ترجمها عن الانجليزية وقدم لها:
عبد المنعم الشنتوف

تقديم:

 بول بولز تأتي ترجمتنا لهاته اليوميات التي خلفها الكاتب الأمريكي الراحل بول بولز والتي نشرتها دار النشر هاربر بنيويورك استجابة لطموح إلى تسليط الضوء على أبعاد مجهولة في حياة الكاتب الشهير الذي آثر الاستقرار في طنجة لمدة ناهزت ستة عقود. وتأتي فكرة كتابة هاته اليوميات كما يذكر بول بولز في المقدمة استجابة لطلب دانييل هالبرن الذي كان قد كتب إليه قبل سنوات رسالة يقترح فيها عليه أن يخصص بعضا من جهده لكتابة هاته اليوميات. ويعتبر الكاتب الأمريكي في هذا الصدد أن الكتابة في هذا الشكل التعبيري وسيلة لتوثيق بعض اللحظات العابرة في اليومي الذي يعيشه ودليلا على أن سيرته بصرف النظر عن ارتباطها بالكتابة والترجمة كانت ثرية باللحظات الإنسانية العميقة وباللقاءات ببعض الوجوه. سوف يعثر القارئ في هاته اليوميات على تفاصيل لها تعلق بصورة المغربي كما رسمها الكاتب الأمريكي من خلال تركيز دال على شخصيتي الراوي محمد المرابط وسائقه الخاص عبد الواحد بولعيش، علاوة على الطباخ عبد الوهاب أو البشير العطار رائد فرقة جقجوقة الموسيقية أو المخرج السينمائي مومن السميحي. سوف يلاحظ القارئ في السياق نفسه إن بول بولز تجاهل عامدا الإشارة إلى مبدع "الخبز الحافي" الكاتب الراحل محمد شكري على الرغم من التاريخ الطويل الذي اشتركا في كتابته.

غشت 19، 1987

الجو صحو وقد سرت مشيا في اتجاه شاطئ مرقالة. كانت ريح الشرقي تهب بعنف وتتسبب في زوابع من الغبار على امتداد الطريق. كان ثمة على الشاطئ مئات من الأطفال الصغار، ولم يكن ثمة أي وجود لأشخاص بالغين. كان الأطفال يتصارعون فيما بينهم بأغصان طويلة من الطحالب البحرية. كان ثمة انبعاث ملح لرائحة مياه الصرف الصحي من الجهة الغربية من الشاطئ. كانت الأميرة فاطمة الزهراء على صواب حين أقدمت على منع العموم من السباحة والاستجمام في الشاطئ. لكن هذا القرار تم في غمرة وباء الكوليرا الذي عصف بالمدينة. أفكر في الرسالة التي جاءت من باريس والتي تخبرني فيها أن دار كي فولتير لا تأذن لي بمراقبة بروفات الكتب التي كانت قد نشرتها. لم أطلب من جهتي إطلاقا الحصول على أية بروفات، وإنما كنت راغبا فقط في تفقد المخطوطات المرقونة قبل دخولها النهائي إلى المطبعة. وقد وصفوا طلبي بأنه "مغالاة في المشروعية" عثرت بوفي على الألفي جنيه إسترليني وجواز السفر مدسوسين في إحدى زوايا الشقة.

20 غشت

أديت ثمن زيارتي الأخيرة إلى القنصلية الأمريكية، وتسلمت نسخة من وصيتي التي تم الاحتفاظ بها لي. شاحنة نقل قبالة الإقامة. جاء لزيارتي بعد الظهيرة السيد الجباري الذي يحضر أطروحة دكتوراه في جامعة السوربون. ر فض اقتراحه الأول المتمثل في حياة وأعمال بول بولز. لكنه عمد إلى الاستعاضة عنه بعنوان" الرعب والعنف في أعمال بولز، فحظي بالموافقة؛ وهو ما أعتبره سلوكا مثيرا للسخرية. جاءت بعد ذلك كلود طوماس وهي متوترة بفعل العقود الجديدة لدار كي فولتير والتي بعثت بها إليها كي تقوم بتوقيعها. وأتمنى أن لا يتحقق احتمال أن ينفذ صبرها معهم وأن ترفض بتأثير ذلك ترجمة أية أعمال لاحقة. وأعترف بأنني أعول عليها بشدة في ترجمة روايتي "فوق العالم" .كتب لي بورجوا قائلا إنه يتوقع أن تتكفل أيضا بترجمة الكتاب الذي يحوي رسائل جين.

