أمل دنقل كيف يري الشعراء المصريون الشباب أمل دنقل. جيل ، ولد معظمه بعد رحيل «الجنوبي»، جيل تخلص من «هموم» السياسة الضيق..إلى آفاق أرحب ربما...كيف قرأوه؟ وهل بقى كشاعر مفضل لهم؟

لو كان حياً
محمد أبو زيد

ماذا كان سيفعل أمل دنقل لو كان حياً إلى الآن؟ سيكون في طليعة الزاحفين إلى ميدان التحرير يوم 25 يناير 2011، وربما يكتب كعكة حجرية ثانية، سيدخل السجن مرتين، مرة في عصر مبارك ومرة في عصر الإخوان، سينضم لحركة كفاية وينتقد تخبط جبهة الإنقاذ، وينضم لحركة تمرد، سينشئ حساباً على تويتر، ويكتب قصائد هايكو يغرد بها لمتابعيه، كان يمكن أن تلقاه في أي من مقاهي وسط البلد إذا مرت قدمك من أمام الندوة الثقافية أو سوق الحميدية أو زهرة البستان، لكنه سيهجر «ريش» لأنها لم تعد كما كانت، وربما كان سيرفض التعاقد من «الشروق»، مفضلاً أن يطبع كتبه طبعات شعبية مع دار نشر شابة. لو كان أمل دنقل حياً الآن، لكان في طليعة شعراء قصيدة النثر. لماذا؟ لأن أمل دنقل شاعر ثائر بطبعه، لا أقصد بالثورة هنا قصائده السياسية التي حبسته أجيال السبعينيات فيها، لكن أقصد بذلك الثورة على جماليات الشعر، على شكل القصيدة، على التعاطي مع التراث، ومع التفاصيل البسيطة في دواوينه، هذه الثورة الموجودة في تكوينه الفكري هي التي ستجعله يثور على شكل القصيدة التقليدي (التفعيلة) وينحاز لقصيدة النثر. أرفض حبس أمل دنقل في قصائد «لا تصالح» و«الكعكة الحجرية» و«البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»، التي لا يذكر البعض اسمه إلا مقترناً به، بالنسبة لي فهذه النصوص لا تعبر عن شاعرية أمل دنقل، وإن كنت لا أقلل منها، لكني أرى أنه من الظلم أن يظل طوال الوقت محبوساً في بوتقة الشاعر القومي العروبي، فبإعادة قراءة تجربته الشعرية، ولا سيما ديوانه الأخير «أوراق الغرفة 8»، نجد أن تجاوز ما يمكن تسميته بشعرية الستينيات والسبعينيات إلى براح السرد، والتعامل بجمالية فائقة مع ما تبقى من القافية في قصيدته، وإعادة قراءة التراث الشعري والنثري والديني وتقديمه شعرياً بشكل مختلف، ومبهر، واهتمامه بشعرية التفاصيل الصغيرة. لا نغادر الحقيقة إذا قلنا إن بذور قصيدة النثر، باعتبارها شكلاً متطوراً لقصيدة التفعيلة، كانت موجودة في قصيدة أمل دنقل، وهو بهذا فقط سبق شعراء قصيدة النثر والتفعيلة معاً، والدليل أنه حاضر بقوة في وجدان من يكتب النوعين حتى الآن، كعلامة بارزة على تغير نوعي ومؤثر في شكل القصيدة العربية.

رفيق رحلة
ماجد زاهر

أمل شاعر له معزة خاصة بالقلب, بالرغم من ان مشروع كتابة التسعينيات هو بالتحديد تجاوز فكرة الكتابة السياسية المباشرة التي يمثلها أمل, تأتي ركاكة «لا تصالح» وميكانزمات دفاعها «أتري حين أفقأ عينيك...» كالقصيدة النموذج للشعر الذي يصلح للهتاف في تظاهرة, بينما رغبة التسعينيين الاساسية هي تأسيس كتابة لها وجود سياسي عبر تفعيل «الشخصي هو سياسي» لذا شعراء آخرون مثل وديع سعادة هم الآباء بالاختيار والتبني عوضاً عن أمل, الأب البيولوجي, لكن مع الوقت, ولسبب ما, ربما هي الشاعرية الجميلة يظل «أوراق الغرفة 8» كتاباً لا يمكن الاستغناء عنه. ربما لأن في مواجهة الموت يتخلص الشعراء من أعباء القضايا الكبري ويتحول الشعر من وهم كونه أداة سياسية إلى رفيق رحلة شخصي وأداة للحوار مع الوجود والذات والعدم, (محمود درويش اثر الفراشة مثال آخر) أقرأ أمل إلى الآن, أقرأه على الأقل مرة كل عدة شهور, أحتفظ بأعماله الكاملة وبنسخة من اوراق الغرفة 8 معي في سياتل, أنا محظوظ بسبب هذا.

