترسم حدودها، لكنه الافتقار الذي يجعل منها جوهرًا للشعر، ويجعل منها ميدانًا صعبًا، يدخله الشاعر أعزل إلا من قدرته علي إعادة تشكيل العالم علي النحو الذي يفجر شعريته الكامنة خلف المشهد اليومي، وخلف العادات والتفاصيل اليومية.
إنها الشعرية التي ترصد صيرورة الإنسان، وتحولاته الخفية عبر أشيائه الهامشية، وتصنع من تناثرات الواقع تكويناً كاشفاً لمعناه التحتاني.

***

مكر الشَّاعِر ومكر العَالَم!

عبد الرحيم طايع

منذ كنت صغيرا والدتي تقطع - بقوة - ورقة الرُّزْنَامة كل صباح لليوم الذي فات ثم تمزقها تمزيقا علنيا شجاعا واثقا عالي الصوت مُسْتغرَبا وتلقي بها - بتخلص عنيف - في صندوق القمامة بشقتنا وهي عابسة الوجه؛ إذن كأنها هي (الرُّزْنَامة أو أمي لكم الخِيَرَة!) المسئولة عن كوني شاعرا ولو بعض المسؤولية!
أربعون عاما تامَّة عمري الآن وفي أول نوفمبر للعام الحالي (1/11/2009م) أتخطى الأربعين بسنة:

"حتى إذا بلغ الأربعين قال ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحا ترضاه..."

والدي - وقد كان أزهريا جميلا فكها متأدبًا بالآداب في صورها التقليدية الرصينة - مات صغيرا في السِّنِّ قبل أن يبلغ الخمسين حتى، وأمي فقدت هويتها بفقده وشقيقتي الصغرى الحنون غادرت البلاد مع زوجها إلى الخليج منذ شهور والأهل غارقون في مصالحهم التي لا تنتهي (كل الناس في الحقيقة مشغولون هذه الأيام بأكل العيش أو الكرواسون ولا أدري بماذا أيضا؟؟!) وباب البيت لم يعد جرسه يرن بالمودة ولا الأخبار الطيبة والأصدقاء والزملاء صار البعد عن معاظمهم غنيمة.
"الصاحب الزين يتحط في الجيب... وتفج منه الروايح... شف الراجل اما يبدي بالعيب... ما تيجي منه غير الفضايح"... وأنا أصبت في العام الفائت بمرض السُّكَّر وأتعاطى الآن علاجا ثقيلا للجيوب الأنفية وفي طريقي إلى طبيب العيون وكذا وكذا على نفس المنوال؛ فكان لا بد من النظر إلى الفيلسوف الساخر عبد السلام النابلسي (كان كاتبا بالمناسبة!) بعين الاعتبار - دون قهقهة بالمرة - وهو يسأل السماء ألا تمده بأكثر مما هو فيه "ما تبسطهاش اكتر من كده"... وربما كان النابلسي بتلك الجملة الخالدة في موقفها صاحب أول "كفاية" حارة ولاذعة في الحياة المصرية!!

يقولون لك إن قصائد النثر متشابهة؛ فلا تكاد تعرف القصيدة من أختها كما لو كان الكاتب - ولا يقولون الشاعر - واحدا له الأسماء العديدة التي بين أيدينا الآن!
ويقولون لك: لقد أفسد "الأولاد" الشعر؛ بتركهم للقواعد وتخليهم عن الإيقاع!
فقل لهم: لنا قواعدنا ولكم قواعدكم ولنا إيقاعنا ولكم إيقاعكم! لسنا - شعراء قصيدة النثر - متحولين إلى ذئاب أو "مستذئبين" بمنطق السينما الأمريكية؛ لكننا آمنا بأن ما كان يناسب غيرنا ليس بالضرورة يناسبنا أو هو لم يعد يناسبنا على الصحيح ولهذا المنطق نفسه وجود كبير في التراث "أولادكم لزمان غير زمانكم" لا أدري لم تغفلون عنه يا من لا تكفون عن الاستشهاد بالتراث... ، أم تراه استعمال ما يخدم أفكاركم أو بالأحرى مصالحكم؟؟
وقل: تشابهنا مُدَّعَى لا يقوم عليه دليل واضح يفحمنا، ولو تشابه اثنان في حزنهما الكثير وفرحهما القليل فما تشابها - لكل ذي مُسْكَة ونظر- بتة وإنما تشاكل الأمر على من اتهمهما بذلك!، وأبناء المرأة الواحدة من الرجل الواحد قد يكون بينهما شبه في الجلد غير أنهم قد يعدمون - في غيره - شبها!.

وليست كل مشابهة هي عار وعيب وإنما التطابق إلى حد اختلاط الأمور هو ما يصم ويعيب وليس بيننا مثل ذلك ولله الحمد، وأعمالنا بين أيديكم فتأملوها تجدوا فروقا وتجدوا ما يميز كل واحد على حدة، وطوبى - بعد ذلك كله - لمن نجا من التقليد غير ذي الحجة؛ فهو جهل كما يقال، ولا بأس بمن شُغِل بنفسه عن غيره في الأول والآخر بعيدا الآن عن نظرية الطوب والبيت الذي من زجاج!
ويقولون فقل، ويقولون "فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون"!
بل دع عنك هذا كله "فما لمثله خلقت" كما يقول العارفون لكن تذكر جيدا - وأنت في حالة كتابة - أن الشاعر عليه أن يملك الآن مكرا يوازي مكر العالم المحيط به تذكر تذكر تذكر!!
أنا "عبد الرحيم أحمد طايع كمال الدين" الذي عرفتموه بينكم بـ "عبد الرحيم طايع"؛ فأسماء الشهرة حاجبة نافية مضللة يعرف بها الواحد وقد لا يعرف من أبوه!
لم أضع أمامي دواوين العامية الجديدة وقلت: سأكون مختلفا ! بل لم أفكر حتى في أن أكون مختلفا!
كتبت نفسي ولمن أريد أن أكتب لأجلهم (ولو كانوا لا أحد!)؛ فقال الآخرون أو جماعة منهم إنني مختلف عن الآخرين؛ ولم أدر ماذا أفعل بيد أني حمدت الله تعالى وكدت أصلي ركعتي شكر!

الكتابة عملية صعبة كجراحات المخ والأعصاب وربما أكثر صعوبة وأدق وأخطر، والشاعر ليس كجراح المخ والأعصاب.. الشاعر أكثر فقرا وأشد نبلا أو هكذا ينبغي أن يكون!
أفضل للكتابة وقتي العصر إلى أول الليل وعمق الليل إلى الصباح، ولم أعد أستخدم الورق والقلم إلا نادرا منذ اقتنيت جهاز كمبيوتر؛ ولا ضير فالديليت هو الممحاة أو الكوريكتر والحركات والشدة والسكون مما لا أستغني عنه في العامية ولا الفصحى موجودات أحفظ أماكنها أكثر مما أحفظ أماكن الحروف نفسها، وبوسعي أن أجعل لكتابتي أشكالا فنية ترضيني بواسطة إمكانات الكمبيوتر أعني أن أقوم بالإخراج الفني عقب الكتابة ولا أتحدث عن البراويز للصفحة وما شابه لكن عن تطويل السطور وتقصيرها وكذا؛ فأجعل للنص شكلا على الورق يشبع خيالي؛ فأنا من الذين يعتبرون شكل النص متمما لفكرته!، كما أنني أستطيع حفظ ما كتبت بمنتهى السهولة عدد ما أشاء عبر كروت الذاكرة والفلاشات متعددة الأشكال والأحجام والسعات التي تباع الآن في كل الأماكن وبأسعار معقولة مما يضمن لي ألا أفقد جهدي وهو ما كان عسيرا من خلال تكرار الكتابة عن طريق اليد،... أنا مفتون (لكن بحذري المعتاد!) بمثل هذا الاختراع، ولم أتخيل قط أنني سأقع في هوى فأرة يوما ما؛ لكنني فعليا وقعت في هوى "الماوس" وقوعا!

والكمبيوتر أعتبره - بعد المرحاض ومكنة نسخ المفاتيح! - أهم الاختراعات التي عرفتها البشرية حتى الآن!
إن أكثر تعريف راقني للحداثة كونها "استخدام العلم والعقل والتكنولوجيا في التعامل مع الواقع"... إنه في الحقيقة ليس تعريفا كليا للكلمة المثيرة للجدل لكنه أحد مفاهيمها المهمة.
في إحدى الشقق التي سكنت بها مع الأسرة في مدينة قنا (فقد انتقلنا بين عدة مساكن في أعوام متقاربة ولهذا خطره على نفس شاعر أو فنان أو حتى عادي حساس) كنت أعلق على حائط أمام سريري قصيدة للشاعر الدانماركي نيلز هاف عنوانها "دفاعا عن الشعراء" كنت أحفظها عن ظهر قلب وأردد مقاطعها للزملاء ولمن أتوسم فيهم وعيا ما من العامة؛ كانت رقيقة وعظيمة!

وعندما أساء الدانماركيون للرسول الكريم - بالرسوم الكاريكاتورية - لم أسئ الظن بنيلز هاف ولا بالدانماركيين في الحقيقة ولم أقاطع منتجاتهم ولم ألعنهم؛ بل شعرت دائما برغبة في معرفة الآخر عن قرب والتمست الأعذار للجميع عدا قومي العرب لا سيما المسلمين؛ فأكثرهم تصرف بغوغائية!
على ذكر المقاطعة نسيت أن أذكركم أننا اكتشفنا أوان الحديث الممل المتكرر فترة ما سمي بالإساءة الدانماركية للرسول أن الدانمارك الصغيرة هذه هي أكبر مصدر لإبر الأنسولين في العالم الكبير الذي نحتل نحن فيه مساحة عظيمة بلا جدوى!
والآن ماذا عن الشعر الصادر ؟؟
أصدرت ديوانين عاملت خلالهما رجلين مهمين أحدهما الناشر محمد هاشم صاحب ميريت للنشر والتوزيع والثاني الشاعر الكبير حلمي سالم في تجربته المحدودة كاف نون التي لم تستمر لألف سبب وسبب.

كانت النتيجة إدراكي أن النشر بمصر ليس على ما يرام من كل: جهة التكلفة والتدقيق والمراجعة والمواعيد والطباعة وحفلات التوقيع أيضا ثم التوزيع والحقوق.. كل شيء ليس جميلا ولا ربع جميل!
والمشكلات - حتى لا يفهم كلامي خطأ - ليس سببها الناشر وحده بدليل أنني أحببت عمنا وصديقنا الودود محمد هاشم واحترمت تجربته ولم أكره شاعرنا الكبير قط (بعيدا عن سرد تفاصيل تجربتي معه الآن) وكنت موضوعيا تماما وناصرته في موضوع "شرفة ليلى مراد" دون أن يدري حتى: لكن العيب في النظام!! كما قيل في الفيلم الكوميدي الذي لم يزل يعجبني "فيلم ثقافي"!!
أحببت الديوان الثاني للغاية "غرقانين" وقد نال حظًّا كبيرا من المتابعة والقراءات النقدية التي راقني بعضها والإشادة أيضا باعتباره جديدا بين الجديد نفسه!
وأحببت عدم حبي البالغ للأول "لسه ما متناش"؛ فدائما حين أتذكر أنني كان يجب أن أعمل له "تصفية أكثر"؛ أقوم بتصفية ما بين يدي..
ولم أزل أذكر أنني قرأت شيئا عن المثَّال الذي دار حول بعض تماثيله ثم أمسك معولا وحطمه؛ ولما سئل عن ذلك؛ رد - بهدوء - قائلا: لم أجد به عيبا!
وأيضا "رب خطأ ورَّث انكسارا خير من صواب ورَّث غرورا"!!
على كل حال أنا كثير المراجعة لما أكتب والتغيير بدرجة تؤرقني أحيانا، وكثيرا نشرت نصوصا غيرت أجزاء فيها بعد النشر؛ فلم أعد أنشر إلا لماما!
وعلى ذكر قصيدة الشرفة ومصادرة مجلة إبداع بسببها لبعض الوقت؛ أود ألا يفوتني التعبير عما في نفسي بهذا الشأن من كوني أرفض - بشدة - منطق الحجر على الآراء والأفكار؛ فالرأي يترك للرأي المضاد والفكرة تقابل بالفكرة الأخرى، وقد كان لدينا في مصر بفترة من الفترات "لماذا أنا ملحد" لإسماعيل أدهم" ولدينا أمامه "لماذا هو ملحد" لمحمد فريد وجدي!
الآن لدينا رصاصة مصوبة إلى قلب نقطة حبر كدبابة أمام طفل، وخطورة الأمر أن ذلك التشدد المقيت قد يربي رقابة داخلية لدى الكتاب والشعراء الداعين إلى النور أنفسهم، وعليه ربما يكون الحذف أكبر من الإضافة في أعمالهم بشكل سريع أو تدريجي مما يحرم المجتمع حرمانا - في سعيه المراد إلى التقدم - من بعض ما يمكن أن يدعمه ويضاعف من سرعته!
إنه اضمحلال العقل العربي المستمر، وخيانة طائفة من الرجال المتشددين ضيقي الآفاق لمستقبل أمتهم، وإنها شهادة ممن يدعون إلى المصادرة (بحجج واهية لا تصمد أمام منطق سليم) بضعف وهشاشة ما يتصورون أنهم يدافعون عنه ويحمونه أيا ما يكون!! ألا بئست القيود ونعمت الحرية!
بالنسبة للقراءة أنا لا أترك شيئا يقع تحت يدي وأتابع جيدا ما ينشر هنا وهناك؛ يذهب كثير من المثقفين من الشعراء والأدباء إلى بائع الصحف بمدينتنا للسؤال عن دواوين جديدة وروايات وقصص، وأذهب للبحث عن كتب في الدين والتراث والجغرافيا والسينما والرياضة والطب والفلك وخلافه إلى جوار كتب الأدب، وفي ذاكرتي أن كاتبا معروفا قد يكون عباس العقاد (يرحمه الله) شوهد يوما يقرأ كتابا في علم الحشرات، فسئل عن ذلك، فأجاب بثقة: أنا أكتب أحيانا في السياسة يا مولانا!
أما الكتب فغالبا لا أحتفظ إلا بأقل القليل منها، أنا أشتريها وأبيعها وأجامل بها أيضا، وعلى ذلك ليس لدي ما يمكن وصفه بالمكتبة ولست حريصا إلا على القراءة نفسها، ولقد عرفت كثيرين ممن يملكون مكتبات عامرة وعند مجالستهم لا تشعر بأنهم قرأوا كتابا واحدا (!) ومن النادر أن أعيد قراءة كتاب قرأته؛ ربما لأنني لا أنهي كتابا في العادة إلا بعد أن أكون أخذت ما فيه حفظا وفهما على قدر الطاقة إلا كتب التصوف والماورائيات فقد أعدت قراءة بعضها أكثر من مرتين! وقد أمتلك - في الأحايين - كتبا نادرة بمجموعة من العلوم الإنسانية من تلك التي يُبَاهى بها لكنني لا أباهي بها ولا أفاخر أحدا!!

تخرجت في كلية دار العلوم - وكنت بالأساس فصيحا أتوخى البلاغة فيما أقول وأكتب ومازالت قصيدتي الفصحى تجاور أختها العامية - فازددت بكليتي بلاغة وفصاحة ودراية بعلوم اللغة وقواعدها ومازلت فخورا بأنها الكلية التي نلت شهادتها؛ فالإمام محمد عبده قال: "لو أن باحثا لغويا مدققا أجرى بحثا في اللغة العربية؛ ليعرف أين تحيا وأين تموت؛ لوجدها تموت في كل مكان وتحيا في دار العلوم"!

وودت لو أنني ملكت لغة إلى جوار العربية لا سيما الإنجليزية إلا أن ذلك فاتني حتى كتابة هذه السطور كما فاتني أن أتعلم العزف على العود وقيادة السيارات!
بعض الكتابة الآن - ومنها الشعر - تطبخ لأجل الجوائز؛ يقابلك صديق فتعاتبه على قلة السؤال وعدم الظهور (في الشارع طبعا لا على الشاشة)؛ فيخبرك بانشغاله الشديد بمشروع ما، وقبل أن تفرح بإخلاصه لما بين يديه ينطلق لسانه كحنفية منفلتة خربة في حديث طويل عن جمال العقال الخليجي (!) واحترامه للفن وللأدب وتقديره المادي - وهذا هو الأهم بالتأكيد - للكاتب وللفنان!!، ومهما جادلته يظل على قناعته بل ربما شعرت باستغرابه من جربوع محب للفقر مثلك!، كان لجان بول سارتر الفيلسوف الفرنسي والشاعر الذي رفض الجوائز بامتياز رأي أراه بالغ الأهمية في تلك المسألة، كان يقول: "على الكاتب ألا يسمح لنفسه أن يصبح مؤسسة"!!، وعلى ذلك رفض نوبل عام 1964 رفضا قاطعا ومن قبلها كان قد اعتذر عن عدم قبول أعلى وسام في وطنه وكذلك كرسي الأستاذية في "كوليج دي فرانس"!، عموما "دي قناعات" كما سوف يحدثونك و"الظروف اتغيرت" كما سيرددون القول أمامك؛ فأنصحك أن تتجنب الإساءة إلى نفسك بالخوض في هذه الأراضي المتوحلة ولله الأمر من قبل ومن بعد!

وللعلم أنا لست أرفض البتة أن أتقدم لمسابقة بل إنني أفعل لو وجدت وقتا وكان لدي ما يناسب إعلانها ووثقت في الجهة المانحة للجائزة بمعنى ما ولكن ليس على طريقة هؤلاء الجياع!!
هل نسيت أن أقول إنني مولع بالغناء وبالإنشاد الديني والمدائح والشعبيات وأقصد أنني أغني فضلا عن أن أتابع وأستمع وأن كثيرا من الناس - ومنهم دارسون متخصصون في الموسيقى والمقامات وذوو أذواق رفيعة - أثنوا على أدائي وبعضهم بالغ وطلب مني التفكير الجدي في احتراف المسألة! بل إن صديقا لي يقيم بالقاهرة كان يعمل بمسرحية تعرض مغنيها إلى وعكة طلبني للوقوف بدلا من ذلك المغني إلا أنني - لكي لا أقتل الهواية بالاحتراف ولا أجعل للشاعر في روحي جيرانا قد يؤذونه أو يؤثرون عليه - تعللت أيامها بظرف ما واعتذرت إليه؛ حسنا أنا مولع بأن أغني لا سيما بين أفراد الجماعة الثقافية، وأكون بالضرورة من أكثر الجزعين بصعود الأصوات المنكرة وانتشارها وتقلبها في البلاد بالأغاني العقيمة التافهة ودائما أشعر أن طاقتي في ذلك المجال هي لله ولنفسي ولمن أهوى وأريد لكن - إلى الآن على الأقل - ليست للوطن!!

لا أدري لماذا أريد أن أخبركم الآن بأنني متردد في مسألة الزواج.. متردد جدا في الحقيقة على الرغم من تلحح الأهل وتقدم السن بي ولا أرى الموضوع شخصيا بحال والكلام عن شاعر؛ فالمشكلة الكبرى أنني ما زلت أجد الزواج للمشتغل بالأدب والفن معطلا بامتياز (كمثل الوظيفة تماما) كما أنني أخشى أن أفقد جزءا من حيويتي إذا سلمت نفسي لزوجة أو دفتر للحضور والانصراف، وما زلت أجد في الحب تعزية وفي عمل مناسب أفضله (ولو لم يكن ذا دخل كاف) بعيدا عن عملي الرسمي الحكومي كمدرس لتلاميذ المرحلة الابتدائية الذي ما إن تنتهي فيه إجازة لي إلا وتبدأ أخرى،...

لكن - حتى أكون صادقا - أفكر جديا في الخلاص من هذه الرومانسية المفرطة ؛ فبعض آثارها كآثار ما أهرب بها منه!
أنا أكتب الأغنية إلى جوار القصيدة والسوق لم يعد يسمح لمثل الأغاني التي أكتبها بالتحقق والانتشار؛ فهي ثقيلة الظل في نظر المنتجين وكثير من المغنين والعاملين بحقل الغناء أيضا؛ بمعنى أنها تتطرق إلى موضوعات ليس أكثرها عاطفيا ولا تعتمد على الإثارة الفارغة وألفاظ لغة الشارع المبتذلة بلا داع، كما أنها تتعرض إلى بعض ما سكت عنه كتاب الأغنية طويلا،...
وبالإجمال تخالف السائد والمتعارف عليه قدر الاستطاعة في أفكار وأنماط الكتابة المماثلة وتتحرى الجودة (بمعيارها العام الذي لا اختلاف عليه) إضافة إلى الإتيان بما يدهش، ملزمة نفسها بالاحترام - وحده - لعقل الناس (أيا من كانوا) ووجدانهم كل في إطاره!
وبعد علمي بأن الحال تغير وأن الأغنية صارت مجرد تصميم "design" خال من المشاعر يسبق لحنُها كلماتِها في الأغلب وليس شرطا أن تكون الكلمات معبرة عن أي شيء أو سليمة من أية جهة - بعد علمي بذلك - انسحبت بهدوء قبل حتى أن أبدأ بذلك المجال تاركا الساحة لشعراء شطارا يجيدون "اللعبة" وأصولها الآنية، والمصيبة التي وضعت يدي عليها أن كثيرا من زملائنا الذين يبدأون غالبا بالغناء السياسي على المقاهي ممن يوصفون من قِبَل المتحمسين لهم بالإخلاص لقضية الغناء وبالمغايرة أشد استهتارا وأكثر كذبا (ككثير من المعارضة السياسية نفسها!) كما أن معاظمهم متعطلون عن أي عمل وبمواهبهم شك من الأصل، وينتهون إما إلى ترك الأمر برمته أو التحول إلى الضفة التي كانوا يهزأون بها أو الفلس والإحباط وتمني زوال العالم!

وبالمناسبة هناك فوضى جماهيرية كبرى في موضوع الغناء؛ فلا الإقبال على أحد يعني نجاحا ولا الإحجام عن أحد يعني فشلا فالمسألة - في كثير من الأحايين - لا تعدو كونها تنفيس كبت مطلوب حال الإقبال على لون معين وزهق وسأم قد يكونان مؤقتين حال الإحجام عن آخر... الجمهور بالأساس شرائح وطبقات متعددة لا ينتظمها ذوق واحد؛ فلا يصح وضعه في سلة واحدة كالقالة المبتذلة "الجمهور عاوز كده"... أو حتى "مش عاوز كده"...

الجمهور - بكل شرائحه وطبقاته - غائب بمعنى ما تحت ضغوط اقتصادية واجتماعية هائلة بالسلب أو بالإيجاب(؟!)؛ فالأمور في الواقع ملتبسة عليه ولم يعد الجمهور من مدد يتسلى بشيء بل صار هو نفسه وسيلة التسلية لبعض الإعلام المخادع أو للفنانين أنفسهم ممن هدفهم الكسب أولا وأخيرا "بيشتغلوا على الناس يعني"!
في مجال الأغنية الآن تحتاج إلى علاقات وحسابات خاصة معقدة أكثر مما تحتاج إلى شيء آخر؛ ربما لأن "الحكاية" تمنحك شهرة ومالا لا تمنحك الدواوين - مهما كان حظها عظيما - لعاعة منهما!، ولا اعتراض على الغناء بالنهود والأرداف والسيقان، لكن مازلت أحلم للأغنية بمستقبل "روحي" حقيقي وجريء؛ بعد أن تسرب الملل فعليا إلى الناس من حاضرها "الجسدي" الزائف المخجل!