25 غشت

أستغرب كيف يمكن للمرء أن يحتمل الغضب حين يفور ويزيد عن حده. جاء ل على امتداد ثلاثة أيام لقضاء فترة الزوال كاملة. جاء مرتين أو ربما ثلاث مرات قادما من بوسطن حيث يقيم وحيث هو منشغل بمشروع سيرتي الذاتية الذي رفضته منذ الوهلة الأولى وقبل أن يشرع فيها. ويعرف ويدنفيلد أن هذا الرجل غير حاصل على ترخيص بالبدء في هذا المشروع، وقد أخبرته بأنني لن أمنحه أية مساعدة. وقد كف على الأقل عن طرح الأسئلة. الحوار معه أشبه ما يكون بحديثك مع الطبيب مباشرة بعد أن يخبرك قائلا: نعم. أنت مصاب بالسرطان. ثم يردف بعد ذلك قائلا: والآن لنتحدث عن موضوع آخر. أتساءل إن كان يعرف في أعماقه كيف أحس بأنه يسخر من آمالي وتوقعاتي. قطعا لا. وما دمت لا أنبس ببنت شفة ولا أفصح عن أي شيء، وبعد انصرام كل هذا الوقت، فإنه لن يحس بأي شيء.

29 غشت

ودعني ل هذا المساء، وسوف يغادر غدا. ويقينا إنه لم يتقدم قيد أنملة في ترتيبات مشروعه. كان يتحدث على امتداد ست مساءات مع محمد المرابط بشكل حصري. وأعتقد الآن أن ل سوف يكون بالضرورة أكثر تأهيلا للكتابة عن محمد المرابط من أي شخص آخر.

1 سبتمبر

أخبرني وكيل جين في نيويورك أن الجمعية الفرنسية للمؤلفين ترفض منحي أية مستحقات مالية عن أعمال جين بولز ما دمت لم أقدم أية وثائق تثبت أنني الوريث الشرعي. لقد بدأت المشاكل مع صدور "المنزل الصيفي" ووحده كتاب "ملذات هادئة" الذي صدر وانتشر بين القراء دون إثارة شائعات. غير أن المسرحية تم عرضها. ويبدو أن الجمعية الفرنسية للمؤلفين تعتبر الراديو والتلفزيون بحاجة ماسة أكثر إلى المراقبة. والمال الذي يدرانه يستوجب ذلك...

سبتمبر 11

وأخيرا رأيت فيلا المرابط في المرايح "خيريز تؤثر نعت المكان بشارشومبو" وكنت مندهشا وأنا أرى أنه يدمج منزلين في بناء واحد.. قال جون برنارد الذي كان بمعيتنا إن الأمر طبيعي، وقال إن ذلك يتعلق بترتيب عادي ومألوف في فرنسا. وأرى بطبيعة الحال إنه موجود هنا أيضا على الرغم من المسافة القصية. بيد أن الحيوانات تصرخ والأغنام تثغو علاوة على الروائح العطنة التي تجلب أسراب الذباب. لا أستطيع فيما يخصني أن أتخيل إمكانية أن يكون هذا المكان قابلا للعيش.. ومهما يكن، وعلى الرغم من كل الحماس الذي قد تفصح عنه خيريز، فإنني لا أعتقد أنها سوف تعيش في هذا المكان طويلا.

