تجربة شخصية

علي الدميني
(السعودية)

Aliليس هناك أكثر مراوغة من مصطلح "الحداثة" حينما يتم توظيفه في الحقل الأدبي، لأن ما تنطوي عليه مرجعيات تسميته، في أبعادها الفلسفية والفكرية والجمالية، يفتح الباب أمام جهنم التفاصيل، ويغوي كلاً منا بالادعاء بمشروعية سك مصطلحه الخاص به.
ورغم ما يحمله أي مصطلح من سمات القيد، إلا أن تدثر مصطلح الحداثة بأردية عديدة في مسار تاريخ تحولاته الطويل، من القرن الخامس الميلادي حتى عصر الأنوار، ومن بلزاك وبودلير إلى أيامنا هذه، قد هيأه لأن يكون ضد القيد، بكثرة ما حمله من مفارقات، حيث يمكن له أن يضم المعنى ونقيضه، والشيء وابن عمه، فتختلط الحداثة فيه بالتحديث وبالتجديد، وبما بعد الحداثة، وتتقاطع الواقعية معه في المرجعية البشرية للمعرفة وتختلف معه في وظيفية الأدب، وهلمجرا..

وحيث أن المصطلح سيعيق تدفق سرد التجربة، ورغم أنني أفضل بدلاً منه، التحدث عن التجربة الشعرية الجديدة في السعودية، إلا أنني، ولسببٍ إجرائي مهم في نظري، سأصطحبه في رحلتي على مضض، وسأرجئ الحديث عن تجليات مفارقات التسمية وضجيجها أيضا ًفي المملكة، إلى موقع تالٍ.

وإذ أجيز لنفسي، اليوم، اختيار ما أميل إليه من مكونات مصطلح الحداثة وحمولاته المعرفية المتشعبة، فإنني سأتفق مع من يرى أن الحداثة الأدبية، في أبسط صيغها، هي وعي التجديد في الكتابة عبر تمثل رؤياها التغييرية الشاملة في مرجعياتها الفكرية والفلسفية والاجتماعية والفنية.

وقد تزامنت تجربة كسر عمود الشعر وتبلور النص الشعري الحداثي في المراكز الثقافية العربية، مع بروز مشروع حركة التحرر الوطني في العالم العربي لبناء الدولة الحديثة والمجتمع الحديث، والذي قادته مختلف النخب والتيارات الفكرية والسياسية، إلا أن الظروف الخاصة ببلادنا سياسياً ودينياً وثقافياً، كانت تعمل على ترسيخ آليات الممانعة ورفض كافة أشكال الاختراقات الفكرية والإبداعية، ومن ذلك موقفها من التحديث ومن قصيدة الشعر الحر.
وحيث أن عنوان حديثنا هو "الحداثة الشعرية في الخليج و الجزيرة العربية" من خلال التجربة الخاصة، فإنني أرجو أن تسمحوا لي للتوقف أمام ما يبدو من تماسك براق في العنوان، لكي أوضح أنه انطوى على تعميمين لا أتفق معهما، وذلك لأن مخاضات التحديث والحداثة الشعرية في المملكة - وبالرغم من التجربة الرائدة للعواد- كانت تتعرض دائماً للإجهاض وفقدان المقدرة على التشكل كتجربة حداثية، فأصبحت مجرد صدى لتجربة كسر عمود الشعر الذي أنجزه كوكبة من رواد الشعر الحر في البلدان العربية الأخرى، وكان منجزها في هذا الصدد وحتى منتصف السبعينات، ألصق بمفهوم التجديد منه بمفهوم الحداثة الشعرية.

أما الثاني، فإنه يتعلق بوهم الترابط الجغرافي وعلاقته بالترابط الثقافي، وأحب أن أؤكد - حسب تجربتي باعتبارها حكماً هنا- أن الترابط الجغرافي لم يعكس ترابط حركة التثاقف، وتبادل صدى السؤال والإجابة، بين مثقفي دول شبه الجزيرة العربية، ولم يتحقق إلا على المستوى الشخصي المحدود، وأن تأثر الكثيرين من الشعراء السعوديين بمراكز الثقافة العربية، كان أوثق من تأثرهم بمثقفي دول الجوار..

وتأسيساً على هذه الخطوة الاستدراكية المبكرة، سأتحرر من أعباء السياحة المعرفية في محيط التبادل الثقافي بين دول شبه الجزيرة العربية، وأفتح الباب على مصراعيه لكي أتكئ على الجزء الأخير من العنوان "تجربة شخصية"، لكي أدخل إلى فضاء متعة سرد تجربة شعرية شخصية، بدأت في بيئة فقيرة، كان أقراني فيها هم أول من فك الحرف في تاريخ القرية، وحيث لم أكن استمتع بالمقطوعات الشعرية البائسة التي ترغمنا مناهج التعليم على حفظها، فقد كنت أقفز على الأبيات الشعرية التي أمر عليها خلال قراءتي لسيرة الزير سالم، ولبعض مقتطفات من ألف ليلة وليلة، إلا أن محيطي العائلي الصغير، كان يحضن بذرة احتفاء خاص بشعرية قصائد الشعر الشعبي التي يتوارث حفظ نصوصها الأبناء عن الأجداد، وكان إنشاد والدي لبعض هذه القصائد، قد نبه وجداني إلى جماليات ما تحتضنه اللغة بوجه عام والقصيدة الشعبية بوجه خاص من أسرار ، تتضافر في الصورة الرمزية التي يحملها النص وفي ما يمكن أن نسميه بشعرية القافية المعقودة على مجاز المقابلة.

وإذا كانت الكتابة الحداثية تبحث عن كمالها في الجديد المختلف، فإن لثغة البدايات لا تنهض إلا على محاكاة القديم الناجز، ولذا تنبهت حواسي التذوقية إلى الشعر الشعبي، فبدأت أحاكي ما أسمعه أو أحفظه منه، ولكن صدفة إطلاعي على كتاب عبدالله بن إدريس "شعراء نجد المعاصرون" في مرحلة الدراسة المتوسطة عام 63م قادتني لتذوق شعراء الفصحى، واستحثني لكتابة محاولاتي الشعرية الغزلية الأولى بالفصحى، كما أن الكتاب نفسه قد شد انتباهي ومشاعري إلى ما حواه من قصائد حملت هم القضية الفلسطينية، والجزائرية، وعزز انهمامي بالقضايا القومية والتي كان والدي -العائد من تجربة عمالية غنية في أرامكو في أوائل الخمسينات- قد بذرها في نفسي حين يغرز أذنه في واجهة المذياع لالتقاط الأصوات المشوشة لنشرات الأخبار. وقد غدا ما ينفعل به من أخبار ثورة الجزائر، وتأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر مقدمة تأسيسية للتأثر برمزية عبد الناصر والناصرية منذ زمن الطفولة.

وحين ارتحلت إلى "جدة" لدراسة المرحلة الثانوية، تعرضت إلى ما يشبه "صدمة الحداثة" في واقعها المادي والاجتماعي، حيث تحضر كثافة الأشياء وبعنف، في حركة السيارات، وزحمة الناس، وأضواء الليل، وأحجام البنايات، وما تحويه الأسواق من معروضات، مما أفقدني الكثير من توازني إزاء هذا التعدد والانفتاح، وأغواني بالدخول في تجربة حب مجنونة مع بنت الجيران، جعلتني أنسى طفولة القرية وصباياها البسيطات، كما دفعتني للاحتماء بالشعر من لهيب الشوق والعواطف المقموعة.

وفي مكتبة مدرسة الفلاح الثانوية، تيسر لي الإطلاع على بعض الصحف، فقرأت شعراً للعواد، وعبدالله الفيصل، وحمزة شحاتة، وأحمد قنديل، ومحمد حسن فقي، وحسين سرحان، والسنوسي، وابن خميس، وكلها أسماء لم أكن قد سمعت بها أو استمتعت بشعرها من قبل، وهذا ما يؤكد على أمرين هما: إن المؤسسات المحافظة قد كرست احتكار ونشر رؤيتها التقليدية المنحازة للقديم ضد الجديد، وللمحافظة ضد الانفتاح، وذلك من خلال سيطرتها على المؤسسة التعليمية، أما الأمر الثاني، فإنه يتعلق بقصور الممكنات الاقتصادية والتقنية والإعلامية، وعجزها عن القيام بدور التواصل بين أرجاء البلاد المترامية الأطراف، حيث أدى ذلك إلى تعميق فاعلية الانقطاع بين جزر المناطق المعزولة عن بعضها. وإذا كان الأمر كذلك داخل بنية الوطن الواحد، فإن هذا يؤكد ما ذهبت إليه من غياب حركة تثاقف نشطة وملموسة بين أقطار شبه الجزيرة، إلا في إطار حدودها الفردية، والتي تجلت لاحقاً في علاقة شعراء قصيدة النثر في المملكة بالتجربة الشعرية في البحرين، وخاصة ما يتعلق منها بإنجاز قاسم حداد.

