قال لي أحد الأصدقاء ذات مساء " أنت لا تجيد ابتكار حياتك الخاصة " كان محقا فيما ذهب إليه. لكني لم أرفض الحياة حينما استوقفني الشعر في منتصف الطريق, وجرني معه إلى الهاوية. لم أدرك هذا المعنى إلاَ مؤخرا, وذلك عندما وطأت قدماي الأرض الموعودة للأجداد . كنت مجردا من أسلحتي الطفولية إلاّ من الأحاسيس التي صنعتُ منها ما يقاوم الكلس في الأطراف , أو ما يقاوم الرغبة في الانعتاق من الحرية . المسافة لم تكن مجرد هذيان خارج التاريخ , لقد جربت ماذا يعني الخروج ؟! وعرفتُ أن الحياة ليست خروجا على الشعر, إنما الشعر كان هو خروجي الأكبر من الحياة إلى الحياة ذاتها. كان الصوفيون يسمون ذلك انخطافا وتوحدا حيث الافتتان بالباطن عندهم هو جوهر الأشياء في اللغة والسلوك . كان توغلي انفتاحا على المجهول , والأرض هي الأرض صخبٌ يولد من صخب , ونعاسٌ يولد من نعاس , وما بينهما قررتُ أن أغزو الكلمات بالمخيلة وكان " دون كيشوت " ملهمي الأكثر تغلغلا في الدم والحواس .
وهكذا جاء " رجل يشبهني " كعمل شعري يطارد اللغة ويعيد وصلها بالذاكرة وفق الرؤيا التي تقول أن الشعر ليس سوى مجرد كلمات في مختبر لغوي , كنت مدفوعا بهذا المعنى , حتى كادت حياتي أن تنفرط من بين أصابع اللغة , ولكن خفة الكائن " كما يعبر كونديرا " في نصوصي هي التي أعادة المياه إلى المصب , وحولت أغلب نصوص المجموعة إلى شرايين تنبض بالحياة . كان عملا بالنسبة لي في نهاية الأمر يتوجس التوغل في المسارات الملتوية لتجربة الإنسان في الوجود والحياة والتاريخ , وكان مبرري في ذلك هو قناعتي أننا كشعراء ينبغي اكتشاف عوالم الأرض مثلما علينا اكتشاف عوالم السماء وما بين هذا وذاك ثمة طائرٌ يعلو في الأفق هو ما أسميه الشاعر بامتياز . كنت محملا بهذه الهواجس عندما عبرتني فكرة إصدار مجموعتي الأخرى " أخف من الريش أعمق من الألم " كانت الفكرة مرعبة بالنسبة لشخص مثلي , لأني بكل بساطة لا أجيد التعامل مع الأمور التقنية والمادية لطباعة أي كتاب , لكن بالتأكيد ثمة أسباب أخرى أكثر عمقا مما أظن , يبدو لي الآن أنها تتصل بالعمق من رؤيتي للشعر , وهي رؤيا كانت ولا زالت تنظر إلى الشعر باعتباره قيمة طهرانية أرثوذوكسية لا يمكن تدنيسها أو العبث بكلماتها من خلال كتاب أو مطبوعة . هذه الرؤية المثالية في أغلب وجوهها ربما جاءتني من ثقل الموروث الديني على كاهلي عبر التاريخ . رغم هذا التوجس والخوف الذي يشبه المرض العصابي عندي , خرجت المجموعة الشعرية بين دفتي كتاب مثل رمح آخيل " أن يلأم الجراح التي يسببها بنفسه " . لقد وقعت في فخ الإصدار وهو دليل على أننا دائما نقع في شبكة الارتهان للشكل المادي للحياة , لكني سرعان ما غيرتُ زاوية النظر إلى المجموعة من خلال إحساسي العميق بمراحل الولادة والنمو لنصوصها المتنوعة الحساسية والشكل , وما واكب ذلك من شعور غريب كان ينتابني عندما أنهي كتابة قصيدة واحدة على الأقل. كان إيقاع هذا الشعور متدفقا مثل نهر جارف , بل ومتشظيا مثل مرايا في كل عضو من أعضاء الجسد , كان جسدي ممتلئا بالعزلة حينما فتحت صنبور الإيقاع على آخره , لذلك جاءت النصوص