صوت الكمان
آية نبيه

كنت بدأت التعرف على قصائد أمل دنقل في أول معرفتي بوجود عالم آخر من النصوص ينتمي إلى الشعر ويختلف عن الشعر العمودي الذي لم يكن سواه أمامنا في المدارس أو شعر العامية. ثم أخذتني منه قصيدة النثر التسعينية والقصيدة المترجمة لسبب أدركه الآن جيداً وهو الإيقاع الموسيقي الخارجي، الذي غالباً ما كان يُصيبني بالملل. أما القصائد التي تدور حول ‘الوطن’، حتى وإن كان الهم الشخصي للشاعر، فكانت تحمل سبباً إضافياً يفقدني الاهتمام بالمواصلة، ربما لأنها تدفعني أن أستعير نبرة صوت غريبة عني عند القراءة. كان هذا هو الحال حتى فترة قريبة أثناء إعداد محاضرة عن الأدب التجريبي المعاصر، ذكرت فيها اسم أمل دنقل بوصفه أحد الكتاب الذين احتوتهم مجلة غاليري 68، التي كانت معنية بالأصوات الأدبية غير الملتزمة بتيار الكتابة السائد في ذلك الوقت، وفكرت أن علي قراءته من جديد. بحثت عن قصائده التي لم أكن مررت بها من قبل، وتعثرت في صوته بنبرة متواضعة يقول: «لماذا يتابعني أينما سرت صوت الكمان» وكان طرف الخيط الذي جذبته لأصل للمزيد. بدأت أستمع إلى أشعار أخرى بصوته، وكنت ألاحظ أحياناً أن جمال ما أسمع جدير بألا يجعلني أنزعج من غنائيته: «رسائلي للشمس.. تعود دون أن تمسّ/ رسائلي للأرض.. تُردّ دون أن تفضّ.» وفي أحيان أخرى، لمّا كنت أقرأ القصائد، أسمح لنفسي أن أتخيلها مكتوبة بعد تجريدها من الموسيقى، لأرى في أشعار أمل دنقل إحدى مراحل التطور التي مرت بها القصيدة ولم تتوقف عندها لتصل إلى قصيدة النثر في شكلها الحالي. وهو ما لمسته أيضاً في بعض قصائد ديوانه الأخير الذي كُتب أثناء فترة مرضه «أوراق الغرفة 8» باستخدامه تراكيب لغوية يومية والميل إلى تصوير مشهد يطغى تشكيله السينمائي على الموسيقى الصريحة للكلمات. بطبيعة الحال تغيرت النظرة إلى الشعر، وما كان يُعتَقَد أنه من الممكن أن يوجه لإصلاح العالم لم يعد كذلك اليوم، كما احتل التجول داخل الوعي مساحة أكبر من رصد الواقع. والأكيد أن كتابة القصيدة الحالية تجاوزت إطارات عديدة منها إطار الالتزام بموسيقى واضحة، لكن لا أظن أننا تجاوزنا الاهتمام بقراءة أمل دنقل وسماعه أيضًا.

الخيبات المكررة
أميرة الأدهم

عليّ أن أبحث في أوراقي القديمة التي كنت أسجل فيها شعر دنقل؛ لأتكلم عن علاقتي به، أو أفتح التلفزيون على نشرة الأخبار؛ لأسمع صوته واضحاً في الفصلات الساكنة بين كل خبر، يعلق بأبياته على الأحداث، كأي شاعر مجنون لم يأبه لكلامه أحد. كلمات اسبارتكوس الأخيرة، تعليقاً على ماحدث، البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، الآخرون دائماً، كل دواوينه وقصائده نسج فيها نفس الصرخات الهادئة، زاد وعاد ولوّن وجوّد على نفس المواضيع؛ كأنه يكرر نفسه.لا كانت الأحداث هي المكررة، الخيبات هي المكررة، التاريخ الإنساني الكامل ما هو إلا سماجة مكررة بائسة استخدم لها دنقل رموزاً وشخصيات وأنبياء وتفعيلات لينوّع على جمودها، ليعدد إصرار الحياة في إذلال الإنسان، الإنسان الذي أخرجه دنقل من قصائده، شاعراً بالمهانة التي يشربها ويلبسها ليل نهار، متفاعلاً مع ذلك بقصائده، كأي مجنون يوقف الناس في الشارع يحدّثهم عما يجري فيعرضون عنه بإقصائه في المقالات؛ كشاعر سياسي ورد معتقلات، أي إجحاف في ذلك ...! ظلمٌ رخو هذا الذي يتعرّض له دنقل ليل نهار من المثقفين ليعتبرونه متحدثاً عن السياسة، ظلمٌ أبله اختزله في: لا تصالح. ماذا أستفيد أنا في الـ2013 من شاعر تفعيلة مواليد 1940، غير السخرية ممن اعتبروه خالداً بتكرار مصائبهم؟ بعدما لم يصبح للوزن أي دلالة على ذائقتي؛ لا استمتع به ولا أسمع من كلماته سوى ضجيج أجوف، أعرف أن كلامي أثار حرباً قديمة بين القصيدة النثرية وقصيدة التفعيلة، حرب ستقف عاجزة أمام شاعر مات في الـ42 من عمره بكل هذا الانتاج الذي أعتبره ضخماً، ساخراً ممن يعتبرون كلامه الواضح الصريح رمزاً، ساخراً من التغني بمعاناته في السجون، ساخراً من أولئك الذين يستخدمونه لمحاولة تعريف النضال، حتى القتلة؛ أنهى انتصارهم في: ياقاتلي إني صفحت عنك في اللحظة التي استرحت مني بعدها استرحت منك. ساخراً مني حين أبتعد عن التكرار البليد للحياة، أبحث عن ديوان شعر؛ غالباً لدنقل، فيقول لي: جاء طوفان نوح. ها هم الجبناء يفرون نحو السفينة.