ولم يكن إطلاعي المحدود على بعض الصحف المحلية، خلال تلك الفترة في "جدة"، على بعض قصائد الشعر الحديث المنشورة -نقلاً عن مجلات عربية- لنازك الملائكة، والسياب، ونزار قباني، كافياً لاختراق ممانعة الذائقة القروية المحملة بإرث الإيقاع الموزون، مما حال دون استجابتي لكسر عمود الشعر.

بيد أن هزيمة حزيران 67م، وانكسار تابوه الحلم الناصري أمام النقد الصادق والمجاني معا، وما أحدثته قصيدة نزار قباني "هوامش على دفتر النكسة" من دوي في الشارع العربي، قد أجهزت على حواجز التقليد المنيعة، وحسمت ترددي، لكي انحاز لتجربة كتابة قصيدة الشعر الحر منذ عام 68م، و غدت كتابة قصيدة التفعيلة بالنسبة لي معادلا ً لممارسة حرية التعبير، وأداة للتغيير، وهاجساً يجمعني بكل من يكتبها حتى وإن اختلف معي فكرياً.

وحيث تغدو تجربتي مجرد "عيّنة" من مئات التجارب، فإنه من اليسير علينا القول بأن سطوة البنية الثقافية المحافظة في أي مجتمع لا تستجيب - دون مخاضات عسيرة- لضرورات التحديث، ومستلزمات فضاء الحرية. حرية التفكير والتعبير، بالقدر الذي تستجيب له "ذات محددة"، داخل نفس المجتمع، بل أن تلك البنية القارة لا تتوقف عن لعب دورها القمعي، وبكافة إمكاناتها المؤسساتية، ضد الاستجابة الفردية أو الفعل التنويري أو المغامر باتجاه الحداثة، مستخدمة في ذلك عدتها التاريخية المتمثلة بالاستنجاد بالمقدس: إما الديني، أو الوطني، أو القومي، بحسب الزمان والمكان.

ولما كان قدر الجغرافيا قد جمع في بلادنا رمز المقدس، وخطابه العقدي، وبناه المحافظة، فإن خطاب الحداثة -الذي يرتكز على استنهاض فاعلية الحرية ضد القمع، والعقل ضد الخرافة، والعلم ضد الجهل، و شك السؤال ضد طمأنينة الإجابة والنزعة إلى مغامرة الكتابة الإبداعية على غير سابق مثال- سوف لا يجد موقعه مؤثثاً في فضاء كهذا، بل أن خطاب الحداثة نفسه، سوف يضطر إلى قمع ذاته، أو تمويهها، بلباس شكلاني جمالي في أحسن الأحوال، ويصبح بذلك تمظهراً لحركة تجديد، وتحديث، ونزوعاً نحو الحداثة، وليس تعبيراً عنها، ولم يخرج عن ذلك السياق إلا القلة في واقعنا الأدبي، حيث يقف محمد العلي في مقدمتهم.

أولاً: (التحديث/النزوع نحو الحداثة) الشعرية

عتبات الاستجابة: محمد حسن عواد
وحين أفتح صفحات التاريخ الذي لم أعايشه، فإنني أود الإشارة إلى تجربة رائد التجديد والنزوع نحو الحداثة في بلادنا، وهو الأستاذ المرحوم محمد حسن عواد، والذي عبر عن ذلك التشوف الحي نحو الحداثة، ونافح عنه، واحتمل تبعات موقفه الثقافي والجمالي والسياسي، من خلال تجربته المبكرة لكسر عمود الشعر حين كتب مغامرته الأولى في بداية العشرينيات، والتي سبقت تجارب رواد قصيدة الشعر الحر، ونثبت هنا مطلع نص طويل كتبه في حوالي عام 1924م، بعنوان "خطوة إلى الإتحاد العربي":

لقد آن أن تستحيل المدامع يا موطني
إلى بسمات وضاء
وأشياء لم تعلنِ
وأن تتقوى بعزمٍ
كرهت له أن يني
وتدفع شبانك الطامحين إلى المعليات
لتنعش روح الأمل.
أفقْ واستمع
ثم ألق بها نظرةً للنجوم
تريك أشعة نجمٍ
يضئ بليل بهيم."

وقد أشار إلى هذه التجربة عبد الرحيم أبو بكر في كتابه "الشعر الحديث في الحجاز" الذي أعده كرسالة لنيل شهادة الماجستير في عام 73م، وأورد مقتطفات من مقدمة الديوان التي تؤكد على مصداقية تاريخ كتابتها حيث يقول العواد في تلك المقدمة "في سنة 1924م انتهت الأزمة الوطنية التي نشأت في عهد الانتقال بين الحكومة الذاهبة والحكومة الحاضرة باتحاد الحجاز ونجد في حكم مستقر هو حكم صاحب الجلالة الملك عبد العزيز آل سعود أدامه الله، فاتسعت رقعة الفكرة الوطنية التي كنا نتمثلها في الحجاز وحده، فحققها جلالته بضم نجد وملحقاتها وأطراف الجزيرة في دولة واحدة هي الآن الدولة العربية السعودية، ورأى الشاعر أن هذا النجم البادي يشير إلى كوكب أكبر وأنه نواة الدولة العربية الكبرى.."
وقد توج العواد انهمامه بتحديث بلادنا، بنشر بياته النقدي الشهير عبر كتابه "خواطر مصرحة" الصادر في عام 1925 ميلادية، والذي طرح من خلاله تصورا إصلاحيا وتحديثياً شاملا في الميدان الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، كما نادي فيه بضرورة كفالة حقوق المواطن في العدالة والحرية، وبضرورة تعليم المرأة وتحريرها من أسر العادات والتقاليد البالية، كما دعا المثقفين إلى الانفتاح على ثقافة الآخر وإبداعاته الأدبية والمعرفية. ولعل العبارة التالية - التي اخترتها على عجل- قادرة على الإفصاح المكثف عن موقفه من الحياة وروح العصر، حيث يقول: نريد حرية عصرية تحارب الوهم، وتسعى إلى الحقائق، وأن يحتكم الناس إلى ميزان الذوق والعقل والعلم". ولا أظن هذه العبارة التي شرحها في كتاب كامل تبتعد كثيراً عن بعض مرتكزات الحداثة.

لقد حاول العواد الخروج من الأرض الضيقة - بحسب الشاعر إبراهيم الحسين- بخطاب تحديثي كهذا، يسهم به في إخراج المجتمع من معضلة التمركز حول الذات، وأن يؤسس - منذ زمن بعيد- لخلق مناخ ثقافة الحوار والعقلانية والانفتاح على الآخر، ولكن قوى المحافظة أفرادا وجماعات وأدت تلك الصرخة العقلانية المبكرة، وقادت حملة شعواء ضد صاحبها، حيث مُنع كتابه من التداول، وكاد أن يودع السجن لولا تدخل بعض العقلاء، حسب ما أورده ضياء عزيز في حوار معه لمجلة "النص الجديد".
ولسوف يقود أبناء تك القوى المحافظة لاحقا، حملاتهم ضد العقلانية والتحديث، والتي تمثلت في كتاب العقيلان "جناية الشعر الحر"، وفي إيقاف المربد، وفي ما حواه شريط سعيد الغامدي، وكتاب عوض القرني "الحداثة في ميزان الإسلام"، وفي مجزرة الحداثة، مما سنفصل فيه فيما بعد.
وهكذا يتم وأد الصوت التحديثي، و يتكرس تدخل المؤسسة المحافظة في حرية الفضاء الثقافي والإبداعي، وتطفأ جذوة الرؤى النقدية المستنيرة، ولا يجد الأحفاد إلا تاريخ أجدادهم وآبائهم منزوياً في الكتب المنسية، ويستمر ترسيخ مفاعيل القطيعة بوجهها المزدوج، حيث يتم تغييب الإضاءة الملهمة في السياق المحلي وقمع النزوع الفردي الخالص في حق مقاربة التجديد والحداثة، فيما يتم تسييج الحاضر ضد الإضاءة القادمة من خارج المكان، ويجبر المثقف على الإحساس بأنه شريك لإدوارد سعيد - مع المفارقة- في اللامكان.
ولكل هذا، ولغيره مما لم يقل، أعتقد بأنني لا أذهب إلى التبرير بقدر ما ألامس الحقيقة القائلة، بأن عملية كسر عمود الشعر في المملكة تغدو لدى شعرائها ولدى الكثيرين من نقادها، هي الحداثة بعينها، لأنها تشتبك مع الذائقة المكرسة، ومع سلطة الثقافة الشفهية، ومع المؤسسات المهيمنة بالمعنى الشامل، في صراع، حول قطبيات، الأصالة والمعاصرة، والقدامة والحداثة، والثبات والتحول، والانغلاق والانفتاح، والوضوح والغموض، من خلال مرموزية هذا الفعل الشعري البسيط.

ويمكننا الآن القول بأن العواد قد ذهب قبل الأوان، إلى تجريب التحرر من القيود ومنها قيد الوزن والقافية، متأثراً بمحاولات مدرسة أبوللو وبشعراء المهجر، ومستجيباً لما تنطوي عليه نفسه من طموح وثورة على الركود، ولكنه لم يكسر عمود الشعر، أو يكتب النص المضاد - بحسب الغذامي- ولم يدفع بالتجربة إلى آفاق تخليق النموذج القادر على التأثير في محيطه الثقافي، غير أن تلك الخطوة السابقة في الزمن لتجربة رواد قصيدة الشعر الحر، كانت علامة في الطريق تشير إلى حراك ثقافي متعدد الوجوه، يرفض قيد النمط، ويؤسس لخلخلة سياق النص المكتمل والتذوق الساكن، ويحفز على اجتراح خيار حرية التشكيل والتعبير معاً.