ومازلت أيضا أترقب اليوم الذي أجد فيه "أغان نثرية" لي وللأصدقاء تغنى (إلى جوار الأغاني ذات الشكل التقليدي) وأعمل - منذ فترة ليست بقصيرة - على ترويج الفكرة!
لقد خرجت من جو الأغنية الفاسد (وإن لم أزل أكتبها) بامتعاض كثير ورضا لا يكاد يذكر!، ويظل الشعر - في صورة السيدة القصيدة لا غيرها من الأشكال - سيد موقفي وتاج رأسي!، الشعر طريقة عظيمة ونظام رفيع لإعلان أزمة الوجود وأنا أحببت شعراء كثيرين وآمنت دائما بأهمية التعدد والتلون والتنوع والاختلاف؛ ففي الشعر ارم وراء ظهرك كلمة "هذا على قد هذا" أي يساويه في المقدار كما تقول معاجم اللغة.. الشعر فوق موضوع المعاجم بل عند بعض الشعراء فوق اللغة نفسها حتى لو كانت هي بعضه أو كله!!
الصراع الدائر بين الأنواع الشعرية سيستمر فيما بينها لكن سيندحر صراع الشعراء والمثقفين والنقاد أنفسهم (أين هم النقاد؟؟) حولها بفعل الملل على الأقل والشعور بالافتعال!!
منجز العامية المصرية - دون العاميات العربية وبما فيه من شعراء ارتجاليين موهوبين جدا لم يدخلوا مدارس ولم ينشروا كتبا - هو منجز تاريخي هائل وفارق في ظني إلى الآن لم ينل حظه من التناول الجاد الكاشف بحثا ودراسة كما لم يعد ينطلي على أحد كون لغته الدارجة تقلل من أهميته إذا وضع بمواجهة الفصحى!.
أول إرهاصات قصيدة النثر كانت على يد والدنا أبي العتاهية؛ لأنه قال يوما: أنا أكبر من العروض!، ولو كنت أكاديميا لدارت رسالتي حول تلك النقطة الباهرة التي كأن أحدا لم يقرأها على لسانه غيري!

وماذا بعد؟؟

أشعر كثيرا بأن الشعر قرين الذكاء؛ فلا أتخيل شاعرا غبيا أبدا ، ناقص ثقافة يمكن ليس ملما باللغة ربما و... و... و...، لكن ليس غبيا!!.
وما زلت أميل إلى الشعر الذي يتضمن فكرا وبه مسحة من سخرية سوداء؛ فأنا أبجل الشاعر المفكر الذي يعرف كيف يسخر ومتى يسخر هكذا ببساطة ورقي وأنفه إلى السماء!.
"قصيدة النثر" يجب أن تتطور، وأنا أشعر بأن الأمر سوف يؤول إلى ذلك فعليا؛ فكلنا يحاول تطويرها أو يجب أن يحاوله؛ إذ هي أصلا ضد الجمود... هي أول المتظاهرين ضد بقاء الوضع على ما هو عليه إلا أنها لا تجيد الصراخ! وأنا استخدمت لكتابتي مسمى "نصوص" (بلا مكر صدقوني!) إنما استخدمته لإحساسي برحابته!

 

***

الانتساب لأشياء الحياة الباقية

علاء خالد

أشعر بأنني دخلت عالم الكتابة من الأبواب الخلفية، لسببب بسيط، وهو أنه لم يكن هناك أبواب رئيسية. ففى الوقت الذى أصدرت فيه ديوانى الأول عام 1990، كان المشهد الأدبى فى مصر قد تعرض للكثير من النكسات، والتى بدورها أفقدته تماسكه ومعياريته. فمنذ هذا التاريخ، وقبله بسنوات، حدث تحول فى طريقة النشر، مع اكتشاف تقنية الطباعة "الماستر" رخصية التكاليف، والتى سهلت النشر بعيدا عن أجهزة الدولة. ومع ظهور هذه التقنية تحول الكتاب أو الديوان إلى ما يشبه المنشور السياسي، يتم تداوله باليد عبر جمهور انتقائى للغاية، ولا يوجد إلا على المقاهى، أو التجمعات الأدبية المتبقية منذ السبعينيات. يتم طبع الديوان فى حدود 300 نسخة توزع مجانا على هذا "الجمهور"، تشكل عبئا على الشاعر وأصدقائه فى توزيعها.

فى تلك الأوقات الصعبة غاب الاهتمام النقدى، ولم يعد له وجود، إلا الوجود المدرسى أو الأكاديمى، والذى كان مفرغا من أى أفكار عميقة يرى من خلالها هذه التحولات التى مر بها المجتمع، ومسار الانقلابات فى أفكاره، والاستقطاب الذى حدث فى طبقاته، مما أدى لاختفاء وضمور الطبقة المتوسطة وظهور طبقات أخرى لم تعد الثقافة إحدى أولوياتها. وبالتالى فقد الرابط بين هذه الشعريات الجديدة وعلاقتها بهذا المجتمع المتحول، أو بخصوصية الشعر فى تلك اللحظة الحاسمة. كان المجتمع كله فاقدا لرشده، وجاءت حرب الخليج لتزيد من هذا التشتت، وأصبح الوعى العلمى الدءوب فى أغلب مجالات الأدب والفن، أملا بعيد المنال. لم تعد هناك رغبة لدى الكافة لفكرة التأصيل لأي ظاهرة شعرية أو أدبية أو فكرية بشكل عام. أصبح المجتمع مواجها بأسئلة وبسياقات وبتحولات داخلية وخارجية، و"بسيولة"، لم يكن يملك الأدوات على تفسيرها، لسبب بسيط أنه لم يكن مستعدا لمواجهتها؛ لركود النشاط الثقافى والعلمى والبحثى لفترات طويلة، منذ السبعينيات وربما أسبق من هذا، واستنفاد قواه فقط فى مواجهات سياسية، وصلت لدرجة تسييس المجتمع الأدبى بكامله.

منذ دخولي لعالم الكتابة لم أعرف مدلول كلمة "جمهور"، فالمسارات التي تحركت فيها الذات الشعرية، كانت مسارات انتقائية. أصبحت مشروعيتك كشاعر محل شك وغير مؤكدة، ومسورة بالتعصب، لغياب كل هذه الأطراف عنها. كان هذا الآخر غائبا على مستوى الكتابة ومستوى الحياة، فكيف يستعيد الفرد قواه ويتجرأ على الخلق؟ مهما كانت قوة أى فردية، ومهما كانت قوة جنوحها وموهبتها وتعددها الداخلى، فلكى تستمر ولا تتحول إلى أيقونة أو رمز استشهادى، عليها بخلق هذا الآخر، أى كان مكانه أو قوته، أو مرجعيته، وهى التجربة الأصعب لاستمرار الحياة والفردية فى آن. حتى لا تكون الفردية هي علامة انتهاء الحياة.

كان المشهد الأدبي فى بداية التسعينيات ما زالت تسيطر عليه التقاليد السياسية فى نظرته للشعر، للقرب الشديد بين جماعات السياسة والأدب والفن فى القاهرة. حتى على مستوى هذه الجماعات النوعية تم تضمين هذه الكتابات الجديدة داخل التفسير السياسى للأدب. أصبحت "ذات الشاعر"، ومستوياتها الأعمق؛ خارج أى تأويل أو تفسير. لم يوجد "الخطاب الحواري" المتسائل، وإنما خطاب أحادى يسير على قضيبين. بمعنى آخر كان هذا "الآخر" حاضرا بقوة وبمباشرة وواضح التفاصيل، كأن رحلة خلقه مسبقة، ولها شكل واحد، وليست متعددة وشخصية، ولها إحداثيات تشكل ملامح هذا الآخر. الأحادية كانت مشكلة المجتمع، الأحادية حتى فى فكرة التعدد، تماما كأى إيمان ظاهرى، يضمر التعصب والاستبعاد أكثر مما يضمر الحب. كان المجتمع يخب الخطى نحو التعدد والعشوائية و"السيولة" وهو فاقد لأى إيمان بمنجز خاص به، أو واثق حتى بنفسه.

أى "آخر" به مسحة مثالية، لأنه يتعين على مستوى الوعى والحلم والحدس، وكل ما هو غير موجود أو كل ما هو مفقود. حلم يتحول إلى حقيقة، وفى رحلة تحوله تكمن حقيقة أخرى، هى التجربة نفسها، النجاح لهذا الحلم أو الفشل، أو تعديل الحلم نفسه. غياب الأفكار المثالية أو فشلها جعل الأدب والفن ينحو نحو فكرة شخصية أو مثالية شخصية حتى ولو كان مظهرها اللامثالية. وهو ما حدث فى قصيدة النثر، قامت التجربة الشخصية، بكل تناقضاتها، وحلت مكان الآخر المثالى الغائب. هذا الغياب للأفكار المثالية وللحلم بشكل عام، جعل هناك جدلا ناقصا، لا يوجد طرف آخر منظم يتم الجدل معه والحوار لضبط الشكل الأدبى، لذا أصبحت التجربة الشخصية هى المثير الأول، وتم إعلاء شأنها، وهى تجربة مهما كانت لن يتضح نظامها ويتفتح إلا عبر زمن، تنضج فيه رموز هذه التجربة، وتظهر شكلها. لذا كان ظهور تجارب خاصة يأخذ وقتا طويلا حتى تجد كل ذات مفردة هذا "الآخر" الذى تحاوره لتستمر الحياة.

التجارب الشخصية لم تجد أمامها إلا شكل الحكاية، كشكل قديم متجذر فى الأدب، ويحتوى داخله على متعة ونظام وأحلام، وطفولة وذكريات وحكمة وسير، وأخذ هذا الشكل يأخذ مكانه ليعوض غياب أشكال أخرى من الأفكار والمرجعيات كانت تحاور الأدب وتضبط أنواعه وأشكاله.

الجماعات الأدبية أو شلل الأصدقاء كانت إحدى المنارات فى تلك الفترة من التسعينيات، كانت تمنح الفرد الشاعر مظلة، وليست حماية، بها رائحة هذا الآخر الغائب. صادف الحظ وجودى بين مجموعة من الشعراء والفنانين والمهتمين بالأدب حتى الثمالة، وهم الذين منحوا تلك اللحظة غير الفنية وغير الأدبية، التثمين الذي سلبه المجتمع من الفن والأدب. أى لحظة فردية تحتاج لمظلة عامة لكى تستمر. ربما كان لهذه الشلل عيوب أى جيتو ثقافى أو إنسانى أو جغرافى، من التقتير على النفس والغير، وتلك المثالية العنيفة فى أحكامها، أو تلك المحبة التى لا تعرف حدودها بين الذات والآخر. ولكن لم يكن هناك طريق آخر سوى الوحدة والعزلة.

رغم هذا استمررتُ فى كتابة الشعر! وهى الفكرة التى تحتاج منى لتأمل لأن بها شيئا من الحقيقة التى ترتبط بماهية الشعر نفسه، وطريقة نشأته. مع الأجيال الجديدة يعود الشعر لوضعه القديم، قبل أن يكون واحدا من الأنواع الأدبية، وقبل أن تتكون حوله تلك السياقات الأكاديمية والتنظيرية والجماهيرية، ومقولات من قبيل "الشاعر والجمهور"، "المرسل والمتلقى والرسالة". كلها سياقات ومساءلات نشأت مع عصر الجماهيروانتشار وسائل الاتصال. وربما لها وجاهتها فى مساءلة أي نوع أدبي عن جدارته فى الاستمرار من عدمه. قبل وبجانب هذه السياقات كان للشعر دور وتأثير.

اختياري لقصيدة النثر جاء صدفة، ربما لأنها الأقرب لطبيعتى الخاصة، وللأفكار التى كانت تدور فى مخيلتى فى تلك الفترة من نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات. كان عندى تشابك فى الأفكار، يصل لحد التعقيد، تكون بسبب مشهد اجتماعى هو الآخر غاية فى التعقيد، وأول مظاهره هو هذا التهديد العلنى والسافر لطبقة متوسطة، أنا أحد أفرادها، وأحد المتمردين عليها، وكانت تسمى فى الأدبيات الماركسية بالطبقة الوصولية والمتسلقة والمتعفنة.

لم يكن للشعر مكان صافٍ يستقى منه مفرداته وسياقاته، ولم يعد التمرد هو المفتاح السحرى الذى يتجاوز به الفرد أى مأزق اجتماعى، أو فنى، ليعلن عن خصوصيته، فعلى أى شىء بالضبط أتمرد؟ لم يعد هناك إلا الفهم والتفهم والصبر على ما يدور حولك وداخلك. صارت هناك عدة نقاط أو أقطاب تأثرت بهم هذه الذات الشعرية التى أحملها. هذا التعدد فى أقطاب الصراع والحيرة كان يستلزم شكلا أدبيا يتفق معه، شكلا له أقطاب ومحاور وأطراف وجسم سردي، ربما الحكي والحكاية كان هذا الشكل. وربما السيرة الشخصية كانت المرجع الذى يختزن بداخله حكاية حدثت بالفعل وتحتاج أن تظهر. الشكل الحكائى كان الأقرب لتجميع تلك الخيوط المتناثرة وهذا التعقيد الذى كانت تموج به نفسى.

ربما حقق لى الشعر بعض الانتشار النسبى، ولكن الأهم من هذا منحنى الشعر مكانا جديدا للنظر للحياة. لا توجد تقنية أخرى أو نظام آخر للمعرفة الحدسية، حدث بينى وبينه حوار طوال هذه السنوات، سوى هذا البناء الذى يسمى الشعر وأعماقه الداخلية المختزنة به، من أساليب وشعراء وتجارب، ولحظات جنون، وأخلاق، وتمرد، واستسلام، وصوفية، وتفلسف، وغيرها من مكونات أى حياة عريضة.

أغراني الشعر بالبحث عن "حقيقتى" الشخصية. حتى ولو كان هذا المسعى خاطئا، فقد أمضيت جزءا كبيرا من حياتى، وهناك بناء آخر يشغل وجودى. إنه إحدى طرق المعرفة القديمة.

بدأت كتابة الشعر وفى نيتى أن أقول "الحقيقة"، وأن يستوعب هذا البناء الحساس كل ما أفكر به. كانت علاقتى بالشعر مشوبة بهذا المس من الاعتراف. حاولت أن يكون الشعر هو الوسيط الذى يطابق بين داخلى والخارج، على الرغم من طول المسافة بينهما. جرنى قول الحقيقة أن أبحث فى الماضى، فى تلك الأزمنة التى نختزنها فى ذاكرتنا، دون الالتفات لمسافة أخرى بدأت تتضح مع لحظتى الراهنة، كأن الشعر له زمن خاص به. مع الوقت بدأ فهمى للحقيقة يتغير، وبدأت علاقتى تتغير بهذا "الآخر" الذى كنت أعترف أمامه وأكشف له كل علامات ضعفى، وعيوب نفسى. وكما تغير فهمى وإحساسى بالحقيقة، بدأ يتغير شكل وحساسية هذا الآخر الملازم لأى نشيد أو وحدة أو فرح. لم يعد الاعتراف هاماً، فهذا البناء الحساس المسمى الشعر يستوعب ما هو أكبر من الحقيقة، وما هو أكثر من الاعتراف، وما هو أكثر من الموسيقى. ربما فى اللحظة التى نسيت فيها هذا الآخر، بدأت الكتابة تتجاوز مأزق "الحقيقة" والاعتراف والتطهر. أو أن هذا الآخر بدأ يظهر بشكل أكثر خفاءً وحناناً، بدون أن يشعرنى بثقل وجوده أو سلطته.

أي تفاعل محمل برغبة البقاء أو الموت، أو الانتساب لأشياء الحياة الباقية، لهى لحظة شعرية. وأى مأزق للوعى مع الذاكرة، أو مع الحاضر، سيحمل داخله قدرأ كافيا من الشعرية. هذه هى قناعاتى الآن. كذلك أن ينسى الجسم هويته، لأنها مؤكدة، ويبحث كيف تتحول هذه الهوية إلى علاقة بآخرين. فليس هناك معنى لعلامات الهوية ورموزها مهما كانت ثمينة، بدون أن تقوم بمخاطرة الرحلة نحو الآخرين.

***

سعيا إلى المتعة وفرارا من الألم

عماد غزالي

(1)

كلما حاولت الالتفات إلى الخلف، وتأمل ما مضى، أجد القلق يكاد يكون العنصر الحاكم في تشكيل تجربتي الشعرية. تلك التجربة التي كانت طوال الوقت تبحث عن مرتكزات لها، لكنها لم تكن تطمئن إلى أيّ من هذه المرتكزات وقتا طويلا. الشيء الوحيد الذي – ربما – لم يتغير هو سعيي إلى المتعة وفراري من الألم، كأي إنسان على وجه الأرض.

كنت ولم أزل قارئا هاويا، أطارد لحظات الجمال والنشوة عبر ما أقرأ، وكنت ولم أزل شاعرا هاويا أحاول اعتصار الألم أو تفتيته، أجتهد لأحفظ لذاتي شيئا من اتزانها باقتناص لحظة الكتابة المراوغة. فإذا تحقق القنص، تبدّل العالم في عينيّ سويعاتٍ قليلة، وأصبحت الأشياء ومفردات الطبيعة أعمق ألوانا وأغزر وجودا، ولمست من نفسي حدبا وارفا على الآخرين.

أما القلق، فدائما ما تعلق بالطريقة التي أفكر بها وأُعمل خيالي، وفي رؤيتي للكتابة الإبداعية ذاتها، وفي القدرة على رصد المتحقق قياسا على ما كنتُ أظنه قائما في نفسي قبل الكتابة. مثل ذلك الرصد هيمن على ذاتي زمنا ليس بالقليل.

في البداية، لم أفطن مطلقا إلى وقوعي في شرك. كنت أبحث في القصيدة عما كنت أفكر فيه قبلها، وعن الهواجس والدفقات الشعورية الحارة، وعما كنت أريد قوله للحبيبة مثلا. كان يصيبني الإحباط الشديد عندما أجد أنني لم أقل أشياء كثيرة كنت أريدها، وأن أشياء مختلفة جرى بها قلمي لحظة الكتابة. كانت فكرة البوح والإفضاء هي المهيمنة على عقلي في تلك المرحلة المبكرة (المرحلة الثانوية والشطر الأول من المرحلة الجامعية).

تنقلت بين أشكال من الكتابة والتعبير (الرسم، القصة القصيرة، الشعر)، وخضت مطالعات نهمة توزعت بين الرواية والشعر والتاريخ والكتابات الفكرية والدينية، حتى وصلت إلى شعر "ناجي" (والشعر الرومانسي بوجه عام)، وبدأ الشعر يوجّهني إلى الحياة – وهذه علاقة معكوسة بالطبع – فأخذت أبحث عن حبيبة (صنعتُ بيدي – كما فعل بجماليون – حبيباتٍ كثيرات من خلق توهُّماتي. لكن الحقيقة – حين تنفخ الروحَ في إحداهنّ – كانت تصعقني بالمفارقة. ضلت عيناي بحثا عن أثرٍ للوهم في الجسد الحيّ، فعجزتُ عن رؤية المحبة الحقة، حين جاءتني من بعيدٍ ذات يوم، لكنها عبرتني دون أن تشعر بها عيناي الزائغتان).

بحثتُ أيضا عن سرّ ذلك النغم السحري المنبعث من القصيدة الكلاسيكية – كنت لا أعرف غيرها في ذلك الوقت – فدرست عروض الشعر العربي من مصدر تيسر لي بعد جهد، وأخذت أزهو بذلك أيّ زهو.

في كلية الهندسة، جامعة عين شمس، أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، تفتحت مداركي على حياة جديدة وبشر كثيرين وكتابات متنوعة وأشكال شعرية أخرى، حدّت كثيرا من زهوي الشخصي بما أمتلكه من مهارة. صدمني أن أجد بين زملائي شعراء يكتبون شعرا حقيقيا وموقّعا دون أن يدرسوا عروضا أو يوجعوا أدمغتهم بما أعيه من مصطلحات ذلك العلم المعقد، والذي واجهته بكل ما أملك من تفوق في الرياضيات لأتمكن من استيعابه.

بدأت تطرق أذني أسماء كثيرة لشعراء لا أعرف عنهم شيئا، وبدأ الحراك السياسي في محيط الجامعة يؤثر على وعيي، خاصة ذلك الصراع المحتدم بين تيارات اليسار المختلفة والتيار الديني الأصولي، ذلك الصراع الذي كانت ذروته مقتل الرئيس السادات مع بدء العام الدراسي الثاني لي في كليتي.

لم تكن لي بطولة تُذكر، وأنا أعاصر تلك الأحداث، كنت مراقبا ومتفرجا فحسب. فالصراعات التي احتدمت بداخلي كانت تكفيني وتزيد: انتقالي من الحي الشعبي الفوضوي في حدائق القبة إلى أفنان الكلية وأفنيتها وقاعاتها الواسعة، اصطدامي بالأنثى واقترابي منها زميلة وصديقة وربما حبيبة، مع عدم قدرتي على التعامل معها ككيان من دم ولحم، تمزقي الداخلي المتصاعد بين مكنون ذاتي وتوجهها الأدبي المتنامي وطبيعة والتزامات الدراسة العلمية والهندسية الثقيلة، الاشتباك الحاد مع خجلي وتلعثمي الطفوليين، ازدياد اضطرام الخيالات والمشاعر المكبوتة جراء مواجهة عالمي الجديد المجهول، وأخيرا الحيوية الجمة التي يضج بها ذلك العالم متمثلة في العقول النابضة حولي بثقافات ومشارب متعددة ومتداخلة.

لم يكن لصلابتي أن تستمر طويلا. وقبل العام الجامعي الأخير كانت قد جرّحتني التجارب العاطفية المثالية، وكنت قد نهلت الكثير من الثقافة الأدبية والشعرية، وأصبحت ملما إلى حد ما بالتجربة الشعرية المعاصرة وصولا إلى جيل السبعينيات، الذي كان يحاول فرض حضوره في ذلك الوقت، بعد أن اقتصرت بداياته الأولى على تجارب الماستر المحدودة.

(2)

مع العام الجامعي الأخير، بدأت أشعر بأن تجربتي الشعرية – التي صارت تفعيلية – قد دخلت طور التشكيل. وأخذ مفهوم البوح يتلاشى تدريجيا من أعماقي. وفي نهايات العام ذاته (1985) ظهرت قصائدي الأولى المنشورة في "القاهرة" ثم "إبداع" و"الشعر"، وقُدّم بعضها عبر أثير البرنامج الثاني بالإذاعة.

لكن هذا التشكيل لم يكن حرا تماما، فقد كنت أمر بمرحلة التمثل لكل التجارب الشعرية السابقة قريبة العهد: عبد الصبور وأمل دنقل وحجازي ونزار والسياب ومطر وفاروق شوشة وأبو سنة وفتحي سعيد – الذي عرفته عن قرب وساعدني كثيرا على تخطي رهبة البداية – ثم محمود درويش الذي طالت وقفتي مع شعره. كان طبيعيا أن تتردد أصوات هؤلاء الشعراء في قصائد "أغنية أولى"، الذي قدمته إلى هيئة الكتاب عام 1986 ونشر أوائل 1990، وأن يؤثر فيّ صوت درويش ويمتد إلى أبعد من ذلك بخطوة.

ثم حدث أن التفتُّ إلى التجارب السبعينية – خاصة عبر مجلة إبداع – واقتربت من "محمود نسيم"، أحد شعراء ذلك الجيل، وكان يتميز بروح متوثبة وشخصية دمثة. لم ألبث قليلا، حتى شعرت بحاجز حقيقي بين ذاتي وهذه العوالم اللغوية المعقدة، كما لم ترحني الصيحات الساخطة والتنابذ الشديد ورفض الإقرار بحق الأسلاف من الشعراء في الحد الأدنى من التوقير أو العرفان. كانوا في ذلك الوقت عاجزين عن ممارسة فن الاختلاف. كما أن الذهنية الواضحة التي طغت على التجربة، والتعمد الفاضح في اختراق ما سُمِّي بالتابوهات، ذلك الطريق السهل للفت الأنظار والإعلان المراهق عن الذات، كل ذلك نفرني تدريجيا من شعرية السبعينيات، وإن لم يحل ذلك دون انجذابي للمواهب الحقيقية بينهم، ومحاولتي كشف وامتصاص العناصر الإيجابية في تلك التجربة. وربما أرى الآن أن إيماني بمبدأ بسيط وأوّلي، وهو ضرورة أن يحقق ما ننتجه من شعر التواصل والتأثير، هو الذي حدّ كثيرا من انجرافي إلى تلك الموجة، التي رأيتُ فيها عزلة للشعر وإلغاء لدوره، كما وجدت فيها ميلا شديدا إلى التجريد وتحويل النص إلى أبنية لغوية مغلقة تعتمد على الألاعيب الذهنية والمعجمية، وهروبا من الحياة وخصوبتها وتحولاتها.