سبتمبر 14

أتأمل الآن السؤال الذي طرحته صحيفة ليبراسيون قبل سنتين على الكتاب: لماذا تكتبون؟ كي أعاين الإجابات الغالبة. أشارت قلة من الكتاب إلى أهمية الحاجة إلى المال بوصفها دافعا إلى ممارسة هذه المهنة. أكد العديد منهم أنهم لم يكونوا يتوفرون على أية فكرة حين باشروا فعل الكتابة. غير أن الغالبية أجابت بأنها تكتب بتأثير قوة فطرية لا يمكن تجاهلها. أما الأكثر شكا من بين هؤلاء، فلم يترددوا في القول أن الرضا الرئيس الذي يحسونه يتمثل في الإحساس في أنهم يعيشون جزءا من ذواتهم وبعبارة أخرى، فإن الكتابة يتم الإحساس بوقعها بكونها تمنح نوعا من الخلود.. يمكن لهذا الزعم أن يبدو مفهوما في وقت مضى حيث كان يتم القبول بفكرة أن الحياة على كوكب الأرض سوف تستمر إلى ما لا نهاية. والآن وقد أصبحت هاته التوقعات مثار شك، فإن الرغبة في ترك أثر يتمثل في الكتابة يبدو عبثا خالصا. وعلى الرغم من أن النوع الإنساني يجاهد كي يعيش مائة سنة، فإنه يبدو من غير المعقول إن كتابا ألف عام 1990 يعني شيئا بالنسبة لمن يحدث أن يقرأه عام 2090، وهذا على افتراض قدرته على قراءته كاملا.

أكتوبر 3

هاتفني بالأمس رجلان يعملان في بنك الوفاء لكي يخبراني بأن بحوزتهما رسالة تخصني وسألاني إن كان في مقدوري أن أمكنهما من رسمين للفنان اليعقوبي من أجل المشاركة بهما في أحد المعارض وأنهما ينويان إعادتهما في أجل أقصاه شهر.. قلت لهما إنني لا أملك أية رسوم لليعقوبي، وإنما فقط لوحات زيتية، وكان أن أجاباني بأن الاختيار وقع تحديدا على الرسوم. وعوض أن أتردد وأن أقول: آسف، لكنني لا أملك أية رسوم، فإنني أردفت قائلا: كنت أملك بالفعل رسوما، ولكنها سقطت خلف خزانة الكتب في هذه الغرفة أو تلك، ولا قدرة لي على معرفة أية غرفة وأي ركام من الكتب، وأنني لا أنوي على الإطلاق أن أزحزح هذا الركام الثقيل من الأشياء كي أبحث عن الرسوم.. كانت فكرة سيئة؛ إذ اقترحا علي التطوع بإفراغ رفوف المكتبة. كان الأمر يتعلق بآلاف من الكتب. وقد حلا بالمنزل هذه الظهيرة كي ينجزا هذه المهمة. تحدثت في الوقت نفسه، مع عبد الواحد والمرابط، ونصحني كلاهما بأن أحول بينهما وبين البدء في البحث. وسوف يستغرق ذلك على أية حال عدة ساعات.. بيد أن عبد الواحد والمرابط كانا متفقين على الحقيقة التي مؤداها إنه إذا حدث وتم العثور على الرسوم، فإنه لن يتاح لي أن أراهما بعد ذلك على الإطلاق. علي إذن، الآن، أن أجابه موظفي بنك الوفاء وأن أقول لهما إن المهمة مستحيلة.
ثمة حدث آخر سمج ويتمثل في قدوم طاقم قناة الإذاعة البريطانية بي بي سي أسبوعا تلو آخر من أجل إنجاز ذلك الحوار معي. لقد بذلت في هذا المسعى جهدا خارقا بسبب صوتي المتلاشي أو المفقود, تصر بوفي على أنني مصاب بسرطان الحنجرة وتحس بنفاذ صبر حيالي بسبب رفضي الذهاب لجلسات العلاج بالأشعة.

