انتحرت ناديا وابتعد علي وسعد وحمل الشاعر جرحه إلى كل مكان

ناديا ظافر شعبان

في مدريد، أتاحت لي الظروف أن أعايش عائلة الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي، التي اعتبرتني ابنة ثالثة لها في غربتي: كنت أزور باستمرار البيت الهادئ الذي يحمل الرقم 4 من شارع كابتان هايا، الموازي لجادة الكاستيانا، والتي كنت أمرّ فيها صباحا ومساء، وأنا في طريقي الى الجامعة المستقلة، أو في طريق عودتي منها.

في مدريد، عشت ساعات طويلة في"مملكة"; البياتي، وكنت أشارك العائلة مكتملة في بعض جلساتها، وأنام في منزلها في بعض الأحيان، لأقاسم الغالية ناديا غرفة واحدة، ولم يكن الشاعر يسمح لابنتيه ناديا وأسماء أن تخرجا إلا برفقتي.

كنت أحب أن استمع الى عبد الوهاب البياتي يتحدث في أمور عامة، ويحلل بذكاء حاد، وعمق لافت الواقع العربي المتردي، فيختصر وهو يدخن سيجارة حال وطن وعصر، بكلمات تبدو بسيطة لوهلة، وتظل في الأعماق وليدة تجربة ضخمة، عاشها الشاعر في تنقله من منفى الى آخر، واستوعب معها كل أبعاد الحياة في العالمين العربي والغربي.

كنت أحبّ أن استمع الى عبد الوهاب البياتي يختصر بعدة كلمات حال وطن وحال عصر: كان ذلك يقرّبني أكثر وأكثر الى عالمه الشعري، ويجعلني أتوغّل من دنيا شفافة من المعادلات التي تفسر مجرى الحياة، ولا بدّ من استيعابها لفهم الواقع:

لم أعد أذكر في أية مناسبة انطلقت التظاهرات في بلد عربي ما، لكني أذكر بوضوح أن البياتي علّق عليها بأسى ومرارة، كانت أحاديثه دائماً مشحونة بنبرة تمتزج بها هاتان الثابتتان مختصراً بذلك التاريخ القمعي للمنطقة التي جعلت شعارها"الموت في الحياة";، وتدلل في بعض الأحيان على أنها ما زالت تتنفس باسم الديموقراطية، وتسمح بالتظاهرات، وتملأ الجماهير الشوارع، التي لا تلبث، بعد رفع الشعارات، أن تهدأ، وكأن شيئاً لم يكن، وقد سقط الحجر الى الأعماق، وغابت دوائره من على سطح الماء المستنقع. أذكر أن البياتي في تلك المناسبة قال عن الجماهير الغاضبة: ماذا يفعلون، أنهم لا يملكون غير التظاهر، والعودة بالتالي الى البيت.

كان"أبو علي"; يسترسل في الأحاديث عن الواقع والحياة العامة، كما في الأحاديث الممتعة عن الحضارات ورقيها، الا أن الكلام عن الحياة الخاصة، كان خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه. ومرة كانت أم علي تخبرني في جلسة حميمة عن الصعوبات المادية التي واجهتهما في بيروت، التي استقرا فيها لفترة، وحيث تعاطي الشاعر الكبير التدريس في احد المعاهد... فجأة خرج أبو علي من غرفته، واستمع الى الجملة الأخيرة من كلامها، فقاطعها بنبرة حاسمة قائلا:"لا ضرورة لهذا الحديث الآن";.
كنت لأول مرة أراه يعبر عن انزعاجه من أمر ما، بنبرة باردة، حاسمة، وعصبية بعض الشيء، فقد كان يبدو هادئاً باستمرار، يحمي الهدوء حزناً غجرياً، نقياً ووحيداً، ويقنّع مرارة توحّد معها، التصقت بمسام جلده وتكثفت في أعماقه، وهو يجول في الدنيا من منفى الى آخر، مليئاً بالحنين الى أرض الجذور، الى سماء بغداد، الى دجلة والفرات، ونخيل العراق... وبعيداً عن ولديه علي وسعد.

