حكاية الموت، هي الحكاية الوحيدة التي لا تنتهي أبدا ما دامت الحياة نفسها باقية إلى الأبد. لكن يبقى الانتحار هو الحكاية التي تحكم الذّاكرة بقوة.
مادام العالم لم يحصل بعد على حقيقة ساطعة و نهائية تشرح أسباب هذا الفعل الصّعب الّذي يقترب من المستحيل.و الأكثر غرابة في هذه الانتحارات الفاجعة هي تلك التي راح ضحيتها الكثير من المبدعين. همنجواي"تخلّص من حياته بطلقة نارية من بندقيته القديمة" خليل حاوي " رحل منتحرا حين رأى الدبّابات و الطّائرات الصّهيونية تجتاح لبنان." ياسوناري كاوباتا" انتحر بعد عامين فقط من حصوله على جائزة نوبل للآداب،والمسرحي المغربي "حوري حسين " علق نفسه في السقف و.... وقائمة الّذين انتهت حياتهم بهذه الميتة طويلة ومتنوعة و مليئة بأسماء لامعة من كل الأقطار
أنت كمبدع ما الذي يعني لك أن يُقدم شاعر، كاتب على الانتحار؟ أهو عصيان وإدانة للحياة؟نكاية بها ؟بحث عن شكل آخر من الحياة بعد الموت؟رغبة المبدعين في اختيار توقيت الموت مادام يأتي عاجلا أم آجلا وبذلك يحقون التعادل معه؟ موقف إنساني ...سياسي ؟وماذا بعد الانتحار والاختيار ؟ وهل راودتك ولو مرة فكرة اغتيال نفسك ؟
منى وفيق وعبدالله المتقي
***
أن يقدم المبدع على الانتحار يعني أن الحياة في نظره أصبحت عقيمة وبليدة وغليظة من كافة جوانبها وأوجهها المتعددة، وأنها غير قادرة إلا أن تمنح القهر والذّل والقسوة والعقم والرعب أيضاً، بحيث تصبح خاوية وبلا معنى... إزاء هكذا وضع ليس أمام هذا الكائن الحساس والشفاف، المرهف واللذيذ، القلق والمتوتر والهش والمجنون أصلاً، أي المبدع إلا أن يتوارى في سودا ويته وكآبته وتشاؤمه وحزنه الناضج ، وأن يفكر بجدوى الموت وجمالياته في وجه سرطان القبح
هناك مبدعون ينعزلون كلياً إلى عالمهم الصغير البعيد عن الضجيج والفتك والنفاق، وهناك مبدعون آخرون غير قادرين على التحمل، فتتضخم البقع السوداء في أعماقهم وتتدرج حتى تغطي كل كيانهم، بحيث يصلون إلى نقطة الصفر ، فيضعون حداً لحياتهم بطرق تراجيدية ومأساوية.
من الصعب تفسير أسباب تلك اللحظة القاتلة.
ربما يكون فعل الانتحار إدانة لقسوة الحياة . وربما يكون لأسباب عاطفية، على فرض أن كل مبدع هزيل وضعيف أمام سطوة الحب. بالإضافة إلى حالات الكآبة والأزمات المزمنة التي تنتاب كل مبدع بين حين وآخر. وربما يكون لإجتراح بطولات وأمجاد غابرة ما كما في حالة الياباني يوكو ميشيما. أو ربما لأسباب إنسانية وسياسية كما في حالة خليل حاوي الذي لم يتحمل الاجتياح الإسرائيلي لبلده لبنان فوضع حداً لحياته كما ذكرتم. وهناك أيضاً الشاعر الروسي ماياكوفسكي الذي انتحر نتيجة المرارة والخيبة التي أحس بها من الثورة البلشفية التي كان يعول عليها كثيراً. وهناك حالات إنتحار أخرى كثيرة تبقى أسبابها ملغزة، غامضة وعصية على الفهم...
وفي السياق ذاته ليس هناك مبدع لم تراوده فكرة الإنتحار. شخصياً أميل إلى الكآبة والسوداوية حتى بمفهومها القاتم في الكثير من الأحيان، وتبعاً لذلك أقع أحياناً في مطب الفكرة، ولكنني أنجو منها في لحظة حبٍّ بارقة للحياة.