وقد اجترأ على انتهاك قيد الوزن والقافية آخرون من مجايلي العواد، منهم حمزة شحاته، الشاعر التجديدي الكبير، والمثقف النهضوي البارز، ولكن منجزه - بحسب النموذج الذي اطلعت عليه- في هذا السياق كان متواضعاً بالمقارنة مع إبداعه المتميز في حقل القصيدة العمودية، وكذلك فعل محمد حسن فقي في نص نشر له في ديوانه "قدر ورجل"، ويبدو لي أن كلا الشاعرين الكبيرين لم يكونا على قناعة متأصلة بخوض تجربة هذا الشكل الشعري الجديد.
ويمكن للمتابع أن يرصد علامات التجاوب مع تجربة قصيدة الشعر الحر في شعر الكثيرين من شعراء المملكة في وقت مبكر من مرحلة الخمسينيات، حيث أورد في هذا السياق، عبدالله عبدالجبار في كتابه الهام "التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية -1959م-، نماذج عديدة لافتة كتبت في تلك المرحلة متصادية مع ما يمور به العالم العربي من أحداث سياسية، وتجارب شعرية حديثة، لكل من ابراهيم فلالي، وعبدالله عبدالوهاب العباسي، وماجد الحسيني، والغسال، وصالح المساعد، وسواهم، ولعل من أفضل تلك التجارب ما اخترته من نص لم استطع التعرف في الكتاب على منشئه، حيث يقول:

"سيدتي:
ما زال بيتنا الكبير مغلقاً
مسمر الأبواب
يعسكر الظلام حول سوره
ويزحف التراب
وينصب الصمت على دروبه
مشانق الإرهاب."

أما أنضج الإسهامات المبكرة والمتميزة في كتابة الشعر الحر، والتي جمعت بين تشكّل الوعي المغاير، والمقدرة الإبداعية على تمثله، فقد توفرت في شعر عبدالرحمن المنصور، من حيث تشكيل مساحة الصورة الشعرية الواسعة، وحساسية توزيع العبارة الشعرية، وبناء المعادل الموضوعي للشحنة الشعورية، والانهمام بالحس الاجتماعي، والانتباه الواعي للمستجدات الفكرية والسياسية. وقد احتفى به العلامة حمد الجاسر حيث نشر قصيدته الموسومة بـ"ميلاد إنسان" في العدد الأول من مجلة اليمامة التي أصدرها الجاسر في عام 1952، كما نشرت له جريدة "الفجر الجديد" في الخبر عام 1954 عدداً من قصائده الملفتة.

ونثبت هنا مطلع قصيدة المنصور المشار إليها:

"أنعيش والمحراث والفأس الثليم
والأرض نزرعها، ويحصدها الغريم
وكآبة خرساء
تقضمنا على مر القرون.
لا فرحة
لا بهجة
غير الكآبة والأنين."

ويبدو لنا، حين ننظر إلى ما تم جمعه من شعره مؤخراً، في ديوان، بأنه كان من أكثر الشعراء -في مرحلته- إخلاصاً لكتابة قصيدة الشعر الحر، بدلالة أن أغلب قصائده المنشورة في الديوان كتبت وفق هذا النسق، غير أن تجربة السجن، ثم الانغماس في مشاغل العمل الإداري فيما بعد، قد دفعته إلى التوقف عن كتابة الشعر "فخسرته المشاهد المحلية، والعربية، وخسر نفسه حين جمّد الكلمة على شفتيه" - بحسب الدكتور حسن الهويمل .
وقد اثبتت ممكنات التفتح الثقافي في مستواها الفردي قدرتها على المتابعة وتصاديها مع حركة التجديد الشعري في الوسط الثقافي العربي والإنساني، حيث كتب ناصر ابو حيمد ومحمد الرميح قصائد الشعر الحر وقصيدة النثر في الخمسينات نتيجة لانفتاحهما على الثقافة الغربية ولتواجدهما خارج البلاد، كما أن فوزية ابو خالد انحازت لكتابة قصيدة النثر منذ أواخر الستينات نتيجة لنفس الأسباب، ومن النماذج اللافتة لقصيدة النثر ما كتبه محمد الرميح اثناء زيارته لمعرض لوحات فنية في ايطاليا، في أواخر الخمسينات، حيث يقول:

"آلا ف اللوحات
على الحائط الأزرق الطويل
عيونها المنفتحات
تحدق بي
تسمرت أحداقها في معطفي
وآلاف الأيدي تلوح لي
تقول لي:
"نحن هنا في يويتوبيا
أسرة واحدة
فلا تشتر منا شيئاً"

كما سجلت تجربة الصدى استمرار بعض الشعراء في المزاوجة بين كتابة الشعر العمودي والشعر الحر، منذ أواخر الخمسينات وفترة الستينات مثل سعد البواردي، وحسن عبدالله القرشي، وعبدالله العثيمين، وسواهم، حيث يقول سعد البواردي في قصيدته: تلك بلادي يا فلنتينا (وفلنتينا أول رائدة فضاء في تاريخ البشرية)

"فلنتينا
يا زهرة الفولغا
يا بعثة الأرض إلى الفضاء
وأنت تعبرين الكون
في مركبة الفضاء
هل أبصرت عيناك شيئاً
اسمه الصحراء؟
كثبان رمل أحمرٍ
يدعونه الدهناء"
غابات نخلٍٍ ..
اسمها القطيف والأحساء
وبلدة ناعسة الجفنين
اسمها شقراء
وبئر ماءٍ
عمقها شيء بعيد
دون ماء"

بيد أن كل تلك الجذوة الشعرية ذات النزوع نحو الحداثة الشعرية لم تجد المناخ الثقافي الملائم لكي تنجز صوتها الخاص وملامحها المختلفة، التي تهيؤها لتجاوز شكلانية توزيع الجملة الشعرية، والتوفر على مقومات صياغة النموذج المؤثر، والديناميكي الفاعل، إلا منذ منتصف السبعينات، حين أسهمت مختلف العوامل في التأسيس لكتابة قصيدة الشعر الحر، والتعريف بجمالياته، رغم استمرار قوى الممانعة في الوقوف ضد التجربة.

ثانياً: مخاض السبعينات:
محمد العلي

توفرت للسنوات الأخيرة من مرحلة الستينات وعقد السبعينات عوامل إثراء وتغيير شاملة، سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، هيأتها لدخول مرحلة الإخصاب والولادة، حيث استقبلت البلاد في أواخر الستينات، أفواجاً من أكاديميها العائدين من الدراسة في الغرب في حقول الأدب والاجتماع واللغات الأجنبية مثل الدكتور منصور الحازمي، والدكتور عزت خطاب، الذين أسهموا مع الشعراء والنقاد السعوديين والعرب المقيمين في المملكة، مثل الدكتور احمد كمال زكي وفواز عيد، وعبد الرحيم نصار، ومحمد العلي وعبد الله نور وعبد الله الماجد، والدكتور محمد الشنطي، وشاكر النابلسي، ونبيه شعار، في توسيع دائرة تقبل القارئ لقصيدة الشعر الحر، من خلال مشاركاتهم في الكتابة للصحف المحلية التي فتحت بدورها منابرها لهم.
وقد لعبت "الصفحة السابعة" في عكاظ وملحق البلاد الأدبي، والصفحات الأدبية في الرياض ومجلة اليمامة، دوراًً تأسيساً، منذ مطلع السبعينات، في غرس بذور حساسية فنية جديدة، لغة ودلالة؛ حيث تخلت الجملة الشعرية عن بلاغتها التراثية، وتفتحت لغة القصيدة على المفردة اليومية، واحتفى النص الحديث بدلالة الوطن الملموس، لا الوطن المغيب بين تراكمات النصوص الاحتفالية الباردة، أو المعوم فوق خارطة العروبة الشاسعة.

ويمكننا باطمئنان القول بأن تياراً شعرياً قد تبلور خلال عقد السبعينات، حاسماً خياره الشعري ضمن أفق قصيدة التفعيلة، ومعتمداً على تنوع مكونات ثقافية وشعرية متباينة، وبنت الأسماء المؤثرة فيه فاعليتها النصية على استلهام تجليات الوطن الحلم، والوطن المدينة الفاضلة، والتشوف إلى مثالات الحرية، والاهتمام بقضايا المرأة، حيث غدا مرموز المرأة نصاُ يتعالق فيه الحب الإنساني والوطن الحلم المأمول، الذي ينعم فيه الناس بتحقق أقانيم الحق والعدل والحرية، والجمال، ولعل هذا التيار هو الأكثر تعبيرا عن أحلام مضامين الخطاب التحديثي، والنقدي الغاضب الذي بثه العواد طوال مسيرة حياته الثقافية.
ولتثبيت الحقائق التاريخية، فإن علينا أن نتوقف أمام فاعلية شاعرين من أبرز الشعراء في بلادنا، وهما محمد العلي، وغازي القصيبي، واللذين يشتركان في الحصيلة المعرفية التراثية، وفي تميزهما في إبداع القصيدة العمودية ذات النزوع التجديدي، وفي تجاوزهما أسوار تلك التجربة، إلى الانفتاح على ثقافة العصر في بعديها الفكري والإبداعي، وبما أبدعاه داخل نسق شعر التفعيلة.