ممهورة بسمتين أساسيتين : الأولى إيقاع المكان , والثانية إيقاع الجسد , وما بينهما أصبحت أنا الرائي الذي يصطاد الحياة في ظلام دامس . ربما في كلا التجربتين الشعريتين لم أتخلص من وطأة الإحساس بالألم التي تشدُّ كلماتي إلى القاع , وتلونها بألوانه , أحيانا كنت أحيل السبب إلى جرح نرجسي , يستعصي على مخيلتي الإمساك به , أو تلمس أثره في ذاكرتي , لقد ذهب هذا الجرح , وأختبئ خلف براءة الطفولة , ولستُ قادرا على الكشف والهتك , وكلما حاولت كانت القصيدةٌ لي بالمرصاد حيث تأتي كمحاولة للخروج من مصيدة الأنا القابعة في أعماقي . أحيانا أخرى كنت أحيل السبب إلى الموروث التربوي العقائدي الذي علمني بامتياز أن الألم هو جزءٌ من هويتي , ومن تاريخي المفقود في التاريخ نفسه .لكني لن أجانب الصواب حينما أقول أنني كنتٌ واعيا بطريقة أو بأخرى لهذا الإحساس المركب والمعقد في نفس الوقت . كان شريط تجارب المبدعين عبر التاريخ الذين سبب لهم الألم الكثير من الإخفاقات والهزات النفسية في الحياة تعبر في ذهني وتجعلني أقف على أرض صلبة من خلال استعادة زمن المبدع وعلاقته بزمن الإبداع وتحويلهما عندي إلى رافد من روافد كتابة القصيدة في بعدها الخصوصي الحياتي , لذلك جاءت القصيدة عندي في " أخف من الريش أعمق من الألم " محملة بمفردة الألم ليس الألم العاطفي المشبع بالحس الرومانسي المفرط , لكنه الألم الذي تحول عندي إلى رؤيا تخترق دلالة الكلمات كي تفضي بها إلى دلالة الأشياء من حولي , وأصبحت المفردة في بعض دلالتها تحيل إلى موقف من الحياة والعالم والوجود . قد تبدو شهادتي أشبه ما تكون بنوع من الاحتفاء بالعمل الشعري , لكنْ من يذهب إلى الاعتقاد أنه باستطاعته أن يترك مسافة بينه وبين ما يكتب فهو ساذجٌ أو لأقل أنه مجرد فراغ خالٍ من التفاهة والابتذال . الإدراك الأولي بالنسبة لي هو أننا جميعا متورطون في إنتاج الكلمات ومن ثم الاحتفاء بها حسب ما يتطلبه الوعي, وحسب ما تفرضه الثقافة والتاريخ والحياة على المرء ذاته.فيما بعد , وعندما أخذت قصيدتي موقعا في سياق الديوان , شعرتُ بشيء من الارتباك والتوجس , ثمة قارئ يطاردني عند كل جملة وداخل كل كلمة , القارئ الذي انتظرته طويلا ظل قابعا في داخلي مثل آلة حادة تطارد داخل شراييني كل قصيدة استباحت دمي على يد الآخرين . لقد بدا لي بعد ذلك أنني تخففتُ تدريجيا من تلك القصيدة التي كانت تضع في طريقي ألغاما وتغطيها بالورود , لم أعد ذلك الذي يصغي إلى ضجيج الكلمات , لقد قطعتُ صلتي بالخطيئة الأولى مع البشر , وتركت أغلب الشعراء والحكماء يدلوني على منبع النور والنار حيث كان أولهم زرادشت وآخرهم أبو نواس .
في عالمي الشعري بريقٌ خافت يشبه الصَدفةَ في أعماق البحر , يشدني إليه كثيرا دون عناء المقاومة , أو الاستسلام , كم كنت أراهن على بصيرته في التعرف على الحياة والناس من حولي , أليس الوثوق بالقصائد هو خديعتُنا الكبرى في الحياة ؟! . غادرتُ يقيني وأنا لم أزل على عتبة القصيدة , لذلك لم يبق لي سوى الشك الذي حملتٌه على كتفيَّ , ثم دخلت به القصيدةَ , وقلتُ لها سمّيه : أخفُّ من الريش أعمق من الألم .