***
أنا لا أحبذ الربط نهائيا بين الانتحار وبين الإبداع فلا شيء يربط فيما بينهم بتاتا
وإذا ما حدث ان تعرض مبدعا للانتحار بإرادة منه أو بعد ان تكون قد سلبت منه متأثرا بحادث أو بأزمة أو بمرض
فليس للإبداع أي ذنب في هذا ولا يمكن أدراجه ضمنها بل هو عائد بالضرورة إلى مرض وأزمة نفسية بحتة
ووضع غير سليم من الناحية الاجتماعية أو العاطفية كأي إنسان آخر .؟
وأنا اعتقد بان المبدع لايمكن ان يصل درجة الإبداع وهو يتمتع بدرجة معينة من الثقافة والخلق يقدم على الانتحار
لان هذا ينفي صفة الخلق والتي يجب على المبدع الاتصاف بها وبالتالي تتجرد عنه صفة المبدع لأن الاثنان لايجتمعان بتاتا.؟
أتركك بخير مع أمنياتي بالتوفيق في مهمتك والسلام
***
كيف يمكن أن تكون الكتابة ملاذا ناجحا ضد الموت لدى البعض وغير ناجح لدى البعض الآخر؟ معروف أن الكتابة تعتبر واحدة من الأدوات العلاجية الفعالة ضد مجموعة من الصعوبات النفسية، من هذا المنظور، يعتبرها التحليل النفسي أحد الأشكال الناجحة في تدبير العُصاب، وثمة أكثر من كاتب يؤكد بأنه إنما "يكتب لكي لا يموت"، لكن معروف أن الكتابة ليست وصفة جاهزة؛ بل هي مختبر مفتوح لكل التجارب، ومن "قرر" أو "كتب له" دخول المختبر لا يجد من شيء مشترك بينه وبين كافة الداخلين قبله، ومعه، بل وربما بعده، سوى أداة تجربة وإنجاز، في آن واحد، هي اللغة. لا وجود في حقل الكتابة لمعادلات على نحو ما يوجد في الفيزياء أو الكيمياء. من هذا المنظور، يمكن لتجربة الإبداع الكتابي أن تتحول إلى ملاعبة ناجحة للموت، إلى مداراة له، أو تفاوض دائم معه. منتصرا يكون الكاتب طالما بقي على قيد الحياة. كما يمكن أن تتحول الكتابة ذاتها إلى تعميق لشروخ الذات وجروحها، ومزيد من حفر للهوة الفاصلة بين الكاتب والمجتمع إلى أن تصير مقبرة.
الكلام السابق، وإن بدا مقنعا نظريا، يحتاج إلى ورشة كاملة للبحث تنكب على إبراز آليات اشتغال تجربة الكتابة في الاتجاهين: هل شكلت الكتابة ملاذا آمنا من الموت لمجموعة من الكتاب كانوا منذورين للانتحار؟ كيف حصل ذلك؟ هل شكلت الكتابة خطرا على كتاب اتصفوا بهشاشة أصلية، فقادتهم إلى الانتحار؟ كيف تم ذلك؟
يرى البعض أن الفيلسوف الألماني الشاب Otto Weinenger الذي صوب طلقة مسدس إلى قلبه كان يمكن أن يعيش سعيدا، وتمتد به الحياة إلى أرذل العمر لو ظل إنسانا عاديا، دون الطموح الذي قاده إلى الفلسفة وما جره عليه كتابه "الجنس والطبع" من كشف فريد قاده التمسك به، أمام هجومات العلماء، إلى قتل النفس
يمكننا قول ما شئنا عن الانتحار ومنحه ما شئنا من تفاسير، ولكن ذلك كله يظل شأنا لنا، نحن الأحياء، ولا يهمنا إلا نحن. أما المنتحر، فبإقدامه على محو نفسه، إنما يرسي قطيعة جذرية مع الحياة نفسها، بما في ذلك الإحساس والتفكير وإسباغ معاني على الأشياء والأفعال؛ ينتقل إلى الضفة الأخرى التي نجهل عنها كل شيء رغم وجودها بيننا. ربما بهذا المعنى وصف ألبير كامو الانتحار بأنه "السؤال الفلسفي الجدي الوحيد" .
نعم، شخصيا، حصل أن مرت بذهني فكرة الانتحار، لكن مرورا عاديا، وهو ما لا أظنه لم يخطر ببال أحد؛ فعندما نسمع بانتحار هذا الشخص أو ذاك، من معارفنا أو أقاربنا أو الأسماء البارزة التي تتداولها وسائل الإعلام، نعيش قلقا وأسى ليس إشفاقا عليه، فحسب، بل وكذلك - وربما بطريقة لا شعورية - إشفاقا على ذواتنا التي كان يمكن أن تكون هي المنسحبة لا الشخص الذي تلقينا صوت نعيه. بهذا المعنى، يكون الملغز في حدث الانتحار (انتحار الغير) هو ذهابه بجزء من ذواتنا، ولو في الاستيهام والمتخيل. وبذلك، خلافا لما هو شائع من أن الانتحار مسألة فردية تهم المنتحر وحده، يكون محو الذات مسألة تهم المجموعة الاجتماعية بكاملها. ربما بهذا المعنى اعتبر جاك روسو يعتبر الانتحار نهبا يتعرض له الجنس البشري، ولهذا السبب مضت أوروبا الوسيطية إلى حد محاكمة جثة الشخص المنتحر، وأمر نابليون بمصادرة ممتلكات الأشخاص المتسببين في انتحار فرد ما
عندما يمضي من كان بيننا قبل قليل إلى الضفة الأخرى، فإنه يشركُ الجماعة بكاملها في تجربته، لكن يشرك أيضا الأفراد المكونين لهذه الجماعة، فيعيش كل واحد منهم تجربة الموت باعتبار الآخر هو موضوعها، لكن أيضا باعتبار الذات هي موضوعها؛ يقول الفرد: ماذا لو كنتُ أنا الذي انتحرتُ لا الآخر؟ ولكم أن تتصوروا الإجابة.
