اسكندر حبش
(لبنان)

سيوراناحتفلت الأوساط الأدبية في العالم، مؤخراً، بالذكرى المئوية الأولى لولادة الكاتب والفيلسوف الفرنسي ـ الروماني سيوران، الذي صدرت عنه عدداً من الدراسات التي حاولت أن تبحث في فلسفته وكتاباته. لكن من بين هذه الاحتفالية، يشط الكاتب الأميركي بنجامان إيفري ليبتعد عن الدراسة وليكتب ذكرياته الشخصية مع سيوران، إذ كما هو معروف كان إيفري من المقربين لسيوران وغالبا ما كان يزوره في بيته بباريس.
هذه الذكريات نشرها إيفري مؤخرا في مجلة «سالماغوندي جورنال» (الأميركية)، عدد شهر آذار (مارس)، ويقدم فيها صورة مختلفة، بمعنى أنه يدخلنا عميقا في التفاصيل الشخصية لسيوران. هنا مقتطفات من هذه الذكريات التي نترجمها هنا.
بعد نشره لكتابه الأول العام 1947، «مختصر التحلل»، أصبح إميل سيوران «إ.م. سيوران». روى لي لاحقا أنه كان يتسكع في مكتبة غاليناني، وهي مكتبة محترمة في مجال الأدب الإنكليزي، شاهد اسم إ.م.فورستر مكتوبا على غلاف كتاب فاعتبر أن هذين الحرفين الأولين الساحرين كانا جديرين بأن يحملهما كاتب.
ففي اختياره أن يوقع باسم إ.م. سيوران، رغب في تشتيت مؤلفي كتب المراجع كما مؤلفي قاموس «لاروس» الذين ـ حين أضافوا فقرة جديدة حول «سيوران» ـ كانوا أبدعوا لها اسماً ثانياً لكي يشرحوا حرف م. وليسموه إذاً «إميل ميشال سيوران»، مفرنسين بمرورهـم اسمه الروماني الأول.
شعر بالسعادة القصوى بأن يصبح مرجعاً، ولم يجرؤ سيوران أبداً أن يشتكي من هذه الأخطاء كما من الأخطاء اللاحقة التي اكتشفها في الدراسات التي صدرت والتي ادّعت، على سبيل المثال، بأن اسمه (المغلوط) الروماني لم يكن سوى مسحة فرنسية استلت من اسمه الروماني، أو أيضا بأن اسمه الحقيقي كان «إميل ميهاي سيوران»...

كان شخصاً «متأنكلزا» بشكل ثابت، من هنا اختار سيوران، بشكل طبيعي، هذين الحرفين الأولين اللذين شاهدهما في مكتبة إنكليزية، لا لأنه تشارك لخمسين سنة وحياة أستاذة جميلة لمادة اللغة الانكليزية، تلك الشقراء، سيمون بويه. روى لي كيف أنه كان ينتظر بفارغ الصبر، تقديم مسرحيات شكسبير التي قدمت في باريس ما بعد الحرب، من قبل «فرقة دونالد وولفيت»، فهذا الممثل أوحى فيما بعد بمسرحية وفيلم (the dresser).
كان سيوران يثمن بالتأكيد عدم تحفظه حين يجسد شخصية هاملت. كان يتابع المسرحية بأسرها والكتاب بيده: ومثل عادته، كان وولفت يقتطع بانتظام بعض المقاطع وكان على سيوران أن يبحث في نسخته «التجارية» من هاملت كي يستدل إليها، وهو يتابع مشاهدة العرض.
ذات يوم، اقترب من أحد العاملين بالفرقة، خلال الاستراحة ليقول له إن السير دونالد يرغب في أن يطلب منه شيئاً. شعر سيوران بالإطناب، واعتقد أن الممثل الانكليزي الشهير لاحظ وجوده خلال العروض بأسرها وبأنه يرغب في أن يقدم له كأس شمبانيا في الكواليس. لكن الأمر في الحقيقة كان ليطلب من هذا المشاهد الورع أن يتوقف عن إحداث الضجة وهو يقلب صفحات كتابه، إذ كان الصوت يفقده التركيز.