وخلال تلك الفترة، ساهم غازي القصيبي، في إغناء مشهدنا الشعري الحديث، وفي التصدي لتحدياته، بكتابة شعر التفعيلة، ضمن نسق تشكل من خلفيته الشعرية المنغمسة في التراث العربي ومن خلال تأثره ببساطة الإيقاع الشعري ومفردات الحياة اليومية المتوفرة في شعر نزار قباني، حتى استطاع فيما بعد تحديد ملامح خصوصية نصه الشعري ومنذ ديوانه "أنت الرياض".

والقصيبي أحد الفعاليات المضيئة في تاريخ بلادنا ثقافيا وإداريا، ويكاد يكون إحدى الشخصيات ذات الطابع الإشكالي التي ينقسم الناس حولها بين محب ومعاد، وقد دخل في معارك عديدة مع مناوئ قصيدة التفعيلة، وتم استهدافه من قبل القوى المحافظة باستمرار كأحد رموز التحديث والحداثة، وتعرض ديوانه "معركة بلا راية"، للهجوم العنيف من قبل المحافظين، الذين ذهبوا إلى استعداء المقدس ضد انتشار قصيدة الشعر الحر، حيث وسموها بالإسهام في تهديم الثوابت والإساءة إلى لغة القرآن الكريم.
وقد شارك القصيبي بفعالية في تحديث البنية التحتية للوطن، وفي رفع سقف حرية الإبداع، ولا سيما في نصه الروائي، بما يضعه في موقعه البارز من تيار التحديث في المملكة، إلا أن انشغالاته الوظيفية وتنوع اهتماماته الثقافية، وتشككّه في الدور الذي يمكن أن يلعبه الشعر في القرن العشرين، قد قلل من فاعلية دوره الشعري، وإمكانية تجاوزه لأفق السائد، حتى أصبحت استجابته الوجدانية، أكثر ميلاً للتعبير بالشعر العمودي منها بالتفعيلة.

أما محمد العلي، المفكر والأديب والشاعر، فإنه يمثل خلاصة التجربة وحداثتها، على صعيد الكتابة الثقافية، والقراءة النقدية، والإبداع الشعري، ورغم أنه شاعر مقل، وزاهد في الضجيج والأضواء، إلا أن قصائده العديدة التي لم تنشر في أزمنة كتابتها، كانت توزع بين الأصدقاء والمهتمين، وقد شكّلت مركز استقطاب تتمحور حوله الشعرية الجديدة، بما توفرت عليه من حساسية لغوية متفردة، وخصوبة تصويرية مكثفة، ورؤية فكرية ثاقبة، ومخيلة خلاقة، وقد غدت بعض قصائده مثل، "لا ماء في الماء" ،و"آهٍ متى اتغزّل" التي تجاوز فيها مكوناته الأولى المنحدرة من أبوتمام والشريف الرضي، والمتن السيابي، لتخط تميزها، ولكي تغدو نصوصا تأسيسية للحداثة الشعرية في المملكة، حيث حفرت تجربته المختلفة مسارها في حياتنا الثقافية (خاصة في المنطقة الشرقية والوسطى) رؤية وإبداعا وموقفاً.
ومن مطلع قصيدته "لا ماء في الماء" نقرأ ما يلي:

"ما الذي سوف يبقى إذا رحت أنزع عنك الأساطير
أرمي المحار الذي في الخيال إلى الوهم
ماذا سأصنع بالأرق العذب
بالجارحات الأنيقات
إما لقيتك دون الضباب الجميل
كما أنت.. كن لي كما أنت
معتكراً غارقاً في السفوح البعيدة
مختلطاً بالثمار
ومكتئباً كالعيون الوحيدة
بيني وبينك هذا الضباب
الذي يمنح الحلم أشواقه
يمنح الوهم أجنحة الماء
هاأنت فيه غويُ
كأرجوحة من هديل
.... إلى أن يقول
كان الأصيل شهياً
كنهدين ما التفتا بعد
... "

"وإذا كانت الحداثة قد اتخذت على المستوى الكوني معنى التحرر الشامل من الأوهام الأيديولوجية والطبقية، والأخلاق المرتبطة بها، والانتقال من العقل الخرافي إلى العقل العلمي، ومن الميوعة العاطفية إلى الرؤيا التغييرية، فإن معنى كل كتابة حقيقية يكمن في الاتحاد بهذه الروح وتفجير النور الكامن فيها". وبهذا التوصيف الذي تصرفت فيه من كلام فاضل العزاوي، أستطيع القول بأن محمد العلي غدا أهم مركز تأثير محلي لتطور القصيدة في بلادنا تعبيرا ودلالة خلال عقدي السبعينات ومطلع الثمانينات، حيث أسهم بتميز في حفر مجرى الحس الوطني في تجليات الكتابة بشكل عام، وانه بهذا وسواه، مما لا تسعه اللحظة، خليق بالريادة، وخليق بموضعته في المكان اللائق به كأب للحداثة في المملكة، رغم تحفظه على بعض ما في مصطلح الحداثة من شطط، سأشير إليه لاحقاً.

***

كنت أكتب بداياتي الشعرية، وأراقب ما ينشر في صحفنا المحلية، وكان الصمت والعزلة يترسخان في مكوناتي النفسية والكتابيه، ويتواطآن مع سكن الطلاب في كلية البترول التي تشبه قرية موحشة معزولة في صحراء، لتأبيد حالات الصمت والانقطاع والانهماك في عُجمة كتب الهندسه، مما جعل التمرن على كتابة الشعر معادلاً وحيداً للتواصل مع الحياة، والتطهر من حالة حب يائسة، حفزتني لكتابة نص شعري شبه يومي، مما دفع بزميلي في الغرفة إلى تركها هربا من هذري الشعري المتواصل.
وحيث لم يكن شعر ديوان العرب يشفي تشوفي لحداثة النص، في واقع كانت المكتبات فيه فقيرة، و كان دخول دوواين الشعر الحديث إلى الوطن محاصراً، والنشاط الثقافي معدوما، فإن أرض الشعر قد تفتحت - في هذا المناخ المجدب- على ما تيسر الإطلاع عليه في بعض الصحف والمجلات المحلية والعربية، وعلى ما استطاعت الأذن التقاطه من نصوص شعرية جديدة عبر المذياع من البحرين إلى بغداد وحتى القاهرة.
وإذ أوصف تجربه فردية فأنني أزعم أن تعميمها لن يجانب الصواب في شيء، وأن مفاعيل ذلك المناخ السائد هو الذي أعاق تبلور الحداثة الشعرية في تلك الفترة.
ولأن الأشياء لا تجد مسمياتها دفعة واحدة، فقد سعيت إلى مراكمة قصائدي في طيات كتب الهندسة منذ عام (68 م)، حتى تيقنت بحسي النقدي، بأن ما أكتبه قد أصبح يضارع - فنياً- ما تنشره صحفنا ومجلاتنا آنذاك لبعض الشعراء الشباب الذين سبقوني في النشر والقدرة على تطوير ممارسة الكتابة الشعرية، مثل إبراهيم الفوزان، وسعد الحميدين، واحمد الصالح، ويوسف الحبيب، وحينها أخرجت نصوصي من مكامنها في عام 71م إلى واجهات الملاحق الأدبية في بلادنا.
وحين استعيد ما قاله محمود درويش في قصيدة سرحان:

هنالك غيمُ شديد الخصوبة
- لا بد من تربه صالحه.
فإنني استذكر بحنان لا حد له، تلك التربة الصالحة، التي وجدتها في جريده اليوم.

ولكن لقاء المطر بخصوبة الأرض قد قبضت عليه، وإلى الأبد، حينما تعرفت على محمد العلى عن قرب، حيث غدا "العلي" المعلم الأول لتجربتي الشعرية والثقافية والإنسانية بدون منازع.
وحين نمضي صوب منتصف السبعينات لنرى إلى منجز التجربة الشعرية التي خاضها عدد من الشعراء الشباب، فسوف أجترئ على الجزم بأننا لن نجد فيها - بمعايير النقد المتوفرة اليوم- تياراً شعرياً متبلوراً في خصائصه الفنية وملامحه الخاصة وإنما سنرى فيها تعدداً يشي بمرجعيات أصوات رواد الشعر الحر في العالم العربي، من خليل حاوي (لدى الحميدين)، ونزار قباني لدى (أحمد الصالح)، وإلى تداخل السياب وسعدي يوسف (عند الفوزان وعلي الدميني).