وفي إطار التجربة الشخصية دائما، إن كنتُ أخذت الفكرة مأخذ جد، في يوم من الأيام، لما كنتُ الآن أكتب هذه السطور. لماذا لم أخذها مأخذ جد؟ لماذا أخذها الذين عبروا إلى الضفة الأخرى مأخذ جد؟ ذاك أحد ألغاز الانتحار الذي يحيل كل حديث عنه إلى ضرب من الهذيان. معناه أنني لا يمكن أن أتحدث عن نفسي إلا باعتباري حيا، أما لو كنتُ أخذت القرار لكنتُ مضيت إلى الفعل، ولتركتُ أمر التفسير، دون أن أكون معنيا به إطلاقا، للذين سيتخلفون من بعدي، ولكانوا هم المعنيون بالكلام لا أنا. أما هذه الأنا فستكون دخلت دورة حياتية أخرى: دورة الذرة والغبار والنبات والمعدن والسديم.
***
ابحث عن رصيف يحتمل موتي..
الإنسان كائن غبي، لا يعرف لماذا يعيش!
الموت هو الموقف الأول الذي واجه الوعي الإنساني وقاده إلى فكرة عبثية الحياة، موت انكيدو هو الذي فجّر أسئلة الوجود لدى جلجامش التي تطورت بالتدريج إلى فكرة الدين والحياة الأخرى. الإنسان الأول كان أكثر جدية وعقلانية في التعامل مع أمور حياته، بينما اكتفت الأجيال اللاحقة في اجترار الإرث القديم. الإضافة الوحيدة في هذا المجال جاءت من الحضارة الأوربية المعاصرة التي راحت تستقصي أسباب الموت وتعزيها إلى عوامل فسلجية وتحديد معايير كفاءة الجسد الإنساني كأجهزة ديناميكية، وبالتالي فالعمل على معالجة تلف الخلايا وعطب الأعضاء يمكن أن يقود إلى............................. تحدي الموت!. ونعرف اليوم قدرة الأطباء على تشغيل الجسد الإنساني حتى بعد حصول ما يسمى الموت السريري، وبالتالي فأن فكرة عشبة الخلود في الفلسفة السومرية أو إكسير الحياة في القرون الوسطى لم تولد من فراغ. حتى الآن يعتقد الطب الغربي أن كفاءة الجسد البشري تكفي الإنسان للعيش ستة وثمانين عاماً، وهو معدل العمر في اليابان وبعض أوربا الغربية. وما يعيشه المرء بعد ذلك ليس سوى وقت ضائع، وربما يتغير هذا الاعتقاد بتطور العلوم الطبية. وهناك أفكار وطروحات فلسفية مختلفة في هذا المجال.
سؤال الموت هو سؤال الحياة. الحياة التي تتكون من (نطفة) في (قرار مهين) وتنتهي حفنة من تراب (مهين). وقد قال الشاعر الفيلسوف المعري:
خفّف الوطء ما أظنّ أديم هذه الأرض إلا من تلكم الأجساد
ان العلاقة بين آلام الولادة ومعاناة النمو والتعلم وصعوبات المعيشة والحياة التي زادت مع اضطراد التطور العلمي والتكنولوجي، ليست متكافئة أو عادلة مع سهولة الموت وتفاهة طرائقه. الإنسان يولد بدون إرادته ويموت بدون إرادته. وعندما يفتقد حريته في أعظم موقفين يخصان وجوده، فأية قيمة للحرية بين ذلك. هل هي حرية الطعام أو المنام أو الاعتقاد، كل ذلك سيكون تافها أمام الأسئلة الأساسية. الحقيقة المذهلة أن سؤال الجدوى معدوم وممنوع ومغلق أمام الحياة. الإنسان يجوع ولا يعرف لماذا يتوجب عليه أن يأكل، وهو يسرق ويؤذي ويقتل لكي يأكل ويعيش بينما يرضى بموت غيره. وهو يتساوى في ذلك مع الحيوان. ونحن جميعاً نفعل ذلك مهما أضافت الحضارة من الرتوش على أنماط الحياة. البشر يتغذون على البشر والحيوان والنبات، والحيوان يتغذى على الحيوان وعلى النبات. والحيوات التي تتغذى على دماء ولحوم بعضها ستعود وتموت. لا أحد يسأل نفسه لماذا فعل ذلك إن كان سيموت آجلاً أو عاجلاً. لأن الجواب الوحيد هو العبث. العبث وليس البعث. حتماً.. ثمة إجابة ما غير العبث ممكنة، ولكن العقل البشري حتى الآن لم يقدم شيئاً ولا يبدو أنه يقدم شيئاً، لأن الصراع البشري يتركز في الأمور الجانبية التافهة، والعالم البشري لا يختلف في جوهره وفلسفته عن عالم الحيوان. فلسفة القوة والعنف. أقوياء وضعفاء. سادة ومماليك، مالكون ومعدمون. كبار وصغار. فلا غرابة أن تلجأ الفلسفة والأديان والعلوم إلى ترسيخ فكرة العبودية للقوى الخارجية مسجلة الهروب أمام الأسئلة الإنسانية الحقة!.