لم ينقذني الوعي بمبدأ التشكيل من المساءلة والقياس، وإن انتقلت بهما إلى مستوى أعلى. أصبحت القصيدة بالنسبة لي - منذ أوائل التسعينيات – عملا صعبا أتأهب له طويلا، فأمسك بالومضات وطرَقات الشعور وانهمارات الصور فترات طويلة قبل أن أسمح لها أو تسمح لي بالتدفق. أصبحتُ أحاول أن تقدم القصيدة عالما متشابكا له علاقاته الخاصة، من غير أن تنفصل تماما عن العالم الحقيقي. كأنني كنت أعقد مصالحة عميقة بين ما أنجزته قصيدة الريادة (في الخمسينيات والستينيات) وبعض ما رأيته إيجابيا في التجربة السبعينية. لم تعد الأرض التي أتحرك عليها مفارقة لمخاضات الحياة وتعقيداتها الصعبة (مثلما كانت في عزلة أسوار الجامعة وما تلاها بقليل). غدوت أخوض معاركي كإنسان مع الواقع لأحفر لنفسي موضع قدم صغير فيه، فيما كانت كل المواضعات – مصريا وعربيا- تتبدل وتتحول مع غزو العراق للكويت ومشاركة القوات المصرية لقوات التحالف الأورو- أمريكي. سقطت القومية العربية وتم قبرها، وأصبح الاتحاد السوفييتي شيئا من الماضي وتفتت إلى دويلات، وانهار سور برلين. سارت أوروبا في طريق التوحد، وسرنا كبلدان عربية باتجاه التشرذم. وشيئا فشيئا أخذ عالم جديد يتشكل، عالم القطب الواحد والشركات العابرة للجنسيات، عالم الصورة والكمبيوتر والإنترنت والهواتف المحمولة، العالم التخيلي الافتراضي، واستعصى العالم الحقيقي على الفهم والتصور. سقط إنسان هذه الأرض – الذي لا يشارك في صنع ذلك العالم الجديد على أي نحو – في وهدة عميقة من الحيرة والشك وفقدان اليقين.

(3)

كانت التسعينيات فترة قلقة وخصبة أيضا من حياتي وتجربتي. قدمت في بدايتها ديوانين هما: أغنية أولى 1990، ومكتوب على باب القصيدة 1991. ثم بدأت أترجم الشعر عن الإنجليزية، مهتما أكثر بالشعر الأيرلندي والأمريكي، ومركزا على الأسماء المجهولة والتي تكاد تكون مجايلة لي. كانت هذه الخطوة مهمة وكاشفة في ذات الوقت، وضعت يدي للمرة الأولى على حقيقة أن الشعر يكمن في البنية والصورة وروح السرد وزاوية النظر وبراعة الرصد والالتقاط، وأن ذلك كله يخلق إيقاعا للنص أعمق بكثير من ذلك الإيقاع الخارجي المعياري والذي يتمثل في التفعيلة. كنت أترجم القصائد نثرا لقناعتي أن عملية النظم لو تمت على الترجمة فستصبح اجتراء شديدا، بل جريمة في حق النص المترجم. فالنظم يستلزم التقديم والتأخير والتعريف والتنكير والإضافة واختيار المرادفات المتسقة معه دون التزام بالمفردة الأصلية. وضعتني تلك التجربة في قلب شعرية النثر، ووجدت نفسي أكتب نصوصا نثرية للمرة الأولى.

ولا يمكنني أن أغفل الأثر العميق لعلاقتي بصديقين: القاص والمترجم "سيد عبد الخالق" ، الذي ترك برحيله ندبة يانعة تستعصي على الذبول. كان سيد محبا وراويا للشعر، يردد دائما مأثورات شعرية ينتقيها بنفسه لشعراء كبار أو من إبداع أصدقائه، كما كان مولعا بالإنجليزية. فقادني إلى الترجمة، ثم إلى الالتفات لجماليات الشعر العميقة دون تركيز حاد على الإيقاع. ثم "عاطف عبد العزيز" الذي انطلق بعد ديوانه التفعيلي الأول إلى فضاء قصيدة النثر دون تردد. فكانت حواراتنا المستمرة مجازا لي إلى مفاهيم جمالية جديدة.

لكن علاقتي العميقة بالتراث الشعري وارتباطي باللغة الشعرية السامقة في مراحلي الأولى، كل هذا مثّل عائقا حقيقيا لي وأبطأ من خطواتي باتجاه قصيدة النثر. ظلت بداخلي أوهام عدة مرتبطة بمحاولة تحقيق معادلة صعبة وهي اقتناص جماليات النثر وتخصيب أشكال شعرية أخرى بها، كما نجح في ذلك سعدي يوسف ومحمود درويش في دواوينه الأخيرة. ظللت منذ عام 1993 وحتى أعوام ثلاثة مضت أزاوج بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة، وكان ديواني الثالث "فضاءات أخرى للطائر الضليل" الصادر في 1999 حاملا لتلك الازدواجية على مستوى الشكل. لكنني أرى أنه يمثل البداية الحقيقية لطرح صوتي الخاص منفلتا من الاشتباك مع أي أصوات شعرية أخرى. وهو كما يطرح هذه الخصوصية يقدم أيضا الملامح الأساسية لتجربتي مثل تعدد الروافد المكونة للصوت والتقاطع مع التراث الشعري البعيد والقريب، وافتراع لغة شعرية تسعى إلى التجدد وملامسة الأشياء بدينامية لا تفقدها أصالتها أو تسقطها في أيّ حس تغريبي.

(4)

قادتني تحولات اللغة الشعرية، واكتسابي التدريجي للحساسية الجمالية الخاصة بقصيدة النثر إلى تأملات خاصة في مفهوم المجاز الشعري، وكيف يمكن تخليصه من التجريدية والذهنية البغيضة. عاونتني القراءات الفلسفية حينما طالعت عرضا شائقا لفلسفة "ديفيد هيوم" للمفكر الراحل "زكي نجيب محمود". كان هيوم يفرق بين المدرك الحسي وصورته في الذهن، فيسمي المدرك الحسي: الانطباع، أما صورته في الذهن فيسميها: الفكرة. ويقسم بذلك الإدراكات العقلية إلى "الانطباعات الحسية والشعورية" وهي الأكثر وضوحا والأقوى أثرا لأنها ناتجة عن التجارب والخبرات المباشرة، ثم "الأفكار" وهي الأقل وضوحا والأضعف أثرا لأننا نستعيدها على مسافة من الانطباعات القوية. أما الأفكار التي لا تستند إلى أي انطباعات ناجمة عن التجارب والخبرات الحسية والشعورية فهي ليست أفكارا على الإطلاق ولا يُعتد بها.

تأملت كثيرا في هذه الفكرة الفلسفية الناصعة التي مثلت الجذر العميق للوضعية المنطقية التي اجتاحت التفكير الفلسفي، فوجدت فيها وجها جماليا جاذبا، وبدأت أدرك لماذا أصبحت أنفر من تلك النصوص التي تراكم المجازات بآلية شديدة، ولا يراعي كاتبوها وجود خيط شفيف من الانطباعات أو الأفكار التي يمكن ردها إلى الخبرات النابضة الحقيقية وإلى الحواس واللحم والدم. وهذا اللون من الكتابة الشعرية هو الناتج من التقليب في النصوص والمعاجم واللهاث وراء التوليد البلاغي البارد وتدويره، وتقديم مهارة ذهنية لا يمكنها أن تنفخ روحا في أي كتلة كلامية.

من تلك النقطة، بدأ يتسلل إلى نفسي الوعي بالجوهر العميق لجماليات القصيدة الجديدة. كل مجاز لا أجد بين طرفيه تلك العلاقة التي تربط بين الخبرة الحسية أو الشعورية المباشرة والمغزى الجمالي أو الشعري أو الرؤيوي أصبحتُ أعتبره استهلاكا وإعداما للكلام، وتفريغا للنص من كل شعرية محتملة.

(5)

في ديواني الرابع "ظل ليس لك" – صدر في 2004- رهانٌ على كسر الرتابة التي وصلت إليها قصيدة التفعيلة، وانعكاسٌ ما لتأملاتي السابقة في مفهوم المجاز الشعري. هناك أيضا تجربة في تفتيت الوحدة التفعيلية والاستفادة من تداخل الدوائر العروضية في الانتقال الحر الذي يستهدف الحس النثري الخافت دون الخروج على العروض كلية. في ذلك الديوان أيضا نص طويل ذو طابع درامي: "حارس البستان"، يقدم محاولة لتجاوز مأزق الشكل بالمزج بين النثري والتفعيلي والمراوحة بين الإيقاعات العروضية داخل الأجزاء النصية الموقعة.

كتبتُ "ظل ليس لك" بالتوازي مع قصائد النثر التي شكلت ديوان "صيد فاسد" – صدر هذا العام، 2009، ذلك التزامن يكشف عن الأزمة العميقة التي كنت أعيشها، والتي ساعدتني على التأكد من أن الشكل يحمل معه قيما جمالية وبلاغية غير منفصلة عنه. فعلى الرغم من تقارب العالم الشعوري في الديوانين فإن الشكل الشعري فصل بينهما تماما، وأحدث ما يمكن تسميته باختلاف الرؤية. فديوان "صيد فاسد" يقدم بلغته وتشكيله وأبنيته شعريةً تنتمي إلى اللحظة الراهنة، دون أن يفقد قدرته على الإيحاء بالجذور والمكونات الخاصة لكاتبه.

(6)

كان عليّ - دون أن أدري لماذا - أن أُخرج كلّ الطاقات الغنائية الكامنة بداخلي دفعة واحدة، لأتخلص منها ربما للأبد. كان ذلك مع بدايات 2004. انتابتني حالة من الاعتقاد أن كثيرا من النماذج النثرية التي يقدمها بعض الشعراء ينضح بالركاكة، وبفقر اللغة، بالإضافة إلى العجز عن تقديم حالة شعرية مقنعة. كما أخذت أعتقد أن الإطار الكلاسيكي – العمودي – لم يفصح عن كل مكنوناته، وأنه بتعامل جمالي وفني مختلف قد يكون بمقدوره النطق بلغة وصورة وأبنية جديدة. هكذا كُتِبت قصائد "لا تجرح الأبيض" التي تمثل اشتباكا مع المخزون التراثي الضخم القابع بداخلي ومحاولةً لتفجيره عبر مجموعة من القصائد التي تتناص مع قصائد معروفة في الشعر العربي قديما وحديثا، مع إحداث الانحراف الفني الذي يقود السياق إلى أفق آني متحرك. كما حاولت استكشاف مواقع الهمس والنثرية داخل هذه البنية الصلبة بعد تفكيكها، معتمدا على البحور المركبة والمهجورة.

حين عدتُ إلى القصيدة العمودية إذن، كنت أحاول تفكيكها من الداخل، لذا فإنني أرى أنها مغامرة جمالية مشروعة وليست ارتدادا لنموذج كلاسيكي، هي محاولة اكتشاف وتوظيف فني وتسريب لشفرة شعر الحداثة إلى الإطار الكلاسيكي، وهي حالة خاصة جدا، خرجت منها مباشرة إلى استكمال مشروعي الذي تركّز – منذ أواخر 2006 وإلى الآن - في قصيدة النثر.

(7)

في 2008 صدر لي ديوان: "المكان بخفة"، وهو يمثل – بالإضافة إلى "صيد فاسد" – المرحلة الفنية الأخيرة والمتصلة إلى الآن. وهذه المرحلة تجسّد تخلصي الكامل من مشكلة الشكل الشعري. هناك أدوات تشكيلية وبلاغية جديدة تولد مع هذه القصائد النثرية، وموسيقى وإيقاعات فياضة تحتاج إلى الإنصات فحسب، وإلى التخلّص من الوهم العروضي الذي يعتبره البعض من المسلمات.

قصيدتي في هذه المرحلة تشكيلٌ في المقام الأول ومحاولة للقبض على اللحظات الهاربة ومواجهة فنية لقبح الواقع استنادا إلى كلّ ما هو شخصي ووثيق الصلة بالذات دون الاتكاء على أي يقين زائف. أصبحتُ أرى أن قصيدة النثر التي تستحق هذا المسمَّى غنية موسيقيا، لأنها تستثمر كل الإيقاعات الخليلية المعروفة بعد تفكيكها وإعادة تركيبها، لتنتج ما لا نهاية له من الاحتمالات الموسيقية، وهي تثري بذلك الإيقاع الخليلي ولا تعصف به. لكن ذلك كله لا يحول بيني وتذوق الجمال الشعري وعمق التجربة في أي شكل آخر، فقد راكمت عبر رحلتي خبرة جمالية، تجعلني أبحث باستمرار عن شعرية النص لا عن شكله.

(8)

أنا واحد من ذلك الجيل الذي يطلقون عليه "جيل الثمانينيات" ، وسواء أكانت تلك التسمية دقيقة أم لا، فإنه يمكنني القول إن هذا الجيل استطاع التواصل مع النماذج البارزة للشعرية العربية الجديدة منذ جيل الريادة مرورا بالأجيال التالية، وحاول تجاوز المأزق الذي وصلت إليه القصيدة في مصر على أيدي شعراء السبعينيات، وحالة التوتر التي سببوها بطبيعتهم الهجومية الحادة، بالإضافة إلى النموذج الشعري المغلق الذي قدموه، فتسبب مع عوامل اجتماعية وثقافية وسياسية أخرى في عزلة تامة للشعر وانفصال حاد بينه وبين المتلقي.

جاء جيل الثمانينيات وطالع هذا المشهد فسعى إلى تجاوزه عبر منجز إبداعي بدأ بإحداث عملية التواصل التي أشرت إليها، إذ نجد القصيدة الثمانينية تطويرا حقيقيا للمنجز الشعري في الخمسينيات والستينيات وليست رفضا باترا له، كما أنها استفادت من الجوانب التي رأت أنها إيجابية في التجربة السبعينية، فالشاعر الثمانيني – على الأغلب - متواصل مع آبائه والأجيال السابقة عليه.

ويعود لعدد من الأصوات المهمة في هذا الجيل التطوير الجذري الذي حدث بالاتجاه إلى قصيدة النثر التي تكاد تتسيد المشهد الآن. لم يكن ذلك التحول شكليا، بل كان مصحوبا بتغييرات شاملة في بنية القصيدة وتشكيلها وجمالياتها، ابتعادا بها عن الإنشاد والبلاغة المألوفة والتحليق الصوفي والمجاز اللغوي الآلي، وصولا إلى بلاغة جديدة تقدم الشاعر الفرد والإنسان البسيط بتفاصيل عالمه وتجاربه الخاصة عبر لغة سردية وصور بصرية تتميز بدقة تكوين المشهد. أصبحت الصورة جزءا من عالم متكامل تقدمه القصيدة لتومئ إلى مرماها بما يقارب مفهوم الكنائية، لذا أسميها الصورة الكنائية. كما تقدّم على يد هؤلاء الشعراء لونٌ من السرد الشعري الذي استفاد كثيرا من تقنيات السينما والرواية الحديثة والفن التشكيلي في بعض النماذج ووصل إلى درجة كبيرة من النضج الآن.

(9)

إنّ تركيز جيلنا على تحقيق جدارته واختلافه عبر إنجاح تجربة قصيدة النثر وتأكيد اقترابها يوما فآخر من ذائقة شريحة من المتلقين آخذة في الاتساع، لا يجب أن يُنسينا أن انتصارنا للجمال وللقيمة الإبداعية مُقدَّم على الانتصار للشكل، وأن انحيازنا يجب أن يكون دائما باتجاه الجمال والقيمة.

وإذا كنا نؤمن بأن حساسية النثر هي القادرة على التعبير عن روح اللحظة الراهنة فلا يجب أن يفوتنا أن الواقع سريع التغير، وأن القصيدة تموت في اللحظة التي تعجز فيها عن الاستجابة لإيقاع تحولات هذا الواقع، فتنتهي إلى عمود جديد له وصفة محددة وقوالب سابقة التجهيز، وهو في تصوري خطر كبير ينبغي التنبه له.

أما النقاد، فلم يمنحوا أنفسهم وقتا ليتأملوا الفوارق الظاهرة بين أنماط قصيدة النثر المصرية المطروحة الآن، وأيضا الفوارق بين قصيدة النثر المصرية ونظيرتها العربية. كما لم يركز أحد على بنية هذه النصوص وما يستحق منها مسمَّى القصيدة وما لا يزيد منها على كونه خاطرة أو كتابة مفتوحة.

ما أريد أن أطرحه هنا هو مفهوم خبرة الكتابة، واكتناز ذات الشاعر بجماليات متعددة الطبقات، وتمثّله لروح وجوهر التراث العربي عبر نماذجه الشعرية العليا. ليس من المعقول أن تطغى على التجربة نماذج مغتربة في روحها وفي خيالها وفي لسانها، وليس من المتصوَّر ألا يمتلك الشاعر أداته الأساسية هنا وهي اللغة، فهو بذلك يصبح غير واعٍ بما يقول ولا يعنيه ولا يسيطر على تشكيل قصيدته سواء بوعيه أو حتى بلا وعيه الإبداعي.

إن السهولة الخادعة لهذا الشكل تغري بالجرأة على الكتابة دون مراجعة ودون تأمل، وتجعل بعضا من الشعراء الجدد يتعجّل ويراكم الإصدارات، فللنجاح الآن معادلات جديدة مرتبطة بالقدرة على استثمار أساليب الترويج والانتشار والإلحاح الدعائي التي تمر بأطوار جديدة تماما. أما العكوف على التجربة والتأني واحترام المتلقي، فهذه كلها أمور تبدو غائبة في كثير من الأحيان. لكننا في النهاية سنصبح مهددين جميعا كشعراء بفقدان ثقة الجمهور المتعاطف مع التجربة، وهو نخبوي بطبيعته، ولن يستمر في الإقبال على مُنتج أدبي يتسم بالارتجال والإهمال لأبسط مفاهيم الأدبية.

هناك حراك ما في الساحة الإبداعية وأسماء جديدة تبزغ كل يوم وأسماء أخرى تقدم شيئا وتختفي. لكن الفاعلية الآن سمة غالبة يجب أن نستثمرها لصالح صنع صورة جديدة للإبداع في مصر، في كل الأشكال الإبداعية وفي مقدمتها الإبداع الشعري .

***

أن ألعب مع العـالم..

أن أراوغ خفّة الشظية..

مؤمن سمير

هل هناك يقين بالكتابة أو يقين للكتابة أو فيها أو معها، تلك المغوية المكتنزة بالأضرار والغموض والبهجات؟
أكتب بيقين أنني أقارب ذاتي، أحاورها، أحبها وأكرهها.. ثم سرعان ما ينزاح الشاعر الإنسان لحساب الشاعر الشاعر، الأكثر تعقيداً والذي يتعامل مع العالم ومفرداته بنفعية، الأكثر بساطة أيضاً.. فأحذف وأضيف وأمزق وأتحول إلى مجرد شاهد على المسافة العجيبة، الملتبسة، بيني وبين ذاك المشنوق على الورق.. كنتُ قديماً أظن أنني أكتب لأتطهر، لتنضبط الشذرات التي تسبح داخلي بنزق وبلا شاطئ، وهكذا أستمتع بلذة اكتشاف أمور لم أكن أظنها موجودة أو على هذه الشاكلة بالذات، لكنها بانت وانكشفت عند طلوعها ككتابة ، وكأن القلم إزميل يزيح الأحجار عن التمثال المخبوء.. كان هذا قديماً، ثم جاء وقت كنتُ أكتب ويقين الإرادة والتغيير هو الذي يحمل الأجنحة إلى ذراعي والرصاص إلى قلبي.. لم تطل هذه الفترات، للأسف أو للحظ السعيد، لا أدري.. شُفيت من نور الكتابة، من قوة دورها في إحياء القيم والضبط الروحي أسرع من اللازم، مات الشاعر النبي وبقي الشاك، القلق، الوحيد، العاري من أي يقين، ذلك الذي يقترح من وراء ستار سميك ولا يجزم أبداً، مات الرائي المتأنق وعاش العادي الجميل والأعمى .. بعد سنوات حياة ، قليلة جداً ، بسبب من طبيعتي الحذرة الخائفة والجبانة إزاء أي يقين أو بسبب أن (ضربة الشعر) حفرت أكثر مما يجب، في أعماق مؤهلة للارتعاش والتساؤلات وخلع الجلد.. وُلدت في الصحراء، في إحدى الدول النفطية ، في مدينة نسيتها الخريطة ولم يكن بها مصريون سوانا، حيث كانت مفردات الرمل والأحجار والجبل والحية والعقرب والصمت والعاصفة، والآلية التي بلا روح أو ملامح أو مداخل، هي الفضاء الذي تتحرك فيه الدراما، كان هذا هو المسرح الخارجي، أما في الداخل، فكانت الحيرة تضطرم وأشباح الوحدة تعبث بفتحات الجسد وإرادة التنفس .. كان الاقتراح والحل هو القراءة، حيث لم يرتسم في الأفق أي سهم للتواصل مع آخرين، فعوضت ذلك بالتماهي مع الأرواح والعيون الخارجة من الرسوم والقصص، ثم تسربت الكتابة تحت خدعـة من خداعات الوعي، هي إعادة تشكيل ما يُقرأ لأنه بالضرورة غير دقيق أو ناقص، فعندما يموت البطل الأسطوري تكونُ الحياة أكثر قسوة، لذلك لابد من اختراع بطل آخر وبسرعة ليلبس وجهه ثم يشرب قوته قبل أن تذبل ويسرقها الشيطان ثم ينقذ أميرات جدداً وأجمل كثيراً.. بدأت الأمر بتهويمات ورسومات كلها وحوش وأمثولات وحودايت ثم اهتديت للشعر.. فقط لأنه مثَّل لي قيمة غامضة تستحق البحث وراءها أو فيها، قيمة تجمع بين الخيال الذي لا أملك غيره، والموسيقى الواضحة أو المتوارية، والتي مازلت أظنها تطلع من كائن مسحور يبتسم، وينتظرنا ليقتلنا خلف الجبل الكبير.. عدنا إلى مص، بعد أن امتلأ فمي وصدري للأبد، بطعم الحصى ومذاق الصحراء، إلى مدينة صغيرة أخرى، يسبح فيها وجه الآلية الضد، معكوس كل ما كان.. صخب وضحكات عالية وشتائم تملأ السماء وتنم عن أرواح متوثبة تكره الخمول، حياة مليئة (بالحياة) وبالفلسفة الحية وبالتحايل على أظافر الشقاء المختبئة في كل الشقوق، والفتى يفزع من الدينامية ويلجأ إلى غرفته البعيدة هارباً من الضجيج والصداقة والبساطة والمحبة..

واحدٌ في زحامه ، متوحدٌ بوحدته ، ملفوفٌ .. بهْ
حتى كان صباح، تسلل فيه شيطانان إلى الشرنقة ، متكئان على ذراعيْ بعضهما ليرسمان ابتسامات جذابة لكنها ماكرة: الجنس والشعر.. بلغتُ مبكراً (ويبدو أن قدري أن أحرق المراحل دائماً ) وركضت وراء الشعر، لأتعذب بالاثنين كثيراً، ولم يكن أمامي إلا لعبتي الأثيرة: الخيال ، فامتلأت الغرفة بكل نساء وفتيات الدنيا وعند السقف يجلس أحمد بك شوقي، الحكيم الفخم، ليأخذ ما يروقه ويترك الباقيات جواري على الوسادة وقرب الأحلام.. كتبت قصائد عمودية كثيرة وكنتُ أتمنى أن أقلد "الشوقيات" كله ودخل حافظ والبارودي ليزوروني كل صباح، وكل العظام أصحاب المقامات الرفيعة في دولة الشعر، لكن يبقى جبران هو الآسر وصاحب الشمس الأبعد، ثم اصطدمت بصلاح عبد الصبور وحجازي والسيّاب ، وكل المارقين الذين تجرأت أخيراً وسألت عنهم مدرس اللغة العربية، فنظر إلىّ بكل الإشفاق الممكن وحذرتني نظراته وحركات يديه قبل لسانه:
إنت ابن راجل فاضل بيؤمنا في الصلاة فحافظ على القرآن يا حاج مؤمن..

