في حصار بيروت 1982:

فواز طرابلسي

(لبنان)

تشاركت ومحمود درويش أياما كثيفة لا تنسى خلال حصار بيروت صيف 1982. التقينا في شقة صديقه غانم زريقات. والتقينا في شقتي في حي الملّا، وكانت مركزا للرفيقات والرفاق خلال الحصار. فيها شاهدنا فيلمين معبّرين جدا عن حالتنا، أو حاجتنا، في تلك الفترة، «عمر المختار» لمصطفى العقاد و«عز الدين القسام» الأقل جودة ومن انتاج منظمة التحرير الفلسطينية. ولما انتقل محمود من شقته إلى فندق «كاڤالييه» المتفرع من شارع الحمرا تحولنا إلى الفندق وفيه ماء جارية وبيرة باردة وعازفة بيانو في البار. ذات مرة اصعدنا انا وسعدي يوسف إلى غرفته وقرأ علينا أبياتا من «مديح الظل العالي» قيد التأليف: «اقرأ باسم الفدائي الذي خلقَ/من جزمة أفقَ». كم بدت مريرة وصادمة ومتألقة تلك الكلمات حينها.
وفي ذلك الفندق كان الوداع بحضور عدد من أعضاء «الفيلق العربي» من مناضلين ومثقفين جاؤوا من أطراف العالم العربي للتضامن مع المقاومة الفلسطينية وبعضهم قاتل في صفوفها. دارت الأحاديث عن موعد المغادرة ومقصده وواسطة الانتقال، برا أو بحرا. قرر محمود أن لا يغادر: أنا شاعر ولست مقاتلا. عند احتلال القوات الإسرائيلية بيروت، انقطعت عني أخبار محمود. إلى أن علمت انه غادر سالماً عن طريق الجو.
التقينا مجددا في باريس. هو انتقل إليها مباشرة وأنا جئتها بعد عامين، عندما قررت مغادرة العمل الحزبي واستئناف الدراسة. في باريس سكن في «ساحة الولايات المتحدة» في حي راق من باريس 16، يجاوره تجار أسلحة عرب. نزوره في شقته البيضاء الأنيقة، نضغط على زر الإنترفون: «انا يوسف، يا أبي» تيمناً بإحدى القصائد التي افتتح بها مرحلته الشعرية الجديدة. في باريس، نمت صداقة ونضجت صحبة فاروق مردم بك والياس صنبر وجوزيف سماحة وآخرين. دعاني للانضمام إلى أسرة تحرير مجلة «الكرمل»، ونشر لي كتابي «غيرنيكا-بيروت». كتبت عن تلك الفترة بالتفصيل في رثائي لمحمود بعنوان «ذكاء القلب» ولن أكرر. أكتفي بالقول إن معادلة «ذكاء القلب» عندي تختزل محمود درويش الشاعر والإنسان.
ما لم أكتبه هو مرافقتي لمحمود خلال كتابة «ذاكرة للنسيان. سيرة يوم واحد. الزمان: بيروت، المكان يوم من أيام آب 1982» (1987). حبس نفسه لأسبوعين في البيت. أنجز المخطوطة جرة واحدة وسلّمني إياها. منذ أيام عثرت على الأوراق الثلاث المؤرخة بتاريخ الاثنين 18 آب (أغسطس) 1986، التي دوّنت عليها مقتطفات وملاحظات أود أن أشارك القارئ بالبعض منها.
القهوة-الفاتحة. كان على محمود درويش أن يبرأ من صدمات بيروت ليكتب عن بيروت نصه النثري الأكثر تألقاً ودرامية. ولما شرع في الكتابة، كانت الفاتحة صفحات لا تنسى عن طقسه المقدّس في صنع القهوة: القهوة، «أختُ الوقت»، «صوت المَذاق» و«صوت الرائحة».
الماء: الحرب تهمّش حتى الشِعر، يقول: «تنكة من الماء تساوي وادي عبقر». قد لا يكون هذا هو السبب الوحيد لاختياره النثر على صنعة أهل عبقر. ولكن المؤكد أن ما من ظمأ يضاهي ظمأ تلك الأيام من آب اللهّاب. صار صوت الماء هو الحرية. على العطش يستنجد الشاعر بأسماء الماء الحسنى عند ابن سيده، كمن يتمتم صلاة استسقاء. حتى أنه يعرّج على الخلاف الفقهي حول عبارة «وكان عرشه على الماء» في الآية: مَن خلقه اللهُ قبل الآخر، العرشَ أم الماء؟ والماء هو البحر والفدائي، الذي يسأل محمود ماذا يقصد بالبحر في شعره، لامس فزع محمود الأسطوري من اليمّ.
