محمد بنيس
(المغرب)

محمد بنيسكنتُ، منذ نهاية السبعينيات، وضعتُ الجسدَ في مركز القصيدة. لم يكُن ذلك اعتباطاً ولا نزوة. كتاباتٌ وأعمالٌ دلتني على معْنى الجسَد الواقعي، الحي، في العمل الشعري. وكان ديوان في اتجاه صوتك العمودي ثم بيان الكتابة شطحاً وافداً على القصيدة وعلى فكرتها. هكذا أحسستُ الجسدَ وهو ينطقُ بكلماته الأولى. لم تتأخرْ أراءٌ معترضة على الإعلان عن نفسها، بحجة الحقيقة الشعرية، التي تنتصر للفكرة على الكلمات، للمفهوم على الجسد، أو للحقيقة الإيديولوجية، التي تعبّر عن تقدمية مريضة. أنظرُ اليومَ إلى مقاومتي لتلك الآراء المعترضة فأجد المعرفة وحدها كانت تؤيّدني وتحْميني من الندم أو النكران.

لا شيءَ أوقفَ الجسدَ عن الكلام، ولا منعَ الجسدَ من الاستمرار في اكتشَاف واستكشاف كلامه. سنواتٌ كان الجسدُ يبحَثُ عن كلامه، الذي لم يكُنْ رهن إشارتي ولا موضوعاً في حُـقٍّ من أحْقاق البلاغة. لا شيءَ من ذلك. كان الجسدُ هو نفسه الذي يدُلني على كلامه، في الكتابة. وأنا أتتبعُ الصوتَ وأهْتدي بالأثر. وإذا كنتُ أرَى أن الكتابة هي التي لازمت ممارستي الشعرية وغيرَ الشعرية فإن النصوصَ، التي تجتمعُ في هذا الكتاب، كانت تنبثق مرة بعد مرة. معَ الحواسّ تنبثق. فليس الجسدُ بالنسبة لي سوى هذه الحواسّ وهذه الأعضاء التي بها يحسُّ الجسدُ نفْسه وغيرَه في آن.

أتساءل: أليْسَ الجسد هو المادةُ الأولى لحيَاتنا؟ سؤالٌ يفيد أنّ الجسد صنوُ الحياة. فلا حياة بدون جسَد ولا جسدَ بدون حياة. عندما ينـتفي الجسدُ نكون أمامَ الموت. والموت وحده. ولأنّ الجسد حيٌّ فإن كلامَه لا نهائي. كلامُ الذات التي لا تعْرفُ الاستقرار. رحيلُها دائم، رحيلٌ في المجهول. ولذلك فإن الكلامَ، كلامَها، كلامَ الجسد، مهدَّدٌ أبداً، منْ شكٍّ إلى شكّ، ومنْ مضْيقٍ إلى مضْيق، حيث الحبسة تتكلّم، والصمتُ يُعيدنا إلى البدْئيِّ، وجهاً لوجه مع ما لا يُسمّى. وليس لكَ، عند ذاك، سوى أن تستقبلَ الشطحَ الوافدَ منكَ عليك، كلاماً يمجد الهذيان، ينقلُك إلى المُنفلت، المتمرّد، المُخيف.
هكذا يظهرُ الجسَدُ أمامك في المكتُوب، يمتدُّ في مُتعة وشهْوانية لا حدودَ لهما. تخرجُ الكلماتُ على ذاتها. تضيع. فلا شيْءَ غيرُ الليل، فيهَا وفي الكلام. وأنتَ لا تدري أيَّ قوة جَذبتكَ وقادتكَ إلى هُناك. تتبع الكلامَ في جسَدك، تتشظّى، بين ليْل وليْل، حتى لا نهايةَ لما أنتَ فيه. ولا علاجَ لكَ منْ كلام هو أنفاسُ الحياة فيكَ. فلا تندمْ، ولا تسْتعجِلْ.

كلامٌ كان ينبثق في غفلة عنّي. ويدي كانت تُلازم تلك الانبثاقات. مرة بعد مرة تكتبُ مذكرات، في شكل نصوص لها وضعُها الشخصيّ. لم أمنعْها ولم أتخلّ عنها. تركتها حرة. فهي كانت تفاجئني بعالمٍ مجهولٍ لا أعرفُ أين كانَ من قبلُ يختفي أوْ كيف كان يهجم في أوقات مباغتة. توتراتٌ في أقصى حَالاتها. ويدي تكتبُ المنفلتَ، المتمرّدَ، المُخيف. كلامٌ ينفجرُ شطحاً بين الأصابع. وأنَا أستقبله. ذلك نفسُه ما يأمرُ به قارئَه، الذي يقبَلُ بجسد قارئ حيٍّ، يستقبلُ بدوره كلامَ الجسد، الشطحَ، فلا يتخلّى أو يتراجَع. سيكُونُ مع المحسُوس، الحيويّ، الرّاقص. وكمَا أنّ كلام الجسد لا نهائيٌّ فإن قراءتَه لا نهائية. لهَا التوليدُ والتأويل. وفي كل مرة تدلُّ على فضاءات مُقبلة منَ المُستقبَل، في المُستقبَل.

بذلك أمرَني كلامُ الجسد، بعد أن استحْوَذَ وملَكَ، في نصّ، ترْكيبٍ، كتابَة. هناك، في هذا الكلام، ما يلمعُ بغير المُطمئن. وأنتَ تعثرُ على أنفاس تنتعش، تتعرّى. جسد يتكلم. ولكَ نعمةُ أنْ تَكتب.

مقدمة كتاب "كلام الجسد" الذي صدر عن دار توبقال - الدار البيضاء

المحمدية، في 8 نوفمبر 2009.


إقرأ أيضاً:-