والقرآن ماله ومال الشعر الحر يا أستاذ؟
يا ابني أنت لسه صغيّر كل دي محاولات بتهدم مقدساتنا شوية شوية لغاية ما تلعب في لغة الجنة، لغة القرآن..

بس أنا باصلّي وبحب الشعر..

خلاص بدام شيطان الشعر ركبك يبقى التزم عشان تغلبه وابعد عن حركات الشيعة والشيوعيين ديه..

بس دول غير بعض يا أستاذ!
الاتنين كفرة ولاد كلب!!

وازدادت الحيرة ودخلت الأسئلة الوجودية واستعمرت ومنعت الطعام والشراب، لتكتمل دوائر السماوات الممطرة شكوكاً رغم حنو الأرواح العظيمة: بوذا والمسيح.. وغيرهما.. وتلازم هذا مع صدمة السبعينين الكبرى، الذين خرقوا كل ما بقى لي من مقدسات ومثلوا النتوء الضخم في المسيرة الأولى للشعر معي، بألعابهم ونزقهم الإبداعي وانفلاتهم.. وسيبقى لهم جميل في عنقي هو أنهم دلوني على الأدب الصوفي الإشراقي العرفاني، وأصبحت بفضلهم مسكوناً بابن عربي والنفري والحلاج وحتى الغنوصيين.. وقتها توقفت عن الكتابة، لأن مرحلة تقليد القصائد بشحمها ولحمها، أفرزت ناقداًَ داخلياً موتوراً، عصبياً وعيونه ملتهبة، إذا اشتم أي رائحة لشاعر أو أحس بوقع أنفاس أي صوت آخر، يأمر فوراً بتمزيق الصفحات والحرمان من النوم.. لكن المفارقة أنني أتممت ديوانين كاملين، في العودات المتفرقة الكثيرة والقلقة، مليئين بالرغبة المحمومة في عدم تقليد الإغواء السبعيني، فإذا بالنتيجة تكون الوقوع في نفس المنطق الكتابي ونفس الروح التي تريد أن تهدم ولا تنشغل كثيراً بوضع اقتراح بديل لما هدم.. أو حتى المحاولة .. من أجل هذا كان الجزاء أكبر: أن يصيرا سبباً في الصداقة مع بائع الفلافل الذي في الجوار، وكلما كانا يشربان الزيت الساخن، كلما كان هناك فتى يراقب ويبتسم ابتسامات متشفية! وصلت للمرحلة الجامعية وصالحت نفسي بقصائد كنت أحكم عليها بأنها لقيطة، لا تنتمي لما أظنه سائداً على الساحة الشعرية ، فلم تتوسل بلغة فخمة متعالية ولا بإيقاع راقص يدغدغ الحواس، ولا تحيا في جب الألعاب الشكلية، ولا للتثاقف المجاني.. وكان شاهدي على ما أكتب من قصائد بسيطة، تحاور مفردات وقيماً أكثر اتساعاً، عبر اللغة وليس (في اللغة)، صديق كان ينتمي لنفس الحيرة والبحث عن شكل وأداء يشبه كلامنا، وفي نفس الوقت يحمل توهجه الخاص.. ولا ننتمي به لقطيع ما، هو حاتم جعفر، الذي نشر قصيدته الأولى في نفس المكان معي والذي أتم ديواناً ثم هجر الشعر وعاد لغربته الأولى: المرأة، وعاش بها ولها وقال: كلا الأمرين رقص وغناء يفتت العظام! وأكملت أنا لي وله كل أنماط الاغتراب.. حتى كان عام 1993 الذي صدر فيه ديوان علي منصور "ثمة موسيقى تنزل السلالم" وفوجئت أن ماء الكتابة فيه تقترب كثيراً مما أقترفه، ففرحت من قلبي وأحسست أنني أكتسب شرعية ما، شرعية الاتجاه الذي يتخلّق، وعندما قابلته بعد ذلك بسنوات قبلته وشكرته ففاجأني بأن العديد من شعراء هذا الجيل مروا بالكثير مما مررت به، شعرياً، وصولاً إلى لحظة تقبيله.. ثم الانطلاق بعيداً وخيانته سريعاً، بالطبع.. في أواخر عام 1995 وفي كلية آداب بني سويف تقابل الثنائي حاتم ومؤمن مع الناقد الراحل حاتم عبد العظيم، الذي لاحظ أننا أغراب تسللنا من كلية الحقوق لنستمع إلى محاضرات اللغة العربية والفلسفة وتحادثنا ودعانا إلى حضور ندوات نادي أدباء بني سويف.. وذهبنا والقينا قصائدنا النثرية وساد صمت ولم يعلق أحد ثم عدنا للحضور بعد ذلك وكان العدد أكبر وألقى حاتم ثم ألقيت قصيدة أحاور فيها التراث المسيحي بانفتاح وبساطة فتفاعل الجميع معها وقال الدكتور حاتم "هذه حساسية جديدة في الكتابة، تختلف عن أوهام حساسية إدوار الخراط.."! ووقف القاص إسماعيل بكر وقال: إن مصدر سعادتي اليوم في كتابة هذا الشاب، ينبع من كونه قبطي امتلك شجاعة التعبير عن مقدساته بأسلوب فني..، أخيراً دافعوا عن ما هم جديرون بالدفاع عنه.. "ثم صمت بعدما همست له بأنني مسلم!! المهم أنني أصررت على أن ألقي ما أكتب في كل مكان متجاهلاً قناعتي بأن قصيدة النثر قصيدة كتابية وليست شفاهية بالمرّة ومتناسياً لحظات الصمت أو الضيق أو حتى عبارات من نوعية "وهل هذا شعر أساساً ؟" أو ".. ومادمت قادراً على التفعيلة ، لماذا تأخذ بالأسهل المبتذل؟" وغيرها من العبارات أو المواقف التي تتبناها وتصنع ردود أفعال قد تتجاوز أحياناً، حد اللياقة، أقصد، دائماً، وتتجاوز كثيراً حق الاختلاف.. ونزلت وحدي للقاهرة ، للمرة الأولى، عام 1996، وتصادف في نفس الشهر – نوفمبر – عقد مهرجان القاهرة للإبداع الشعري بدار الأوبرا، بحضور عدد كبير ممن كنت أقرأ لهم، سواء كانوا مصريين أو عرب.. وكان هذا اللقاء مفصلياً في حياتي، ليس لأنه أسفر عن نشر قصيدتي الأولى وإنما لأن حواري معهم والتعامل مع ضحكاتهم وسعالهم، أعادهم إلى خانة البشر، المعذبين ربما ، بعدما استقروا طويلاً في رف الأساطير.. ثم كان شهر ديسمبر 1998 الذي أصدرت فيه ديواني الأولى "بورتريه أخير لكونشرتو العتمة " في 166 صفحة من القطع الكبير، على نفقتي، وأنا ابن الثالثة والعشرين، ليكون أول ديوان ينتمي بالكامل لقصيدة النثر في محافظة بني سويف.. وكان الشاعر عطية معبد قد أصدر ديوانه " هكذا أموت عادةً "في شهر فبراير وبجزئه الأخير قصائد نثرية قصيرة ثم أصدر الشاعر أسامة بدر ديوانه "قمر يغامر باستدارته" عام 2000 وبجزئه الأخير أيضاً قصائد نثرية. وكان عام 2001 هو العام الذي أصدر فيه شاعر العامية المصرية جاسر جمال الدين ديوان "شوية وجع" كأول ديوان نثري كامل بالعامية المصرية في بني سويف وكان قد سبقه ديوان "كراكيب" للشاعرة سيدة فاروق عام 1999 زاوجت فيه بين النثر والتفعيلة .. وإن كنت قد أسرفت في ذكر " التواريخ" و"الأوائل" فذلك إنما يرجع لرغبتي في التذكير بجهود كتيبة مغامرة، في مكان ناءٍ عن المركزية واحتمال المشهد للاتساع وتجاور الأشكال.. وحتى عام 2009 أصدرت ثمانية دواوين: هواء جاف يجرح الملامح 2000، غاية النشوة 2002، بهجة الاحتضار 2003، السريون القدماء 2003، ممر عميان الحروب 2005، تفكيك السعادة 2009، تأطير الهذيان 2009م. وهي دواوين تمت كتابتها في الفترة ما بين 1995 – 2001 وآمل أن أضيف إليها في القريب ما يضم أعمالي بدءاً من 2002.

الشعر: ليس القبلة في وسط الحرب، إنما هو خفة الشظية.. هو المختبئ خلف "الجميل"، أو المرمي قرب جدار، يحمل عتمة يكشف بها النور الفاقع أو وهجاً يجعل المقبرة تغني.. هو الخائن دوماً، الذي يقترح لأنه لا يعلم، وإن كان ماكراً.. الراقص في لهاث العاصفة.. هو الرائحة التي تبقى في كفك بعد أن تفرك الوردة بقسوة .. هو الطنين الذي يجعل الوحش يفتح عينيه، فيهرب شخصان ويتصادقا ويصيرا أخوة بإزاء الفوهة، لكن بدون مسئوليات ولا يقين .. ليس مراوغاً للموت، إنه رعشة الاحتضار ... الشعر "كأنه" وليس "هو" يا أخي ..

الشاعر: ذلك المشاء في الأسواق أو داخل الشرنقة.. القابع تحت مظلة ، يحس بأشياء فيكتبها لينسى الحريق الآتي من الشارع المجاور.. الذي تتآكل ذاكرته فينسى كونه شحاذاً جميلاً ويظن أنه ذلك الطفل المندهش، الشقي، المتورط .. حارث البحر القادر على الغناء لكنه أبداً ليس المغني .. هو الذي يأتي متأخراً فيحصي القتلى وينزع اللافتة.

عندما انتشرت قصيدة النثر في مصر وأصبح من المتاح جداً رصد أعداد لا حصر لها من الدواوين، رأكملت مجموعة من القيم الثابتة المتكلسة، هي – وهذه هي المفارقة – على النقيض من كل ما نادت به هذه القصيدة، فأصبحت هناك وصفة جاهزة مكونة من التفاصيل اليومية الحياتية البسيطة والابتعاد عن مقارفة القضايا الكبرى وتصدير موت الايديولوجيا والتخفف من المجاز لصالح السرد .. الخ . هذه الوصفة أخلت الأدعياء وأغرت أصحاب المشاريع الشعرية التي تسير في الاتجاه المخالف، بسبب سهولتها الظاهرة.. وهو ما أرى أنه مدمر لأنه لا يسمح بالتمييز بين مشروع كل شاعر وفرز الجيد من الردئ إلا بصعوبة ، فالجميع، كذا، يكتب نصاً واحداً.. كذلك يؤدي إلى تضييق امكانات تلك القصيدة مما يحدو بها للتآكل من داخلها.. لكن قد يكون لهذا قيمة إيجابية، والأمر كذلك، هي الكشف عن أصحاب المشاريع المتفردة الذين يكتبون شعراً يشبههم ويطمحون دائماً لتغيير جلدهم وتغيير ومفارقة زوايا النظر والمداخل المعتادة وقنص الشعرية من أنهار أخرى.. وهو ما يتوازى، بكل بساطة، مع قيمة أساسية في الشعر، وأقصد بها الواحدية وليس الجماعية، فحتى لو انتمى عدد من الشعراء لجماعة معينة لها توجه وفلسفة أو لو انضوى الشاعر تحت جيل معين، فإننا في النهاية سنقول: نحن بإزاء مشروع جورج حنين أو صلاح عبد الصبور أو محمد سليمان أو عاطف عبد العزيز .... وهكذا.. رغم تأثير فلسفة الجماعة، أو مظلة الجيل، عليه وكونه شاهداً، بشكل ما، عليها. إنني أنتمي لتصور قوامه أن كل شاعر - حقيقي – هو مشروع خاص يجب النظر إلى تجربته باعتبارها وحدة خاصة ومتميزة في مسيرة الشعر، وبذلك تكون زاوية التناول ذات ترتيب أولوياتي مختلف عما هي عليه، فنبحث أولاً عن الشعر ومدى نجاحه في خلق خصوصية للمشروع الخاص ثم بعد ذلك نراجع بنود تماثلاته مع الآخرين القريبين بحكم السن أو سنوات النشر أو حتى السياق.

مجابه أنا دائماً بالغزارة في الكتابة، ولا أرى ذلك عيباً ولا ميزة في حد ذاته ولا يصلح أن يكون قيمة ثابتة، كل ذلك خارج الكتابة .. لكن مقولة الكيف المفضل عن الكم ، تظل مقولة جاهزة، على الرغم من أي شئ، مثلها مثل الكثير من أكلشيهاتنا الجامدة .. كل "كيف" جيد في حاجة إلى "كم" كي يتأكد. إلا إذا كان العمل "فلتة" في حد ذاته وسيغير تاريخ الأدب وهو ما أصبح نادراً. أظن أنه من الأنسب، وإن كان ذلك ليس نهائياً بالطبع، أن يتعامل المتلقي مع عدة تجارب لمبدع ما، كي ينحاز لبعضها ويرى البعض الآخر لا يضيف إلى عالم الكاتب، أن يتفاعل أو لا يتفاعل مع المنجز، وهذا هو الطبيعي، فكيف تتسنى ممارسة هذا الدور، أو هذه اللعبة مع من أنجز تجارب محدودة وقليلة.

ما أظنه يميز قصيدتي، أو هكذا أتمنى، أنها قصيدة لا تغلق قوسها، بمعنى أنه من الصعب حصرها في قيمة جمالية أو تقنية معينة، فالمتابع للإنتاج الحالي يلمح من يصر على أن الهامشي والمعيش مازال أقنوماً للقصيدة، وثاني يصمم على أن التفاوت الطبقي هو المجال الوحيد للشعر أو مازال كذلك، فنجد كل نصوصه تستعرض مشاهد تدلل على الهم الأيديولوجي، وثالث ما يفتأ يتفنن في صنع المفارقة ورابع يبحث عن روح الأسطورة في المقدس، وآخر يكتب نصاً فنتازياً وآخر يصنع عالماً (كارتونياً) يسخر من الواقع، وآخر ينجز قصيدة وعي وآخر يحاول تهميش المجاز لصالح السرد البارد .. الخ.

إن ميزة نصي أنه يتحرك بين كل القيم والأنماط والطرائق، ومن ضمنها ما سبق بالطبع، ولا يحصر نفسه أبداً، نص حر لا يستطيع أن يتخلى عن رفضه واختناقه من أي تأطير وعيي أو جمالي أو تقني، يبحث عن الشعر المختبئ في كل ما حولنا، حتى لو كان لا يصلح، للوهلة الأولى، لإنتاج الدهشة وصنع الصداقة مع الكائنات .. هل نجح نصي في هذا، لا أدري أو لا يهم .. وبالنسبة للأداء اللغوي، فلا أعتقد أبداً أن الأقوال العنيفة التي تجزم بأن دور المجاز انتهى، منصفة، ليس فقط بسبب اطلاقيتها ووقوعها من دون أن تدري في فخ استبدال صنم بآخر .. ولكن لأننا نحيا وسنظل، في مجاز كبير، كل تعاملاتنا اليومية في هذه الحياة قائمة على المجاز، بدءاً من "صباح الخير" وحتى كتابة الشعر، لكن أحياناً تفرض التجربة على النص أن يكون كله كناية كبرى وأحياناً تظهر المجازات الجزئية بشكل واضح.. مازالت الصورة تزين الشعر، سواء أن كانت كلية أو جزئية وسواء كانت واضحة أو متوارية .. كما أنه ليس مهماً أبداً أن نبحث عن إيقاع صوتي في قصيدة النثر عن طريق تكرار الكلمات والعبارات والترديدات الصوتية وما إلى ذلك لنثبت أن قصيدة النثر ليست غريبة وبعيدة كل هذا البعد عن التراث السابق عليها.. وليس مهماً –كذلك- أن نجزم بأن الإيقاع السردي هو الذي يلائمها أو زيها الوحيد.. كل هذا لا يجدي أبداً، فليس هناك بُعد نهائي للقيم الكتابية وتشكيلاتها، القصيدة أوسع من كل تفسيراتها وتأطيراتها وإن حددنا لها نبضها واستنكرنا خروجها الدائم، تموت.. والشاعر يلعب دون سقف قريب أو بعيد، ولا يملك إلا انفلاته الايجابي،

الذي يصنع إطارات كل يوم، عليه أن يثور عليها ويتجاوزها لحساب روحه الحرة، المكتنزة كأنها الصمت.

عندما قال "جوته": " شعراء الليل والمقابر يستميحون عذراً، لأنهم مشغولون بحديث شائق جداً مع مصاصة دماء، بُعثت منذ وقت قصير، وربما أدى هذا الحديث إلى إبداع نوع جديد من الشعر.. "وعندما قال "بودلير": "ما من فتنة للحياة، حقيقية،غير فتنة اللعب.. "شكرتهما وشددت على كفيهما وأعطيت ظهري راضياً ومبتسماً وقلقاً............

***

شهـادات

محمد سعد بيومى

مدخل

الموهبة عطاء ربانى، وأعتقد أن الموهبة التي أعطانيها الله سبحانه وتعالى تكمن فى محبة الفن بوجه عام وإبداع الشعر والمسرح بوجه خاص.

لكن الموهبة لا تنبت، وتخلص إلا فى أرض خصبة.

فالشعر الحقيقي لا بد أن يتدفق بوهج الدهشة، وموج الإثارة، هذا الوهج المدهش المثير لا يتأتى من فراغ.

الذي بداخلي
ترى ما السبيل إلى الأرض المنشودة؟... أرض الفن بوجه عام والشعر بوجه خاص؟
أدركت مبكرا وأنا فى المرحلة الإعدادية والتى بدأت طيوف الفنون تتراءى، وتتدفق بداخلى.. أن هذه الأمانى لم تكن لتخرج.. قبل أن تتكون اللبنات ويتسع الإدراك ويتنامى الوعى والفكر، وتتضح معالم الموهبة.

كنت قد بدأت قراءات مبكرة لقصص الأنبياء والتاريخ، لكن الذى أثر فىَّ بعمق قراءة رواية "فى بيتنا رجل" للروائي: إحسان عبد القدوس وكنت أقرأها مسلسلة وأنا فى الصف الثالث الإعدادى بمجلة روزاليوسف وتفتحت سبل كثيرة قدامى فوقها الرؤى الوطنية والأدبية واللغوية والتطلع نحو جنس أدبى راق.

وأطلقت لنفسي العنان فى القراءة.. لم تكن صناديق الإسعاف، أقصد مكتبات الفصول- والتى تشبه صناديق الإسعاف، والمملوءة بالكتب التي تحمل بين دفتيها معارف شتى تشبع نهمى، ولم تتضح بعد ولم تتشكل فى هذه المرحلة ملامح حقيقية لأحد الأنواع الأدبية، فقد كنت محبا للتمثيل والغناء، وحراسة المرمى وكم بحثت عن المحطات الإذاعية التى تبث أغنيات: عبد الحليم حافظ وعبد الوهاب.

لم تكن صناديق الإسعاف مكتبات الفصول- هي البلسم لطالب علم وأدب ومعرفة وفن يتدفق بالحياة والحيوية والحركة وتصحبه الوحدة، بل صاحب ذلك رحلات وجولات، وصيد، ولربما تركت فىَّ القراءة تجاوبا وتفاعلا أثناء القراءة فكنت أمثل أدوار الشخصيات التى ترد أدوارهم فى قطع القراءة.

ويبدو أن مدرسى اللغة العربية لحظوا هذا الإحساس فكانوا يطلبون منى أن أقوم بأداء أدوار شخصيات موضوعات القراءة تاركين لى حرية الحركة فى الفصل أمام السبورة وأمام تلاميذ الفصل فى المرحلة الإعدادية.

بل وأشاروا على بالاشتراك فى جماعات الخطابة والتمثيل والإلقاء ومنهم العالم الجليل المرحوم: محمد الأزهري مدرس اللغة العربية والتربية الدينية فى المرحلة الإعدادية بمدرسة عزبة البرج الإعدادية الثانوية، وقد مثلت على مسرح المدرسة، وألقيت بعضا من كلمات الصباح فى طابور المدرسة، وثنى هذا الاتجاه الإعلامي الأستاذ: محمد حمزة وقد درس لى مادة اللغة العربية فى الصف الثالث الإعدادي.

لقد كان الأستاذ الجليل: محمد الأزهري - رحمه الله – مدرسا مثاليا، بحرا من العلم، موهبة خطابية لا تضارع، وكان متفتحا يفهم أصول حرفته ويدفع طلابه للتعبير عن أنفسهم، ويخلص فى دفعهم وتوجيههم.

أما الأستاذ: محمد الزهيرى مدرس اللغة العربية بالصف الأول الثانوى فقد كان قاصا وشاعرا، وكنت بدأت أشعر بميل لكتابة الرواية والشعر وقرأت منذ المرحلة الإعدادية لكتاب كثيرين: محمد فريد أبو حديد ، على أحمد باكثير ومحمد عبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم وعلى الجارم، وقرأت الكثير من الروايات المترجمة، وتعرفت على شعراء العصر الجاهلى والمعلقات وصدر الإسلام وشعراء العصر العباسى والأموي، وشعر عصور الضعف.

فى الصف الثالث الثانوي: زاملت الفنان الراحل: فاروق يوسف والإعلامى حسن أبو العلا حسن، والإعلامي: السيد حسين، والسياسي: محمد عز الدين عبد المنعم السفير من الدرجة الممتازة والفنان الموجود بكندا الآن محمد شاكر.

وكان الفنان المرحوم: فاروق يوسف يعلم حبى الشديد لعبد الحليم حافظ والذى قلدته فى بعض من ملابسه وأغانيه، الغريب أننى أتيحت لى فرصة لأقدم صوتى على مسرح نادى العمال ببورسعيد، وحينما صعدت على خشبة المسرح لم أقدم أغنيات لعبد الحليم ولكن قدمت بعض الأغنيات التى كتبتها ووضعت لحنا لها والغريب أننى وجدت استحسانا من الحاضرين.. لكنني لم أنخدع وأدركت أنني لن أكون حليما.. ولن أكون فى عالم الغناء، وإن عالم الغناء له متطلبات ودراسة وموهبة فى الصوت، وقبول طاٍغٍ.. نعود إلى الصف الثالث الثانوى 1962 وفاروق يوسف ومحمد شاكر اللذين يعلمان حبي لعبد الحليم وقالا لي: حليم فى بورسعيد.

وسيكون فى عرض فيلمه "الخطايا" وسيكون مساء فى كازينو "بالاس" وسنلتقي به فتعال معنا، ولست أدرى لماذا لم أذهب مع أننى كنت أمتلك حلة جديدة سوداء ورباط عنق أحمر جميل.. آه تذكرت لم أكن أملك حذاء أسود جديدا.. وبعد يومين رأيت لفاروق يوسف ومحمد شاكر أكثر من خمسين صورة مع حليم، وبعد عشر سنوات من ذلك التاريخ ظهر فاروق يوسف مع حليم فى فيلم "أبى فوق الشجرة" وكنت بعد حصولى على الثانوية العامة، طلبت من أبى أن ألتحق بمعهد السينما فرد بجمله واحدة "هاتشتغل مع الغوازي يا محمد".