الشعر الحرام
أحمد ندا

في كل المناسبات التي يتم الاحتفاء فيها بأمل دنقل، تتردد كلمات مثل المشهدية، وسردية التفاصيل وغنائيتها، ويكثر الحديث عن ديوانه الأخير الذي خرج إلى النور بعد موته، قصائد الجنوبي، الزهور، ضد من... تعرفتُ على أمل دنقل من خلال ما كتب عنه قبل أن أتعرف إلى شعره، الشاعر الذي ما زال يثير الجدل ويختلف عليه الشعراء بطزاجة أيام ظهوره الأولى، وما زال كذلك المثال المفضل لدى الإسلاميين للتدليل على «الشعر الحرام» في قصيدة سبارتاكوس «من قال لا في وجه من قالوا نعم» على الرغم من أن قصيدة «لا تصالح» نزيلة مسرحياتهم الرخيصة التي تستدعي فريضة الجهاد، فهو الكافر المأخوذ منه ما يثير حماسة الشباب التواق للاستشهاد على أبواب القدس..هكذا وصل إلي أمل، صورة مرتبكة، ولم أكن بعد قد رأيت صورته في أي مكان، كنت أنسج تصوراتي الخاصة عن شكله، بعد أن بدأت تتكشف لي القصائد، في المرحلة الثانوية كنت قد ابتليت بمحبة محمد عفيفي مطر، كانت محبة المجهول، النصوص المستغلقة الغامضة تشعرني بتفوق ثقافي، إلى أن عثرت على كتاب قديم في مكتبة بيتنا في القرية في إحدى زيارات الأعياد، ورقة جريدة مقصوصة موضوعة بين الصفحات، فيها صورة لأمل على فراش المرض، ملامحه الغليظة الصعيدية للغاية غير تلك الصورة الملحمية التي رسمتها له في خيالي، وكنت قد قررت أن أتجاوز أمل وأتحدث عنه بسخرية من دون أن أقرأ ديوانه، وبمعرفة سطحية ببعض قصائده الشهيرة.. شرعت في القراءة، مأخوذاً تماماً بعذوبة قصائده، غنائيته المضبوطة على حالي في هذه الأيام، تخلصت من أذى «محاولة الفهم» مع عفيفي مطر، إلى الاستمتاع الكامل بالقصائد..مرة أخرى وبعد سنوات من التقلب بين التجارب الشعرية المختلفة، تعرفت على قصيدة النثر فكان لا بد من تجاوز أمل، مثل كل التجارب الإبداعية الجديدة بعد فترة تتحول إلى أيديولوجيا وانحيازات، رفض أمل جزء من التجاوز، لذلك كنت أنزعج كلما رددت بيني وبين نفسي بعض السطور الشعرية «ضد من؟ متى القلب في الخفقان اطمأن» أو «إنه الثأر تبهت شعله في الصدور إذا ما توالت عليه الفصول» أو «أبانا الذي في المباحث» أدندن قصائده مثل الأغاني، وما زلت إلى الآن رغم مرور عشر سنوات أو أكثر على تعرفي بأمل أحفظ «لا تصالح» كاملة عن ظهر قلب. الآن أيضاً صارت الحَدية في التصنيف نوعاً من الكوميديا، فليس كل من يكتب قصيدة النثر متجاوزاً، ولا كل من يكتب التفعيلة كلاسيكياً، قصيدة أمل رغم ضجيجها حتى في قصائد المرض - تحمل قدراً من العذوبة والملحمية الغنائية، حتى وإن تجاوزتها القصيدة الآن، فلا يقدر أحد أن ينفي طزاجتها...