كنت أعرف أني أُعامل بمحبة كبيرة، وكأني فرد من الأسرة، وأدرك بوضوح أني الوحيدة التي تدخل باستمرار الى المنزل. كما كانت أول هدية تلقيتها بعد أن نلت الدكتوراه بامتياز من العائلة الثانية الحبيبة، الا أني بالرغم من كل ذلك، ظللت أشعر أن هناك مسافة ما، بيني وبين الشاعر الكبير، شاعر أمة وعصر... عبد الوهاب البياتي.

***

في مطلع عام 1988 التقيت لآخر مرة بالعائلة الحبيبة، التي عادت الى بغداد، وحلّ ما حلّ بها في حرب الخليج، وشتتها انتحار ناديا في أميركا. صرت أقرأ أخبار البياتي في الصحف، ولم أعرف الى أين كنت استطيع أن أرسل كلمة عزاء حملتها طويلاً في أعماقي. التقيت أسماء في الأردن مرة واحدة، يوم كنت أحاضر عن"غجر لوركا"; بدعوة من معهد ثرفانتس الاسباني، وكان البياتي مسافراً ليتسلم جائزة سلطان العويس. والتقيت صدفة بالشاعر الكبير مرة واحدة في بيروت. كان يجلس في مقهى المودكا، بدا لي أنه شاخ كثيراً بعد رحيل ناديا. تحادثت وإياه قليلا لأنه كان مرتبطاً بموعد. أعطاني رقم هاتفه في دمشق، حيث كان قد استقرّ، الا أنه لم يتسنَّ لي أن ألقاه بعد ذلك اليوم: انتهى سفره الطويل من عاصمة الى أخرى، ومن منفى الى آخر، في مقبرة محيي الدين بن عربي.
وانتقلت أسماء الى دمشق من عمان، حيث كانت تحاول أن تبيع البيت، ولم تستطع أن تودع الأب الصديق قبل الرحيل: كان يعتبرها يده اليمنى، ورافقته في كثير من أسفاره، وكانت تكتب له رسائله في آخر أيامه. وظلت مليئة بالقهر لأنها لم تكن قربه في آخر لحظة من حياته.
من دمشق تتصل بي أسماء باستمرار، وتأتي الى بيتي في طرابلس، كلما سنحت لها الظروف. وقد صادف أن كنّا معا في هذه السنة، في الذكرى الخامسة لرحيل عبد الوهاب البياتي، الذي غاب اسمه عن الصحف العربية منذ موته، استرجعنا أيام مدريد، ولم تبخل عليّ أسماء بذكرياتها مع الأب الصديق، وكان بيننا هذا الحديث الذي تسجل من خلاله تفاصيل عن حياة البياتي تنشر لأول مرة.

أبي
قالت أسماء بألم:

أسماء ابنة البياتيمنذ توفي أبي، لم يعد احد يذكره. أبي إنسان كبير جداً، كان رائعاً وزاهداً بترف الدنيا، وغير اجتماعي، فعلاقاته مع الآخرين كانت دائماً رسمية. لا يحب المديح ويعمل بصمت. كان يحب الإبداع ويكره الجهل، وأصدقاؤه من الناس البسطاء المثقفين، ويختار بدقة الأشخاص الذين يدخلون الى منزلنا. كان مثالياً، يعطي كل ما يعرف، ويحبّ الصمت ويتأمل كثيراً. لم يكن يحسد أحداً، الا انه كان ينفر من المدّعين ويعاملهم بقسوة، هو الذي لا يجرح عصفوراً، ويقول:"ليس هناك أعظم من الله";. كان حنوناً معنا، ويحب أن تعتني به أسرته. لم أره يوما غاضبا.

رافقته أنا في غالبية رحلاته. رافقته في التسع سنوات الأخيرة من حياته: كنت اكتب له رسائله، أساعده ليخلع حذاءه بعد أن كسر وركه. أساعده ليخلع ملابسه، قصصت له شعره، حملت له أغراضه عندما سافرت معه الى السعودية وايطاليا، الى لندن وباريس، كنت أطهو له طعامه. كان يحب البامياء. أعطيته الدواء.

أنا أموت بحبّ أبي، وافتقده كثيراً. أبكي كلما تذكرت انه مات وحيداً. مات في السابع عشر من آب، وقد تعرّض لأزمة ربو حادة، الغريب أن أباه مات أيضا في اليوم ذاته من آب، ومن أزمة ربو كذلك.