السير على ساق واحدة: ( 62- 67 )
كنت فى هذه المرحلة من العمر كمن يسير على ساق واحدة.. قرأت الكثير فى القصة والرواية والمسرح والشعر والتاريخ، لكنى كنت أشعر أننى فى حاجة ماسة لرؤية الطريق ولربما كانت كلية الآداب، وقسم اللغة العربية بالذات هو السبيل الأمثل للصقل والدرس الأكاديمي.. ولست أدرى ما الذى جعلنى أهجر كلية الآداب وقسم اللغة العربية، وألتحق بمعهد معلمى السويس وكان معهدا فوق المتوسط يخرج معلمى المرحلة الابتدائية، لقد كان عملا متسرعا ومتهورا فى آن حتى إننى لم آخذ رأى العائلة.. واكتفيت بأن أخبرتهم بعد الالتحاق بالمعهد.

وعشت تائها لأكثر من ثمان سنوات بعد العمل بالتدريس فى المرحله الابتدائية وفقدت ورقة رابحة كانت ستختصر دروبى للفن الذى أحبه.. قرأت بعض المسرحيات لتوفيق الحكيم وأحمد باكثير ورأيت بعض المسرحيات فى بورسعيد والقاهرة ورأس البر.

لكن التيه استمر وأوغلت فيه أنا والكثيرون أثناء عدوان 1967 على مصر وعلى وجه الخصوص على سيناء ومدن القناة.. لقد أصابت القلوب غصة من قضمة الحزن والأسى والدمار الذى خلفه العدوان الإسرائيلى فيما يسمى بحرب الأيام الستة.. أضيف انكسار لانكساراتي.. لكنه الانكسار الأكبر.

لقد رأيت العربات من مختلف الماركات والحجوم محطمة على طريق بورسعيد – الإسماعيلية، وأنا خارج مهيضا، وكلاب العدوان يتنمرون ويسخرون على ضفة القناة الشرقية وهم يطلقون الرصاص على السيارات المسرعة من بورسعيد نحو الإسماعلية والتى كنت فى واحدة منها.

بينما الطائرات الإسرائيلية تجوب المنطقة بحثا عن شىء تضربه كنت ما زلت أثق فى ناصر، وكنت ما زلت أحب حليما، وكنت متمسكا بحلم الكتابة.. وما زلت أرى أن طعنة 1967 يمكن أن تتوارى، وتلتئم جراح الوطن.

طـيوري 1970 - 1976
بدأت قصائدي - طيوري – تأخذ طريقها للقراءة عبر مجلة الجديد، وجريدة الجمهورية، وسنابل، والثقافة المصرية والسورية ومجلات الأقاليم فى مصر والكاتب والأقلام العراقية وحصدت بعض الجوائز الأولى فى الشعر لجريدة القناة، ورعاية الشباب والمجلس الأعلى لرعاية الشباب، وعدت للجامعة وكلية الآداب وقسم اللغة العربية مرة أخرى.

وعلى التوازي قرأت الدواوين الحديثة، والدراسات النقدية للأجيال السابقة: صلاح عبد الصبور، الشرقاوي، شوشة وأبى سنة ومحمود حسن إسماعيل، وسويلم، ومحمد مهران السيد، وفتحي سعيد، وطاهر أبى فاشا، ومحمد الجيار، وعبد القادر القط ، وعز الدين إسماعيل، وعزيز أباظة، وتواصلت مع: محمود غنيم، والشابى، والرصافى، وبدر شاكر السياب ، ونازك الملائكة، ونعيمة والأخطل الصغير، وعدنان مردم بك، والبردونى ، والبياتى، وإيليا أبو ماضي، وجبران، وحجازي، وعلى محمود طه وناجى وقبلهم شوقي، وحافظ والبارودي، وشعراء من إفريقيا وروسيا وبعض دول أوروبا وأمريكا.

ولم تقف القراءة عند حدود الشعر بل تعدى للمسرح النثرى والشعري: شوقي، عزيز أباظة، وعدنان مردم بك ونعمان عاشور، وفتحي سعيد، وأمل دنقل، وأبى سنة، عز الدين إسماعيل، فاروق جويدة ،حسين على محمد وغيرهم.

أحداث على أحداث
ظل العدو يعربد بطائراته على منطقة القناة وعلى الضفة الغربية للقناة يقصف، ويقصف يدمر ويقتل وكم من مطاردات للعدو جرت من الطيارين المصريين، وكانت سنوات الصمود تعكس الإباء المصرى ورفض الجندى المصرى للهزيمة التى دبر لها العدو وأنصاره.

لقد تركت لنا هزيمة 1967 كما هائلا من الأسى والمرارة لكنها لم تنل من عزيمتنا.

وكانت نفثات الشعراء والأدباء وأنا منهم تساقط النور.. نور القصائد، كانت مصر على قلب رجل واحد ترقب الشفق القادم الذى يمتد من الضفة الغربية للقناة لينتشل الضفة الشرقية من الظلام والرغام.

كتبت فى هذه الفترة قصائد: رحلة آدم، عصا موسى، دراما شعرية الضوء على الشاطئ الآخر، القدس، ردى كما عهد الورى؟، عبلة والفارس، وكان العبور العظيم فى أكتوبر 1973م وهجاً، مصريا وعربيا غسل الأحزان وطردها من القلوب وكشف عن معدن المصرى بوجه خاص والعربى بوجه عام، حاولنا جمعيا أن ترتفع هامات القصائد والأعمال الأدبية لتعانق هامات هذا النصر.. وهل أفلحنا؟!
شخصيات فى حياتي
فى الزقازيق وأثناء التهجير التقيت شعراء وأدباء أحباء : سناء محمد بدوى -رحمه الله- وهذا شاعر من الإسماعيلية عمل بجريدة القناة لفترة طويلة وحاول أن يكون حركة شعرية أثناء العدوان، وفى أماكن التهجير وساعدته جريدة القناة منذ عام 1969-1985م مع صديقه عبد الكريم رجب.. وكانا شاعرين مجيدين، تمتعا بحاسة نقدية جيدة، وتعرفت على القاص: محمد حسن الشرقاوي، وسليم فياض - رحمه الله- وكان من شعراء العامية المجيدين، والقاص: بهي الدين عوض، والقاص: عزت محمد إبراهيم والقاص: حسين حماد والشاعر الفنان: محمد ريحان الممثل الآن.

وفى رحاب مجلة صوت الشرقية تعرفت على الشاعر الكبير د. حسين على محمد، وكان وما زال صديق العمر، واقتحمت معه كثيرا من المنتديات الأدبية، والأمسيات الشعرية، والتجمعات الأدبية... لكنني أود أن أشير إلى دور الأديب الروائي: عنتر مخيمر الذى كان يشرف على صفحة الأدب بمجلة صوت الشرقية منذ بداية السبعينات وحتى عودتى إلى بورسعيد عام 1977.

لقد تذوق هذا الأديب طعم قصائدى وقدمنى منذ بداية السبعينات بشكل مبهر لقراء صوت الشرقية مع رسوم للفنان: عبد الرحمن نور الدين والفنان: نبيل والفنان: سعيد الكيلانى - رحمه الله-.

وتعرفت على أدباء ونقاد مبدعين جادين وعلى رأسهم د. يوسف نوفل ود. أحمد زلط الذى قدمنى فى كثير من كتبه النقدية الجادة والمقدرة.

كما تعرفت على الإنسان: عبد السلام سلام الشاعر والمدرس بكلية آداب جامعة الزقازيق - رحمه الله- ، ود. رجب سليم الذى قدم دراسة جادة لمسرحيتى الشعرية "بلقيس" مع مناظرة لمسرحية توفيق الحكيم "سليمان الحكيم"، ود. جمال عبد الناصر الذى قدم نقدا لكثير من قصائدى فى صفحة قضايا أدبية التى يحررها القاص الروائي: محمد جبريل، ود. سعيد شوقى الذى قدم دراسة عن مسرحية "الغائب والبركان" دون أن يتعرف على ودون أن يطلبها منى، كما صادقت الشاعر الكبير: محمد مهران السيد - رحمه الله- وقدمنى لقراء الشعر منذ منتصف السبعينات، أما الشاعر: أحمد الحوتى - رحمه الله- فإننى أحببته شاعرا مجيدا وتعرفت عليه ولحبه الشديد لشعرى كان يسأل عنى وقدم نقدا رائعا لبعض قصائدى فى تلفزيون القناة الرابعة.

أما الشاعر الكبير: محمد الجيار - رحمه الله- فقد التقيته فى بداية حياتي الأدبية وقدم لي عدة نصائح.. لكنني كنت أعجب بشعره وبإلقائه الراقى كما أعجب الكثيرون بفنه الراقى.

كما قدم د. محمد عبد الله نقدا ممتازا لقصائدى بالقناة الرابعة أيضا وكذا الشاعر الراحل وليد منير، وغيرهم (محمد السيد عيد، د. محمد عبد السلام، د. مدحت الجيار، د. حلمي القاعود، د. أحمد سخسوخ، أحمد سويلم) وتعرفت على الشاعر الكبير: أحمد سويلم، ومحمد أبو سنة الذي قدمني لمستمعي إذاعة البرنامج الثاني، وقدم بصوته قصائدي.. وما زلت ألتقي بالشاعر السوهاجي: جميل محمود عبد الرحمن والروائى المسرحي: جمعة محمد جمعة والناقد: ربيع مفتاح وتعرفت على الكثرين من مبدعى مصر.. أحبوني وأحببتهم.

أصوات أدبية
فى منتصف السبعينات قدمت للساحة الأدبية فى مصر مطبوعة "أصوات" بالاشتراك مع صديقي: حسين على محمد الذى يتسم بصفات حميدة من الصعب العثور عليها فى زماننا.. فوق كل ذلك فهو شاعر مجيد وكاتب مسرحى وناقد، وقاص.. عقدنا الكثير من الجلسات الأدبية والنقدية لمدارسة ما نكتب وننقد بحيادية شديدة، وكم انطلقنا فى سفريات للقاهرة لنقدم إبداعاتنا للساحة الأدبية والصفحات والمجلات الأدبية المتخصصة: الهلال، الكاتب، الثقافة والشعر.

كانت مطبوعة أصوات وليدة لفكرنا المحب للإبداع والمبدعين الجادين فى أنحاء مصر.. قدمناها مكتوبة على الآله الكاتبة، وغلفناها بأغلفة متواضعة طبعات محدودة، ثم دخلنا عالم الماستر وقدمنا أصوات فى الشعر والقصة والرواية والنقد لأصوات ذاع صيتها فيما بعد.. قدمت أصواتا شعراء من أسوان وسوهاج وقنا والشرقيه ودمياط والإسكندرية والقاهرة وطنطا والسويس والإسماعيلية وبورسعيد والمنصورة.. قدمنا الأصوات التى اقتنعنا بجودتها وبالمستقبل الأدبى المشرق الذى يمكن أن تصل إليه بدأبها ومثابرتها.

الآن أصوات تضم لهيئة تحريرها أصوات مؤثرة مثل: د.صابر عبد الدايم، د. أحمد زلط، الشاعر: أحمد فضل شبلول، وضمت من قبل الشاعر الراحل: عبد الله السيد شرف وفيما بعد انضم الشاعر: بدر بدير والقاص: مجدى جعفر.

ما زالت أصوات تصدر تحت اسم: أصوات معاصرة، ومطبوعة منذ عام 1980، إنها المطبوعة الوحيدة التى تصدر منذ منتصف السبعينات إلى الآن.

تغير مسماها فقط من "أصوات الشرقية" إلى "أصوات معاصرة" لقد جمعت "أصوات" الكثير من المبدعين فى كل الأنواع الأدبية: شعر، قصة، رواية، مسرحية، نقد، دراسات وأبحاث.. كانت وما زالت ملتقى المبدعين.

مواقف، ومواقع وأحداث مؤثرة

  • الموهبة، والحلم كل منهما تفاعل بداخلى ونما، ودخلت إلى شارع الفن من بوابات القراءة المبكرة، والمشاهدة لفن المسرح والاستماع إلى الفن الجيد غناءً وشعراً، وموسيقى.
  • الرحلات، وجولات الصيد، وحب فن التمثيل، وممارسة الرياضة.
  • الولع بالفنانين الحقيقيين فى الغناء والموسيقى.
  • الأنشطة المدرسية بما حوته من: رياضة وقراءة ومكتبات وأنشطة فنية: خطابة، تمثيل، إلقاء، رحلات، فنون.
  • الاتجاه إلى التعليم الأكاديمى والإفادة منه بشكل مكثف.
  • التعامل مع شخصيات مبدعة وجادة فى عالم الشعر، والقصة والمسرح، والنقد، والبحث.
  • السفر والتنقل فى مناطق كثيرة داخل مصر والعمل بالسعودية.

أحداث هامة

  • تأميم قناة السويس فى يوليو1956.. سمعت خطاب الرئيس: جمال عبد الناصر وهو يلقى قنبلته فى وجه الدول الكبرى بثقة وشجاعة نادرتين، ومنذ ذلك التاريخ كنت حريصا على الإنصات وقراءة خطبه فى كل المناسبات.
  • العدوان الثلاثي والغارات المتلاحقة على مصر من قبل: بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، واحتلال بورسعيد التى قاومت العدوان ببسالة نادرة كدأب شعب مصر، فى دمياط والإسماعيلية والسويس، والمنصورة والإسكندرية.
  • الاتصال بأبطال مقاومة 1956 ومحاورتهم وفق أسئلة وضعتها عن الأدوار البطولية التي قاموا بها... وألقوا فى نفوس المحتل الرعب، ومنهم: المرحوم السيد عسران، ومحمد حمد الله، ومحمد مهران وغيرهم.
  • حرب الأيام الستة (1967)
    فى ستة أيام تمكن العدو الإسرائيلى من اجتياح سيناء بعد ضربة مركزة فى الخامس من يونيه1967م ودمرت الكثير من بيوت السويس والمصالح الحكومية والمؤسسات والمستشفيات ودورالعبادة وكذا فى الإسماعيلية وبورسعيد.
  • وامتد مشهد التهجير إلى المدن الثلاث: ( بورسعيد ـ الإسماعيلية ـ السويس) ولا يشعر بطعم المأساة إلا من فقد الأهل، البيت، والأمان والعمل والأحباب والأصدقاء.. واستقبلت مدن مصر المهجرين وكتبت قصصٌ جديدة وحياة مفروضة على أهل هذه المدن تقبلوها صامدين… فهذا دأبهم.
  • فى هذه الفترة هاجرت من مكان عملى بالسويس إلى محافظة قنا وتعرفت على حياة جديدة وشخصيات محبة ومعطاءة.. واحتضنت التاريخ فى الأثر.. إذ رأيت معابد الأقصر وآثارها وتماثيلها، وآثار قفط وتعرفت على عادات أهلها. ورأيت مزروعات وحقولاً وطبيعة متنوعة وثرية.. لكننا كنا نتحدث لغة واحدة: الحرب والنصر.
  • كنا نندفع نحو المذياع لنعرف حكاية جديدة عن الصمود، والفداء والبيانات العسكرية الجديدة.
  • - كان عبور أكتوبر 1973 بداية لعطاء مصرى جديد.. قاتل الجيش المصرى ببسالة ووعى وإيمان بحقوق الوطن فى الحرية واسترداد الأرض.. ها هي الجندية المصرية تلقن العدو درسا لن ينساه، وليته يتعظ.
    وها هو النصر يدخل فى أنفسنا إحساسا جديدا.. لا شك أنه يدفن الإحساس بالقهر والهزيمة والإحباط والضياع ويطلق أعيننا نحو التطلع للأمل والإشراق والارتقاء.
  • كنت تحدثت عن التهجير الثانى بعد حرب 1967 إلى الزقازيق وتعرفى على العديد من الشخصيات الأدبية، من شعراء وقاصين وروائيين ونقاد.

العودة إلى بورسعيد

توطدت صداقتي ببعض الأدباء: قاسم مسعد عليوة، ومحمد صالح الخولانى، والمرحوم: حامد البلاسى الشاعر الرومانسي.. والذي كان قامة شامخة ولقد قلت له يوما لو تفرغت للشعر لكنت شاعرا عظيما لا تبارى فى لونك. وكانت عنده رسالة أخرى أقوى تناديه.

- تعرفت على الشاعر الصديق: محمد المغربي، وهو صاحب حركة فى المجال الأدبي.. يستطيع أن ينظم الأمسيات، والمؤتمرات، لديه قدرة تنظيمية هائلة قمنا معا ومعنا بعض الأدباء بطبع مطبوعة تصدر عن جماعة الأربعاء ـ اليوم الذي كنا نجتمع فيه أسبوعيا ـ وأصدرنا المطبوعة على نفقة المشتركين فيها..كانت شيئا جديدا، وتكرر من مجموعات أخر… لكنها لم تدم.

المنطـقة الحـرة

تأثرت بورسعيد بنظام المنطقة الحرة... أثرى من أثرى.. وظل على حاله من ظل... يشكو ويتأسى.. وكان للإبداع نصيب من هذا التأثر... وكان للثقافة بوجه عام نصيب وافر ظهر فى كتابات المبدعين، وفى أقوال المثقفين وعلى التعليم وعلى الواقع الجديد فى المدينة... ولاقت المدينة والبضائع المستوردة رواجا استهلاكيا هائلا.. أغضب من أغضب، وأعجب من أعجب.

الإبــداع

  • حوار الأبعاد ـ مجموعة شعرية مع شعراء من مصر وسوريا، مصر 1976.
  • حوار الأبعاد ـ مجموعة شعرية مع شعراء من مصر وسوريا، حلب 1978.
  • رحلة آدم ـ ديوان شعر ـ دار آتون 1980.
  • وينتصر الموت ـ مسرحية شعرية ـ أصوات الشرقية 1983.
  • نصغي ويقول الموج ـ ديوان شعر مع شعراء بورسعيد محافظة بورسعيد 1987.
  • بلقيس ـ مسرحية شعرية ـ دار الأرقم ـ الزقازيق 1993.
  • الغائب والبركان ـ مسرحية شعرية ـ أصوات ـ الثقافة الجماهيرية 1994.
  • شموس المدينة ـ مسرحيات نثرية للناشئين ـ دار هبة النيل ـ القاهرة 1998.
  • طيوري ـ ديوان شعر ـ أصوات معاصرة 2005.
  • وينتصر الموت - طبعة ثانية – مسرحية شعرية ـ أصوات معاصرة 2005.
  • طحالب الجحيم ـ ديوان شعر ـ أصوات معاصرة 2006.
  • الغائب والبركان ـ مسرحية شعرية ـ طبعة ثانية 2006.

تحت الطـبع

  • ـ العطر القديم ـ ديوان شعـر.
  • دوائر الموت ـ مسرحية شعرية.
  • وجوه برية ـ مسرحية شعرية.

مجالات النشر

  • نشرت قصائدي منذ بداية السبعينات فى مصر والوطن العربي؛ ففي مصر نشرت قصائدى فى الجديد والجمهورية والمساء والكاتب والثقافة المصرية والشعر والهلال والأهرام ومجلة ضاد وسنابل والثقافة الجديدة وأدب ونقد وجميع المطبوعات الإقليمية.
  • وقدم إبداعي البرنامج الثقافي وإذاعة القاهرة والشرق الأوسط والشعب وصوت العرب وتلفزيون النيل والقناة الرابعة.
  • وقدمت مسرحياتي على مسرح بورسعيد والثقافة والمسرح الإيطالى والإقليمية والثانوية بنات وكلها فى مدينة بورسعيد.

فى خارج مصر

نشرت قصائدي فى الثقافة والثورة السوريتين، وفى أخبار الأسبوع الأردنية، والأديب اللبنانية، والأقلام العراقية، والوطن العمانية، والثقافة العربية الليبية، والبيان والرأي العام الكويتيتين، والرياض والجزيرة السعوديتين، وكذا القافلة.

عطاء بعـطاء

لقد تذوقت وأنا تلميذ بالمدرسة الإعدادية أفاويق الأنشطة المدرسية وكذا فى المدرسة الثانوية.. وكان لا بد من رد هذا العطاء لتلاميذى وطلابى فى المرحلتين الإعدادية والثانوية ولكل من يريد و يستحق، فأدرت جماعة الصحافة والأدب وأشرفت لغويا على فرق التمثيل وكلمات الصباح.

وقدمت برنامجا بمدرسة بورسعيد الثانوية بنين كل ثلاثاء فى طابور الصباح.. حيث جمعت مواهب المدرسة فى القصة والشعر، والزجل وكنت أختار المواهب المبشرة ليقدموا أعمالهم الأدبية أمام طلاب المدرسة وكنت أعلق عليها بتعليقات علمية نقدية.

كما دربت فريق الإلقاء وفاز بعضهم بالمراكز الأولى على مستوى الجمهورية.

النقـاد وأنا

قدم الكثيرون من النقاد دراسات جادة لمسرحى الشعرى منهم: د.حسين على محمد، د. أحمد زلط، د. سعيد شوقى، د. رجب سليم، د. أحمد سخسوخ، د. إيهاب المقرانى، د. يوسف نوفل، أ. ربيع مفتاح، أ. أحمد

رشاد، د. نوال السويلم "السعودية"، والأول والأخير منهم تناولا مسرحى الشعرى فى رسالتى دكتوراة.

وتناول الكثيرون شعري بالدراسة والنقد يصعب حصرهم فى هذا المجال.

معاجم أدبية

ورد إبداعي الشعري والمسرحي فى المعاجم الآتية:
ـ معجم البابطين للشعراء المعاصرين ـ معجم الضياء الإسلامى عن دار الضياء الأردنية ـ معجم اتحاد كتاب مصر ـ معجم الثقافة الجماهيرية.

جوائز وشهادات تقدير

  • الجائزة الأولى لجريدة القناة أكثر من مرة فى السبعينات.
  • الجائزة الأولى لرعاية الشباب بالشرقية فى منتصف السبعينات فى الشعر والمسرح.
  • الجائزة الخاصة فى القصة القصيرة من المجلس الأعلى لرعاية الشباب.
  • جائزة اتحاد كتاب مصر: جائزة الكاتب الكبير: محمد سلماوى عن مسرحية: وينتصر الموت ـ، وشهادات تقدير من جهات عديدة وميدالية اتحاد الكتاب.
  • الأديب عضو اتحاد كتاب مصر – رأس نادى الأدب بقصر ثقافة بورسعيد.