بيد أن تلك البدابات الواعدة كانت بمثابة الإعلان عن حسم خيار الأجيال الجديدة لكتابة الشعر الحر، متحدية مقاومة الذائقة السائدة.
وبالرغم من عدم توفر تلك التجربة الشابة على مقومات الأنموذج المؤثر في محيطه، إلا أنها كانت مصباحاً يضئ الطريق أمام الجيل الأحدث للبحث عن منجز رواد التفعيلة العرب، في مضانه الغنية، ومواطنه الأصلية.
ومثلما يحقق قانون التراكم الكمي تحوله إلى منجز نوعي في الطبيعة والمجتمع والحياة الثقافية، فقد تضافرت فاعلية رائدي قصيدة التفعيلة في بلادنا (العلي والقصيبي)، وكوكية التجديد الشابة (تجربة سعد الحميدين وأحمد الصالح، كمثال)، والملحقات الأدبية في صحفنا، على تهيئة المناخ الملائم، لولادة "النص المضاد" في أواخر الثمانينات وخلال عقد التسعينات، وانفتح المشهد الشعري على بروز أسماء شعرية لامعة في فضاء شعر التفعيلة مثل عبد الكريم العودة، وعبدالله الصيخان ومحمد الثبيتي ومحمد جبرالحربي، وعبدالله الزيد وعلي بافقيه، ومحمد زايد الالمعي، وحسن السبع، وغيداء المنفى، وخديجة العمري، وثريا العريض، وأشجان هندي، وغيرهم.
أما في فضاء قصيدة النثر، فقد ترسخ حضور الرائدة فوزية أبو خالد، ومحمد عبيد الحربي ومحمد الدميني، وإبراهيم الحسين، وأحمد الملا، وهدى الدغفق، وغسان الخنيزي وغيرهم من الأسماء البارزة الأخرى.

الشعر الشعبي الحديث:

تستحق تجربة قصيدة الشعر الشعبي الحديثة في المملكة، التفاتة تأريخية ونقدية جادة، لأن تلك القصيدة الاختراقية قد أنتجت فيما بعد خطاباً يُعد من أهم الخطابات الشعرية البارزة في منطقة الخليج.
ولضيق المساحة المتاحة التي لن تمنحني الحيز الأمثل للحديث عنها، فسأكتفي بالإشارة إلى بداياتها التي تجاوزت مكونات موروثها الشعبي في اللغة، وفي تشكيل الصورة، والخروج على عمود الشعر الشعبي، وفي تأسيس "اللغة المحكية"، التي تجمع بين ثقافة الفصحى وبساطة استخدام المفردة وتطويعها بحرية لا تخضع لنظام النحو العربي.
وقد رسمت تلك القصيدة خطواتها الأولى منذ مطلع السبعينات، ثم نضجت بهدؤ على يدي مجموعة من الشعراء، تصادياً مع تجربة الشعر الشعبي الحديثة في مصر والعراق والبحرين، ومن أبرز شعرائها سعد الثوعي، وإبراهيم الغدير، والأمير بدر بن عبد المحسن، وشاكر الشيخ، إلا أنها وجدت تميزها وصياغة صوتها الخاص والمتفرد من خلال شعر الأمير بدر بن عبد المحسن الذي يعد رائداً حقيقاً لهذه التجربة الخصبة.
كما أن تجربة غناء هذه النصوص الشعبية الحديثة بأصوات أبرز الفنانين في بلادنا مثل طلال المداح، ومحمد عبده، قد أسهمت في اختراق ثبات الذائقة وأغوتها بتقبل الجديد، والتفاعل مع جمالياته، والتفتح على تجربة الشعر الحر بشكل عام.

الملحقات الأدبية

بحكم وظيفيتها الصحفية المنفتحة بالضرورة على مستجدات العالم، أسهمت الملحقات الأدبية في صحافتنا السعودية، في كسر عادية الذائقة، وفي إغناء حركة التثاقف مابين الداخل والخارج، وما بين المناطق المتباعدة في بلادنا.
وإذ لا يمكنني إغفال الدور الذي نهضت به ملحقات الصحف الكبرى، وخاصة ملحق جريدة الرياض وجريدة الجزيرة، إلا أنني هنا، سأشير إلى تجربة ملحق جريدة اليوم "المربد" الذي أشرفت على تأسيسه وتطويره منذ عام 75 م، حيث عملت مع بعض الأصدقاء على جعله نافذة تطل على التجارب الشعرية العربية الحديثة، وعلى الشعر العالمي المترجم، وعلى الرموز الأدبية الهامة في المحيط الجغرافي وخاصة في العراق والبحرين، كما عمل الملحق على نشر تجربة قصيدة النثر والاحتفاء بمبدعيها في المملكة، وشمل اهتمامه الشعر الشعبي الحديث، والفن التشكيلي، وتشجيع الأقلام الجديدة. وحين تركته مرغما في عام 82 م، استمر الملحق في أداء دوره الهام - بإشراف عدد من المبدعين- حيث أصبح واحدا من أكثر المنابر الأدبية احتفاء بتجربة النقد الجديد وسجالها الغني الذي أشعله الغذامي مع عدد من النقاد، في منتصف الثمانينات.
وفي مناخ تلك الحاضنة "المربد"، التي كان يوجهها محمد العلي، تشكّل تيار الأدب الواقعي في الشعر والقصة والدراسة الأدبية في بلادنا، ولكنه تمايز عن إرث تيار الواقعية الوظيفية الفاقعة، حيث لم يحمل ذلك التيار في ساحتنا الثقافية، لواء وصاية مؤسسة أيديولوجية أو سياسية محددة، وإنما استفاد من الجذور الواقعية في مرجعيتها المعرفية، ومضى في فضاء الحداثة الإبداعية بما هي فعل اختلاف وتجريب وتجاوز.

ثالثاً: الحداثة: صخب التسمية و"سعودتها"

الغذامي وحركة النقد الجديد
لعل في ما عرّجت عليه آنفاً ما يسوغ لي العودة إلى الحديث عن قيد المصطلح ومراوغته، وصخبه أيضاً، في مناخ ثقافي محافظ كالذي تتنفسه بلادنا.
لذلك، ومع معرفتنا وتقديرنا للجهد التنظيري الهام الذي أشاعه "أدونيس" في فضاء الثقافة العربية، من خلال مصطلح الحداثة، ومن خلال المشروعية التاريخية التي أضفاها على أطروحته فيما يخص جذور الحداثة الشعرية في تراثنا العربي - باعتبارنا كائنات تاريخية لا تقبل إلا ما أجازه الماضي-، إلا أن الحركة الأدبية الحديثة في المملكة، تحاشت، خلال السبعينات، استخدام هذا المصطلح، نتيجة لشواهد المشروعية ذاتها التي اثبتها ادونيس، وكرد فعل على مراوغة المصطلح من الجانب الآخر.
وسأوجز هنا ما يختبئ خلف هذا الموقف من أبعاد:

تستدعي كلمة "الحداثة" إرثا ثقافيا تأسس على توظيف الحديث النبوي الشريف القائل: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد"، ولذا فإن الكلمة تصطدم بحاجزها، ولو أن الصدف أسعفتنا بكلمة تختلف عن هذه، لكان رد الفعل الاجتماعي عليها أقل استثارة وأخف عنفاً.
تتضمن الحداثة، وفي إحدى تجلياتها، القطيعة مع الموروث، وذلك ما يستفز مخزون الذاكرة التي تنطوي على أجمل منجزات الإرث الشعري العربي، بما فيها تلك الجذور التي أشار إليها "أدونيس" في شعر بشار، وأبي نواس وأبي تمام.

ينبني المصطلح في بعض جوانبه على مفهوم الهدم الدائم، للأشكال، والقناعات، وانقلاب تقاليد الحداثة على ذاتها - بحسب أكتافيو باث-، بما يحيل تجربة الكتابة الجديدة إلى مختبر شكلاني تأملي، منغلق على ذاته ومعزول عن بنيته النصية الكبرى المتوفرة على حركة مجتمع وفق شروط الزمان والمكان، ولذا فإن تيار الواقعية الأدبية، قد إطّرح المصطلح جانباً.
ولأن الحرية ضرب من ضروب مواجهة الضرورة وفهمها أيضاً، فقد كان هناك تواطؤ -غير مكتوب- على أن مضمون الشعار، أهم من الشعار، وأن قدر الجغرافيا التي احتضنت المقدس، وقدر السياسة التي قامت على خطاب النص المقدس، قد اجتمعا في بنية اجتماعية وثقافية، عالية الحساسية إزاء المستجدات، وأن على المثقف الواعي بظروفه الموضوعية، مهما كان حماسه للجديد، أن يتعامل مع الحقائق القائمة كما هي، لا كما يريد لها أن تكون.
بيد أن ذلك التواطؤ الضمني، جرت تنحيته أو القفز عليه، في منتصف الثمانينات، حيث بلورت رحلة التراكم، ملامح النص المضاد، الذي لا بد أن يعلن عن اسمه، عبر تطور أدوات شعراء السبعينات، وبروز أسماء جديدة متميزة، وتزامن كل ذلك مع ولادة التيار لنقاده الذين انتظرهم طويلاً، فخرج النقاد الأكاديميون - من يومهم الأول- من رتابة الدرس الأدبي خلف أسوار الجامعة، إلى معترك الكتابة والسجال في قلب الحياة نفسها.

