انبثق محمد عفيفي مطر في الشعرية المصرية مفردا، تميز بشعرية ضد السائد أيا كان السائد وأنه خارج السرب، وامتزجت هذه الشعرية بعجين الثقافة العربية المصرية، فكانت شعرية خصوصية حتى التماهي في جوهر كل ما هو إنسان، متخلقة وخالقة لغة الوجود الإنساني المتعين في الزمان باعتبار الزمان صيرورة الإنسان في عين مكان، وفي المكان حيث المكان من إبداع إنسان يخلق زمانه ويحقق وجوده.
قال الشاعر محمد عفيفي مطر:
شربت مرق الأحذية المنقوعة
في الخوف والنحيب
أكلت ما يخبزه الإسفلت
في جوفه من حنطة التعذيب
وافترشت جوارحي حشية تملأها بالمقت
الأوجه المقلوبة
والأعين المثقوبة.
وامتزج الشاعر في الشعر فكانت حياته شعره، (سنابل) الجهد والمثابرة والبحث والدرس وفلسفة المعني، ولهذا كانت مجلة (سنابل) التي أصدرها في نهاية الستينات حيث لم يكن من السهل الكتابة فما بالك بإصدار مجلة في كفر الشيخ بلدة الشاعر، هذه المجلة التي قدمت المتميز والأصوات الجديدة والمعروفة حاليا في راهن الثقافة العربية.
هكذا جاءت أوائل زيارات الدهشة ــ هوامش التكوين كسيرة ذاتية متماهية تتشكل وتشكل الموضوع: (كان قلبي معلقا بين مخالب طائر جارح محموم بالسياحات في الأعالي. علوة فزع ورعب، وانطلاقاته كارثة احتمالات، ومناوشاته لعب فوضوي بين الأمل والموت، وكلما حط ليستريح نفرته الدهشة بزياراتها المباغتة، وانفتحت مسالك الأفق أمام المعرفة المرة والغربة الفسيحة).
قرأت أكثر من مرة كتاب الشاعر المصري الأبرز: (أوائل زيارات الدهشة ــ هوامش التكوين)، وهو سيرة ذاتية، أدهشني الكتاب، وأدهشني عدم الاهتمام به!.
وكنت قرأت جل شعر محمد عفيفي مطر الذي صدرت دواوينه في طبعتها الأولى خارج مصر عدا ديوان واحد، أصدره علي نفقته.
وعرفت هذا الإنسان الشهم الربع الأخير من القرن الذي استعجل الختام.
فما الدرس، درس الكتاب؟.. هو الصدق الذي سربل حياة هذا الشاعر والإنسان، وأن ليس ثمة مسافة بين كينونة الشاعر والإنسان فالحياة واحدة ــ وليس بالإمكان تجزئتها ــ كما الحرية، وأن كل شيء مكثف وشفاف في التجربة الشعرية والحياتية، وكما لا يساوم المفردة التي تضيق عن مكنوناته كذا لا يساوم إذا ضاقت الأرض في وجهه.
يأخذ الكتاب بقوة، يأخذ الشعر بقوة، يأخذ الحياة بقوة، لا مكان لأي تنازل وإن كان مكان لضعف إنساني، لحظة حب، إحساس بضعف خصم فعفو عند مقدرة. وكذا ترك القصيدة حتى تطيب فإن الطزاجة والجدة والجدية صرامة الحكم ونقيضها الخصم.
كذا ينبئ الكتاب، ينبئ مكنونه كما ظاهره، والبينة في الزيارات الأولى للدهشة في هوامش التكوين مقدمة تفتح أمومة الترتيل والولاء الأول وثلج الجيم المعطشة والشاعر الذي ينشق قلبه لمواجهة كائنات الخوف، الدرس الأول في حياة محمد عفيفي مطر الذي هو النص الحي والذي لا تفارق بينه والنص، فمن قرأ نص عفيفي عرف عفيفي شخصيا وهذا هو تكوينه والأساس وسدرة المنتهى.
وفي هذه السيرة قشع لأي ستر وفيها نتبين حبل الوريد الذي هو الرباط، ما نسجه محمد عفيفي مطر طوبة طوبة، معتمدا أس هو لبنة تشكلت بفعل امرأة غلابة (سيدة أحمد أبو عمار) ورجل (عفيفي مطر) عصي، هما أبوي الشاعر الذي صرنا نعرف.