اعتبر سيوران أن للموسيقى سلطات حقيقية، قال لي يوما، وهو يردد جملا من «أقيسة المرارة»: «إن كان ثمة شخص مدين بكل شيء إلى باخ فهو الله». وأضاف: «بدون باخ، لم يكن الله سوى شخص من الدرجة الثالثة».
كتب سيوران في دفاتره أنه في بعض اللحظات الإشراقية، تجعلك الموسيقى تؤمن بأن الثيوقراطية ممكنة. لقد شرح في الواقع بأن الموسيقى الفضلى يمكنها أيضاً، وبسهولة، أن تجعله يحلم مجددا أكثر من أن تجعله يغطس في الرعب الفجائي في كل الأزمات التي كان ضحيتها من قبل خصومه.
وكما في «توقيعاته» كلها، يمكن للموسيقى ـ الفن المفيد ـ أن تفتح دروباً جديدة. ذات مساء، وعلى العشاء، وبينما كنا نتناقش حول هاينرتش هاينه، غنيت بعض «القياسات» لأغنية شعبية لشومان عن قصيدة له. تفاجأ سيوران وهو مثار: «إن تعرضت يوماً لمشكلات مع شرطة الحدود، فما عليك إلا أن تغني لهم»! وكان يعني بذلك، حتى لو لم أتصور نفسي في موقف مماثل، إلا أنه يمكن للموسيقى أن تحل مشكلات الفيزا الدقيقة، ومشاكل الهجرة وكل الأشياء التي لم ينسها سيوران.

حتى قبل أن تشتعل الحرب العالمية الثانية، كان مشدوداً، مسحوراً، ببعض عناصر الثقافة اليهودية وعاداتها. في العام 1930، حضر المؤتمر اليهودي في بوخارست، حيث كان الشخص الوحيد غير اليهودي، مثلما يكتب في دفاتره.
صداقاته الحميمة مع اليهود الرومانيين مثل باول تسيلان أو بنيامين فوندان، واقع يشهد على ذلك. يثبت أن الأمر أكثر من مجرد لطف. حين، وتحت الاحتلال الألماني، تم إيقاف فوندان في باريس العام 1944، ذهب سيوران ليترجى المدير لدى دار غاليمار، صاحب النفوذ جان بولهان، كي يرافقه إلى مركز الشرطة وليتحدث عن شهرته الأدبية كي يستطيع تحريره.
اصطحب بولهان لسبب وجيه إذ أنه (سيوران) لم يكن سوى مهاجر روماني غامض، في وضع غير شرعي، يهرب من الجوع عبر تناوله الطعام في المطاعم الجامعية الباريسية، وهذا ما بقي يقوم به لغاية أن سحبت منه بطاقته الجامعية، بعد أن تخطى سن الأربعين بكثير. لم يكن (سيوران) يتمتع بأي تأثير، ولا بأي شهرة أدبية، ومع ذلك تقدم بنفسه لسلطات الاحتلال.
ربما تأثرت السلطات بشهرة بولهان، إذ وافقت على إطلاق سراح فوندان. لكنه، من جانبه، رفض أن يتخلى عن شقيقته، التي أوقفت بدورها. هذا الوفاء الأخوي مهر مصير فوندان، الذي تم اغتياله في أوشفيتز.