أكتوبر 13

تقول جروترود ستين: عندما يموت اليهودي، فإنه يموت حقيقة. والحال أنها كانت وأليس طوكلاس يهوديتين سيئتين. كانت جروترود من الأتباع السريين للكنيسة المسيحية السيانتيسية، أما طوكلاس، فاعتنقت العقيدة الكاثوليكية في آخر آيامها. هل يتعلق الأمر بردة؟

أكتوبر 16

قبل ثلاثة عقود ونصف، خاطب سعيد الكوش جين بولز وكان يعلمها اللغة العربية: لقد اختفت كل مقومات طنجة. كان على صواب فيما قاله وكلامه يسح بالدلالة.غمر النسيان كل المقومات التي كانت تضفي الحسن والملاحة على المدينة. قامت الجرافات باقتلاع كل الغابات التي كانت تحيط بالمدينة، فيما اختفت كل الأشجار. وليس ثمة من شخص يندهش لهذا التحول. وينبغي للضواحي أن تنتقل إلى مكان آخر . غير أن ربات الفيلات الفاخرة في هاته الضواحي يقذفن بفضلات المطابخ من النوافذ ويبعثن بخادماتهن كي يقذفن بأكياس القمامة عند باب أول منزل قريب، وليضاعفن والحالة هاته ركام النفايات الموجودة هناك. عادت بوفي إلى نيويورك...

أكتوبر 31

عشرون امرأة وصبية وينيف يقصدن على ما يبدو صوب حفل زفاف. كن يسرن على الشارع وهن يضربن على المزاهر والدفوف كانت جماعة من الأولاد في أثرهن، وكانوا يقذفونهن بالحجارة. الخصومة بين الجنسين تبدأ في وقت مبكر.
لم يكن في طريقهن إلى حفل زفاف.، وقد جلسن جميعهن على الأرض فوق التلة المقابلة لنافذة غرفة نومي.

نوفمبر 10

قام مومن السميحي بإطلاق فيلمه "المرآة الكبيرة" للعرض لمدة أربعة أسابيع، وقد زارني بالأمس كي يذكرني بأنه يرغب في أن اشارك صحبة المرابط في مشهد البار ليس باعتبارنا كومبارس. كان هادئا وهو يردف قائلا إنه يرغب في أن نتبادل الحديث. ذكرته بأن حوارا من هذا القبيل ينبغي أن يتم باللغة الإسبانية. اقترحت عليه أن تكون خيريز دي لا فرونطيرا بديلا عن المرابط الذي يمكنه أن ينضم إلى جوقة المغاربة الجالسين في البار. وافق السميحي على اقتراحي، وأخبرني بأنه سوف يهاتفها في الفندق بعد خروجه من هنا.قال لي إنه ينبغي علي أن أكون في بالاس في تمام الساعة الثانية بعد الزوال. وكان أن ذهبت في الموعد المحدد في لباس السهرة. كان المكان مغلقا، والجو باردا في الخارج. انتظرنا إلى حدود الساعة الثالثة والنصف. وفي تمام الساعة الرابعة، عدت بمعية خيريز مشيا على الأقدام كي نبحث عن الملهى الليلي الذي كان ما يفتأ مغلقا، ولم يكن ثمة ممثلون في الأفق. تكفل جون كابان بنقلنا بالسيارة إلى المنزل في الساعة الخامسة والنصف وفي حوالي الساعة السادسة، جاء مومن السميحي معتذرا. وسوف يكون وفيا لعادته؛ إذ حاول إقناعي بالعودة معه إلى بالاس؛ وهو ما رفضته. غادرنا عقب ذلك، فيما تناولت صحبة خيريز طعام العشاء.

فبراير 13

ذهبت صحبة عبد الواحد ورودريغو بالسيارة إلى أعلى نقطة في مديونة ونحن نحمل القفص، وكان لزاما علينا أن نرتقي صخورا ذات حواف مدببة كي نصل إلى هناك، وقد ساعدني عبد الواحد في هذا المسعى.. وعندما فتح القفص واقتنع البازي بإمكانية الخروج، قذف به رودريغو في الفضاء ولبثنا نترقب تحليقه. كانت ريح الشرقي تهب بعنف وتحول بينه على ما يبدو وبين التحليق عاليا طار في اتجاه واحد صوب الجهة الغربية الشمالية فوق غابة الصنوبر، وكأنه كان عارفا بالوجهة التي كان يصبو إليها. كانت الريح تصفر رويدا رويدا وكنت أحس بالبرد وهو يتخلل عظامي، وكان أن عدت إلى المنزل و استلقيت فوق السرير.