وما تبرزه هذه السيرة أنها متفردة، هي ليست (الأيام) المبنية علي سرد نثري لمتكلم يمر متعجلا وذاكرة مسهبة، هي ليست تجربة الشاعر المتحذلق الذي يقدم ملخصات لما قرأ وما سمع، وهي ليست كتابة تخرطها المخيلة والادعاءات والكذب، ولأنها ليست كذلك فهي كتابة أخري ما تضيفه لكتابة السيرة العربية أكثر بكثير مما تكرره، وهي مثل شعر مطر ستبقي أوقات حتى يلتفت إليها الراسخون في العلم، بعد أن يذهب مديرو العلاقات العامة ــ من كتاب وصحفيين مدعين ــ إلي الجحيم.
ورغم أن الأشياء تأتي متأخرة لهذا الإنسان الكبير، غير أن عفيفي لا ينتظر غودوا: لا شيء يحدث لا أحد يجيء، فهو غودو الشعرية المصرية الحديثة وهو بهذا لا يكتفي وحسب بل ويقاتل بشراسة المبدع ليؤكد علي ذلك.
من ذا تتالت كتاباته ومنشوراته، ولعله من هذا بدأ الآن الكتابة الشعرية الشفافة والعميقة للصبيان وقد كتب لهم عندما يكبرون الكثير المهم والمتميز.
هذا هو محمد عفيفي مطر الذي يمكن تبينه من شعريته ومن نثره، في دواوينه وفي سيرته وفي حكيه للفتيان قبل أن يناموا.
حكي الشاعر محمد عفيفي مطر، حريق القلب:
فلاحان أميان كانا يتسامران بحكايات وأمثال وأخبار، وأنا صبي أجلس بالقرب منهما أسمع، قال أحدهما متحدثا عن عجائب الكتب ومباهج القراءة التي حرما منها: رأي صبي يافع صورة فتاة صغيرة جميلة في أحد الكتب، كلمها فكلمته، قالت إنها يتيمة أسيرة في أحد القصور البعيدة، أخذها أحد الملوك فيمن أخذ من الأسري والسبايا، بعد أن اقتحم بلادها بجيوشه وقتل أهلها وساق من بقي حيا إلي هوان العبودية والأسر في البلاد الغريبة.
استمع إليها الفتى وهي تبكي في الكتاب وتندب أهلها وبلادها، وقالت إنني أستنجد بك، فأبحث عني وحطم قيودي وحررني من هوان الأسر، فانفتح قلب الفتي لها وشغفته حبا وفجرت في نفسه ينابيع الحنان والرحمة واتقدت في قلبه جمرة الحرية ومسئولية الواجب المقدس لنجدة الأسر المقهورة..
كان الفتى يكبر حتى غدا شابا ممتلئا بالفتوة وجسارة القلب وعنفوان الروح، منشغلا متوقد الحماس لإنجاز واجبه المقدس، والفتاة كانت تكبر في الكتب، وتعلوا نداءاتها وتسيل دموعها وتنتشر صرخاتها بطلب النجدة من كتاب إلي كتاب، والفتي الذي أصبح شابا يعن القراءة والبحث عن معظم الأقاليم والتواريخ وأناشيد النضال ضد الطغاة والطغيان وليعرف الرجال الذين تمتلئ قلوبهم بشجاعة الأحرار وتفيض نفوسهم بالرحمة والعدل، ليتخذ منهم أنصارا ورفقاء يتكاتفون معا لمغالبة أهوال الطريق لدحر الطاغية.
لم يكن الفلاحان الأميان يعرفان أنني بالقرب منهما أسمع ملهوفا لأعرف كيف انتهت حكاية القارئ وما كشفته الكتب عن مصائر الطاغية والأسيرة وكتائب العدل والرحمة والحرية، ولكن الفلاحين الأميين قاما ينفضان ملابسهما مما علق بها من تراب، ولهفتي لمعرفة الختام تعتصر قلبي وتختنق بها أنفاسي، ومشيت وكأن حريقا قد اندلع في كياني.