وقد دشن السريحي مرحلة المراجعة ومساءلة المنجز وتعرية البنى القارة فيه، وانطلق محتفيا بالمختلف والمفارق في تجربة الشعر الجديد، وتبنى حداثة شعرية تنزع إلى ما بعدها، وألقى الغذامي حجراً ظخما في البحيرة الراكدة - بحسب العلي-، فأدخل النقد الألسني إلى غرفة العائلة، كما أسهم البازعي في تأصيل تيار الواقعية وإغنائه بثقافة النقد المقارن، وقد تميز بسعيه إلى خلق حالة من التعاطف الحميمية بين الشعرية الجديدة والجمهور.
أما الملحقات الأدبية، وخاصة ملحق عكاظ الأدبي، فقد احتفت بصوت عالٍ بهذا المخاض الصعب، وأطلقت عليه مسمى "الحداثة"، على الرغم من التباينات الواضحة في تحديد معنى المصطلح بين الأطراف العديدة التي أسهمت في تشكيل ملامحه، حيث لا يرى الغذامي - وفي معظم ما قرأته له، وخاصة في كتابيه، "الموقف من الحداثة"، و"النص المضاد" - إلى أن الحداثة "رؤية"، ولا يشير إلى الأبعاد الفكرية والفلسفية المتضمنة في تاريخية التسمية، وإنما يتعاطى مع المصطلح، باعتباره انفتاحا وتحديثا وتجديدا في لغة الشعر وفي بنيته النصية، كنص مغاير للسائد أو الموروث. ولعل ذلك الموقف يعود إلى طبيعة انشغالات المنهج الألسني نفسه.
أما سعيد السريحي فإنه يؤكد بشكل واضح، على أن الحداثة ليست كسر عمود الشعر وحسب، ولكنها "رؤية" تستهدف التأكيد على حرية الإنسان إزاء العالم،.. وأن علينا أن نسلك بالتعبير السبيل الذي سلكته الرؤيا في ضرورة التجاوز والاستعلاء على النسق" (الكتابة خارج الاقواس ص 44). بيد أن في اهتمامه الكبير بقصيدة النثر، وما تحتفي به دراساته التطبيقية من تأكيد على الجمالي المختلف، والشعرية الصافية، التي تجافي أي تعالق بينها وبين المعنى أو الوظيفية الاجتماعية، ما يسمح لنا باعتبار السريحي يؤسس لمنحى ما بعد الحداثة وليس إلى الحداثة، حسب توصيفي.

وأما محمد العلي، فإنه يتفق مع من يرى أن الحداثة "رؤية" للكون وللإنسان وللحياة، ولكنه يقف ضد مفهوم القطيعة مع التراث حيث يقول، في حوار لمجلة النص الجديد معه:
"الحداثة - كما أفهمها- مصطلح عربي تليد، قبل أن يكون مصطلحاً غربياً. الغرب ابتكر حداثته وفق مقاييسه.. (أما نحن) فقد أدخلنا عليها مفهوماً غريباً أحالها إلى شبح مخيف بالنسبة للغالبية من مثقفينا وقرائنا. هذا المفهوم، هو أن كل حداثة تبدأ من (القطيعة) مع التراث، وهذا مفهوم خاطئ ومظلل.
إن الحداثة ليست شيئاً سوى (التطوير) والارتقاء على الذات، وانتقاء الإيجابيات في التراث، وتعميقها لإغناء الحاضر." (النص الجديد العدد الأول-أكتوبر- ص 93).
وقد ذهب سعد البازعي إلى أبعد من ذلك، حيث وسم كتابه النقدي الأول، بـ"ثقافة الصحراء"، للتدليل على عمق ارتباط شعراء الحداثة بهويتهم الخاصة من خلال توظيف الموروث الشعري العربي، والتراث الشعبي أيضاً في نصوصهم الحداثية.
ولذا يمكن الخلوص إلى أنه قد جرت محاولات خلاّقة أو ملتبسة لتبيئة المصطلح، او "لسعودته"، وفقاً للمرجعية المعرفية لكل من شارك في جدل الحداثة في المملكة، وقد كاد سعيد السريحي أن يظفر بتأكيد مشروعية "سعودة الحداثة"، حيث سعى لتضمين البيان الختامي لملتقى الشعر الخليجي بالرياض في عام 88م، ما يؤكد هذا الأمر، ولكن حرس ابن قتيبة ونواب المؤسسة المحافظة، قد حالوا دون ذلك.

وبإيجاز، يمكن الذهاب إلى أن هذا الالتباس أو التشتيت المفاهيمي في التعاطي مع المصطلح وتطبيقاته، ليس ظاهرة شاذة أو غريبة، لأن المصطلح نفسه متعدد حتى حدود التناقض، ولأن البيئة الثقافية في المملكة، شديدة التعقيد بما يطال التعبير عنها ليصبح أكثر تعقيداً، عند مقاربة مثل هذا المصطلح الشائك.
غير أن صدمة المصطلح، وصراع المرجعيات المعرفية في حقل النقد الأدبي، قد خلقت مناخاً خصباً للحراك الثقافي والاجتماعي أيضاً، حول ظاهرة التجديد والحداثة، كما أنها حسمت الصراع حول مشروعية قصيدة التفعيلة، وأنتجت مرحلتها عدداً من أهم النصوص المتميزة، مثل "تضاريس" و"تغريبة" الثبيتي، و"هواجس" الصيخان، و"خديجة" محمد جبر الحربي، و"خبت" على الدميني، التي يمكن إضافتها إلى ما أبدعه محمد العلي، والشعراء الشباب من نصوص تأسيسية لخطاب الحداثة الشعرية في بلادنا.
وقد أفاد هذا الخطاب بشكل أساسي، من منجزات قصيدة التفعيلة العربية، مع تميز بعض ملامحه بالسمات التالية:

1. حضور المكان التاريخي في ثنايا الخطاب، لأن العربي حين يقرأ متن ديوان العرب، ولاسيما في نصوصه المؤسسة، فإنه يتخيل المكان الذي احتفت به قصائد العرب في الجزيرة العربية، ولكننا في المملكة كنا نتنفس هواء المكان ذاته الذي رسم أطلس الجزيرة، كما أننا وفي الآن عينه، ما زلنا نعيش في أكنافه.
يقول محمد الثبيتي في "التضاريس":

"...
وخيول ليلٍ أمطرت شبقاً على البيداء
فاحمّرت نبؤات البروج
وقوافل الدهناء صادية
إلى ماء السماء
.....
قد كنت أتلو سورة الأحزاب في نجدٍ
وأتلو سورة أخرى على نار ٍ
بأطراف الحجاز
قد كنت ابتاع الرقى للعاشقين
بذي المجاز".

2. تشكل ثقافة المتن الديني وخطابه، خلفية ثقافية لشعراء المملكة، ولذا رشحت مفردات وتراكيب وبلاغة ذلك المتن في خطاب الحداثة الشعرية في المملكة.
يقول عبد الله الصيخان في "الغناء على أبواب تيماء"
"وتيماء كيف،
وهداج، هذا السنونو المليح الكلام
توضأ في شفة الصبح
ثم أقام،
فقبّل كل العصافير ثم انحنى للزواريب
يلثمها
وفتش عن شفتيك
فكنت المواعيد منسية"

3. حيث انفتح النص الشعري، في بلاد الرافدين وبلاد الشام، ومصر، على أساطير، ومكونات حضارات مواطنهم القديمة، فإن خطاب الحداثة لدينا (في قصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر معاً)، قد انفتح على استحضار، الشخصيات، والأمكنة، والرموز التاريخية، والدينية، بشكل كبير.

يقول عبد الكريم العودة في "وجه الشنفرى يملأ الأفق"
"صرنا نؤرخ فيك
ولادة أولادنا، ونهاية أعمارنا
وصرنا نطالع في الأفق،
يمضغنا الانتظار،
أما يتفتّح قبرك يا شنفرى؟"

4. الانهمام بتجليات الوطن الحلم والوطن المنتظر، وبروز كثافة تعالق المرأة بالوطن، والوطن بالعشق، وبالمنقذ.

يقول محمد جبر الحربي في قصيدة "خديجه"

"جاءت خديجة
طلعت فتاة الليل، من صبح الهواء، فأورقت تيناً وزيتونا
وألقت للنخيل تحية الآتين من سفرٍ، فأورقت الوجوه (شقائقا)
ونمت حبيبات الندى مطراً على تعب القرى، قمراً على
الباب العتيق لعالم نسي الحديث الطفل، والكلم المذاب
..
لهفي على وطنٍ يغادرنا
ليسكن في المحافل والفنادق
تترك الصحراء أنجمها
وتبحر في ملفات العويل".