الحصار: يرتقي التعبير نثراً عن الغزو والحصار الإسرائيليين إلى المستوى التوراتي مثلما سوف يرتقي إلى مستوى التعبير الملحمي في قصيدة «مديح الظل العالي». القنبلة الفراغية خارجة من سفر يشوع وتدمير بيروت قرين تدمير أريحا. ومناحيم بيغن يتقمص الملك سليمان باحثا عن ملك صور ليوقّع معه معاهدة سلام. لكن التظاهرات العارمة في تل أبيب ضد غزو لبنان لا تثير لدى محمود أي حماس أو تعاطف. «إسرائيل تسرق منا كل الأدوار: فمنهم القاتل ومنهم الضحية». يفضل أن يكون بين المنتصرين ولو كان الثمن ان تخرج تظاهرات الاحتجاج ضده.
أصدقاء الحصار: يعرفنا بالبعض ويخبّئ البعض الآخر، أو هكذا يظن. في كل الأحوال، لن أكشف ما قرر ستره. ابن عمه سمير درويش، أول ضحايا القصف الإسرائيلي للمدينة الرياضية يوم الرابع من حزيران (يونيو). جاره ألبير أديب وزوجته؛ شاعره «ي»، الذي انتقل من دائرة الري في بغداد إلى دائرة الدم في بيروت؛ صديقه وزميله «س» الذي يمارس نقد النقد بالعضلات؛ «صديقنا الكبير فـ«؛ «الحلزون»؛ «الطاووس العجوز»؛ «الجرادة»؛ «م» الذي يستحضر معه ذكرى عزالدين قلق؛ «بسام» و«الصنم» الساكن عنده؛ و«ز» و«هاني» وحكاية الصيّاد الذي يريد العودة إلى «الحمامة»، وأساتذة وأدباء ومستشارون، وغيرهم.
حضرت النساء طبعاً. خرجت المرأة اليهودية من المنام، و«هـ» التي تكره الفلسطينيين وتحب بشير الجميل؛ و«ج»، خصوصا «ج»، «مطلع الجنون وجهنم والجنة» ومعها حضرت «جميع الشهوات المنتصرة على حرب بجماع لا يتحقق الا في الخوف من الموت». في الحصار، تحضر المرأة بأل التعريف ليسألها الشاعر «كم امرأة انت؟». كأنه في امرأة واحدة أحب كل النساء أو كأن محمود يطرح على نفسه سؤاله الدائم عما إذا كان فعلا قد أحب في حياته.
ومحمود مصمم على مقاومة الحصار بكل الوسائل. جزمة الفدائي لا تسدّ الأفق على الحذاء النسوي وهذا بدوره يتسامى كما لا حذاء: «والحذاء العالي يغيّبُ القدمَين في أهبة الرقص فوق الدخان المتصاعد من رغبة محروقة. والحذاء العالي يتلع الجِيدَ كلحظة انتفاض الخيول على هاوية». وبالحب تكون المقاومة ولو كان نزوة، «نزوة هي مجال الشاعر في التباس التشابه بين المرأة والأغنية». امتنع عن المجامعة خلال فترة الكتابة ليستحضر شبقه زمن الحصار. وهذا ما تيسر من آياته «لا أعرف إن كنت أحبك ما دمت أخبّيء دمي تحت جِلدك وفي شُعيرات السِرّ المقدّس أذرف عسلَ النحلِ الأحمق».
بيروت: ليست فقط خيمته ولا هي فقط نجمته، وحيدتين أو أخيرتين. بيروت حِيرته. هل يحبّها؟ السؤال كاف بتأمين ديمومة الحيرة. على الشاعر أن ينتج وصفات ومعادلات وصيغا لا متناهية لتبديد حيرة لن تتبدد:
بيروت، عاصمة الأمل؛ بيروت، الشارع الأخير الخارج عن هندسة الطاعة.
بيروت الحرب الأهلية حيث النافذة تعادي النافذة التي تواجهها. بيروت «هوية المعارضة العربية لنظام البطش العربي»؛ بيروت-الحرية «رئة يتنفّس منها نفر من البشر، بينهم القاتل والقتيل»؛ بيروت المتعددة ـ «حالة. فكرة. إحالة. زهرة خارجة من نص. فتاة تربك المخيلة» ـ تحيله إلى «بيروت غناء الفوارق والفروق» قبل أن يعلن العاشق الاستسلام: «لا بيروت في بيروت»!
والحصار، الموشك على هزيمة أخرى، طرح الأسئلة الكبيرة التي حشرت نفسها هنا أيضا في ذلك اليوم-المكان من آب 1982…