ان مصطلح (الموت الطبيعي) الذي تسوغه المجتمعات المعاصرة هو خلاصة العجز الفكري لقتل السؤال. بينما يتم التعامل مع أي موت خلاف ذلك على أنه أمر غير طبيعي وجريمة تقتضي المحاسبة. ويتراوح التأويل هنا في فضاء شاسع من التكهنات. لعلّها أطرفها ما تفتق عنه العقل العربي. حيث يتسع مفهوم المصطلح إلى آفاق رحبة طالما أن الموت يحدث بفعل عامل خارجي. وفي هذا العامل الخارجي يدخل المجتمع والحكومة والعشيرة والطائفة والدين والحزب وادعاءات كثيرة، بينما يجري تجريم ما عدا ذلك. معيارية شرعية الموت من عدمها تتعلق بالمبرر أو جهة الإرادة. أما إتباع الإرادة الشخصية في الموت فلا تجوز. بل أن المرضى العجزة والمعوقين لا يحق لهم التخلص من الحياة أو الاستعانة بطرف آخر.
حاجة النظام الحاكم إلى الرعية والجيوش وحاجة التراتب الاجتماعي إلى الخدمات وإشباع الحاجات هو الذي يبرر منع ظاهرة الانتحار ومحاصرتها، ولولا ذلك لتغيرت صورة الحياة على الأرض.
سؤال الانتحار، إذن، هو سؤال الإرادة. سلطان الإرادة. وسؤال الإرادة هو سؤال الحرية. إيمان الكائن بنفسه وتحقيق كيانه من خلال امتلاك الكلمة الأولى والأخيرة. فأين نحن من الحرية، وأين نحن من كل ذلك. الذين قاموا بالانتحار هم أولئك الذين امتلكوا إرادتهم وحققوا حرية كياناتهم خارج نظام القطيع. الانتحار صرخة وفعل احتجاج وإدانة وتأكيد سيادة الذات. انتحر همنغواي عندما بلغ الستين وعاش ويلات الحروب وتذوق لذائذ الحياة، مطلقاً صرخته المعروفة، لم يعد في الحياة ما يستحق الانتظار. انتحار خليل حاوي كان إدانة لقذارة اللعبة السياسية التي ما زالت مستمرة في لبنان. عبد المحسن السعدون رئيس وزراء العراق انتحر في ثلاثينيات القرن الماضي احتجاجاً على عدم استيعاب حاشية الحكم لمنظوره السياسي المتقدم لأوضاع بلده. لا يوجد انتحار عشوائي أو ترفي، كل انتحار هو تعبير عن موقف فلسفي أو فكري أو سياسي أو اجتماعي، وللأسف يدين المجتمع الانتحار وصاحبه دون الاهتمام بدوافع الانتحار وتعاسة الواقع. معظم المنتحرين يتركون رسائل يبسطون فيها أفكارهم، فكم من تلك الرسائل والأحداث حظت بالدراسة والتحليل والمعالجة من قبل المجتمع والدولة. التقاليد اليابانية هي الوحيدة التي تعتبر المنتحر بطلاً وتقام لذلك طقوس ومقابر خاصة. وأشهرها انتحار قادة الجيش في الحرب العالمية الثانية بعد وثيقة استسلام الإمبراطور أو انتحار ميشيما ردا على سياسة حكومته المهينة. بقية الثقافات تستهجن ذلك. علينا أن نخفض أصواتنا كثيراً عندما نتحدث في ذلك فليس في حياتنا وحياة بلداننا ما يستحق الحياة.
شخصياً حاولت الانتحار ثلاثة مرات فاشلة. واعتزّ بصديق من أيام الجامعة انتحر في شط العرب وهو في السنة الأخيرة قبل التخرج بسبب الظروف السياسية. قاسيت مع ملايين الشباب العراقيين حروب الخليج الأولى والثانية وسنوات الحصار الدولي وقرصنة الطائرات الأميركية والبريطانية في سمائنا قبل أن تنزل على الأرض وصولاً إلى حياة المنفى العدمي وضياع الوطن والأهل وكل شيء جميل. جيلنا الثمانيني هو أكبر الخاسرين في القرن العشرين أو كل القرون، وتقدر أعداد الجيل بخمسة ملايين. لقد مات نصف مليون عراقي في تلك الحرب وتوزع النصف الثاني بين العوق والأسر، ومن تبقى منهم أصيب بالعوق النفسي والاجتماعي والنفي. الشيء المؤسف له أننا لم نمت. شخصياً كنت طيلة الحرب في المواقع الأمامية وكان عملي يتطلب التنقل المستمر بين سرايا الجنود. رأينا الموت والقصف والهمجية بعيوننا ولكنه تراجع عنا. الشظايا والقنابل تساقطت على مقربة منا وقتلت أصدقاءنا ولكنها أغفلتنا. البعض كان يطلق النار على يده أو ساقه ليصاب بعوق يتيح له التخلص من قذارة الحرب. مواجهة الموت كانت تبعث على المتعة. متعة التحدي. بينما الخوف والهروب يثير شهية الموت فيه. عندما أتذكر ذلك اليوم، يبدو كل شيء مثل فيلم، بينما يعيش الموتى في مكان ما هناك. مقبرة اسمها الوطن.