فبراير 20

عاجز عن الحركة بسبب البرد الذي ألم بي ونحن نطلق سراح البازي في الجبل. ل كاتب سيرتي العنيد والمثابر رتب حفلا لموسيقاي وأدرجه في مهرجان مانكا في مدينة نيس الفرنسية بتاريخ 3 أبريل. كان من الصعب علي أن أفصح عن جفاء وهو يفصح عن لطف ولباقة لا حدود لهما حيالي. وقد عرض علي أن يأتي من بوسطن إلى طنجة، وأن يستقبلني إذا رغبت بالسفر إلى نيس والحضور في المهرجان. غير أنني لن أذهب؛ إذ بلغت من الكبر حدا لم يعد في مقدوري معه أن أتصرف كما لو أنني أبدأ من الصفر.

مارس2

ذهبت إلى بنك الوفاء كي أفصح عن قلقي على لوحات الفنان أحمد اليعقوبي، وهي موجودة الآن في الدار البيضاء، وسوف يستمر المعرض إلى حدود شهر أبريل أو شهر ماي.. يعتقد عبد الواحد ومحمد المرابط أن هذا المعرض لا يعدو أن يكون تحايلا أو توهما، وأن اللوحات تم بيعها، ويبدو أن الأمر ليس صحيحا.

مارس11

المنزل الذي من المفترض أن المرابط بناه لخيريز دي لا فرونطيرا اكتمل أو هذا ما يقوله. لكن يبدو الآن أنه لا ينوي تمكينها منه، ويبدو أبضا أن مبلغ ثمانية آلاف درهم الذي سلمته إياه قبل عودتها إلى نيويورك قد استغله بطريقة غير مسؤولة، ويمكن لعمري وصفه بالسلوك الإجرامي، وهو ما يتمثل في بناء حظيرة لدوابه. والمنزل الذي شيده فوق الحظيرة يساوي من حيث قيمته المادية أربعة أضعاف وربما أكثر المال الذي ألححت في طلبه خصوصا بعد الخصومة الكبيرة مع خيريز بعد عودتها إلى طنجة. كان المرابط قد سألها أن تجلب مزيدا من المال، لكنها لم تستجب؛ وهو ما جعله يصاب بنوبة غضب حادة وأن يطبق القاعدة المعروفة: اهجم قبل أن يتم اتهامك- قال لها إن المنزل ليس ملكا لك. وقد شرع في تجهيزه وهو يردد قائلا إنه سوف يقيم فيه. لا أعتقد شخصيا في إمكانية ذلك ما دام المنزل لا يتوفر على الماء أو الكهرباء أو قنوات للصرف الصحي. ولن يكون في مقدور أي منهما أقصد المرابط وخيريز أن يعيش فيه. سوف أنتظر عودة الجو اللطيف لأخرج لزيارة المكان. أعترف بأن بداخلي فضولا إلى ذلك.