ظللت معه فترة في دمشق، وحتى شهر حزيران من عام 1999، عدت الى الأردن لأبيع البيت، وأنقل الأثاث والمكتبة. وكانت هناء ابنة ناديا التي تربّيها تريد أن تقدّم امتحاناتها. قال لنا قبل أن نغادر الى عمان:"الله يخلّيكم لا تروحون، لا تسافرون";.
ورحنا ومات وحيداً.

في دمشق، لم يكن يحب أن يجلس وحده، أو أن يأكل وحده. ينتظرنا ليشرب الشاي معنا. كان يشكو من الربو، ومن ترقّق العظام، وينام على جنبه. كان قد صار هزيلاً جداً، وفقد الكثير من وزنه. اضطررت لأذهب مع هناء الى عمان. قلت في نفسي ننتهي من مشكلة البيت، ونستقر معه في دمشق، قبيل موته، كان يقول لصديقه غابي شديان وزوجته جوزفين: أريد أن أتصل بأسماء. عندما هاتفوني من دمشق قالوا لي إنه في المستشفى وهو ميت. أوراق المرور بين الأردن وسوريا، كانت تأخذ وقتاً طويلاً. لما عدت واتصلت بالبيت، قال لي السائق إن أبي سيئ الصحة. لما وصلت الى دمشق حضنني محمد مظلوم، ففهمت.

صمتت أسماء، وقد أتعبتها الذكريات، وأتعبها البوح، سقطت من عينيها دمعة وحيدة. كنت أنا، أكثر من يستطيع أن يعايش عذابها. أنا أيضا كنت أحب أبي ظافر كثيراً. هو أيضا مات فجأة في آب، فعشت تفاصيل مؤلمة، دمغت حياتي إلى الأبد. مات ظافر وأنا بعيدة في طاراغونا، في الشمال الشرقي الاسباني، ووصلت بعد فوات الأوان.

احترمت صمت أسماء وعذابها. انتظرت أن ترفع رأسها، وتتطلّع إليّ، كأنها تنتظر مني سؤالا. وكان ينتابني شعور غريب. كنت أحس أن البياتي بيننا، يستمع الى أحاديثنا، وكما أحسست بالضبط يوم كنت أحاور الشاعر الكبير في مدريد، واستمع الى ذكرياته مع خليل حاوي.

متحف البياتي
سألت أسماء:
- هل تشعرين بعقدة ذنب، لأنك لم تبقَي قربه؟

أبي حبيبي. افتقده كثيراً. موته فاجعة بالنسبة إليّ. كان الدرع، والأمان. أبكي عندما أتذكّر أنه مات ولم أكن قربه. لم أكن أتصور أن أبي سيموت. أُعزّي نفسي بالصبر. لقد ترك لي تراثا مهما. وأريد أن أقيم له متحفا في دمشق. املك هدايا كثيرة من ملوك ورؤساء. املك رسائل مهمة. الرئيس المكسيكي أهدى أبي في عام 1987 قلادة ووساماً، وتمثالا ذهبيا هو رمز الثقافة، ملك اسبانيا دون خوان كارلوس قدّم له تمثالاً من المرمر، يمثل شعار العائلة المالكة ولا يُهدى إلا لأرقى الناس. السلطان قابوس قدّم إليه خنجراً من فضة وساعة. الرئيس حافظ الأسد أهداه عباءة ومسدساً. أملك هدايا من بعض الرؤساء في العالم العربي.

المشروع قائم. نتعاون مع الأسرة لتنفيذه في وقت لاحق. ننتظر لتهدأ الأوضاع السياسية في المنطقة. وتتذكّر أسماء بعد فترة صمت حياة العائلة. تتحدّث إليّ بحرية، تختلط الذكريات في كلامها.

لم يكن أبي يحب الترف، وأبعدنا عنه، عشنا حياة بسيطة جداً. لم يكن بخيلاً، وعلّمنا أن نشتري ما نحتاجه فقط، وألا يكون للمال أهمية أولى في حياتنا. كان يقول: الفلوس تغيّر النفوس. علّمنا أن نكون سعداء في منزلنا. أنا أعيش في عصر مادي جداً، لا أتكيّف معه. أفضل أن أبقى في البيت وأرسم. كنت في التاسعة من عمري، حين رآني ليلاً أخربش على الأوراق. فاجأني في الصباح بهدية، هي عبارة عن ريش وعلبة ألوان. اكتشف موهبتي. ناديا كانت تحب أن تكتب. شاركت أنا في مسابقة رسم، جرت بين أطفال من مصر وأمستردام، ونلت الجائزة الأولى.