الخروج من الحرب حياً كان مأساة حقيقية، لي ولجميع أقراني. خرجنا لنجد الخراب، الخراب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والنفسي في انتظارنا. الحرب أفرزت طبقات من تجار الحرب ومصاصي الدماء. انهيار في الاقتصاد والقيم الاجتماعية والثقافية. وعندما فشلت انتفاضة الواحد والتسعين اكتشفنا ضياع الوطن وضياع المستقبل. وها هو الوطن يضيع أكثر كلما تقدم الزمن واعتقدنا بالنجاة.
صعب على الحالم أن يجد أحلامه تضيع إلى غير رجعة. صعب على الجندي الذي يضيع سنوات من عمره من أجل الوطن والناس أن يخرج من الحرب ليكشف ضياع كل شيء، ذلك يعني خسارة مضاعفة، أو خسارات متلاحقة. حياتنا ليست سوى رصيد خسائر متراكمة، يتزعمها الموت والدمار. مات جدي عندما كنت في الثانية وماتت جدتي وأنا في السابعة عشرة ومات عمي وأنا في العشرين وبعد عامين مات خالي وبعد أربعة سنوات مات أخي الأصغر في معارك الفاو (1986) تركت العراق وعمري واحد وثلاثون عاماً. في العالم التالي ماتت أمي وبعد ثلاث سنوات مات والدي، وفي 17 يناير هذا العام مات صديقي الوحيد منذ الطفولة بعد خمسة وعشرين عاماً من الصداقة. كل هؤلاء يعيشون معي وأتحدث معهم وأراهم في المنام وقد وثقت الكثير من ذلك في قصصي. أي شيء يغري في الحياة. أعتبر دائماً أن حياتي الحقيقية قد انتهت. لأن الحياة هي الأمل، هي الرغبة بعمل شيء والسعي لتحقيقه. منذ إكمال دراستي الجامعية كانت حياتي ملكاً لغيري وما جرى فيها لا يمثل إرادتي. الحياة هي الإرادة. أن تعيش كما تريد وتموت كما تريد. نحن مجرد أجهزة مسيرة مثل الروبوتات. في أي لحظة يمكن قطع السلك وقتل الروبوت. كما يجري في العراق وكما لصديقي الذي قتل أمام باب داره. طبعاً أنا أتحدث عن نفسي وعلاقتي بالوطن الذي أخذ كل شيء وما انتهى إليه من مصير. ما الذي يمكن أن يحدث لتعويض ما ضاع. لإعادة من ماتوا. لاستعادة الأمل والرغبة والحلم. كل ما قدمه لنا الوطن هما الضياع والخسارة. نحن أرقام مشطوبة من سجلات العصر. ونحن اليوم في أوربا نخدم الماكنة الرأسمالية والامبريالية كأيدي عاملة رخيصة. لا أحد يعترف بمؤهلاتنا العلمية والوظيفية أو الأدبية. علاقتنا بالمواطنة تكمن في دفع الضرائب. عدا ذلك علينا العمل حتى الخامسة والستين. لكننا لن نعمر كما يريدون.
ان العجز عن الموت، إذا صحّ هكذا تعبير، والعجز عن استعادة الحياة المضاعة، دفعني إلى فلسفة الكثير من الأمور، ومنها الموت. منتهياً إلى فكرة أن الموت ليس سوى عملية فيزيائية مجردة، شهادة إعلان وفاة ونفي من هذا العالم. بينما يكون الشخص قد مات روحيا وعاطفيا قبل ذلك. لقد متنا عدة مرات، مرة عندما طالت الحرب واكتشفنا أنها لعبة. مرة عندما خرجنا منها أحياء. مرة عندما خرجنا من الوطن وانقطعنا عن عالمه الداخلي لنجتر غربة مرة ولغة غريبة يابسة. ومرة عندما نزل الاحتلال وتحول العراق إلى مستعمرة للجميع على حساب أبنائه وتضحياتهم المضاعة. وباللغة العراقية الدارجة نقول أننا نموت كل يوم، كلما تفتح عينيك وتنظر من النافذة ولا ترى وطنك، تشعر بالموت. فقدت أعزّ أهلي وأنا هنا. وليس لي أمل بالعودة أو تحسن الأوضاع كما ينبغي. ولا أعرف لماذا أعيش. لم يعد غير شيء واحد أؤمن به، حلم طفولة وشعر قديم، أنني سأموت يوماً وحيداً، على رصيف مدينة غريبة، وما أزال أبحث عن ذلك الرصيف!. وحتى ذلك التاريخ، سوف أكتب وأكتب، مسجلاً إدانتي للعالم، ورسالتي لأجيال عاطلة عن الحياة.
ملاحظة: اقرءوا كتاباتنا جيداً، نحن الموتى على قيد الحياة، فثمة أشياء كثيرة، لا يعرفها الأحياء في هذا العالم!.