نصف جمالي
محمود عاطف

من عشر سنوات تقريباً، أعياني- ومعي ابن خالي- الحصول على قصيدة «مقتل كليب والوصايا العشر» أو الشهيرة بـ«لا تصالح». كنت إسلامياً في هذه الفترة، أنتمي تنظيمياً للإخوان المسلمين حيث «فلسطين» وجبة رئيسية قبل اﻷكل وبعده وفي كل اﻷوقات... في رحلة لاحقة إلى مكتبة الاسكندرية نظّمها إخوان مدينتي عثرنا على القصيدة. كانت سعادتنا غامرة. قضينا طريق العودة نقرؤها على مسامع بعضنا البعض، نحاول حفظها، ولفترة طويلة، في كل لقاء يجمع بيننا، كنا نتنافس من منّا يستظهرها أفضل. كنت بطبيعة الحال أحفظ القصيدة كاملة، كوني أحسّ حالي في الشعر أكثر من ابن خالي. اليوم، بعد ثورة - أو شبيهتها - قمنا بها، ما الذي يتبقّى لي من «أمل دنقل»؟ شخصيًا، أظنّ الشعر موقفًا أخلاقيًا وجماليًا في ذات الوقت. واللحظة التي يتنازل فيها طوعاً عن واحدة من الكفّتين يختّل الميزان، فيصبح الشعر- أو ما يشبهه في هذه الحالة - إما دعاية سياسية أو كذباً محضًا. يقف شعر دنقل متأرجحاً ما بين الكفتين، ولولا فظاظة إدخال الرياضيات في الشعر لقلت إنّ شعره يبدو لي، من موقعي هذا في 2013، نصف جمالي نصف أخلاقي. تماماً مثل النهضة العربية في بعدها القومي: التلفيق ذاته والتنازل عن شيء بدعوى التأكيد على ما هو أهمّ. فيما يخصّ «أمل»، كان التنازل عن حقيقة الشعر: أسئلته الجمالية وفردانيته مدخلا لتقديم تصوّر تقريري عن الواقع، فبدا أن قصيدة مثل «لا تصالح» تتهافت أمامها أسئلة الشعر على عكس ما تقدّمه من أسئلة سياسية. ما الذي فعله عبد الناصر غير هذا؟! حياة اجتماعية محتملة أو بالكاد في مقابل انعدام الحريات الشخصية والعامة. وكله باسم القضية الكبرى والعدو الذي على الأبواب وإسرائيل التي سنرميها في البحر! أحسب أن «أمل دنقل» لو كان بيننا الآن - مثله في ذلك «محمود درويش»- لانضمّ إلى معسكر «أدونيس» و«سعدي يوسف»، والاثنان رأيا الثورات العربية مخططاً أميركياً للإجهاز على مشروع الممانعة العربية، تماماً كما أوقن أن لو كان «عبد الناصر» حيًا لأطلق دبابات جيشه تدوسنا في الميادين.

زمنه
ماجد الرقيبة

تأتي قصيدة أمل دنقل في سياق قومي عروبوي، طفا على سطح الحدث، كردة فعل على قوى الاستعمار الغربي الذي أدّى، بعد اتفاقية سايكس بيكو، إلى تأسيس دولة إسرائيل. شاعر الجيل الثاني من التفعيلة، بعد الثلاثي العراقي الشهير؛ السياب، والبياتي، ونازك الملائكة، لم تكن قصيدته تلتفت للجدل الفني للقصيدة، سواء في شكلها أو في مضمونها بما أنه يكتب أدباً رافضاً. من باب مقولة آلان بوسكيه ؛ يجبرنا الواقع على أن نزحف تحت أشعارنا. السياق السياسي آنذاك، وعبر مخاطبة «سيكولوجية الجماهير» نجح في خلق المثقف الأيديولوجي الملتزم بقضايا أمته، لكنه أيضاً، بالدعاوى ذاتها، خلق أنظمة مستبدة ودكتاتوريات، أدت إلى ظهور «خلاصات» ثقافية وسياسية مغايرة، باعدت مع الوقت بين السياسي والفني، هذا مع شيوع النص النثري الجديد فنياً، جنباً إلى جنب مع الفنون البصرية والرقمية التي أحتلت حيزاً كبيراً في الساحة الثقافية منذ الثمانينيات. هذا التباعد أدّى، مع الاحتجاجات العربية الأخيرة، إلى «فك الارتباط» التام بين ما هو سياسي وما هو فني، لتصبح القصيدة اليوم، في ثوبها النثري، بمثابة «تفصيل» يومي لحياة الشاعر، راصدة ذاته المأزومة في هذا العالم الذي أصبح رقمياً تماماً.

السفير- 2205-2013