أبريل 19

لا أحد على يقين من الموعد المحدد لحلول الفاتح من شهر رمضان. ونحن نحيط علما بذلك في الليلة الأخيرة حين تعلن الصافرات بداية الصيام.. هو ذا الشهر الثاني من رمضان الذي يتم الاعلان عنه بالصافرات عوض طلقات المدافع. ويمكنك أن تستفسر إن شئت عن السبب. وتكفي طلقة مدفع واحدة كي تلفي نفسك فجأة في البلاد التي يحرم فيها كل شيء. ويقولون لك إنه مع ضغط ووطأة حركة المواصلات، فإن طلقة المدفع سوف تكون عصية على السماع. ويمكن لذلك أن يكون صحيحا في فترة الغروب، لكن المدينة تكون صامتة بعد الساعة الرابعة والنصف صباحا. بيد أن المثير للعجب يتمثل في أن لا أحد من المغاربة المسلمين تحدث عن هذا الإزعاج الصوتي المتمثل في استخدام هذه الصافرة الحادة للإعلان عن يوم الصيام المقدس.
يلزمني كل سنة أن أذكر نفسي بضرورة تحذير الزوار الذين يأتون لاحتساء شاي المساء صحبتي بأنه يلزمهم المغادرة قبل غروب الشمس. يلزمهم أن يلوذوا ببيوتهم في الساعة التي تعقب ذلك. ذلك أنها الأنسب لمهاجمة الأجانب بحكم أن الشوارع تكون حينها خالية تماما من السابلة. وليس ثمة من وجود لسيارة أو راجل أو عون شرطة في أي مكان في المدينة. واحدة من ضيوفي وهي سيدة أمريكية مسنة طرحت أرضا وأشبعت ركلا ورفسا ثم سلبت من أغراضها قبالة شقتي. أحس بالذنب بفعل إقامتي في فضاء تكون فيه هاته الأشياء بطريقة أو بأخرى مسموحا بها. بيد أن إحساسي الحقيقي بالذنب يتمثل في ما الشعور الذي ينتابني في حضور المسلمين وهم يتألمون فيما لا أشعر بأية معاناة. أجدني مرغما حين أكون موجودا في المنزل على أن أتناول الطعام أو أحتسي شرابي في حضورهم. وهم يعمدون دائما إلى الزعم بأنهم لا يتأثرون لرؤية شخص يتناول الطعام في حضورهم. يخاطبونني حينها قائلين إنه إن كنت راغبا في الطعام فما علي إلا أن أفعل دون حرج. ولم يسبق لأحد منهم أن قال لي إنه لا ينبغي لي أن آكل. هذا صحيح، بيد أن الضغط الاجتماعي من القوة بحيث إن رؤية شخص متلبس بانتهاك الصوم أثناء النهار من شأنها أن تؤدي إلى اعتقاله فورا وإيداعه السجن.
يقولون إن الشعور بالظمأ أشد إيلاما من الشعور بالجوع. أما المدخنون فيصبحون عصيين على الاحتمال في الأيام الأولى.ويرتفع إيقاع المعارك والمشادات بين الأشخاص مع كرور أيام هذا الشهر، لكن لا أحد يقبل بفكرة أن رمضان هو السبب في حدة المزاج هاته. يقول عبد الواحد: إذا كنت ستصبح سيء أو حاد المزاج بسبب رمضان، فإن صيامك يصبح فاقدا للقيمة، ويكون حينها من الأفضل أن تتجنب الصوم إطلاقا. ومهما يكن، فإنه يحلو لهؤلاء أن يكونوا عنيدين، وأنا أحاذر ما وسعني الأمر من معارضتهم أو انتقادهم..

أبريل 23

رمضان يجعل كل شيء صعبا. وقد أبان المرابط مرة أخرى عن تأثيره الناري عليه. أعرف أنه ينفر من عبد الوهاب منذ البداية، لكن ما أن حل رمضان حتى أصبح من غير الممكن بالنسبة إليه أن يتصرف بطريقة عادية. وعليه، فما أن رأى عبد الوهاب وهو يأكل ويدخن عوض الالترام بالصيام، فإن نفوره تحول بأسرع من لمح البصر إلى هياج. جاء هذا المساء وألفى عبد الوهاب جالسا فوق الوسادة وهو يحتسي كأسا من الشاي. أمسك بالطاولة ورفعها بشدة فاندلق الشاي وغير ذلك فوق عبد الوهاب. ورافق هذه الحركة شلال من السباب باللغتين العربية والإسبانية: أيها الشاذ. أيها اليهودي. ماريكون، مييردا. وقفت صغرى بناته التي سوف تبلغ الخامسة من عمرها في الأسبوع القادم بينهما وهي وضع الذهول التام. وسوف تتكرر هاته المشاهد حتى ينتهي شهر الصيام، ما دام عبد الوهاب يأتي كل ظهيرة ليجهز لي طعام الغذاء، ولن يكون في مستطاع المرابط التخلص من فكرة أنه لن يلتزم بصوم رمضان..