***
هل فكرت في الانتحار يوما؟ .. سؤال سأله بعض الأصدقاء على خجل ، كانت الإجابة تقتضي عرضا لكل الأوقات الصعبة، والليالي التي شهدت أرقى ، مراجعة الكثير من الدموع وسؤالها متى كان الموت يصلح لها كخلاص. وكيف استطاعت مخادعته بالكتابة فصارت خلاصاً موازياً .
كان أبي منذ أن كنا جراء صغيرة نتلمسه يتكلم عن موته وهو يخلط بين قصص الأنبياء، وعصا موسى، وجبروت فرعون ، وأخوة يوسف، وطفولة محمد عليه الصلاة والسلام يقف عند موت شعيب وحوله بناته يرثينه، ثم يكمل بوصاياه بأن يظل حاضراً في قلوبنا، وكنت أرقب تفاصيل وجهه وأحاول أن أخفي دموعي . كان استشرافه لموته المبكر مثل نبوءة أو سر يدركه وحده ، بعد أن فارقنا مبكراً وقبل أن أكمل أعوامي الثانية عشر، أتقبل موته باعتباره قراراً أضمره في قائمة أسراره ، وظلت تلك الذكرى غير قابلة للغفران ، هجر مبكر لا يؤآزه إلا أن لكل أجل كتاب ، وقدر معلوم .
لكن الكتابة قبل أن تكون خلاصاً كانت سؤالاً وجودياً مرهقاً عن الحياة ، الذين انتحروا من الكتاب لم يكونوا فقط هم من قرر ذلك ، ولم تكن طلقة هيمنجواي الشهيرة بعد أن نال حظوة النص الخالد والشهرة والمكانة وحدها هي طلقة الإنتحار ، ولا موت كاوباتا بعد عامين من نوبل وبعد روايته " الجميلات النائمات " التي هي أجمل ما يمكن أن يقرأ في الأدب الإنساني بعد اعتراف " ماركيز " بذلك سوى اعتراف مماثل بأن الكتابة قد لا تكون هي الخلاص كله ، وأن الأسئلة التي تطرحها قد تكون أكثر أرقاً من الحياة .
الذين انتحروا لم يكونوا فقط هم الذين اختاروا موتهم من الكتاب، فهل كان استسلام " أمل دنقل " لموته المبكر سوى قرار؟، وهل كان "يحيى الطاهر عبد الله" في حياته القصيرة ،عارفاً بأن موته القريب يقتضي كل هذا الولع بالحياة ، هل قرار التوقف لدى بعض الكتاب ً كان موازيا للموت .
الحياة قرارً بالمواصلة ، إغواء بأنها تحمل شيئاً مختلفاً في الأيام القادمة، والموت الحقيقي للكاتب والإنسان هو اليأس من إغواء مقبل .
نام أبي في حجر أمي وقال إنه ذاهب وترك وصياه ، فهل الحضور يقاس بالأيام التي قضاها معنا أم بالأيام التي عددناه بعد فقده ، عبرت على سؤال الموت كل اللحظات التي لم أرد أن أعرفها ، لكن ظل في القلب بهاء أن ثمة أحلام يمكن أن تخايلني وأن ثمة أوراق لم تكتب بعد في صفحة الحياة .
والكاتب مثل كل إنسان بهجته ليست في التحقيق أو الشهرة بل في أشياء يمكن أن يعطيها وأحلام يمكن أن يغامر لأجلها مختلفة قليلاً ، لكنها تظل مشتهيات للصمود والمعاركة والصبر، الكاتب رغم أنه يتلبس أكثر من نص ويعيش في عوالمه خالقاً أكثر من بطل ، فانه مثل كل البشر يقضى العمر في مغازلة أحلام تحققه، وتلك هي الحياة ، وأن ناوشه الانكسار وضجر الروح فأن التوقف واليأس هي المقبرة الوحيدة التي لا تعرف الفرق بين حي وميت ، هذا اليأس الذي يفضى إلى موت فعلى، رغم كل قرارات الجسد والأنفاس والأيام المحتومة بأقدارها.
كقطيع نرعاه بالتوسل أن تصل الروح لسلامها .
لم أرع آبى قطعان قط
لكن يبدو كما لو أنني رعيتها
روحي أشبه بالراعي
تعرف الشمس والريح
ومن يد الفصول تمضي
ناظرة تواصل المضي
...
الليل قد تسلل
مثل فراشة عبر النافذة
غير أن حزني هدؤ كله
" ألبرطو كاييرو"
****
القلق تلك السمة التي تعتري المثقف.. إنها الحالة القلقة المتغلغلة في دواخله لتكون جزءً من تكوينه ونتاجاً لوعيه المشكل وثقافته, هنا أعني المثقف الحقيقي الذي يتقاطع مع قضاياه ويتفاعل معها معبرا عن رأيه بصدق وشفافية ضارباً عرض الحائط بكل المصالح والنفعية ما تفيض به في جيوب البعض, هو حتماً ليس المتشبث بالثقافة والخارج من إبط السلطة والمتسارع لتسفيه عقلية المتلقي أما بآراء معلبه أو صامت متخاذل في لحظات لا يحرم فيه السكوت .