ولم يطبع للشاعر في مصر الستينيات والسبعينيات والثمانينيات غير ديوان وحيد هو (رسوم علي قشرة الليل) ــ الطبعة الثانية لهذا الديوان تمت في ليبيا ــ، الليل الذي حاول كسف شعرية مطر، مطر الذي اتخذ من الكسف كشفا فتسرب في الشعرية العربية لجيل السبعينات مثل تسرب دفء الشمس في الغيطان. وقد أعطاه النقد الأدبي في مصر وفي غيرها الظهر، وبهذا مكن لشعرية عفيفي أن تتعافي وأن تتحقق وأن تكون الشعرية الطازجة في الشعر العربي الحديث، والمتفردة بكثافتها ولغتها المركبة، وأن تتدفق كشعرية للصورة متجسدة للعين المبصرة كطمي في مكنونه خلائق وتخلق، وصور متدفقة ووثابة وكطلع يهس في القصيدة/ الفعل الذي يتحقق حين يكون لكل قارئ قراءة. أو كما يقول جابر عصفور، في العدد الخامس والثلاثين العام الثالث الموافق أيار (مايو) 1991 م من مجلة الناقد التي كانت تصدر بلندن، والذي كان غلافه صورة الشاعر محمد عفيفي مطر حين سجن الشاعر عقب احتجاجه علي ضرب العراق فيما عرف بحرب الخليج الثانية: (.. ولا شك أن لمحمد عفيفي مطر إسهامه في تجربة الحداثة العربية المعاصرة، ودوره الرائد في تجربة الحداثة المصرية، فهو الذي حفر لتجربة الحداثة المعاصرة في مصر مجري مغايرا لمجري التقاليد العقلانية المنطقية المتلفعة بأقانيم التعقل والإنشاد والوضوح والاتزان وكان المجري الجديد الذي احتفره عفيفي مطر مجري يموج بتيارات جديدة، متمردة تؤسس روح المغامرة والتجريب، والارتحال إلي العوالم المغلقة الأبواب، وتفتح عهد اللغة والرموز..).
أما حلمي سالم ــ من جيل السبعينيات كما يحب تسمية نفسه ــ فيكتب في العدد نفسه: (محمد عفيفي مطر أب من آبائي، أذكر حواراتنا القديمة الطويلة معه، في بيته بكفر الشيخ ــ ومعنا الشاعر علي قنديل قبل رحيله، والشاعر الليبي محمد الفقيه صالح ــ وأذكر حواراتنا الراهنة. كنا نختلف علي الكثير ونتفق علي الكثير، لكننا في كل في كل حالة كنا نتعلم منه، ماتزال ترن في أعماقي جملته الحاسمة الساطعة، حينما كانت تشتعل من حولنا الحوارات بخصوص دور الشعر والتزامه بتغيير الواقع الاجتماعي: (الشعر ملزم لا ملتزم..).
حكى الشاعر محمد عفيفي مطر، الحلم الأخير:
قال الشاعر العجوز، بعد أن كف بصره وحيل بينه وبين القراءة والكتب والكتابة: لقد قضيت حياتي في المكتبة، ولست أدري أينا امتص الحياة من جسد الآخر. لقد أدخلتني إلي سراديب متاهة متشابكة معقدة، فلم أستطع الوصول أو الرجوع حتى كلت عيناي وعميتا، فهل بقي لي الآن إلا أن أحلم وأتمنى أن يكون الفردوس علي هيئة مكتبة!!.
قال صديقه وهو يقوده عبر ممرات الحدائق والبساتين ليرفه عنه ويخفف من حزنه العميق: كنت أتسأل بيني وبين نفسي وأنا أري أرفف المكتبات مقلة بالكتب من أقدم عصور الكتابة حتى زماننا، ماذا يحدث لو تململت الأوراق ورفضت أن تكون أداة لنقل الأكاذيب والافتراءات ووسيلة لنشر الأباطيل عبر الأزمنة، وانطلقت لتعود إلي طبيعتها ومصادرها الأولي، شجرا في الغابات وأعشابا ونباتات تغطي وجه الأرض بالخضرة الزاهرة!!.