ظل أبي يُشجعني طوال حياتي لأرسم. أقمت معرضاً للوحاتي في مركز الجمعية الاسبانية العربية في مدريد، وشاركت في ستة وعشرين معرضاً جماعياً في اسبانيا. كان يقول لي باستمرار:"أرسمي وأبدعي";. ويحب في بعض الأحيان أن يجلس قبالتي، ويراقبني بصمت وأنا ارسم.

اهتمّ أبي كثيراً بتربيتنا. لما كنا صغاراً، ملأ بيتنا كتباً تناسب أعمارنا. في مصر رافقنا مع أمي الى حديقة الحيوانات، والى السينما، كان يحب أن يحضر أفلام عبد الحليم حافظ، والأفلام الهندية الرومانسية.

كانت عائلته مهمة جداً بالنسبة إليه، وبيته مملكته، التي يعيش فيها بهدوء معنا، ولا يدخل إليها غير المقرّبين فقط. لم يزرنا في البيت ناس كثيرون. في مدريد دخل الى بيتنا أشخاص معينون: الرائد بيدرو مارتينز مونتا فيز، والمستشرقة الدكتورة كارمن رويز برافو، وفيديريكو اربوس، مترجمة الى الاسبانية، والذي كانت اطروحة الدكتوراه التي يحضّرها عن شعر أبي. أكثر من دخل الى منزلنا في اسبانيا هو أنتِ. في الأردن كان يزورنا فخري كريم، فاضل الأنصاري من حزب البعث، وسعاد الدباس التي تملك غاليري الفينيق للرسم في عمان. أما في سوريا، فقد كان الشاعر محمد مظلوم أقرب الناس إليه.

العائلة
تسترجع أسماء البياتي ذكريات حلوة مع العائلة:

لم أسمع أبي يصرخ مرة واحدة في البيت. كان هادئاً، ويوجّه إلينا الكلام باحترام. أمي ساعدته كثيراً وهيأت له أجواء الإبداع. عرفت أنها تعايش شاعراً عظيماً. كانت تقدّره كثيراً، ولم تتدخّل في شؤونه. لم تعرف الغيرة يوماً. لم تقيّد حركته وكانت تقول إن المبدع يحتاج الى حريته. تحمّلت معه عذاب كل المنافي، ولم اسمعها مرة واحدة تتأفف، وعاشت معه متكيفة مع ظروفه، فقد كان أهلها أغنياء، ولم يكن أبي يملك الكثير من المال.

أحببنا أبي كثيراً، وكان تقليدياً في تربيتنا، ولا يسمح لنا أن نسهر خارج البيت، أو أن نختلط بالرجال خارج نطاق العمل. لم يضايقنا ذلك. علّمنا عبد الوهاب البياتي، كيف نتصرف بعد موته.

وكان يقول لنا: اعتمدوا على أنفسكم، ولا تعتمدوا على أسمي. بعده عن اخويّ علي وسعد، كان من جراحه الكبيرة، لكنه غضب منهما وقد باعا مكتبته في العراق بمئة دولار، بُعَيد حرب عاصفة الصحراء.

وتختصر أسماء المأساة التي عاشتها العائلة بكلمات بسيطة، كانت تلفظها وكأنها تحدّث نفسها.

علي وسعد تعذّبا كثيرا أيضا، عاشا بهناء مع والدي في موسكو، وحرما طويلاً من عطف الأم والأب بعد ذلك. تشتتت العائلة مرة أولى، يوم أسقط نظام عبد الكريم قاسم الجنسية عن أبي. علي وسعد تربّيا إذ ذاك مع جدتي لأمي، ناديا أول بنت رُزق بها والدي في موسكو. أغدق عليها أبي الكثير من حنانه. تزوّجت في مدريد عام 1983، وسافرت مع زوجها اليمني حسان القرعة الى أميركا.