5. ظاهرة التناص، أو "التعالق النصي" بحسب الدكتور علوي الهاشمي، الذي أضاء هذا الجانب في كتابه الهام بنفس العنوان، وبروز هذه السمة يعبر عن محاولة الشعراء لتأكيد الهوية والانتماء، وربط طرفي الحداثة والتراث برابط استحضار مكونات التراث وبلاغته في تبديات الشعرية الجديدة.
(والأمثلة في ذلك لا حصر لها، ولعل أبرزها ما تجلى في قصائد أحمد الصالح)

6. محاولة التغلب على سطوة "الثقافة الشفوية" - بحسب الدكتور البازعي- التي تتطلب وضوح الرسالة، والنبرة العالية للإنشاد المنبري الموجه إلى جمهور مضمر، وذلك من خلال السعي لبناء شعرية السرد والانشاد، واستخدام التفعيلات الشعرية القادرة على رفع درجة حضور الموسيقى في النص، وتوجه الخطاب إلى المستمع، وتبطين الكتابة بانفعال وجداني عالي الحضور (الغنائية).

7. انفتاح النص الواحد على خطابات شعرية أخرى من العمودي والشعبي والنثري، وبروز الطابع التركيبي في النص.
(ويمكن ملاحظة ذلك في قصائد الحميدين، والثبيتي وعلي الدميني)
وقد هيأت فاعلية النص المضاد، المناخ الثقافي لاستقبال قصيدة النثر، حيث واصلت فوزية أبو خالد ومحمد عبيد الحربي مسيرتهما الشعرية لتبيئة قصيدة النثر في فضاء اتسم بمعاداتها، حتى من داخل سياق التجربة الشعرية الحداثية ذاتها، وقد أشار محمد عبيد الحربي إلى ذلك في أحد نصوصه:

"لقد أصابنا اليتم
من كثرة آبائنا
ومن نحيبهم المتواصل في الليل".

مجزرة الحداثة:
لم يتوقف التيار المحافظ لحظة واحدة عن هجومه على تيار (التحديث/الحداثة) في السعودية، وقد أصدر احمد عقيلان في مطلع الثمانينيات، بياناً مضاداً شاملا، في كتابه "جناية الشعر الحر". ولأن الباب كان مفتوحاً لحظتها للرد على ما جاء في ذلك الكتاب من آراء، فإن سجالاً واسعاً قد جرى حول مضامينه، وأصبح مجرد حوار ثقافي يجوز فيه الاجتهاد مثلما يجوز فيه الاختلاف.

كما أن نفس التيار قد نجح في إيقاف جريدة اليوم لنشرها قصيدة في ملحقها الأدبي "المربد" عام 77م بعنوان "مزقيه"، والضمير هنا يعود إلى البرقع، ورغم أن تراثنا الفقهي يتضمن ما يجيز كشف المرأة لوجهها، فقد أُعتبرت تلك القصيدة انتهاكاً للمحرم.

ونتيجة للتقاسم الوظيفي للسلطة بين التيار المحافظ مع الدولة، فإن هذا التيار كان يحظى بكافة التسهيلات، غير أنه ومنذ مرحلة مبكرة من عقد الثمانينات، بدأ في تشكيل تياراته وأحزابه السياسية لإقامة دولة الخلافة، وقد هيأت الدولة له - من حيث لا تقصد- البنية التحتية الشاملة للتغلغل في مفاصل المؤسسات الحكومية والجامعية والتعليم العام، باعتباره حليفاً تاريخياً وأيديولوجياً.

وعلى ضؤ غياب المنابر السياسية وجمعيات المجتمع المدني في بلادنا، فقد أصبحت الساحة الأدبية منذ منتصف الثمانينيات، مجالاً للتعبير عن الحراك الثقافي والاجتماعي والسياسي، لكافة القوى والتيارات الثقافية، فاختطف السياسي والإيديولوجي المتشدد الساحة الثقافية، كما رفع التيار المحافظ من درجات شغبه ضد تيارات التجديد/الحداثة، عبر وسائل عديدة، منها استعداء الدولة، وإقامة الندوات التحريضية، واختلاق الشغب في الملتقيات والندوات التي يشارك فيها رموز تيار التحديث/الحداثة، ومن خلال دعاية أشرطة الكاسيت، ومنابر المساجد، وقد تم تتويج كل هذا الجهد المبرمج، بإصدار كتاب "الحداثة في ميزان الإسلام" والذي اشتمل على تأويلات شتى، لنصوص شعرية ومقالات أدبية، تضع كاتبها في موقع المرتد أو الكافر.
لقد أشعل هذا الكتاب حرائقه في أرجاء الوطن، وحاول وأد تجربة ثقافية وليدة، وغدت أعشاب الأدباء وليمة لطلاب العلم، وكانت هذه المعركة - وهذا هو المهم- خطوة تجريبية أولى لتيار الصحوة، لكي يجمع محازبية حول قضية ملموسة، لا يتصادم فيها مع المؤسسة الرسمية، بينما تتاح له الفرصة لاختبار قدراته وقوته ونجاحاته أمام الجميع (السلطة والمجتمع)، وأن يحشد كافة طاقاته لانتظار اللحظة المواتية للانتقال إلى مرحلة المواجهة مع الدولة.

وماذا كان موقف المؤسسات الرسمية من كل ذلك؟
لم يكن أكثر من تعاطف حانٍ مع التيار المتطرف، ومع ما كاله من تهم تنتمي إلى زمن الإخوان و معركة "السبلة"، فأوصدت الملحقات الأدبية باب الرد على ما تضمنه الكتاب - بأمر من وزارة الإعلام-، وقامت بدعم عمليات المضايقة لأبرز كتاب ومبدعي التحديث/الحداثة، في أعمالهم ومواقعهم، فتم حرمان سعيد السريحي من نيل درجة الدكتوراه بعد اجتيازه لمعركة مناقشتها في جامعة أم القرى، واضطر الدكتور الغذامي إلى مغادرة جامعة الملك عبدالعزيز بجدة إلى الرياض، وتم تحويل الأستاذة الجامعية، فوزية أبو خالد من عملها كمحاضرة في جامعة الملك سعود بالرياض، إلى موظفة أرشيف، وتوقفت الأنشطة الثقافية، التي كانت تشارك فيها المرأة عبر الدارة التلفزيونية (الحجاب الالكتروني بحسب عبد الكريم العودة) في الأندية الأدبية، والجمعيات الثقافية، وسادت الوطن حمى التكفير، والتحزب الإسلاموي، فصمتت الأقلام، وتراجع بعضها، وهاجر بعضها إلى داخل الذات، ولم يبق فاعلاً منهم إلا المؤمنون.
لقد تحالفت المؤسستان (السياسية والدينية)، لتحجيم رحلة الإبداع الجديد، وقامتا معاً بوأد مشروعية الحوار، وتأسيس خيارات التعدد الثقافي في تلك المرحلة، لتصلا معاً إلى الأفق المسدود حين بدأت نذر الاختلاف بينهما تسفر عن ملامحها منذ دخول القوات الأمريكية بلادنا في حرب الخليج الأولى وحتى اليوم، حيث خرج المارد المدلل من مكمنه ليبدأ عنفه المسلح في كل أرجاء البلاد.

رابعاً: آفاق ما بعد التسعين/ما بعد الحداثة
قصيدة النثر وتركي الحمد:

تضافرت العوامل المحلية والعربية والعالمية، في توقيت تراجيدي، لتزف مشاريع الدولة العربية الحديثة، وأحلام الفكر القومي والتقدمي العريضة، وجنة وعود الماركسية، في جنازة مهيبة إلى المقبرة، ولم يصلِّ عليها -إلى حين- إلا قادة المعسكر الرأسمالي، بزعامة قطبها الأوحد.
وحيث لا يجوز التعميم، فيما يمكن أن يكون احتمالاً، فإنني أتحدث عن تجربتي الشخصية، هنا، وأسجل إحساسي بهزيمة الحلم والرؤية معاً، مما ألقى بظلاله على بعض قصائد ديواني الثاني، "بياض الأزمنة"، ومنها قصيدة "معلقة الطائر الجاهلي".
ولأنني، وبعكس الكثير من الشعراء، لا أجد فرديتي أو ذاتويتي إلا في استبطان صوت الجماعة، صوت الوطن، صوت البحث عن مثالات الحرية والعدالة والجمال، فإنني، حين انكسر مخيال تلك الأقانيم الذهبية، اتخذت الصمت والمراجعة، والحزن ملاذاً لا مفر منه، وكان صوت الجماعة المنكسر في أعماق تفاعيل الشعر العربي، يدفعني للقول:

شربت من ظمأٍ جارٍ فما انتجعت
أفراس روحي ولا نوقي العصافيرُ
إلا إلى غابةٍ أحسو حرائقها
وتحتسيني على الوهم القواريرُ
ماذا تبقى من الوجد الذي انفطرت
عروقه، وارتوت منه الأساطيرُ
قد كنت أبحث في صحرائه عُمُـراً
عن ناظريَّ فخانتني التصاويرُ.