***

رحلة بين النخيل

مصطفى الجزار

تحت نخلة مثمرة من نخيل قريتنا، سَقَط فوق رأسي أولُ بيتٍ من الشعر.. تذوقتُه بغرابة! وجدتُ فيه طعماً جديداً للأحاسيس الخضراء الغضة التي لم تنضج بعد، ولكنه كان يبشّر بمرحلة آتية ينضج فيها عطاء هذا النخيل الشعريّ، الذي امتدت جذورُه في شخصيتي إلى اليوم، وتعلّمت منه الكثير الكثير.
...
لأني تربيتُ بين النخيلْ
أراني شبيهاً بِهِ
حين أُبْصِرُ وجهي على صفحةِ الماءِ في حَقْلِنا
فأرى سُمرةَ الجِذْعِ في لونِ وجهي
وحين يَذوقُ الوَرَى طَعْمَ تَمْراتِهِ في حَدِيثي إذا قلتُ شِعراً
وحين أرى طُولَ جسمي النحيل..
أراني شبيهاً بهذا النخيلْ

***

تعلّمتُ مِن فلسفاتِ النخيلِ..
مواجهةَ الريحِ مهما عتَتْ
ومهما بحُزْنٍ وكَرْبٍ أتَتْ
فلا ضيرَ أنْ أتمايلَ حيناً.. ولكنْ..
تَظَلُّ جُذورُ العزيمةِ فيَّ..
تُعانق أرضَ البقاءِ التي أنبتَتْني
فتربو وتهتزُّ فخراً.. بما أنبتَتْ

***

تعلمتُ..
من فلسفاتِ النخيلِ..
فنونَ الصمودِ.. الشموخِ.. التحدّي..
وبعضَ الجنونْ
تعلُّمتُ "فِقْهَ الحمايةِ"
حين يَلوذُ بِيَ اللائذونْ
فأنشُرُ سَقْفَ جَريدي عليهم
لأحجُبَ شمسَ المواجعِ عنهم
فيأتَنِسُونَ بظلٍّ.. ظَليلْ

كان هذا في نهاية المرحلة الإعدادية وبداية المرحلة الثانوية، وكنت حينها الذراع اليمنى لأبي في فلاحة الأرض. كنت أذهب إلى المدرسة صباحاً، وأرجع إلى (الغيط) ومعي حقيبة المدرسة، وأجلس في (الخُصّ) أو (العريشة)، المصنوعة من البوص وجذوع النخل والجريد.. أكتب (الواجب) وأذاكر في جوّ هادئ غاية الهدوء، نقي غاية النقاء. وبعدها أقوم لأساعد والدي في الحقل، أطلع النخل لأجني الرطب، أو أجمع ثمار الباذنجان أو الخيار أو الفلفل، أو (أحشّ) البرسيم الذي تأكله بقرتنا الصغيرة، أو (أعزق) الأرض لزرع جديد يحتاج إلى أرض نقية منتعشة، أو أفتح (المسقى) لأسقي (الحوض القبلي أو البحري)... وحين ينتهي النهار وتنام الشمس بين نخلتين، فينسدل جريدهما فوق ردائها الذهبي، ونسمع أذان المغرب بأصوات كثيرة متداخلة لكثرة المساجد والزوايا في البلدة، نتوضأ من (الطلمبة) التي على رأس (الغيط) ونصلي المغرب معاً، ثم نعود إلى المنزل، فنجد أمي قد أعدّت لنا العَشاء، فآكل، ثم أصلي العِشاء، ثم أبدأ فوراً في تناول (الرُّز باللبن مع الملايكة) في نوم هانئ هادئ، وأحلام لا تعرف سوى البراءة، لأصحو في اليوم التالي في السادسة صباحاً للذهاب إلى المدرسة وتكرار اليوم السابق كما هو تقريباً.

في يوم من الأيام كنت أقرأ في أحد الكتب الدراسية، وكانت هناك صفحة بيضاء خالية من السطور تفصل بين فصلين في داخل الكتاب، وبعد أن أنهيت مذاكرة الفصل وجدتني قد غِبت عن الدنيا لبضع دقائق. لا أدري أين كنت، ولكن حينما أفقت فوجئت بكلام مكتوب بخط يدي في الصفحة البيضاء في الكتاب، والكلام المكتوب مقسم على هيئة سطرين متقابلين، كالقصيدة العمودية، فقلت في نفسي: ما هذا؟! إنه يشبه نصوص المدرسة! أهذا شعر؟! معقول؟!
قررت تبييض هذه (القصيدة العصماء) الأولى، في ورقة قطعتها من منتصف أحد الكشاكيل، وحرصتُ كل الحرص على ألا يعلم أحد -مهما كان- بأمر هذه الكلمات، فقد كنت أخجل من مجرد ذِكر أنني كتبتُ كلاماً يُشبه الشعر؛ حتى لا يسخر مني أحد أو يستهين بهذه المشاعر التي خرجت مني على الورق. وهكذا ظللت أكتب (مع نفسي) ولا يعلم أحد بأمر هذه الكتابات.
ثم دخلت المرحلة الثانوية، وكانت الثانوية العامة (النظام القديم) كابوساً يُفزِع الآباء والأبناء على حد سواء، لذا قرر أبي أن أتفرغ للدراسة والمذاكرة فقط، وألا أذهب إلى الحقل أو أشاركه في فلاحته، وبالفعل تفرغت للدراسة.
كنت معجباً جداً بحصص اللغة العربية التي كان يدرّسها لنا أستاذي الحبيب، الأستاذ محمود عبد السلام إمام. ذلك الرجل الذي كان -وما زال- له أثر بالغ في حياتي بوجه عام، وفي الشعر بوجه خاص.
لقد حبا اللهُ الأستاذ محمود بمواهب كثيرة، منها موهبة كتابة الشعر، وموهبة حسن الخط، وموهبة جمال الصوت في تلاوة القرآن الكريم وتقليد كبار القراء بشكل مذهل. كان يدخل علينا الفصل فيمسك بالطباشير ليكتب عنوان الدرس وعناصره، فتتحول السبورة إلى لوحة خطية فنية رائعة، فهذا عنوان بخط الثلث، وذاك بالخط الديواني، وهكذا... وكنت حينها أنظر إليه وهو يكتب وأنا في غاية الذهول والإعجاب بخطه، وكنت أحاول تقليده حينما أنقل ما على السبورة في كراسة الحصة، وكنت أقترب كثيراً من إتقان التقليد، دون أن أعرف نوع الخط ولا مقاييس كتابته، ولعل هذا هو ما فجّر فيّ موهبة أخرى غير الشعر، وهي موهبة الخط، فأصبحت فيما بعدُ خطاطاً معروفاً في بلدتي. وما زلت أحتفظ بتلك الكراسة حتى الآن.
أحببت الأستاذ محمود وارتحت إليه، وقررت أن يكون هو أول إنسان في الوجود يطّلع على (قصائدي العصماء!) التي لم يرَها مخلوق قبل ذلك، وأن يبدي فيها رأيه (وإعجابه!). وبالفعل، ذهبت إليه في مسجد المدرسة ذات يوم، وكان معي بعض الأوراق التي كتبت فيها تلك (المعلّقات)، فأخذ أستاذي الورق ونظر فيه بصمت، ثم قال لي كلاما لم ولن أنساه، قال لي: (فيه حاجتين بَس حلوين.. خطّك.. والمعنى)!!
كان هذا التعليق صدمة بالنسبة إليّ، فكيف يصف (قصائدي العصماء) بهذا الوصف الذي يجرّدها من كل (محاسنها)؟! كيف يفعل هذا وأنا الذي توسّمت فيه الخير وقلت إنه سوف يشجّعني ويمدح كتاباتي؟!... سألته: (يعني إيه؟).. فقال لي: (يا مصطفى، الشعر ده مجموعة حاجات، منها اللغة، والوزن، والتصوير، والفكرة، وأدوات كتير لازم الشاعر يمتلكها... وكتاباتك دي ناقصها حاجات كتير من ده... انت عندك الموهبة، بس ما عندكش الأدوات).
لم أفهم كثيراً مما قاله لي حينها، ولذا لم أقتنع بما قاله، فشكرته بأدب وغادرت المكان وأنا مكتئب ناقم.
ما فهمته حينها من كلامه أن الشعر عبارة عن (قواعد نحوية)، وأنا لم أكن ملمّاً بقواعد النحو حينها بشكل كامل، فقررت أن أخرج من هذا المأزق وأكتب (بالعامية)، فهي تخلو من قواعد النحو، وبذلك أبتعد عن (عُقدة) النحو التي تقف أمام (منشار) الكتابة!
كتبت قصيدة عامية، ولكني لم أطلع الأستاذ محمود عليها، بل اخترتُ مدرّساً آخر هو الأستاذ فاضل، وأطلعته عليها فقرأها وابتسم وقال لي بإيجاز: (جميل، ربنا يوفقك، استمر). هذه الكلمة هي التي رجّحت كفة العامية على كفة الفصحى في ميزان كتاباتي حينذاك، لذا ظللت السنوات الثلاث في الثانوية العامة أكتب بالعامية فقط، لأني وجدتُ مَن يشجعني عليها.
وأنا في الصف الثاني الثانوي أقيمت مسابقة شعرية على مستوى محافظة الجيزة، وشاركت فيها كل مدارس المحافظة، وأُعلن عنها في مدرستنا فقمت بالاشتراك فيها على استحياء، وذهبت أنا ومجموعة من زملائي وزميلاتي بإشراف أحد المدرسين إلى مدرسة السعيدية بالجيزة، لأن المسابقة كانت مقامة على مسرح السعيدية.
دخلت المسرح، كان مكتظاً بالطلاب والمدرسين وأولياء الأمور، كانت الممرات بين المقاعد ممتلئة، وعلى المسرح كانت منصة لجنة التحكيم ومنصة المتسابق، وكان محكّم المسابقة حينها الشاعر الكبير الأستاذ محمد التهامي.
نودي اسمي بعد بضعة أسماء، فصعدت درجات المسرح وقلبي يضرب في صدري كطبول الحرب، كانت أول مرة في حياتي ألقي فيها شعراً أمام مخلوق... أول مرة ألقي فيها شعراً تكون في مسرح مملوء بالناس على آخره؟! يا له من موقف مهيب لا أُحسَد عليه!
كانت قصيدتي عامية بعنوان (حياة يتيم)، وهي قصيدة رصدتُ فيها قصة طفل يتيم يعاني أشد المعاناة بعد وفاة والدته، فعاش مع أبيه وزوجة أبيه وإخوته من أبيه. قصة تقليدية، نعم، ولكنها حقيقية أعرف أبطالها في الواقع، لذا قررت رصدها في قصيدة.
بدأت ألقي القصيدة أمام ذلك الجمهور الكبير، فوجدت (بالفعل) أرجلي ترتعش من الخوف، ولكن لم يلاحظ أحد هذا الارتعاش لأنني كنت وراء منصة خشبية لا تظهر إلا صدري ورأسي.
بدأ الخوف يتبخر بعد رُبع القصيدة الأول، وبدأت أُلقي بإحساس عميق وحالة صادقة، وفوجئت وأنا في منتصف القصيدة بأمهات ومدرّسات يجلسن في الصف الأول والثاني يبكين وتنزل دموعهن وهنّ يستمعن إلى قصيدتي عن ذلك الطفل اليتيم!! تشجّعت، وأحسست أن كلامي ذو قيمة ويستحق أن أجهر به أمام كل هؤلاء بكل شجاعة وصدق وحرارة.
أنهيت القصيدة فضجّ المسرح بتصفيق وصفير لم أسمع مثله لغيري من الطلاب في ذلك اليوم، ونزلت من المسرح فوجدتُ الأمهات والمدرسات يصافحنني ويهنئنني على قصيدتي ويبدين تأثرهن الشديد بها، وكانت هذه أول جائزة أحصل عليها في الشعر، كلمات إعجاب مختلطة بالدموع.. ما أغلاها من جائزة، وما أثمنه من تقدير!
خرجت من المسرح إنساناً آخر، إنساناً يرى أنه خُلق من أجل شيء عظيم، خُلق من أجل الكلمة، ولديه ما يؤهله لذلك. فقررت من وقتها أن أكون شاعراً بمعنى الكلمة، وأن يكون الشعر بالنسبة لي ليس مجرد هواية أمارسها في وقت فراغي، بل حياة أعيشها، ورسالة أؤديها كما ينبغي أن تؤدى.
دخلت السنة الثالثة في التعليم الثانوي، وبدأ التفكير في المرحلة الجامعية. لم تراودني أحلام الشباب بالالتحاق بكليات القمّة، ولكن راودني حلم واحد، وهو أن ألتحق بكلّية -أيا كانت- أتعلم فيها أصول الشعر وقواعده، ليكتمل جناحا الطائر الشعري بداخلي: الموهبة، والدراسة.. فأحلّق في سماوات الشعر بغير خوف من الإخفاق أو السقوط.
انتهت المرحلة الثانوية، وذهب بي (التنسيق) إلى كلية الآداب بجامعة المنصورة، قسم اللغة العربية. وأذكر أن أستاذي محمود عبد السلام قال لي وقتها إنه حين كان طالبا جامعيا لم يكن يشترك في ندوات ولا مسابقات ولا أي لقاءات أدبية في الحرم الجامعي، وإنه ندم على هذا بعد تخرّجه. ولذا نصحني ألا أترك ندوة ولا مسابقة ولا نشاطا شعريا في الجامعة إلا شاركت فيه، وبالفعل التحقت بنادي أدب الجامعة، وشاركت بنشاط شعري ملحوظ فيه، واجتهدت لمعرفة تلك (الأدوات) التي كان أستاذي يقول إني لم أمتلكها بعد، فاستفدت من النقد والنقاشات الأدبية والنصائح التي كانت توجّه إلي -أو إلى غيري- في نادي الأدب، وفي فترة قصيرة أصبحت من أبرز أعضاء نادي أدب الجامعة وأشهرِهم في الندوات التي تقام في مختلف الكليات، وامتلكت تلك الأدوات في وقت قياسي، وأتقنت فن كتابة القصيدة كما ينبغي.
ثم رشحتني الجامعة لأمثّلها في إحدى المسابقات الشعرية لوزارة الشباب، وحصلت فيها على المركز الرابع على مستوى الجمهورية، فكان هذا إنجازاً لشاعر مبتدئ مثلي في ذلك الوقت، بعد تصفيات لعدد غير قليل من الشعراء الشباب. وخلال فترات اشتراكي في تلك المسابقات في وزارتي الشباب والثقافة، وعلى مدى أعوام، حصلت على المراكز الأولى على مستوى الجمهورية أكثر من عشر مرات.
وبعد السنة الثانية في الجامعة رشّحتني وزارة الشباب لأمثّل مصرَ في مهرجان الشباب العربي التاسع بالإسكندرية، مجال الشعر، وحصلت فيه على المركز الأول على مستوى 14 دولة، ونلت الميدالية الذهبية للمهرجان. بعدها قررت أن أصدر ديواني الأول (لا تذبحوا ضوء القمر) على حسابي الخاص، وقد بيعت نسخه داخل الحرم الجامعي للطلاب والطالبات، بمساعدة مجموعة من أصدقائي المخلصين الذين كانوا يتولون مسألة بيعه وتسويقه.
انتهت الدراسة الجامعية فتزوجت بعدها مباشرة، كانت في يدي وثيقة الزواج قبل وثيقة التخرّج. ثم بدأت مرحلة أخرى في حياتي الشعرية، مرحلة النضوج والاحتراف، فشاركت في كثير من اللقاءات الشعرية التي كنت فيها بين محكَّم في مسابقة ومكرَّم في ندوة، ثم دخلت عالم النشر الإلكتروني على الإنترنت، فحققت انتشارا كبيرا فيه، ثم رُشّحت لأمثّل مصر دولياً، في ليبيا، ثم في سورية، ثم في السودان. ثم جاءت مسابقة (أمير الشعراء) بدولة الإمارات 2007، والتي شارك فيها 5400 شاعر على مستوى العالم العربي من سن 18 إلى 45 سنة، وتم اختيار أفضل 300 شاعر، ثم أفضل 70 شاعراً منهم، ثم أفضل 35 شاعراً للنهائيات، فكنت واحداً ممن اختيروا للتصفيات النهائية ونلت جائزة لجنة التحكيم.
في تلك المسابقة (أمير الشعراء) شاركت بقصيدتين، القصيدة الأولى كانت بعنوان (عيون عبلة)، وقد لقيت هذه القصيدة تكريماً واحتفاءً داخل مصر وخارجها، فأقامت جامعة الأزهر لها احتفالية خاصة وتكريماً في كلية الدراسات الإسلامية والعربية بكفر الشيخ. أما القصيدة الثانية فبعنوان (مطري يسافر في سحابك)، وكانت مهداة إلى بغداد، وقد تُرجمت إلى اللغة الإنجليزية ونُشرت على كثير من المواقع الأدبية الشهيرة على الإنترنت.
صراحةً، لا أجد المقام هنا يتسع لسرد كل ما نالته القصائد من جوائز وما نال صاحبها من تكريم، والحمد لله واهب المواهب والمنعم بالنعم. لكن دعوني أرجع إلى ما بدأت به كتابة هذه السطور، وهو أنني سأظل ابن ذلك النخيل السامق، وابن ذلك الحقل الأخضر الذي امتلأ صدري بهوائه النقي، فخرج زفراتٍ بريئةً صادقة تناجي الكون ومَن فيه، وتقول لهم:
...
يا قومِ
إني شاعرٌ..
لا أستطيعُ العيشَ في ظُلَمِ القبورْ
أنا شاعرٌ تسري بأوردتي دماءُ قصائدي
فيشِعُّ في جنبَيَّ نورْ

قلمي يسافرُ فوقَ أرضِ الصدقِ..
يُمطِرُها بوابلهِ فَيَخْضَرُّ الضميرْ
قد عشتُ للوطنِ المقيَّدِ بين أغلالِ الذئابِ وخلفَ أسلاكِ المصيرْ
جُرحُ العروبةِ شَقَّ صَدْرَ قصائدي
فتأوّهتْ كُلُّ الحروفِ وأقسَمَتْ
أنْ تَحْمِلَ الهمّ المُقيمَ بقُدسِنا
وتُعيدَ بَسْمَتنا إلى لُبنانِنا
وتُكفكِفَ الدمعَ المُراقَ على رُبا بغدادِنا
وترُدَّ للأمِّ الحزينةِ وجهَ فارسِها الأسيرْ
أنا شاعرٌ..
سأظلُّ أنزفُ للعروبةِ أحرُفي..
حتى يعودَ الحُلم والوطنُ الكبيرْ
ولسوف تكتملُ القصيدةُ في دِمَايَ
وحينَها..
ستكونُ آخرُ زَفْرةٍ أُلقي بها -قبلَ الشهادةِ-
زَفْرةَ البيتِ الأخيرْ
...

ثانياً: وأوراق عمل المائدة المستديرة

من الواحد إلى المتعدد

محمد آدم

أن أكتب عن الشعر تلك مسألة شاقة، فأنا لا أعرف في الشعر، إلا ما تعرف الزهرة عن الوخز واللون والندي، ما تعرفه الكراكى عن بقية الطيور، وليس هناك من قارة واحدة يمكن لى أن أقول إن هذه القارة تصلح للشعر، وأن باقي القارات لا تصلح له.
الشعر- إذن – هذه المساحة الكونية من الكلمات والمعارف واللغة، والإشارات، والإداركات التي يقوم الشاعر بامتصاصها بفم فراشة وأصابع ربيع لكي يقوم برحلته الجوية الشعرية على أكمل درجة!!.
الشعر هو هذه المدن المجهولة، الغريبة، التى تصيبك بالدهشة والدوران وأنت تدخل أزقتها وحواريها وشوارعها، وتحدق إلى أنهارها، وطيورها، وأشجارها، لياليها البيضاء، والسوداء دون أن تبالى بأي شئ سوي هذا الغرور الممزق الهائل الذي يعتورك وأنت مأخوذ بكل ما تري، وتسمع، وتحس، وتشم، فلا توجد مدينة مثل مدينة، ولا قارة مثل قارة، حتى عناصر الطبيعة الأزلية من شمس وقمر ونجوم وسحب، هذه كلها تختلف باختلاف كافة المدن التى تدخلها للمرة الأولى، ورغم أننا نكون قد رأينا القمر آلاف المرات، وتطلعنا إلى تلك الشمس ملايين المرات، وأمطرتنا سحب هذه البلاد، أو تلك بقطراتها التى تبلل كل شئ بدءاً من الفراشات وحتى الأحذية، أقول إن كل هذه الطبيعية، تختلف باختلاف المدن كذلك، كما تختلف كذلك باختلاف الأرض والزمن، فالمطر فى الصيف غير المطر فى الشتاء وكذلك الشمس والقمر، فالقمر فى الصحراء غير القمر فى المدينة، والقمر على المحيطات غير القمر عبر مستنقع!!.
صحيح أن الضوء واحد ولكن رؤيتنا واستقبالنا لهذا الضوء تختلف بالقطع باختلاف زاوية الرؤية والرائي معاً.
هذا هو الشعر الذي أراه أو أفهمه، إنه هذه النغمة الموسيقية التي لا تتشابه مع أية نغمة أخري فى سيمفونية الشعر الكونية، لا يمكن لنغمة واحدة أن تتكرر عبر هذه السيفونية الشعرية وإلى ما لا نهاية، تماماً وكما تدخل مدينة ما من المدن فتأخذك ألوان نسائها، وشكل رقصات شعبها، وأغنياتها كل مدينة قصيدة بمفردها، تختلف استانبول عن قازان والقاهرة عن طنجة, ومراكش عن نيويورك، والدار البيضاء عن زنجبار، ورغم أن كلها يحمل على كتفيه اسم مدينة.
ولا يمكن للحظة الشعرية الراهنة إلا أن تكون بمثل هذا الاختلاف والتنوع، وأما أن تأتى القصائد وكأن يداً واحدة تكتبها، وكأن لساناً واحداً أنشدها، نفس اللغة المخبوزة فى الصناديق الشعرية، ونفس اللحظة الشعرية, نفس اللغة التى لا تخرج طازجة من تنور الكتابة الشعرية والبالغ الفوران واللظى، نفس الاسطوانات الشعرية الجاهزة وكأنها أنابيب الغاز المتشابهة اللون والطعم، والرائحة، تكاد لا تلمس فى النص الشعري القادم إلا نفس النبرة بنفس درجة الصوت، نفس الطبقة الموسيقية بنفس الأنين والوثية، وكأنما قد تخلصنا من اشتراكية ماركس وإنجليز، ورستا ليني، لا بالمفهوم الإنسانى ولكن بالمفهومات السياسية والأيديولوجية، لنسقط فى اشتراكية الشعر بكل ما تعنيه هذه الاشتراكية الشعرية من مجانية، وعطائة ونقص فى الخيال أو القراءة، تحولت الكلمات من عبوات ناسفة تحمل معها متفجراتها اللغوية، بكل ما تحوية اللغة من تفجر وخصوبة وتربة بالغة الثراء والاختلاف إلى لغة عاجزة الأطراف، كسيحة، متشابهة، تتساند الحروف والكلمات على بعضها البعض، كما تتساند مسنات دار عجائز وأيتام على بعضهن البعض، حتى لا تقع أولئك المسنات فى الغفلة أو النسيان، ولا تعود الذاكرة أو المخيلة منشغلة إلا شئ واحد فقط تجنب الموت أو التذكير بالحياة والوجود طالما أن الرئة تعمل والقلب ينبض، والأطراف ترتعش.
فبدلاً من أن تكون قصيدة النثر هى مستقبل الشعر العربي، المستقبل الفاتح ذراعية لطاقة الرؤي والتصورات ولجميع الخيول الراكضة فى الحلبة أن تكون خيولاً لفاتحين غزاة، يحملون فى أيديهم رايات الاكتشاف والانطلاق والمغامرة، والتمرد والثورة، على مستوي البناء واللغة. فإذا بنا ومن الجولة الأولي نكتشف أن هؤلاء الفرسان مصابون بعسر فى الهضم، والأنيميا، وفقر الدم ولين العظام، وتجفيف النص الشعري إلى درجة الصفر فى الكتابة بحيث تحول النص الشعري من نص طازج، بكر، مغامر، مكتشف، بلا سابق له ولا شبيه إلى النص مقطوع الأطراف، موصل، منمط، سابق التجهيز تماماً، مثله فى ذلك مثل كافة المساكن الشعبية أو المساكن سابقة التجهيز، والتى يستطيع كل أحدٍ أن يسكن فيها لمجرد الإقامة فقط أو ستر العورة، دون أن يكون فيها أدنى درجة من درجات الخصوصية أو التميز،

أو دون أن يتمتع بأبسط شروط الحياة الإنسانية وهو الوجود الحى الخلاق، بدلاً من الانزراع فى الوجود وكفي!!.