على الرغم من التأكيدات التي رددها بعض مؤلفي الكتب التي كلفوا بكتابتها، والتي زعموا فيها بأن سيوران عاد إلى رومانيا خلال الحرب العالمية الثانية، أكد لي سيوران وسيمون دائماً بأن هذه الرحلة لم تحدث أبداً، بقي سيوران في باريس طيلة تلك الفترة.
وبخلاف العديد من الباريسيين ذوي الامتيازات، أو بخلاف بعض الفنانين ذوي الشهرة العالمية مثل بيكاسو، الذين كانوا يملكون الإمكانيات للتجول في السوق السوداء في «لا فيلات»، نادرا ما أكل سيوران وسيمون إلى درجة الشبع. بالطبع لا يمكن مقارنة عذابهما بذاك العذاب الذي عرفه السجناء والمرحّلون إلى مخيمات الاعتقال. ومع ذلك، روى لي سيوران بأن السفارة الرومانية كانت تنظم مآدب للمهاجرين، وبأنه في إحدى تلك المناسبات، هجم المدعوون برعب على الطاولات لدرجة أنهم قلبوا واحدة منها، لتتناثر كمية لا بأس منها من الطعام والشراب على الأرض.

في باريس، كان سيوران يعيش حياة طالب فقير، يسكن في فنادق رخيصة، وخلال العقود الأخيرة، سكن شقة في الطابق السادس من مبنى لم يتم وضع مصعد فيه إلا في أواخر أيام حياته. حين نعرف طبيعة سيوران، حساسية كتاباته القصوى، لا يبدو من غير المفيد أن نعرف بأن كل تلك المساكن، حتى ذاك الذي عاش فيه في شارع الأوديون، كانت مساكن ذات حمامات خارجية.
بالنسبة إلى شخص كان يعاني بانتظام من آلام المعدة، لم تكن شروط هذه الحياة هينة. فبسبب قانون ايجارات عام 1948، الذي لم يعد معمولاً به اليوم تقريباً، والذي كان يسمح للأشد فقراً بأن يعيشوا في الأحياء وسط باريس، لم يكن مسموحاً لسيوران بأن يبني حماماً في شقته: ولنفترض بأنه وجد الإمكانية للقيام بذلك في نهاية حياته، فإن ذلك كان يعني ارتفاعاً في قيمة الإيجار ما يعني اضطراره إلى مغادرة، 21 شارع الأوديون.
من وقت إلى آخر، كان صاحب المنزل يحاول أن يطردهما، هو وسيمون، متعللا بأن أحد أقربائه سيسكن في هذا المكان (إحدى الفراغات القضائية في قانون 1948)، إلا أن سيوران كان يرد بالقول: «سأستدعي الصحافة»!، ما كان يحبط صاحب الشقة في الحال الذي كان يخشى من شهرته.

فيما يتعلق بمشكلاته الهضمية، تشير دفاتر سيوران أيضاً إلى دكان ذي واجهات قليلة الجاذبية كان مضطراً إلى التردد عليها، وكانت تبيع منتوجات خاصة بالحمية. خلال دعوات العشاء المقامة في شقتهما، التي يحضرها أصدقاء، كنا نجد، ما تدعوه سيمون «خبز سيوران» موضوعاً في سلة جانباً.
ذات يوم، وبدون انتباه، تناولت قطعة من هذا الشيء التفه. طعمه الجاف والمليء بالحبيبات ـ من المفترض أن يكون مصنوعاً من دون غلوتين لكن ذلك ليس بالسبب الكافي ـ كان يرمز إلى كل ثقل القدر. بالرغم من شهرته، التي كانت أهم دوماً ضمن أوساط المثقفين، عاش سيوران بتقتر إلى النهاية، مستعيناً بذلك براتب سيمون الضئيل.
يشرح لنا هذا الوضع الاقتصادي بأن العديد من أبحاث سيوران، حول مواضيع تبدأ من الشاعر بول فالير وصولا إلى ذاك الكاتب الذي ينتمي إلى القرن التاسع عشر، هي أبحاث لم تكتب إلا لسبب وحيد: لقد طلبوا منه كتابتها. وللآسف، لم يفكر أحد بأن يطلب منه أن يكتب حول المسائل الأدبية التي كانت تثير فيه الشغف، مثل الشاعرة إميلي ديكنسون التي كانت يشعر تجاهها بعشق حقيقي.

السفير- 11/05/2012
العدد: 12179