دور الأدب والأدباء. «وإذا كنا نشكو التقصير في القدرة على اتقان لغة الناس، في العملية الإبداعية، فإن ذلك لا يمنعنا من الإصرار على التعبير عنهم لنصل إلى لحظة يحقق فيها الأدب عرسه الأكبر، حين يصبح الصوت الخاص هو الصوت العام. نعم إن للأدب دورا… وإن انقطاع التفاعل بين النص وبين الذي يتحول النص ـ فيهم ـ إلى قوة هو اغتراب الأدب الذي يصفّق له الآن المبشرّون بالهزيمة النهائية لكل شيء». مقطع كأنه تطبيق لـ«أطروحات عن فيورباخ» لكارل ماركس!
نقد النقد والنقد الذاتي. الشاعر لا يرحم أحداً في المسؤولية عن التجربة الفلسطينية في لبنان. لا أبو عمار ولا جورج حبش ولا مثقفين لبنانيين في انكفاءتهم الطائفية. انحيازه إلى الفدائي الفلسطيني: «المدجّج بجهل خلاق بموازين القوى… الذي يصحح لغة العرب». أقنعه مثقفون بأنه بديل السائد «وحين انقضّ عليه السائد طالبوه بالنقد الذاتي لأنه أفرط في الوطنية… إلى درجة الخروج من حظيرة السائد».
يقول فلاديمير ماياكوفسكي إن الحياة تطرح علينا مشكلات عملية لا حل لها إلا بواسطة الشَعر. يمكن النظر إلى تعاطي محمود درويش مع وقائع وتداعيات وموحيات التجربة الفلسطينية في لبنان على أنها محاولات متعددة لتطبيق تلك المعادلة.
النقد الذاتي واجب: لم نفهم لبنان. لم نرَ منه «غير صورتنا على وجه الحجر المصقول». يليها: لا أحد يفهم لبنان. هل هذا تهرّب من تحمّل المسؤولية أم محاولة في الفهم بعمق: ألأن الواقع المفكك لا يُدرَك أم لأن الوعي المفكك لا يُدرِك؟ لا جواب. بل معادلات يحق للشِعر وحده أن يجيزها لنفسه. «ماركس واقفا على رأسه، معيداً هيغل للوقوف على قدميه بأدوات ماكيافيللي الذي أسلَمَ على باب خيمة من خيام صلاح الدين».
لا يكفي. في الوعي إدراك عميق لتناقضات فلسطين. «لماذا يكون الوطن اللبناني منافياً لفلسطين؟ لماذا يصير الرغيف المصري منافياً لفلسطين؟ ولماذا يصبح السقف السوري منافياً لفلسطين؟». أسئلة تكتسب راهنية متزايدة بعد الانتفاضات العربية، وتفسح مجالا للتفكير في نسج العلاقات المتجاوزة للمتنافيات. أسئلة تصفع تبسيطية «القضية المركزية» و«يا وحدنا» و«فلسطين البوصلة» وما نسج على منوالها. فماذا يتبقّى؟
«ذاكرة للنسيان». هل المقصود، في هذه المعادلة المستحيلة، استذكار التجربة الفلسطينية في لبنان ثم يطويها النسيان؟ أم المقصود انتشال ما هو منسيّ منها، أو ما يراد طويه بل طمسه، لاستحضاره من أجل استذكاره؟ يلعب محمود على الكلمات ولا يلعب، فيترك لنا مقاربة جدلية موحية.
«ذاكرة للنسيان» نقض لـ «تنذكر وما تنعاد»، المثل الشائع الذي أرسى نهجا كاملا في التعاطي مع الحروب والذاكرات الجمعية، قوامه أن تذكر العنف يمنع تكراره. نَقَضَ الزمنُ والتاريخُ هذا المعادلة ونقضها تطورُ العلوم المعنية بآليات اشتغال العقل البشري. والبداهة المخفية هنا هي أن كل عملية تذكّر، إنما هي عملية نسيان في الوقت ذاته. الذاكرة تنتقي من مجموع مواد تنطبع عليها ما تستبقيه، أتمّ ذلك بطرائق واعية أو لا واعية. أي أن الذهن البشري هنا يمارس عمليتين: يتذكر وينسى. من جهة ثانية، فالمرء لا ينسى إلا ما يعرفه، أي ما يتذكره. حيث النسيان، الفردي والجمعي، ليس سهوا أو فقدانا للذاكرة، بل هو قابلٌ لأن يكون عملية إرادية واعية. وثمة في ذاكرتنا الجمعية ما يستوجب النسيان بالتأكيد.
هكذا تستقيم المعادلة لتطرح السؤال الكبير في كل حالة: ما الذي يجب تذكره وما الذي يجب ان نتذكره لننساه؟
هذه معادلة تستحق ان ننقذها من النسيان!

---------------------------

القدس العربي- Aug 12, 2017