سافر أبي الى أميركا ثلاث مرات ليحضر ولاداتها.
ويختلج صوت أسماء البياتي مرة ثانية وهي تتابع:

تشتتت العائلة مرة ثانية بعد موت ناديا في مطلع عام 1991، بعد دخول القوات الأميركية الى العراق، انتحرت ناديا حتى تخلّصنا فنخرج من العراق. خافت علينا كثيراً. أخبرنا زوجها أنها ركبت سيارتها، وأقلعت بسرعة فائقة لتصطدم بجدار حديقة البيت.
كان انتحار ناديا فاجعة لا تُحتمل بالنسبة لأبي.

تشتتنا مرة ثانية وبشكل قاسٍ ومُوجِع منذ ذاك الحين. أمي بقيت في أميركا لتربّي بنتَي ناديا الصغيرتين هدى وهند، واحتفظنا نحن، أنا وأبي بهناء، ابنة ناديا التي تشبهها كثيراً، وقد ساعد وجودها بيننا أبي، وقد دمّره موت أختي. كان يشعر أن ناديا مخلوقة من جديد وهو ينظر الى هناء، أو عندما يضعها على ركبتيه وهو يبكي، أو حين يناديها ناديا.

بعد موت أختي، كان أبي يشعر انه فقد أغلى ما يملك، أو أن أغلى ما يملك قد مات، ناديا عايشته طويلا. اشتغلت معه في المركز الثقافي العراقي في مدريد، كان يقول إنها صبورة جداً، ويتمنّى لو أنها لم تمت لتتحمّل مسؤوليتي. بعد موتها سيطرت عليه فكرة الموت، زاد من معاناته فراقه مع أمي. هما لم يفترقا أبداً منذ تزوّجا. كان الفراق صعبا عليه، لأنه أحبها كثيراً، وكانت أول من يقرأ له القصيدة التي ينظمها.

صار الجو الذي يحيط بنا خانقاً. كلنا تعبنا. كانت المأساوية القاسية التي ضربت حياة العائلة تؤثر فينا.

كانت أسماء تستوعب وهي تتحدث الى أي حد أصبحت وحيدة في الدرب. قالت:
"إني وأمي عائلتها";. انتابني شعور غريب، بدا لي أن عبد الوهاب البياتي يُوصيني بابنته. أم علي كانت تقول باستمرار في مدريد، عندي ثلاث بنات، ناديا وأسماء وناديا. حملت إليّ هدية من كل مكان سافرت إليه. كانت أيام مدريد بعيدة. ذكرى حلوة، صفحة طويت الى الأبد.

قلت لأسماء لأذكّرها أن شعر البياتي خالد، وأن الزمن مهما بلغ جبروته، لا يستطيع أن يمحو من الدنيا أسماء الأدباء العظام والفنانين العظام، وأن كلماتهم وألوانهم وألحانهم هي الخلود ذاته: حدّثيني عن البياتي الشاعر.

كان أبي يُحبّ الشعر. يقرأه قبل أن ينام، وحين يستيقظ كان الشعر كل حياته، ويقول إنه رسالة هادفة يجب أن تصل الى الآخرين، واجه تخلّف العالم العربي وأنظمته البائسة... واجه الامبريالية بالشعر. أحدث بكلماته صدمة توقظ الضمير العربي، وعاش في المنافي البعيدة والقريبة، اضطر أن يعيش منسلخاً عن أرضه وعن ولديه، ثمناً لدفاعه عن حرية وكرامة الإنسان العربي... وعن استقلال الشعوب العربية. عبد الوهاب البياتي لم يساوم أبدا على مواقفه.

أما القصيدة فكان يكتبها بالحبر الأسود السائل. يكتبها في أي مكان، في البيت، في المقهى، في الطائرة، كان يحمل معه باستمرار كراساً صغيراً وقلماً. في دمشق كان يقرأ القصيدة لي ولهناء التي كبرت.

مات أبي والقلم في يده. في دمشق كان يحب أن يكتب كثيراً، وكأنه يعرف أنه سيغادر قريباً. خصص جائزة متواضعة باسمه للشعراء الشباب. هذه الجائزة يجب أن تستمرّ وتتطوّر.

في دمشق وقّع عبد الوهاب البياتي آخر كتاب يحمل اسمه، وقرأ اسمه على غلافه. كتب نصف مذكراته. لم يمهله الزمن ليكملها. كان يفكر في كتاب جديد، ويكتب نبذة صغيرة عن كل قصيدة نظمها. لم يمهله الزمن. لم يستطع أن يحقق أحلامه.