لعل ما رميت إليه من سرد سابق, إنما يهدف للتمهيد لما أردت الوصول إليه من أن حالة القلق هي الهاجس الطبيعي للمثقف, والإفراز الواقعي مع سيل الأحداث العابرة والعاصفة, لكن هذا القلق يصل في بعض الأحيان لتجاوز تلك الطبيعية ليصل إلى ماهو أبعد وأقصاه الانتحار في عتمة اليأس, ولعل أكبر دليل على ذلك ما قام به خليل حاوي المثقف والشاعر اللبناني في بداية الثمانينات حين وصل القلق مداه واسودت الدنيا في كل الأنفس , شعر الحاوي أن الإبداع لا صوت له ولا أحد يسمعه أنينه, فيما هدير الدبابات الإسرائيلية تضع تملأ أول عاصمة عربية تحتل (بيروت), شاهد خليل خاوي الدماء تسيل في بلده وتخضب التراب بلونها, حين فضّل الانتحار لأن الكلمة لم تعد سلاحاً يسمع ولا جود لها.
***
من أجل رؤوس كثيرة صنع مقصلة
لم تستجب سوى لرأسه
لن أكتب شيئا عن الموت .. كل ما أكتبه هو عن الموت .. سأكتب عن الإنتحار . الإنتحار كلحظة واحدة لا تستغرق كثيرا .. لحظة واحدة فقط تختصر في زمنيتها المتناهية الضآلة كل الأفكار والمشاعر عن طبيعتي الزمن والأشياء في كافة أشكال حضورهما وتتجاوزهما .. الإنتحار كلحظة واحدة تختصر كل الموروث وجميع الهواجس .. موروث العالم حيث يتساوى العدم والثبات والذوبان والجمود والإنصهار والحركة .. حيث تتساوى الرغبات والأفكار والمخاوف والإخفاقات والأمل واليأس .. حيث الماضي والحاضر والمستقبل شظايا متناثرة تتجمع في تشابه يتلون بتعاقب محموم برائحة دماء واحدة .. حيث يتفتت كل شيء .. كل شيء .. ويحترق .. ليولد ثانية من جديد .. الحياة داخل الموت .. الموت داخل الحياة .. أنساق التنفس الصالحة لتعاطي أكسجين مسمم .. الإنتحار كفعل .. كحالة .. كوجود يحمل جميع الحواس العادية المتشبعة بالغياب يقذف صرخته في الأعماق البعيدة المعتمة متفجرا ومفجرا كل الصمت الكامن في الآماد اللانهائية معطلا كل الأوهام عن بديهية الجدوى وقوانين الإستمرار العادي للشهيق والزفير .
الكتابة الوحيدة التي تمتلك مبررا لوجودها تلك الناجمة عن عدم الاقتناع .. الرفض .. التساؤل .. السعي وراء معرفة كيف ولماذا تحدث الأمور هكذا .. الكتابة الوحيدة التي تمتلك مبررا لوجودها تلك التي لا تعرف ما هي الحكمة وما جدوى اليقين .
ثمة كتابة تسعى وراء نموذج .. وصفة ما للأشياء .. الأشياء التي تخص من يكتب .. الأشياء التي تمثل عالمه الشخصي .. الأشياء التي تمثل العالم بشكل كلي .. الكتابة هنا سعي لخلق تلك الأسطورة لا على مستوى حدود فعل الكتابة نفسه وإنما لتحقيق الأسطورة في العالم الفعلي .. الوجود المتمثل فيما يحيط بجسدي .. الفراغ الممتد من رأسي وحتى الأطراف اللانهائية للكون .. الكاتب يكتب هنا لمعالجة الخلل الذي ينافي أو يعمل ضد النموذج أو الوصفة المجهزة في ذهنيته ومشاعره .. المعالجة هنا تفترض ببديهية التغيير .. خضوع الأشياء المختلة المتسمة بالقبح لقوانين النموذج الذي يحتفي بحسن النية طالما أنه يحارب الشر .. الكتابة هنا هي عدم تصديق لما يمكن أن يعارض تلك المشاعر الجميلة الطيبة الكامنة بإخلاص في وجدان صاحب الأسطورة .. القبح هنا يتخذ صفة المعطل .. الحاجز .. المعرقل في طريق بناء وهدم وتغيير العالم .. إذن .. أكتب .. بصرف النظر عن مدى وضوح أو إكتمال أو الإيمان من جانبي بماهية هذا اليقين الذي أكتب من خلاله .. بصرف النظر عن مدى أرقي في ضرورة وجود يقين أصلا .. بصرف النظر عن مدى تساؤلي حول قدرة العقيدة أيا كانت المحرضة للكتابة في تحقيق التوازن بين نفسي والعالم .. في تحقيق التوازن بين الكل والعالم .. أكتب فقط تحت وطأة أن هناك شر يعمل ضدي ويعمل ضد الآخرين ينبغي أن ينتهي .. أن يزول .. أن يمحى .. أن يصير العالم جميلا لي .. لمن حولي .. لذا .. من الطبيعي في كل مرة بعد الإنتهاء من الكتابة أن أقف في النافذة .. ما الذي حدث ؟ .. ما الذي تغير ؟ .. حسنا .. سأكتب من جديد .. لا بد ألا أترك اليقين الخاص بتحقق النموذج أو الوصفة إلا بعد أن يوجد بالفعل .. وأكتب .. وأقف في النافذة .. ما الذي حدث ؟ .. ما الذي تغير ؟ .. حسنا .. سأكتب .. سأ ..... ، وهكذا .. والغريب ـ الغريب بالطبع ـ أنه على الرغم من كوني طيبا إلى هذه الدرجة وأريد الخير ونيتي حسنة جدا وغير مسؤول عن كل هذا الشر الذي يحدث لي وللآخرين .. على الرغم من أنني أسعى لخلق أسطورة مغايرة رائعة لنفسي وللعالم ضد كل ما هو ضد إنسانيتي وإنسانية كل إنسان .. لكن .. لاشيء يتغير .. لا شيء .. بالعكس .. الشر ينمو .. القبح يتزايد لحظة بعد لحظة .. وأنا بدأت أشعر بضعفي .. بعدم قدرتي على ملاحقة الأمر السيئ .. ثم أين عقيدتي ؟ .. أين نموذجي ؟ .. أين وصفتي ؟ .. لماذا لم تحقق لي شيئا ؟ .. لماذا لم تكن ذات ولاء لي ؟ .. لماذا ؟ .. ثم .. ماذا كانت تلك الوصفة أو ذلك النموذج أصلا ؟ .. هل أنا كنت أعرفها حقا ؟ .. هل كانت واضحة ومبررة لي وتمتلك شرعية إعتناقها بالكامل ؟ .. أين ذلك النموذج ؟ .. ماذا كان أصلا ؟ .. هل هذه خيانة جديدة إضافية ؟ .. لقد صنعت مقصلة لأضع بداخلها رؤوس الشر العديدة المختلفة .. هل صنعت مقصلة معطلة ؟ .. لماذا لا يزال الشر يضحك هكذا رغم أنني حاولت ....
من الذي يمكنه التحدث عن الحقيقة في تلك اللحظة ؟ .. من الذي يمكنه التحدث عن الإيمان بشيء حتى الإيمان بما يصدر عن متطلبات واحتياجات النفس الخاصة ؟ .. من .. ؟ .. كيف يمكن أن يتطور الأمر تدريجيا هكذا بحيث تتلاشى جميع أنواع الثقة بين نفسي وبين العالم ؟ .. ثم تتلاشى الثقة بين نفسي ونفسي ؟ .. كيف ؟ .. ماذا تعني الحياة في تلك اللحظة ؟ .. ماذا يعني الموت ؟ .. إما أن يكون العالم هو الأقوى بالفعل على الدوام بخياناته المتلاحقة الخالدة .. أو أن تكون أسطورتي الخاصة التي حاولت خلقها هي الخائنة .. أو أنني أنا الذي مارست تلك الخيانة لعقيدتي لإخفاقي في رسم صورة مغايرة للعالم .. أو أن وجودي أصلا هو الخيانة ذاتها للفعل النبيل الوحيد المضاد للشر وهو ألا أكن موجودا من الأساس .
أنا هنا
هنا
هنا
حسنا
ما هذا ؟
هذه المرة استجابت المقصلة .. فقط .. لأنني أديت الفعل النبيل الوحيد .. الآن أنا القادر .. القادر .. الذي إستطاع أن يلحق بشيء ليس ضد ما أراد بالفعل .
كل شيء
أبسط شيء
أتفه شيء
كفرك أصابعك مثلا
ذبح
فقط
ليس شرطا أن تغادر مكانك
مخلفا بقعة من الدماء .
حسنا .. على الدوام ترافقني أفكار ومشاعر لا حصر لها عن قتل نفسي .. أعتبر ذلك يأسا عاديا نتيجة التراكم المتزايد البشع للإحساس بالمهانة والألم .. لكن .. تنتهي تلك اللحظات سريعا .. أنا لا أمتلك نموذج ولا وصفة ولا يقين بشيء .. أنا لا أمتلك أسطورة خاصة أسعى من خلال الكتابة لتحقيقها على مستوى الوجود الفعلي .. لا .. أنا أكتب لأنني أريد أن أعرف ماذا يعني العالم أصلا .. ما هي الحكمة .. ما هو المبرر .. لماذا تحدث الأمور هكذا .. ماهي البداية .. ماذا ستكون النهاية .. لماذا حدث ما حدث .. لماذا أخاف وأتألم وأبكي وأصرخ ثم أموت في النهاية .. الشر .. لماذا هو حتمي إلى هذه الدرجة .. أنا فقط لا أعرف .. لكنني أعرف أن قتلي لنفسي مهانة إضافية حيث سأعلن حينئذ في جوف العتمة السحيقة للجمود الكوني أن حواسي العادية لاذت بالفرار لأنها لم تكن قادرة على خلق زوايا رؤية استثنائية يمكنها أن تراقب وتتأمل وتؤرق وصولا للفعل النبيل الوحيد الذي أعرفه وهو التساؤل الذي لا ينتظر إجابة ومع ذلك مستمر بكل تفاؤل ويأس .