***

الشعرية الجديدة بين الريادة والكهانة

محمود قرني

ليس ثمة إمكانية للتعامل مع الشعرية الجديدة دون إدراك لأهمية التحديثية فى النص الريادى، وبالتحديد، فى لحظته التاريخية، أما محاولات الفصل بين راهن الشعرية وماضيها، فى ظنى، فتنطوى على الكثير من أفعال المراهقة الشعرية والفكرية معا.
كما أنه ليس من الملائم أيضا الحديث عن مشروع الريادة فى الشعر العربى، أو ما نسميه بقصيدة التفعيلة، تحت إلحاح هواجسنا بضرورة جره إلى متحف التاريخ، وساعة نفعل ذلك فلن نستطيع أن نجعله مجرد ذكريات نراها فى أحلام يقظتنا، أو نصحبها فى العطلات الرسمية والمتنزهات.
إن المشروع الذى يصل إلى هذا الشيوع وهذه الثقة المفرطة، لا بد أن يتحول إلى كلاسيات راسخة، تأخذ مكانها فى الروح والضمير العام بعد أن دخل الشعر العربى ـ لأول مرة فى تاريخه ـ إلى مضامين جديدة، كانت تجليا مخلصا وواعيا لسنوات، بل قرون، من الحرب ضد اليقين والثبات.. لذلك فإن استعادة الفرد لصوته الخاص كان مطمعا غاليا عضت عليه القصيدة بالنواجذ، مؤيدة فى ذلك بمناخات الصوت الجمعى الذى كرسته ودفعته للأمام الدولة القومية.
فلأول مرة يصبح العقل العربى مؤهلا لأن يكون عقلا تركيبيا، ولم تعد القصيدة مجاميع من البدهيات والتراتبيات الأليفة حول الطلل والعشائرية. إن العقل الجمعى الذى صاغ توجهاتها كان حريصا على أن يكون عقلا كليا شاملا ومعنيا بالبحث عن يقين آخر، مولعا بتقاويم معرفية تستند إلى بطولات جديدة ومتعددة تضرب فى عمق التاريخ وترتدى الأقنعة، وتلتبس كثيرا على الرائى، لذلك فقد عرف الشعر العربى ما يسمى بانحراف الدلالة وتجلياتها، بما فى ذلك التماهى فى الأسطورى والتاريخى والحضارى الإنسانى العام والشامل.
وهكذا كان انطلاق الشعرية الجديدة بمثابة طريق مؤكدة نحو خلود من نوع آخر. خلود لا يخالطه الخوف من الميتافيزيقا. بل كان فعل الجرأة الذى انتهجته القصيدة دالا على القطيعة مع الماضى، والمؤسسى، والغيبي. وكانت الاندفاعة كلها تعكس الرغبة المحمومة فى بناء إنسان وعقل جديدين، ينتميان بشدة إلى الحاضر وإلى المستقبل. وإن خالط المشروع فى جملته نكوص من نوع آخر فهو نكوص الحراك الأممى والجماعى، الذى كللته الخيبات الإنسانية ودهمته سلطة القوة الغاشمة وأطاحت بآماله أفراس غبية، تجرى ضد الإنسان أينما كان.
ربما لهذه الأسباب أصابتنا الحسرة على المشهد. وربما لأن الشعراء أنفسهم خامرهم يقين آخر بالنكوص، هو فى الوقت ذاته نكوص الشعر ونكوص الإنسان الذى يتساقط جلده فى المراكب التى تعبر يوميا إلى الشمال لتهريب الجائعين من أهل الجنوب. وربما كانت اللافتة كلها تعبيرا مجازيا عن الاضمحلال الأكيد لكل المعانى التى وسمت به الحضارة نفسها منذ فجر التاريخ.
إن كل ما يجرى يدعو للحزن والأسى. فعندما كان الشعر مؤازرا للجرح، آزره الجرح أيضا، وعندما حلم بتحرير الإنسان ناصره الإنسان، وعندما هم بإقرار العدالة، تأودت العدالة، وعندما حلم بركل بثور التخلف واجتثاثها من الجذور ضحك السابلة بعد غيبوبة طويلة.
الكارثة التى أفاق على وقعها المتعبون، هى أن الشعر صاحب وظيفة أخرى، ليس لأنه أقل أو أدنى من القدرة على تغيير العالم، بل لأنه الصوغ الصامت والمستبطن لتاريخ الكون والإنسان فى كافة صوره ودلالاته. اكتشف الشعر وظيفته المثلى فى دوره الجمالى ليس أكثر. فالشعر يقيم العدالة فى الغرف الصغيرة لكنه لا يستطيع جلد السفلة والقتلة، الشعر يتحرر من أسر الأعراف وغبائها وتسلطها، لكنه لا يستطيع أن يكتب صك الحرية حتى لصاحبه. الشعر يمكنه أن يركل الماضى لكنه لا يستطيع إقامة الحد على سدنته. إن فعل اليوتوبيا يحتاج الى تماهى الإرادات المتباينة لا تنابذها. اليوتوبيا فعل إلهى آخر، وعندما يلجه الشعر،.. يكون قد ولج إلى ما لا يملك، ويكون قد أخذه الشيطان بلا رجعة. وأنا بدورى أندب هذا الشعر الفردوسى العظيم لكنه ليس وحده المكلوم، والوجيعة ليست وجيعة الشعر فى واقع الأمر، إنها وجيعة الإنسان، ابن الحياة ووارثها.. ومالك سُنة الأعمار فيها.. الرائى والكاشف ومختبر القناعات.
لا شك أن الشعرية العربية تعرضت لطفرة هائلة فى بنيتها، إبان مشروع الحداثة الشعرى الذى توزع رواده بين بقاع عربية عديدة، أثرت وتأثرت تلك المشاريع بقربها وبعدها عن مركز التحديث الأوروبي، ولكنها ظلت جميعها مشاريع تبنى موقعها بوحىٍ من ثقافاتها القطرية حينا والقومية أحيانا أخرى، فى الوقت الذى تضخم فيه دور الذوات الصانعة بدرجة مفارقة، حتى بدا النص موروثا شفاهيا، يحتفى بخطاب مجرد وكان وجود المتلقى ليس حقيقيا لكنه وجود مفترض، غير أن ما أضافتاه، العرفانية والذاتية معا، أكد على مظاهر عديدة من أهمها اللغة التاريخية بكل تجلياتها النحوية والصرفية ومنبريتها العارمة، وأصبحت النصوص تقتفى لنفسها دينامية على درجة من الوعى القائم على أذيال هذه الشفاهية.
وقد انهمرت القصيدة فى فوضاها باحثة فى الحسى والرؤيوى والإشارى والمجرد، ضاربة ماضيها برفق بالغ وبوعى بالغ أيضا، لذلك فإنها عادت لاستخدام هذه الموروثات بقوة فى أقنعتها المتعددة، بالرفض حينا وبالقبول حينا آخر وقد طرح كل من أدونيس وصلاح عبد الصبور وعفيفى مطر ومحمود درويش من بين ما طرح، أهم نماذج النص الجديد وأقصى انفعالاته ومعطيات لحظته الشعرية. فأدونيس أكد منذ "قصائد أولى" فى العام 1947 أنه ابن لقناع إله الخصب الكنعانى الذى خضبت دماؤه شقائق النعمان، غير أن ذلك لم يحل بينه وبين إدراكه لمعطيات التحديث... على مستوى تأكيد الذات والزمن والرؤية كما يفترض مفهوم الحداثة وخصائصها، فقد لعب العالم الداخلى دوراً مهما فى إبطال الدور الاجتماعى للعمل الأدبى (واعتبر الوعى الذاتى، لا الواقع الخارجى محوراً أساسياً للإبداع)، وهو الحس الناتج عن الشعور العام بالاغتراب الذى لازم النص، ولم يكن أدونيس منشغلا من قريب أو بعيد بما طرحته الماركسية حول اعتبارها الحداثة تعبيراً عن انهيار ثقافة البرجوازية، وظل البحث الدائم عن الأقنعة بداية من "مهيار الدمشقى" فتحا جديداً فى ترميزات أدونيس الشعرية أمام كنوزه التراثية بعد تراجعه عن كثير من المقولات التى أطلقها إبان المشروع الثقافى الذى طرحته مجلة "شعر" فى بداية الخمسينات، وهو التطور الذى جاء موازياً – على المستوى الموضوعى – لتوتر البنية الإيقاعية ودفع الجملة الشعرية إلى تكثيفات مضاعفة، لذلك فإن الحديث عن الغموض لدى أدونيس وأقرانه باعتباره بغية فى ذاتها، كما يرى صلاح فضل، يعد تجاهلا لهذه السرية التى جلبها الشكل والموضوع إلى النص وهما عنصرا الكثافة فى الفن ولن يمكننا "أن ننفى عن حياة الإنسان غموضها وسريتها وهو الطابع المؤكد بأكثر من تأكد الفهم والوضوح". وغموض الشكل الفنى وصعوبته ينجم – كما يرى السرياليون – عن غموض محتواه أو عدم إمكان فهمه ، وترى الدكتورة خالدة سعيد أن محتوى "أناشيد مالدورور" أكثر الموضوعات استغلاقا على الفهم، لأنه موضوع تمرد الإنسان على الله، لذلك فإن الفنان بهذا المعنى أصبح يشارك فى صياغة أسطورة المعرفة من خلال اللاوعى الفرويدى المستمد من مادة النشاط اللاواعى للإنسان، لأن الفنان لا يخلق مشكلة عصره وإنما يخلق الصيغ الموازية التى يمكن أن تسهم فى فهم سلم المشكلات الإنسانية جميعا".
لذلك فإن العودة فى هذه اللحظة للتأكيد على أهمية التعبيرية وتوجيه السباب للاتجاهات الأخرى بحجة التجريد هو قصر نظر فى العقل النقدى لا يمكن تفسيره إلا على أنه استجابة للخطاب السياسى الفج والمباشر الذى لا يلعب العنصر الجمالى فيه دوراً حيوياً، وهو تصور مدرسى لنقاد لم يتجاوزوا بمعارفهم حلقات التعليم الأولى. وأمام عرفانية أدونيس تأتى حسية عفيفى مطر، وبساطة ورومانتيكية عبد الصبور الذى نفض يده من الأبنية الأيديولوجية، مؤسسا منهجه الشعرى على الخاص الذى ينفى الخطاب المركزى والزخارف والأبنية اللغوية الفخمة، باحثا عن كائناته الحميمة والحزينة، متمتما بأن ماركس وإنجلز (لم يقوما بصياغة منهجية للمبادئ الجمالية، حيث اعتبر النشاط الفنى عنصرا من عناصر البناء الاجتماعى الفوقية، أو طبقة من طبقاته الظاهرية المتعالية) لذلك فإن عبد الصبور يرد الفن إلى المعرفة النوعية بموضوعها ولغتها، لا إلى المعرفة الكلية التى تتزايد قيمتها حسب ماركس عبر الأنظمة الطبقية باعتبارها أثرا فنيا لمعرفة كلية، ويؤكد عبد الصبور رؤيته قائلا (الفن لا يخدم المجتمع، ولكنه يخدم الإنسان) وهو تصور محايث لحداثة نفى الدور الاجتماعى وإبداله، حيث إن كل شيء فى الحياة يكتسب أهميته من خلال علاقته المباشرة بالكائن، لذلك فليس غريبا أن تكون المرجعية الدينية بتراثها الفنى إحدى مرجعياته الأساسية كشفرة للترميز.
أما عفيفى مطر الذى أدرك مأزق النص لدى أدونيس فى أقصى مراحل عرفانيته ولدى عبد الصبور فى أقصى مراحل بساطته فقد ذهب إلى تأسيس نص يجسد تمايزاته عبر قناعاته بخصيصة المكان التى تتجلى بوضوح منذ ديوانيه "الجوع والقمر" و "يتحدث الطمى" حيث يتجلى الموروث الشعبى والخرافة القروية والعودة إلى السلالة عبر نطفة الخلق الأولى. إن وحشية واندياح الصورة الشعرية لدى عفيفى مطر ملمح أساسى حيث تتناثر أسطورة المكان هنا وهناك معتمدة بشكل أساسى على صورة العناصر الأولى للمادة.
ولن تتلاشى بسهولة التأثيرات الضخمة التى خلقتها تجارب محمود درويش وسعدى يوسف وأحمد عبد المعطى حجازى وقبلهم بدر شاكر السباب ، حتى وإن بدت مساحة المغامرة الشعرية ذات إطار أكثر تحديداً داخل هذه التجارب، وهو تحديد يجد مرجعيته فى الكثير من الشفافية والرومانتيكية التى كللت هذه الشعرية وجعلت الكثير منها يجرى على الألسن فى نماذج كانت الأكثر استنساخا.
وربما لهذه الأسباب كانت هذه التجارب باحثة أبدا عن الجوهر الشعرى بعيداً عن ظلال المعرفى والتركيبى، ومستوى هذه المغامرة عادة ما يرتبط بالموضوع الشعرى وليس بشكله ومن ثم تتأطر مساحات التجريب.
ونستطيع القول إن التحولات التى طرأت على المجتمعات العربية إبان الخمسينات، ودفعتها سياسيا إلى تبنى موقف قومى تحت رايات عديدة دفعت الإبداع دفعا إلى صورته الملتزمة، إلا أنها... لم تستطع أن تسلب المشاريع الإبداعية الحقيقية روافدها الجمالية وهو ما حفظ لهؤلاء الشعراء مصداقية وحيوية ممتدة عبر أقصى لحظات الانحسار القومى.
وكان طبيعيا أن يمتد أثر هؤلاء الرواد إلى التجربة اللاحقة لهم، والتى تمثلت فى شعراء المد السبعينى فى مصر والعالم العربى، حيث شهد الواقع السياسى والاجتماعى تغيرات هائلة، تفسخت على أثرها الطبقة الوسطى فى مصر وتوارى الحلم القومى الذى كان يمثل مشروع الدولة الثقافى آنذاك، وإثر تفتت الطبقة المتوسطة لم يمر وقت طويل حتى صعدت إلى السطح قوى اجتماعية بديلة. وسرعان ما تجلت ملامح هذا الصعود. وكان انحياز الدولة لمشروعها الجديد له أثره البالغ فى القضاء على القوى السياسية المختلفة فى الوقت الذى غُلَّت فيه يد المؤسسة الثقافية عن القيام بدورها، فظلت بعيدة عما يجرى، وفى هذا المناخ ولدت تجربة شعراء جيل السبعينات الوراث الأكبر لهزيمة 1967م.
وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع هذه التجربة فالمؤكد أنها ولدت فى خضم أزمة اجتماعية طاحنة، أثرت بدرجة كبيرة على النماذج الإبداعية لدى الكثيرين من شعرائها.
وقد واصل السبعينيون بدأب مسيرتهم الشعرية، حيث أدركوا منذ البداية أن يد المؤسسة إن لم تكن ضدهم فهى ليست معهم، فاعتمدوا بالفعل إمكاناتهم الخاصة فى طبع دواوينهم وعقد ندواتهم ومجلاتهم الخاصة فلا تذكر حركة طباعة "الماستر" إلا وذكر السبعينيون، ثم انقسموا إثر صراعات طبيعية إلى جماعتى (إضاءة) و(أصوات) وكان الغريب أن العامل السياسى والأيديولوجى كان الموجه الحقيقى لهذه الصراعات حسبما كشفت بعد ذلك وثائقهم، وهو ما أجج المعارك والاتهامات بين الفرقاء وامتلأت الساحة الشعرية بالمشاحنات التى وصلت فى بعض الأحيان إلى الاتهام بالخيانة، وتكون فيما بعد ما سمى بـ "شعرية الخنادق"... وقدمت هذه الشعرية نفسها على أنها النموذج المثال الذى ألقى بقصيدة الريادة فى مزبلة التاريخ، وأطلقت صيحات من قبيل "قتل الأب" ومورست عداءات سرية قاتلة ضد هؤلاء الآباء، ولم يكن هذا الصوت الصاخب الذى كان يلجأ لإطلاق الشعارات بين الحين والآخر سوى رد فعل للإحساس العميق بالأزمة، فأمام أزمة الواقع الطاحنة انكفأت ذوات الشعراء على نفسها وأغرقت فى التجريد والذاتية حتى إن الدكتورة سلمى الجيوسى وصفت هذه الشعرية بأنها "تجربة كلت من كثرة التعسفية فى الصورة الشعرية"، وأضافت أن "هذا تعسف لا يمت للشعر بصلة، ويستطيع المرء أن يقول إن ثمة عدوانا غير مسئول حدث على تقنيات الشعر، فى نقطة اللا احتمال بسبب هذا الإرهاق النفسى الجمالى"، وكانت الدكتورة الجيوسى تشير إلى ضرورة اختفاء الصوت الجهورى والخطابية، ليس لكى يخسر الشاعر عنفوانه ولكن لكى يعلو على الاستفزازية، وهى بالفعل قضية النص النثرى الآنية.
غير أن حديث الجيوسى لا يمكنه أن يكون صحيحا على إطلاقه لعدة أسباب أولها أن هذا الحديث كان فى فترة متقدمة من حقبة الثمانينات حيث كانت هذه الفترة هى ذروة التلبس بالأقنعة الصوفية وتداعياتها اللغوية المحضة، وثانيا لأن هذا النسخ الذى قبضت عليه الجيوسى لم يستمر قرينا لهذه التجارب فى إجمالها، فقد خرجت مبكراً التجارب المهمة واللافتة من هذا النفق المعتم، ولم تذهب إلى هذه المشاعية سوى تجارب الشعراء الأقل شأنا والأقل تأثيرا فى هذه التجربة.
يقول شارل موريس (إنه لما لم يكن هناك شيء، فهذا يعنى أننا فى اللحظة المواتية لتفتح شيء) وقد كان موريس يرمى إلى أن هناك أزمة فى النص الشعري، ويعنى أننا فى انتظار اللحظة المواتية لتفتق أشكال جديدة قادرة على هدم مسلمات عديدة... وفى الحقيقة لا أعلم إذا كانت هذه هى لحظتنا المناسبة أم ذلك محض رغبة فى الهدم خلقها السأم العمومى الذى خلفه غياب المشروع الثقافي.
الواقع إن قصيدة النثر، الشكل القديم الجديد، التي هي محور هذه المحاولات التثويرية، أصبحت تجد لها ملاذا آمنا باحتضان معظم الأجيال الجديدة بل والقديمة لها، بعد تحول معظم شعراء التفعلية إلى كتابة هذا النص والاحتفاء به وتقديمه فى كل مناسبة كشكل من أشكال الخلاص.
ويطرح النص النثرى الجديد نفسه كبديل لإشكاليات عديدة تجلت مع نص التفعيلة ففى اللحظة التى يتراجع فيها الشعر إلى منطقة اليومى والبسيط، يتراجع النص الريادى بتهمة انسحاق الذات أمام القضايا الكونية والإنسانية الكبيرة مثل أسئلة القيم الكبرى فى الموت والحياة والخلق وما إلى ذلك، وفى الوقت الذى يؤكد فيه النص النثرى على تهميش البلاغة وزخارفها، فإن النص الريادى يتراجع بتهمة الشفاهية الناتجة عن الخطاب اللغوى الأيديولوجي المؤسس على بلاغة يلعب فيها الموروث الدور الأساسي، وفى الوقت الذى تطرح فيه قصيدة النثر تدمير المكان وعلاماته بضرورة إنشاء النص الإنسانى المتجاوز، يتراجع أيضا النص الريادى بتهمة "أفدح" وهى الشوفينية والالتزام وتبادل الأنخاب مع الأوطان.
ولا شك فى أن قصيدة النثر جاءت فى لحظة مفصلية تتغير فيها ثوابت كثيرة على المستوى المحلى والعالمى فى ثورة ما بعد الحداثة والمعلوماتية الهادرة من كل مكان وأيضا فى لحظة يتم فيها التشكيك فى دور النص الريادى، ولكن السؤال: هل هذه المراجعات مع النص الريادى على مستوى المفهوم تعنى أنه يفقد فاعليته؟ وأتصور أن الإجابة بالنفى أو بالإيجاب لن تكون ذات معنى، لكن المؤكد أن ثورات التحرر فى العالم الثالث هى التى (دشنت استرجاع الفرد صوته فى الشئون العامة والخاصة ومهدت لتوسيع حدود طبقات اجتماعية مسحوقة وهو الأمر الذى أعطى قيمة رفيعة لمعنى الالتزام فى الفن والأدب..)، فهل يمكننا بطريق آخر الجزم بأن الواقع فى العالم الثالث تجاوز مأزقه تجاوزا سليما يرتبط بحركات تحديث حقيقية، تمنح هذه الانقلابات الأخلاقية مبررات الإزاحة؟‍‍‍! قد يكون ذلك صحيحا فى جانب منه وهو الأمر المتمثل فى حالة السأم العمومية التى أصابت المتلقى بفعل الشعر الفاسد الذى طرح مجموعة من الهلوسات والأمراض باعتبارها تجليات لتقدم النص، وهو تصور يدخل ضمن هذا التاريخ من الهلوسات المشار إليها، وقد حدثت فى بداية القرن ردود أفعال عنيفة ضد الرمزية وضد كل ما هو ذهنى، ودعا النقد الغربى إلى الاقتراب من الحياة أكثر، أو نحو "الحقيقة الملموسة" وقد شهدت فرنسا بالفعل تيارا يتبنى هذا الشعر الملموس منذ العام 1910م، إلا أن واقع الشعر الأوروبى تغير تماما بعد الحرب العالمية الأولى، فقد ظهرت الدادائية والسوريالية لتحطما (قوى النظام والتنظيم الفنى تماما)، ولكن يبدو أن الكائن فى العالم الثالث وصل إلى نقطة اللاعودة... لا إلى القيمة، ولا إلى المعنى... وقد يتراجع هذا الشعور إذا ما ارتبط بمشاريع ثقافية وطنية واضحة المعالم حتى لو علمت فى إطار من التدويل.
أود أن أتساءل قبل الخوض فى تفاصيل أكثر حول راهن الشعر المصرى فيما بعد السبعينيات، وعما آل إليه النص السابق على الشعرية الراهنة عبر مقولات بعض رموز الريادة المصرية والعربية وعبر الخطاب العام الذى يبدو أن مقولاته باتت تجرى مجرى الحكمة، وكأن ثمة مخلصا لا بد من خلقه كى يكون هو حامل النبوءة وحامل سراج المستقبل للإنسان فى هذا الكون.
لكن الإنسان الذى آزر حلم تحريره، يرفض أن يتحول شعراؤه إلى أنبياء ومخلصين وشهداء على مذبح الصوامع الصغيرة التى تبتلوا فيها. أليس من حق هذا الإنسان أن يختار؟! أظن أن المقدمات التى أشاعتها الريادة تتناقض تمام التناقض مع الحق الذى شرعته لإنسانها، وها هى تتحول إلى سوار ذهبى فى رقبة المستقبل. وعندما يظل الخطاب على هذا النحو خارج الشعر دائماً، فقد وقع لا محالة، فى الأيديولوجيا. لقد تخطى الوظيفة الجمالية إلى وظيفة أخرى، هى أليق ما تكون بالساسة وصناع الأفكار وصناع القنابل الفتاكة. ولا أظن أن إضافة هذا الزخم الشعرى كله إلى خطاب الأيديولوجيا سيكون عملاً موضوعياً، لكن المؤكد أنها لم تكن الغاية التى ينشدها شعر "التحرير والنبوة". وإن كانت مقولات متناثرة هنا وهناك تؤكد الأفول الذى اعترى خطاب التحرير هذا، قبل أن يسلك طريقه إلى الشعر الخالص.
والنظر السريع إلى ما يردده بعض روادنا يؤكد هذا الدفاع الحالم عن علنية الشعر ونبوءته بالتغيير. "فأدونيس" يؤكد دائماً على أن لغة الشعر تفلت من كل تحديد، ويؤكد فى الوقت نفسه على أن الشعر الجديد يفتقد الخاصية الأولى للحداثة، وهى الرؤية النابعة فى نظره، من موقف حتمى لتفكيك بنية العالم القديم بأصولها المعرفية والجمالية، وبالعلاقات التى أسست لهذه الأصول.
أما "محمود درويش" فيعتبر الدفاع عن الشعر، دفاعاً عن روح الأمة ووجودها الثقافى وأن التجديد والحداثة يراد لهما أن يتحولا إلى مرادفين للعدمية وللثورة المضادة أحياناً، حيث لا يصبح هنالك معنى للأشياء.
وكذلك يؤكد "سعدى يوسف" أن قصيدة النثر العربية ارتكنت إلى مرجعية ضعيفة هى مرجعية الشعر الفرنسى، وأنها فى معظم الأحوال، اعتمدت التقليد المطلق للمجاز والاستعارة. وأن الفارق الوحيد بينها وبين قصيدة التفعيلة هو خلوها من الوزن، بينما كل تقنياتها تقليدية ومتخلفة.
ولا يختلف الخطاب المضمر لـ "محمد عفيفى مطر" عن سابقيه إن لم يكن أكثر عنفاً، وقد عبر عن ذلك بصور متعددة، وربما كان رفضه للأبنية اللغوية القائمة، هو من قبيل الدفاع المستميت عن بناءاته اللغوية الفخمة التى تؤسس مشروعه فى مجمله. أما حديث حجازى عن رهنه تحقق الشعر بالوزن باعتباره شرطاً لازماً لا يقوم الشعر خارجه، فإنه يثير، من جديد ، قضية شائكة وملتبسة حسم أمرها الأقدمون، ووجهوا بسببها انتقادات حادة إلى بحور الخليل بن أحمد، فقد ذمه "الجاحظ" فى لحونه وإن اعترف بفضله على النحو والعروض. غير أن كثرة من الباحثين أجمعوا على أن "نظام الخليل لا يصلح لـ وصف إيقاع القصيدة القديمة نفسها، ناهيك عن القصيدة الجديدة". وهى قضية لن نخوض فيها، لأن الخلط القائم تاريخياً بين العروض والإيقاع لم يتمكن البحث العربى من استكناه مدلولاته ولا فروقه الدقيقة التى، وإن اقتربت من المعرفة، إلا أنها تستحيل على الوصف.
والخطاب الريادى فى مجمله، فضلاً عن رسوليَّته، يرفض خطاب المستقبل جملة وتفصيلاً، وإن اختلفت الأسباب، وهو موقف لا يختلف مع أصوليته ويبدو شديد الاتساق معها. ومناقشة هذه الأفكار عبر فكرتى الخطأ والصواب ليس وارداً. لكننى أريد الإشارة فقط إلى أن هذا الخطاب الذى كان يقود فكرة التغيير والحرب على اليقينى والثابت لأسباب ذكرنا بعضها، يقود الآن فكرة تثبيت المشهد على علته المستقرة لنفس الأسباب. وربما كان الخطاب فى مجمله هو أحد تجليات الأزمة التى يعيشها النص الريادى، ليس فى نماذجه المتبوعة والمستنسخة فحسب، لكن فى الشواهد الشعرية لهؤلاء الكبار الذين تحدثوا إلينا قبل قليل، يشمل ذلك معظم إصداراتهم فى السنوات الخمس التى تسبق هذا التاريخ على الأقل.
وأظن أن كتاب "الكتاب" لأدونيس فى جزءيه العظيمين، هو أعلى تمثيلات هذه الأزمة. فهو بحق أعلى تمثيلات هذه الشعرية الرسولية، ولم يكتب أدونيس حرفاً واحداً فيه خارج هذه الروح. بل إنه يحاول، منذ عنوانه، وضع الدستور النهائى للشعر والمعرفة، وكأنه السقف الأخير الذى تنتهى عنده الأشياء. بل إنه يهدف إلى التساوق مع أعلى نصوص العربية قداسة، وكأنه شريعة أخرى تأتى فى الختام لراهب عظيم، قضى عمره فى وضع السنن الجديدة للحياة وللكون معاً، ومن هنا يأتي تعاليه، وتأتي ذهنيته، ويأتي احتماؤه بالمعرفة، ومن هنا أيضا يأتي تنكيله بالشعرية، التي أخفض أدونيس من شأنها، لحساب كل العناصر التي تقف خلفها.
علي جانب آخر لم يعد من الملائم أن نشير إلي قصيدة النثر بعمومية مفرطة، باعتبارها "أداة لمعاينة العالم وتأمل شرط الوجود الإنساني". فمثل هذه الإنشائية لا تصل قطعا لتحديد مفاهيم، لسنا في حاجة إلي تحديدها، علي الأقل في اللحظة الراهنة. ويكفي أن نعود إلي ما قاله الرومانسيون، والرمزيون والبرناسيون وجميع الاتجاهات التي تساوقت مع مذهب الفن للفن، حتي نكتشف مغالطات هذه الإنشائية وركاكتها ، وسطوها علي منجزات الماضي، الذي تطمع قصيدة النثر إلي تجاوزه عبر مقولات تتواءم مع أطروحاتها.
وربما كانت مثل هذه التعميمات وراء المبالغات التي أكدت عليها القصيدة واندفعت نحوها في عشوائية وبروح قطيعية، لم تفرق بين العام والخاص. كان ذلك جزءا من المحاذير التي طرحتها قصيدة النثر براهنيتها المطلقة والمخيفة.
ورغم التمايزات اللافتة التي طرحتها عديد من الأصوات الشعرية الجديدة، فإن لغطا كثيرا وتشوها في المفاهيم والمقولات دفع إلي درجة من العنف المتبادل بين مختلف التيارات المتصارعة وأحيانا بين أبناء التيار الواحد.
ففى الوقت الذى يجب أن تنفلت فيه قصيدة النثر من أسر كل المقولات المسبقة ثمة إصرار على وضع مواصفات بائسة ـ فى معظم الحالات ـ لكيفية إنجاز النص الجديد فيما يشبه "المانفستو" الذى تقف كل المقولات خارجه موقفا معاديا يشوبه البطلان. فلا اليومية ولا التفاصيل الصغيرة ولا مغادرة المجاز كانت ناجزة فى تحديد المفهوم، وظلت التجارب الشعرية أعلى بكثير من حيث تنوعها من مثل هذه المقولات.
ومن المدهش، مثلا، التأكيد الدائم والمستمر على فكرة الاقتصاد فى استخدامات اللغة، ومجازاتها، وتركيبتها، باعتبارها إدارة وظيفية. حتى إن شاعرا يود لو كانت الكتابة بلا كلمات.
وما أود قولـه هنا، هو أن التجربة الشعرية فى جريانها الطبيعى أعلى بكثير من هذه المواصفات. والتنوع الذى تطرحه قصيدة النثر يؤكد هذا المعنى. فالنص يحتمل التماهى مع أنواع جديدة من المجازات والسرديات ويحتمل أيضا التماهى مع الفلكورى والأسطورى، ويحتمل القضايا الكبرى، بنفس القدر الذى يقدس به التفاصيل الصغيرة واليومية المفرطة. وما يدفع به البعض من مقولات حول اللغة وغيرها هدفه قصر الشعرية على نموذج أوحد، ربما جاءت الكثرة الكاثرة من نماذجه رديئة وغير ناجزة، بسبب الطبيعة الأدائية لمثل هذا النوع من الكتابة فنجاح هذه الكتابة رهن بشروط محددة وقاطعة يفشل النص نهائيا بدونها، ويأتي على رأس هذه الملامح ملمح المفارقة الأرسطية الذى اعتمد عليه عدد كبير من الشعراء ولم يصادف نجاحا سوى لدى قلة محدودة من الشعراء الذين كتبوه وفى بعض النماذج فقط، وأزعم أن ثمة عدوانا مروعا وقع على المرجعيات التى كانت ـ حتى وقت قريب ـ مخيفة ومربكة. فلم تعد تجربة مجلة "شعر" البيروتية تمثل هذا "الإرهاب" الذى كان يمارسه نقد قصيدة النثر المستند إلى "سوزان برنار" تحديدا, وأظننا الآن لا يمكننا أن نتحدث عن تجارب لنذير العظمة، خليل حاوى، أسعد رزوقة، خالدة سعيد، عصام محفوظ، فؤاد رفقة، عادل ضاهر، حليم بركات، باعتبار هذه التجارب تمثل قيدا راهنا على فضاءات الشاعر، ولا يمكننا أن نستثنى من ذلك تجربة كل من أدونيس، أنسى الحاج، محمد الماغوط من هذا الشمول، فعلى أهمية هذه التجارب فإنها ستظل تجارب خلافية لا تقدم المقترح الأوحد للشعرية الجديدة، غير العابئة بالأيديولوجيا على أى نحو، وهو الأمر الذى ينطبق بشكل أكبر على الرواد الموغلين فى القدم سواء كان ذلك فى الشام أو فى مصر، كما لا يمكننا استثناء تجربة مدرسة "كركوك" فى العراق من هذا النظر.
وأعتقد أن مأزق هذه التجارب لم تقدم لنا إلا نقادا يدخلون إلى قصيدة النثر باحثين عن عدد من العناصر التى ميزت بها سوزان برنار القصيدة عن غيرها من الأشكال الشعرية مثل الوحدة العضوية، والمجانية، والإيجاز، والقصدية.. إلخ، فإذا لم يجد الناقد كل هذه المواصفات مجتمعة خرج على الشاعر وقد كتب شهادة وفاته بإضافته إلى كلاسيكيات زمنه هذا مع