وهزّت أسماء البياتي رأسها بحركة غامضة، قدّرت معها أنها تتأسّف على شيء ما. أخذت نفساً طويلاً، وكأنها تريد أن تتحرر من غصة مرة في الحلق. استرجعت أحلام الشاعر الكبير، الذي أرّخ في قصائده لحياة أمة وعصر:

كان يحلم بالوحدة العربية التي تجمع شمل الأهل، ويعمل أبناؤها للفن والإبداع والتطور، ويحافظون على التراث، ويقول إن هذه البلاد العربية كانت دائما مهداً للثقافة، وتراثنا القديم أغنى بكثير من تراثنا الحديث، فناس هذا الزمن هوائيون، لا يقرأون، ولا يهتمّون بالأدب، الذي هو جزء من الحياة.

كان أبي يحلم بوحدة عربية، تكسب شعوب المنطقة شخصية وقوة، فندخل جميعاً الى أي بلد عربي بالهوية. لم يستطع في آخر سنوات عمره، أن يحمل هوية عراقية، ليدخل الى وطنه. أسقط صدام عنه الجنسية، لأنه حضر مهرجاناً أدبياً في الجنادرية السعودية. اعتبروه خائناً، هو الذي قضى حياته منفياً، لأنه لم يساوم على كرامة الوطن وحريته.

كان عبد الوهاب البياتي يريد أن يقضي ما بقي من عمره في بغداد. كان بيت العائلة صغيراً، وحاول أن يستأجر منزلاً أكبر. لكن المنازل غالية. انتظر أن تكرّمه الدولة، وتؤمّن له بيتاً. أهملته الدولة. موت ناديا دمّره، وأنقذه في آن. خرجنا من العراق، استقرينا أنا وهو وناديا وهناء لفترة سنوات في الأردن. مرّ أبي بظروف صعبة معنوياً، صديقه خالد الكرك، رئيس الديوان الملكي في عهد الحسين، كلّفه أن يكون مستشاراً ثقافياً في الأردن. وبالتالي استضافه الرئيس حافظ الأسد في سوريا، لا أنسى كذلك أن الرئيس عبد الناصر كرّمه أيضا. سأقيم متحف عبد الوهاب البياتي في سوريا، حيث حافظوا علينا نحن والجواهري وأكرمونا. الجواهري مدفون في السيدة زينب، وأبي قرب ضريح محيي الدين بن عربي.

أحبّ أبي سوريا في آخر سنوات حياته. لكن العراق ظل جرحه الكبير العميق. حمل بغداد والعراق في أعماقه، وهو يدور في الدنيا من منفى الى آخر، ويتذكر النهر والنخيل ويتمنى أن يعيش في عراق حر، ويموت فيه. حُرم من ذلك.

كان مليئاً باستمرار بالحنين الى العراق. كنت أشعر بغربته صباحاً، وأراه يبكي في بعض الأحيان، فأسأله ما به؟ ولماذا يبكي؟ فيقول لي: إن سماء الأردن مختلفة، لا تشبه سماء العراق. وكان يفتقد الغسق كثيراً.

العراق كان جرحه ومعاناته إضافة إلى موت ناديا. كان أحياناً يبكي بصمت في الليل. أفاجئه يبكي وهو يستمع الى الأخبار في ساعة متأخرة. لقد حمل طوال حياته هموم الشعب العراقي، وهموم الشعوب العربية. لقد أحبّ أبي العراق كثيراً، إلا أن العراق لم يحبّه.

مدريد أحبّت البياتي كثيراً يا أسماء... إنها مدينة عملاقة تحضن الإبداع والعطاء... الا تذكرين، كيف كانت القاعات الثقافية، تغصّ بالمستمعين في لقاءاتهم مع عبد الوهاب البياتي.

* لقد أحبّ أبي مدريد، ووجد بعض ذاته فيها. لم يكن رنين الهاتف يتوقف في منزلنا. الاسبانيون يقرأون ويحبون الشعراء. في مدريد ترجم فيديركو اربوس العديد من كتبه، وكتبت عنه كبريات الصحف، ودُعيَ إلى أمسيات كثيرة، وأهداه الملك دون خوان كارلوس تمثالاً من المرمر، يمثل شعار العائلة المالكة، تقديراً منه لقيمة عطائه.

السفير
2004/10/01