أغسطس 23

اصطحبت باتريسيا هايسميث إلى شاطئ أشقار. شربنا البيرة في المقهى التي شيد فوق المغارات. هايسميث امرأة لطيفة المعشر. ولأنها كانت في أسوأ حالاتها، فقد ارتأت الخروج. وأنا خائف من أنها لا تستطيب مقامها في طنجة. كانت بوفي مريضة، وقد انعزلت بتأثير ذلك داخل غرفتها، بحيث إن ضيفتها أصبحت حرة في أن تتصرف وتتحرك على سجيتها.

أكتوبر7

حاولت دار كي فولتير إقناعي بالسفر إلى باريس والمشاركة في برنامج أبوستروف. وقد قاومت لفترة طويلة بنجاح. بيد أن دانييل روندو حل بطنجة قادما من باريس في محاولة لإقناعي بالأهمية البالغة لهذه المشاركة بالنسبة لمستقبلي في الكتابة. سوف يتكفلون بكل المستحقات المادية المترتبة عن هذا السفر، لكن المشكلة تكمن في الطريقة التي سوف أنتقل بها إلى هناك. لا رغبة لي في ركوب الطائرة – لم أفعل منذ أربعين سنة- يمكنني أن أستقل الباخرة إلى مدينة سيت، ثم تتكفل سيارة وسائق بإيفادي إلى باريس. تبدو الطرق من الناحية الإحصائية في فرنسا أكثر أمانا من الطائرة. أتساءل عن الغاية من هاته اللقاءات في 0التلفزيون، وخصوصا حين لا يتم دفع مستحقات مادية؟ يقول روندو إنه من واجب الكاتب أن يمكن جمهوره من رؤيته، لا أن يكتفي بالحديث الذي يشبه محفزا على زيادة المبيعات. لم أعد بشيء، وكان أن قفل عائدا إلى باريس. بعد أن انتهى من وضع اللبنات الأولى لبحث عن فصل شتاء عشته في كي فولتير قبل ثمان وخمسين سنة. هل يمكنني أن أنجز هذه المهمة ؟

سبتمبر 4

يتوقع وصول باخرة الملك من طرابلس اليوم. وعليه، كانت جل المحلات والشوارع والأزقة مغلقة. أغلق السوق وأحاطت المتاريس بالشوارع. وكان لزاما علينا أقصد أنا وعبد الواحد أن نسلك اتجاهات عدة بين البرك الموحلة وركام من الأتربة كي نصل إلى فندق الموحدين. المدينة في حالة تشتت، وثمة عمارات تنبت مثل الفطر وفي فوضى. خضعت في فندق الموحدين حيث يوجد مقر شركة الصحراء، لجلسة قياس من لدن مصمم أزياء الفيلم الذي يوجد حاليا في لندن. أية أنواع من الملابس سوف يتم تصميمها لشخصي، وفي أية مشاهد سوف يكون لزاما علي أن أرتديها؟

سبتمبر 5

آلاف من المواطنين ينتظرون قرب الواجهة المطلة على البحر الباخرة الملكية القادمة، لكن دون جدوى. وفي الليلة الفارطة وفي غمرة عاصفة عاتية علا زهيمها، وصلت الباخرة وسرعان ما انسل الملك إلى قطاره الخاص قاصدا العاصمة الرباط. لا هو ولا أي عضو في الحكومة يمحض ساكنة طنجة وتطوان أية ثقة، وليس ثمة من بينهم من يحفل بالقدوم ومد يد العون. لم أفهم على الإطلاق سر هذا العداء الرسمي حيال تطوان وطنجة، غير أنني أرتاب في من يقول لي إن لهم دوافعهم وأسبابهم الشخصية. عدت إلى فندق الموحدين بعد الزوال وبحوزتي رسالة لبرتولوتشي. هاتفني وأنا هناك من تافيلالت حيث أخبرني بأن الحرارة مرتفعة وبأنه في طريقه إلى بلعباس في الجزائر. أردف قائلا: سوف تكون الحرارة هناك أشد..