وفي مناخ انغلاق الأفق، أمام استعادة صوت الثقافة الجديدة في المملكة، ذهبت مع آخرين إلى إنشاء منبر أدبي صدر من قبرص بعنوان "النص الجديد"، أسهم في إشاعة ثقافة الحوار والتعددية، حتى استعادت ساحتنا أنفاسها، بعد انجلاء معركة الغبار، وتجفيف دماء المتضررين من "مجزرة الحداثة".
وحين أُطلّ على مشهدنا الأدبي اليوم، فإنني أرى ازدهار الحركة النقدية تنظيراً وتأصيلاً، وألحظ حضوراً بارزاً لقصيدة التفعيلة وقصيدة الشعر الشعبي الحديثة، كما أرى نزوعاً جارفاً باتجاه كتابة الرواية كادت معه أن تتبوأ مكانة الشعر كديوان معاصر للعرب.
وإذ يشير هذا التورط الجماعي في إنتاج الرواية، إل تطورات السياق الاجتماعي، وبداية التشكل المديني لطبيعة الذائقة، (في مجال الحرية والتعددية)، فإنه يهمني التأكيد هنا على الاختراقات الهامة للتابوه الاجتماعي في روايات القصيبي، وتمركز تلك الاختراقات بشكل لافت ومؤثر في روايات تركي الحمد، التي غامرت بجرأة لمقاربة التابوهات الراسخة، (الجنس، السياسة، الدين)، لأنه بذلك قد استطاع رفع سقف حرية الكتابة بامتياز، عبر ما تضمنته رواياته الجريئة، من نقد حاد لمكونات الحداثة وما قبلها. و لعل تلك الشجاعة بحد ذاتها تشكل عنصراً جمالياً عالياً، أسهم في إغناء المشهد الحداثي وما بعده تحديداً، حتى وإن اختلفنا مع بعض مضامينها أو في تقويمنا الفني لها.
أما حين أركّز زاوية النظر على مشهدنا الشعري اليوم، فإنني أرى الغياب الفادح لشعراء التألق الثمانيني، (في التفعيلة والنثر)، ولعلهم يشاركونني جدل المراجعة، والتمرن على مقاومة الانكسار، والبحث الجاد عن حداثية "الفعل التواصلي"، بحسب هايبرماس.
كما أرى أن المشهد يعيش حالتين متضادتين معاً، أولاهما، ضمور فاعلية الحراك الثقافي في أبعاده المعرفية، داخل خندق الحداثة نفسها، وفي علاقتها بالآخر. وثانيهما، انكسار الممانعة الاجتماعية والثقافية لأنماط الكتابة الشعرية، حيث تبدو ساحتنا الثقافية اليوم أقرب ما تكون إلى القبول بتعددية الخطابات الشعرية وتعايشها، ولعل ذلك يعود - في جانب مهم منه- إلى أن الحراك الاجتماعي بوجه عام، قد وجد مجال انشغالاته خارج الوسط الأدبي، كما أن بعض التيارات المحافظة المتطرفة، قد تفرغت لمعاركها السياسية والتكفيرية، عبر ممكنات التعبير البديلة في المنابر ومواقع الانترنت، واستخدام عنف السلاح، وفي الشارع ذاته.
وحين أذهب إلى القول، بأن الشعر العمودي كان نتاجاً وتعبيراً عن صوت القبيلة، وأن شعر التفعيلة كان مخاضاً للخروج من مؤسسة العلاقات القديمة صوب تشكيل علاقات جديدة يأخذ فيها الشارع، بتنوع مكوناته المدنية، موقعه في إنتاج النص، والتفاعل معه، فإن قصيدة النثر تصبح تعبيراً عن شعر المدينة، - حسب البازعي- حيث يتجاور الناس بعيداً عن انتماءاتهم القديمة أو الحديثة، ويستقل الفرد فيها بمؤسسته الخاصة، وتغدو الذات المفردة هي منبع الرؤية ومناط التعبير والاستهلاك أيضاً.
ولعل من الواضح إن جملة التطورات والخضات التي نعيشها منذ نهاية التسعينات، قد أسهمت بشكل كبير في تبوء قصيدة النثر موقع الصدارة الشعرية من حيث الكم أولاً.
ولأن تقاليد الحداثة كما يقول باث "هي تقاليد تنقلب على ذاتها بدعوى ضرورة القطيعة"، فإن قصيدة النثر تؤسس لخطاب القطيعة الذي يخلص للنزعة الفردانية الكامنة في مصطلح الحداثة نفسه، ويمده إلى أقصى مدى حين يغدو الكون الشعري المنجز عالماً مكتفياً بذاته، يوازي الوجود العياني وينفصل عنه، وحين يصبح تأملاً جمالياً خالصاً يحفل بالمهمل والمهمش والمسكوت عنه وحسب، ويقوم بقطع صلته بالرؤية الشاملة التي بشرت بها الحداثة.
وباستعادة ما أسلفنا الحديث فيه من قبل، حول تعددية معنى الحداثة، وما بعدها، فإنني سأصف الشعر المنتمي للحداثة بقدر انحياز رؤيته إلى العقلانية، والحرية، وقيم العدالة، والمساواة، والانتصار لحركة التقدم الاجتماعي، والرفع من مكانة المرأة، فيما سأصف الشعر المنتمي دلالياً لحساسية ما بعد الحداثة، بقدر ما تعلنه بنيته النصية من علامات التشظي والتشتيت، والمجاورة، وموت المعنى، وغياب بوصلة الرؤية الاجتماعية.
ولذا فإن هذا التفريق بين مصطلح الحداثة وما بعدها، سيطال شعراء يكتبون قصيدة التفعيلة مثلما سيطال شعراء يكتبون قصيدة النثر، حيث يغدو الماغوط وفوزية أبو خالد حداثيين رغم انتمائهم لفضاء قصيدة النثر، حيث تقول في قصيدة - تنتمي إلى الحداثة وليس إلى مابعدها - بعنوان "إلى متى يختطفونك ليلة العرس" في ديوانها الثاني

" أدخلي دمي وتوضئي
فلا يجوز التيمم إذا حضر الماء
اخلعي نعليك
وأعيدي في الكفين
وفي القدمين
وحول السرة
رسم الحناء
أخلع عليك الليلة
أبهى ما حمل هذا الوطن من أسماء
اسميك طفول
أسميك خديجة أو سارة
أسميك العذراء
لا تعرف غير عيونك
ماذا يعني أن يكون للمهر الجامح وطن
يأوي إليه كل مساء "

والواقع، أن خطاب قصيدة النثر الجديدة في العالم العربي وفي بلادنا، قد انحاز بامتياز إلى شعرية ما بعد الحداثة، أي إلى المرقى الأشد صعوبة، رغم ابتذال الكثيرين لسهولة كتابتها.
وإذا ما تعاطينا مع الضرورة الموضوعية التي اقتضت مفاعيلها تصدر قصيدة النثر للمشهد الشعري في بلادنا، وكتابتها ضمن أفق ما بعد الحداثة، فإنني أستطيع القول بأن عدداً من شعرائها المتميزين يعبرون عن حركة شديدة الثراء والاختلاف والتجاوز، ويقفون مع نظرائهم العرب في نفس الموقع، بل يتفوقون عليهم في الاحتفاء الشديد باللغة.
وأنهم بذلك يدشنون مرحلة الكتابة الشعرية التأملية لا الانفعالية، التي تحتاج إلى حساسية عالية وثقافة غنية، ولعلهم يحلمون - وهذا من حقهم- مع سواهم برسم ملامح شعر إنساني وعالمي، متعالٍ على الهوية الضيقة والخصوصية المنغلقة، وهذا ما يتصادى مع الأبعاد الفكرية والثقافية لمكونات ما بعد الحداثة.
وإذ يفتقر هذا التيار في بلادنا إلى نقاده القادرين على الانشغال بحميمية على نصوصهم وتجلية ينابيعها الجمالية، فإنه يفتقر إلى جمهوره، رغم الجهود النقدية التي تعمل بإخلاص في هذا الحقل، مثل محمد العباس، وعبدالله السفر ومحمد الحرز.
ورغم أن إغراق الشعراء في كتابة النص التأملي المتشظي البعيد عن الهم الاجتماعي، سيسهم في تقلص دائرة قراء الشعر، حتى لتنحصر على منتجيها، إلا أن ذلك الأمر لا يبدو مهماً البتة بالنسبة لشعراء ما بعد الحداثة!
أما بعد ..
فقد أثقلت حديثي بصفات القيد بدلاً من توصيف تجليات الحرية، وانشغلت بالحاضنة أكثر من الانغماس في متعة تأمل الوليد، ولكنني أردت من ذلك الإشارة إلى مراوغة مصطلح الحداثة وتداخلاته مع مفاهيم التجديد، وأن أسهم في اشتباك شعر الحداثة بما بعدها، ولكي أكون - شخصياً- أكثر دقة في ربط الصفة بالموصوف، ولكي أوضح لماذا كان محمد حسن عواد رائد النزوع نحو الحداثة، وأن محمد العلي هو رائد الحداثة الثقافية في بلادنا.
كما أنني أردت من جهة أخرى، إغناء شهادة شعرية سابقة لي بعنوان "لست وصياً على أحد".
فاسمحوا لي الآن، للتأكيد على أن حديثي كان سرداً وصفياً لم يتغيا إطلاق حكم القيمة، بقدر ما تغيا تحديد مفاهيمي الشخصية للمصطلح، وتوثيق حراك مرحلة ثقافية خصبة من مراحل تطورها في بلادنا، وأن أقول مرة أخرى، الآن، وهنا، بأنني "لست وصياً حتى على نفسي".

وشكرا لكم.

قدمت هذه الورقة في أسرة الأدباء والكتاب في البحرين،
15-12-2003م