قال الشاعر العجوز: لو قلبت سؤالك علي وجوهه المختلفة ونظرت باحثا في المعضلة من زواياها المتعددة لوجدت أن الكتب ضرورية في كل الأحوال، فأنت نسيت أن الكتب هي المعرض والسجل العام لجهاد البشر من أجل الحق والحقيقة وجوهر الفضائل، وجميع الأكاذيب والأباطيل لم تكن إلا أجزاء وخطي لابد منها في تاريخ هذا الجهد الصعب، وهي جميعا يكشف بعضها بعضا ويحدده ويبرهن عليه، ألا تري أننا لا نعرف ظلام الليل إلا بغياب الشمس و لا نعرف ضوء النهار إلا بزوال الليل!!. تنهد الشاعر العجوز بحنان وأسي وقال: نعم لم يبق لي من أمل أو حلم إلا أن يكون الفردوس علي هيئة مكتبة. مؤخرا تم طبع دواوينه الشعرية لأول مرة في مصر، وصدرت مختارات من شعره وطبعت ووزعت في سلسلة كتاب الأسرة الشعبي، وكان قبل قد أصدر سيرته الذاتية وان لم يهتم بها ولم يتم تناولها بالكتابة. هكذا في هذه الفترة تبين للسلطة الثقافية في مصر أن محمد عفيفي مطر شاعر مصري!. ولأول مرة في تاريخ التلفزيون المصري ظهر علي شاشته هذا الشاعر بعد تجربة شعرية هامة ومتميزة قاربت النصف قرن من الزمان، وتم انجاز شريط عن الشاعر.
في معرض الكتاب في دورته الخامسة والثلاثين في المقهى الثقافي، عرض شريط رباعيات الفرح ــ صدر للشاعر عن دار رياض الريس ديوان بهذا العنوان ــ، وأقيمت أمسية شعرية للشاعر ــ الذي لا يشارك في زار القاهرة معرض الكتاب ــ، حيث القي بعض من شعره وحاور الجمهور الذي ملأ الخيمة، وهو جمهور عادي قل حضور المثقفين ضمنه مما ميز اللقاء. والشريط سيناريو الشاعر علي عفيفي والإخراج الأول للمخرج أحمد القلش، كما ساهم في إنتاجه رغبة هذا النفر في تجسيد شريط عن شاعر كهذا الشاعر الذي يحبون، ويرون تميزه في التجربة الإبداعية العربية في مصر.
وفي الشريط تتابع الكاميرا الشاعر في بيته كفلاح في قريته يحرث فيحصد، يربي النحل يتحمل اللسع فيجني العسل، ثم نتابعه في زيارته لأصدقائه في مدارسه الأولى حيث تعلم وحيث علم، يلتقي أستاذه كما يلتقي زميله وتلميذه. عجلات قطار لازمة الشريط، وفي القاطرة ومنها تدس الكاميرا الدلالة: الشاعر في المقعد يتصفح يتفحص صوره متأملا معنا صورة الأم دون الأب، حيث الشعرية مدسوس الأم في وجدان الطفل، فالشعرية الطفولة، الكاميرا فصيحة والمصور ممسك بكادره، وعين المخرج دقيقة في مونتاج يفصح عن سيناريو شغوف بتكثيف حياة عريضة. ولعل دلالة اللقطات التي طالت ترقب الشاعر في ممشاه يمكن أن تشير للشاعر كما مشاء، وكل مشاء متأمل في مكانة هذا الشاعر ذي علاقة بالفلسفة، وقد كانت الفلسفة والفلسفة اليونانية بالذات بلسم روح هذا الشاعر الذي درس ودرس الفلسفة. محمد عفيفي مطر صديقي وكنت أشهد الشريط بعين الصديق التي تري قرين الروح بصفاء الكريستال، سؤددها الصدق، ما له يغبطها وتكره ما عليه فتكون مرآة الحق له كما عليه. كذا وجدت في عفيفي الشاعر/ الصديق في عام 77 من القرن المنصرم حين التقيته المرة الأولى في بغداد، وفيها دخلت بيته كما دخل بيت القلب، وفي العام نفسه في أواخره التقيته في زيارته الأولى لطرابلس، فكانت العروة الواثقة جمعت بين نفسينا كما تشابهنا في كثير. هذا الشاعر المعجون بطين الشعر في ثنايا النفس وكل الوقت، وهذا ما جعل منه حداً لا حد له وواحد ولكن كثير، لذا لم يعجب كل متنطع زنيم، لذا كان في الشعر شعرية غريب يجدف في بحر الظلمات وحده بحثا عن نور الشعر الأزلي، كي يقول في الختام (يالها من أشعار لا تستحق إلا النسيان!).
جريدة (الزمان)
العدد 1767
التاريخ 2004 - 3 - 27