حسن التقدير، وقد بنى الناقد عبد العزيز موافى ـ مثالا ـ كتابه "قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية" ـ بكل أسف ـ على هذه العناصر التى تجاوزتها الشعرية الغربية قبل أن تتجاوزها الشعرية العربية، كذلك فعل كل من جودت فخر الدين وعز الدين المناصرة.
إن كل ما يمكن قوله هنا أن قصيدة النثر العربية ـ وفى القلب منها القصيدة المصرية ـ أنجزت ملامحها الخاصة التى تناسلت من مصادر عدة منها ما هو عربى ومنها ما هو غربى، وفى كل الأحوال فإن ارتباكات الخطوات الأولى وتعثراتها أوشكت على نهايتها، وبات بإمكاننا أن نشير إلى الشعراء بأصابع التعريف المغلظة، ودعونا لا نستعدى المستقبل ولا نتعجل النهايات، فلا بد أن يصل الضوء والهواء إلى الحديقة كلها حتى يتسنى لنا بعدها أن نتعرف على زهورها حتى لو كانت عيوننا مغمضة.

***

جيل العامية في الثمانينيات..
ربع قرن من الجدل الشعري

مصطفى الجارحي

ربما يصبح من المهم، قبل الخوض في المحور الرئيس لهذه الندوة، أن ألقي بصيص ضوء على منتصف الثمانينيات، بوصفها الفترة التي شهدت على الأقل وجوداً شعرياً مكثفاً لهؤلاء الشعراء في العاصمة والأقاليم، ومن ثم التعرف عن قرب على زملاء بعضهم ما زال فاعلاً في المشهد الثقافي، وبعضهم انسحب لأسباب منها الموت المبكر، ومنها الكتابة في أشكال أخرى غير الشعر، ومنها عدم القدرة على إضافة المزيد.
ثمة إذن معترك جديد بالنسبة لشعراء جدد، أُطلق عليهم شعراء ما بعد السبعينيين، بحسب مقدمة رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب الدكتور سمير سرحان، رحمه الله، في كتاب "المقهى الثقافي" الذي احتفى بهؤلاء الشعراء دون غيرهم، وما على هذا الجيل سوى خوض هذا المعترك، والتأقلم والإسهام وإثبات الفاعلية.
هكذا يمكن التعرف على شعراء العامية المصرية في هذا الجيل: سمير سعدي ويسري حسان وإبراهيم عبد الفتاح وإبراهيم سلامة وخالد عبد المنعم وطاهر البرمبالي ومجدي السعيد ومجدي الجابري ومحمد عبد المعطي ومحمد السلاموني ومحمد الحسيني ومحمود الحلواني وشحاتة العريان وأسامة شهاب ومدحت منير ومصطفى الجارحي.
على أن الناقد الحقيقي، إن وُجد، يمكنه ملاحظة أن وعي هؤلاء الشعراء جعلهم يعيشون اللحظة الراهنة بشكل مختلف، حيث لم ينزلقوا، كغيرهم إلا فيما ندر، لترجمة الأحداث السياسية في الداخل أو الخارج شعراً، ربما تحدثوا.. تناقشوا.. ساروا في تظاهرات خاصة بالانتفاضة الفلسطينية، أو بأحداث تتعلق بسليمان خاطر، أو حرب الخليج الأولى، أو تجادلوا حول تنظيم ثورة مصر على سبيل المثال، لكن كتاباتهم الشعرية أبداً لم تنجرف تجاه هذه الأحداث، ولم تتناولها، ومن ثم نجوا بأنفسهم من الوقوع في هذا الفخ.
هكذا طارد شعراء هذا الجيل الثمانيني، إذا صحت التسمية، سؤال حول السبب في عدم تفاعلهم بتلك الأحداث، أسوة بشعراء أو بزجالين آخرين.. ومن ثم سؤال حول ماذا يفعلون إذا كانوا منعزلين عن هذه الأحداث؟! وعما إذا كان يجوز، وحالهم هكذا، أن يُمنحوا لقب شعراء؟
تجدر الإشارة إلى أن هؤلاء الشعراء، لم يتسلموا الراية من شعراء الجيل السابق عليهم، خصوصاً وأن جيل العامية السبعيني، ربما باستثناء ماجد يوسف في "ست الحزن والجمال" وبعض القصائد المتفرقة، آمن بشاعرية فؤاد حداد وطرائقه وأساليبه في الكتابة إلى آخر مدى، ومن ثم وقع في شرك التقليد إن سهواً أو عن عمد.. وكان طبيعياً والحال هكذا أن تأتي كتابات العامية الثمانينية مختلفة إلى درجة وصفها بالغموض، أو بضبابية الرؤية، إما من باب عدم فهم حقيقي لها، أو بسبب اختراقها مناطق وعي جديدة، هي أكثر وعورة، ولم تعتدها قصيدة العامية، وغالبيتها تدور حول الخروج، وتقيم حواراً بين الذات الشاعرة (ذات الشاعر/ الهو) وبين الـ (هي) القصيدة المرتجاة والمأمولة، فأصبحت الـ (هي) تحمل معنى مغايراً عن الـ (هي الحبيبة) أو الـ (هي الأم) أو الـ (هي الوطن) ومن ثم لم يكن أمام معارضي هذه الكتابة الجديدة بدٌ سوى محاربتها ومناصبتها العداء على طول الخط، والأخطر هو محاصرتهم لها، خصوصاً فيما يتعلق بمجال نشرها في دواوين تصدر عن المؤسسة الثقافية.

من المهم هنا التأكيد على أن ما سُمح بنشره بعد ذلك بسنوات، لا يعبر عن التجربة الحقيقية لهذا الجيل، وفيما يبدو أن ثمة صفقة بين المؤسسة وبعض الشعراء، سيما أولئك الذين تولوا مناصب في هذه المؤسسة، أدت إلى نشر هذه الأعمال التي وُصفت بأنها ليست عملية نشر بقدر ما هي عملية أقرب إلى التواطؤ.. في حين أن التجارب الحقيقية لم تُنشر بعد، أو نُشرت بمنأى عن المؤسسة.

ثمة ملمح آخر، بالأدق مأزق أحاط بتجربة هؤلاء الشعراء، فعلى الرغم من أنهم حاولوا عدم تقليد السابقين عليهم، إلا أنهم ظلوا لفترة يقلدون بعضهم بعضاً، ويمكن الرجوع في ذلك لما تمت طباعته من دواوين في هذه الفترة، ليس فقط فيما يتعلق بالقاموس اللغوي، ومن ثم المفردات المتشابهة، وإنما على مستوى المجاز وتركيب ونحت الصورة الشعرية، وربما يذهب الأمر إلى الخروج بالرؤية نفسها، وإن كان البعض يحيل ذلك إلى المنابع والمصادر الواحدة لقراءاتهم، أو يعزوه البعض الآخر إلى حضورهم معاً في المكان الواحد واللحظة الواحدة، ما أدى إلى هذا التشابه، لا التلاقح.

أمر آخر من المهم الإشارة إليه، هو ادعاء البعض من هؤلاء مسألة الريادة، أولاً في قصيدة التفعيلة، وثانياً وهو الأغرب، في قصيدة النثر، ومحاولاتهم المستميتة في التأكيد على ريادتهم في منطقتين هم ليسوا فيهما من الأصل، حتى أصبح المدَّعون بذلك أكثر شهرة ربما من كتاباتهم، على الرغم من أن الندوات والمؤتمرات تشهد بما كانوا يكتبونه وقتها، وما زال بحوزة الكثيرين منا شرائط مسجل عليها هذه الندوات، فضلاً عن أشرطة الفيديو في المؤسسة الثقافية نفسها.. على أنه من المفيد في هذا الشأن الإشارة إلى "الردة" التي جعلت هؤلاء، الذين قالوا بريادتهم، يتخلون عن النثر ويعودون ليس فقط للتفعيلة والمجاز، وإنما لكتابة هي أقرب إلى الزجل، تلبية لمنصب زائف، عطَّل تجربتهم الإبداعية، إن كان ثمة تجربة إبداعية لديهم من الأساس.
والخلاصة، بعد ما يزيد عن ربع القرن، هي أن الذاكرة لا تموت، وأن رهان الشعراء الحقيقيين على الزمن جاء في صالحهم، فأينما ذُكر الشعر كان حضورهم فذاً، وعلى الرغم من عدم وجود نقاد لهذه التجربة المهمة في تاريخ شعر العامية المصرية، إلا أن الحقيقيين من هؤلاء قد لعبوا دورهم، وأضافوا إلى شعر العامية الكثير من إبداعات هي أشبه بالعلامة التجارية، التي لا يمكن تقليدها، وكذا لا ينكرها إلا حاقد.

***

قصيدة نثر العامية بين الأزمة والمأمول
ما لها وما عليها منذ التسعينيات حتى الآن

أشرف عتريس

بدايـة

هذه ليست أطروحة أو مقاربة نقدية قدر ما هي شهادة واحد من جيل لديه مشروع جماعي في تجربة قصيدة نثر العامية منذ أوائل التسعينيات حتى الآن.
إن قصيدة نثر العامية التي أشعل شرارتها الراحل مجدي الجابري في ديوانه (أغسطس90) لينير لنا الطريق أم إشكالية التوجه نحو عالم رؤيوي يتخذ من السرد قوته وحضوراً له، ومن جدلية الحوار صفة للتميز، كي نتبين حقيقة الأشياء وبكارتها والعالم من حولنا بمعناه المجرد أيضاً.
هذه القطيعة متعمدة مع كل السياقات النصية التي أنتجتها آليات إبداع القصيدة الموزونة منذ زجليات بيرم، عبقريات جاهين، صوفيات حداد، ثوريات نجم، وملاحم محسن الخياط، وشهادات قاعود، وعبد الباقي، وثقافة الجنوب للأبنودي.

إن قصيدة نثر العامية تجسد فكرة رفض تسييد ثقافة القديم والرسمي والإعلامي، الذي لا يمل من التكرار والاجترار من مخزون القرن الفائت والألفية المنصرمة، دون مراجعة ومحاولة الخروج من حيز الأنموذج والكلاشيه وتخطي ما هو منجز سابق عبر شعر الرواد.
فتصبح كياناً أدبياً مستقلاً، رؤاه تنطلق إلى المدى والرحب الفسيح حيث لا حواجز ولا محدودية ولا دائرة مفرغة.
إذن هو استيعاب لكل تجارب الماضي ومحاولة لتحويل المشهد الحياتي بكل تفاصيله وخصوصياته إلى عالم حقيقي تحيط به لحظات الضعف الإنساني؛ ليبرز الموقف وتتضح الرؤية ووجهة النظر دون تشويش أو البحث عن جماهيرية كاذبة ومجانية تتهمنا بالطلاسم والتهويمات.
ها هي حكايات الجدة، وتسجيل لحظات البراءة والطفولية، والدخول في الحالة الإنسانية عامة على إيقاع نفسي وليس إيقاعاً خليلياً أو سمعياً، ثم الولوج إلى جزئية قد تكون هامشية لكنها تبحث عن الخيالي/ الفنتازي، الذي قد يبعد عن الواقع المعيش بكل إحباطاته.
أيضاً نحاول كشف العلاقات الخفية والأحاسيس المسكوت عنها نتيجة التابوهات وسطوة الممنوع، فتتعرى الذات دون تضخم ونعيد تشكيل المشهد دون نرجسية.
هي تجارب لها حرية الاختيار والكتابة بأساليب تعبيرية مختلفة، لإنتاج الصدق في أوضح صورة له دون ادعاء أو كذب.
إن الزمن هو الذي له صلاحيات الحكم على التجربة نفسها حينما تتضح معالمها جيداً، فحتى الآن لم يُخلِص النقد لتجاربنا رغم مقصلته التي لا ترحم فتشير إلى المشوه والمنسوخ.
لنا جرأة الكتابة التي تستقي أسلوبها ومضمونها من كم خبراتها المعرفية ومخزونها الثقافي التي تُشَكِلُهُ دون خوف من عواقب سطوةٍ ضاغطةٍ لا تؤمنُ بالمكاشفة والمداخلة ونفي البديهي والتشكيك فيه دون خجل ورفض أفكار الكتب التي طالما أغفلناها – عن عمد – بعد القراءة.
نحن لا نستلف قضيةً ما كي نكتب عنها... هي كتابة الذات التي نقترحها على الآخر بكل أخطائها، ليكون الفعل بديلاً عن الموت في دائرة الحياة الرتيبة وعليه أن يتقبلها أو يرفضها كيفما شاء.

تجربتي في ديوانين

(ليها طعم جديد خالص 1998م)، و (أنت متورط معايا 2005م)
لن أكون مزايداً حينما أستقوي وأستشهد ببعض الأسماء في المشهد الإبداعي شاركتني التجربة منذ البداية – بعد الشهيد الحقيقي مجدي الجابري – حيث كانت دواوينهم سنداً لي: (مسعود شومان – صادق شرشر – طارق هاشم – يسري حسان – سيدة فاروق – شحاتة العريان – سعدني السلاموني) ثم توالت أسماء أخرى لها من المشهد حضورها القوي، فحاولت أنا قدر الإمكان رصد حركة الشارع، والناس، وأجساد البنات في كل مكان، واكتشاف بعض الأماكن التي نرتادها جميعاً في غفلة دون الانتباه إليها وممارسة (لعبة الاستغراق) والبحث عن صور غريبة ونماذج بشرية هامشية تصنع بطولاتها بنفسها من قيمة الحدث نفسه وصيغة التعبير عنه بأبسط المفردات دون تقعير إلا القليل النادر حيث استحضار ثقافات من الذاكرة لها نفس قوة التأثير– على الأقل– في أدمغة المخلصين لقصيدة النثر.
هكذا كانت التجربة الأولى، وبعد سبع سنوات جاءت تجربة ( أنت متورط معايا 2005م ) فكان الطرح الأكثر جرأة، حيث الخلط بين لغة الشعر ولغة الشارع في تركيبة خاصة لا يشوبها غير الألفاظ الأجنبية التي أصبحت مفردات حياتية وجزءاً من الواقع، فتأتي المفارقة تيمة أساسية في دواويني.
ما صنعه زملائي كان بمثابة جرأة طليعية تنحاز إلى العادي والمهمش في معركة الحياة، فانضممت إليهم طواعية طامحاً في كتابة تجبرك على الاندهاش وقراءة مختلفة، وصنع حالة (خاصة) دون فهم أو تصنيف خاطئ حيث كتابات (المذكرات، وأدب الاعترافات).
فنحن لسنا من الساسة أو الزعماء أو مجرمي الحرب في محاكم التأديب والتأنيب، بل من الشارع وإليه نعود بوجع الناس.
الخوف كل الخوف أن تتسرب إلينا جحافل المقلدين والمتشاعرين الذين يعانون من عقدة النسخ والتقليد والاستسهال هرباً من عناء القراءة في استيعاب وهضم المنجز سواء شعراً أم نثراً.

لذا.. أرى لزاماً علينا إصدار (مانفستو) من مبدعي قصيدة النثر كي يتضامن فيه كل أفراد المشهد الإبداعي والحركات الأدبية المخلصة في الأقاليم ضد محاولات توريث الأنموذج القديم واستمرار صلاحيته، إيماناً بحرية أشكال الكتابة عبر النوعية في قصيدة النثر تحديداً.
هكذا تدين الحركة المزمع تفعيلها في وجه من يختبئ في ظلالنا دون فهم أو إدراك حقيقي لمغزى ما نعانيه وما نأمل فيه حقاً في كتابة قصيدة جديدة.

هذا وعلى الله قصد السبيل وإليه ترجع الأمور
شكراً لهذه المساحة الجريئة من تفكيركم