نجوم الغانم
(الإمارات)

نجوم الغانماستيقظت في الصباح الباكر محاولة استعادة ما قاله الأصدقاء في الليلة الفائتة عن محور هذا اللقاء.. "ذاكرة الحداثة في الخليج؟".. التجربة الشخصية.. وقيل لي أنني سأكون في جنة الحميمية، ومع هذا لم تأت الطمأنينة.
استيقظت هذا الصباح على صدى تلك الكلمات اللبقة والأرق. كان رأسي ما زال مستغرقا في الأسئلة.. وعيناي شاخصتان في سقف الغرفة. الأصوات البعيدة تأتي من الخارج لتذكرني بالوقت. وأنا التي اعتدت الهروب أجدني غير قادرة على ارتكابه هذه المرة.
تخيلوا ما الذي تفعله الدردشة الإلكترونية خاصة عندما تكون بين الشعراء الذين يحترفون الحماقة والفوضى. ها أنا هنا اليوم رهينة تلك الحماقة الجميلة التي كانت صديقتي فوزية السندي سببا فيها وكنت أنا بالطبع شريكتها في استعذاب الفكرة.
جئت ليخبرني الأصدقاء أن الأمر سيكون هيناً.. ولكن ماذا عساني أفعل لتغفروا لي إحساسي بالارتياب؟
ماذا يمكن أن أقول عن الحداثة للأصدقاء وهم الأكثر تسلحاً مني؟ كأنها مبارزة متوقعة النتائج!
تأتي عاري الصدر.. مذهولا في الكلمات وأسرارها.. سلاحك الوحيد هو لغتك وما بينها من فدائح تخصك وحدك وتنتهي بالرصاص "الحميم".
لقد أمضيت جل حياتي ـ وربما هذا حال معظم أبناء جيلي ـ نكتوي بنيران هذا المصطلح. وعلى الرغم من أننا لم نكن نرغب في أن نكون أطرافاً في الجدل حوله إلا أننا صنفنا على أننا حداثيون من باب التهكم طبعاً وليس من باب الإعترافية بأن هذه هي الحقيقة! وكان السبب المباشر لذلك هو خيارنا لكتابة قصيدة النثر. ومثلما يجلب لك الشعر السلام فهو أيضا يمكن أن يجلب لك الكارثة خاصة في واقعنا العربي الذي لا يمنحك الهواء النقي.
إن الحداثة ليست في التفسير أو التشخيص وإنما في القدرة على عيشها بشكل حقيقي. الحداثة لا تعنيني كمصطلح ولم تكن في أي يوم من الأيام ولم يشغلني السجال العربي الممتد من المحيط إلى الخليج حول ماهيتها وتأثيراتها. لقد كنت أراقب النزاع الدائر وأشعر بالاغتراب! وأقول النزاع لأنه لم يكن في نظري يصل إلى مستوى الحوار الثقافي الرصين. وكانت الزوبعات الصحفية تنتهي لتتحول إلى فصول في الكتب، وكان البعض يلجأ إلى الترجمات ويعتمد على الاجتزاء فننتهي بسطحية مضاعفة. كان هذا هو المشهد السائد وللأسف لسنوات وسنوات ولم يسعفنا سوى هؤلاء الذين بدأوا مشروعهم النقدي الأكاديمي ولكن نظراً لقلتهم فقد بقي صوت الخواء عالياً في ساحتنا الثقافية ليس فقط في الجانب النقدي وإنما أيضاً في الجانب الإبداعي.
إنني لأرجو أن يكون ما أقوله هنا هو نوع من الشهادة وحسب.
ولأن التنظير والنقد ليس من اختصاصي ولأن وضعي في هذا السياق سيشعرني بالغربة فأرجو أن تغفروا لي التزامي بعدم الخوض في هذا النوع من الجدل والاكتفاء بالحديث عن رؤيتي كإنسانه وشاعرة وفهمي الشخصي لبعض المكونات والمؤثرات التي لعبت وما زالت تلعب دورا ما في حياتي وأسهمت في تشكّلي سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

الذاكرة:

كغيري من أبناء جيلي تعتبر المصادر الأدبية من نصوص شعرية وروائية ومسرحية هي واحدة من المفاصل الأساسية التي اعتمدت عليها تجربتي. وقد شكّل الشعر العربي المصدر الأول في المرحلة الأولى من حياتي في فترة الطفولة حيث كان يمثل نافذة مذهلة لعالم آخر لا يشبهه شيء في الواقع. إن قراءة المتنبي وأبو فراس الحمداني والنفري وأبو نواس وأبو العلاء المعري هو ضرب من السحر الكامل لطالب المراحل الابتدائية الأخيرة والمرحلة الإعدادية. ولعل علاقتنا بالتراث الشعري العربي نابعة من هذه الدهشة التي تنتابك في سن صغيرة وتبقى مسيطرة عليك كالحلم الخالد أو أنها تعود لتلك النظرة التي تسبغ نوعاً من القداسة على النصوص الشعرية القديمة فتحولها مع مرور الوقت إلى ما يشبه التابو. ومع هذا فهي نفسها التي تعتبر المادة والذاكرة الحقيقية التي تترعرع في ظلها التجربة. لقد بقيت أنظر بانخطاف لهذا الميراث الغني والساحر حتى أخذت أتعرف على الشعر الأكثر حداثة في مرحلة الثانوية العامة والذي بدأ يجذبني إليه أكثر هو قدرته على تصوير تفاصيل الحياة اليومية بلغة أقل تعقيداً وصور يمكن للخيال الراهن أن يقبلها أو أن يقبل المقاربة بينها وبين خصوصية المكان والزمان. من هناك أخذت شرفة المعرفة تتسع بسبب زيادة خيارات القراءة وبداية الوعي بما كان يحدث حولنا محلياً وعربياً. ومن هناك أيضاً بدأت محاولة التقليد ليس فقط في الكتابة وإنما الرسم أيضاً.
عليّ أن أعترف بأنني نعمت بطفولة غنية وصبا توفرت لي فيه جميع العناصر التي يمكن أن تساهم في خلق إنسان لديه اهتمامات من نوع خاص. كنت أحصل على الكتب التي أريد بسهولة وكذلك الموسيقى وأدوات الرسم وكنت أريد أن أفعل كل شيء وأن أتعلم أي شيء.
جاءت الكتابة بشكلها المرتبك في نهاية السبعينات. ومع بداية الثمانينات كان قراري حاسماً في أن أتوقف عن المحاولات الطفولية في تقليد الشعر العمودي وشعر التفعيلة والإخلاص لشكل واحد هو قصيدة النثر التي أحب تسميتها بالقصيدة الحرة.
كنت أقرأ بشغف وقد زادت التجربة الصوفية المتمثلة في نصوص الحلاج والسهروردي ثم ابن عربي فيما بعد بعداً آخر على تساؤلاتي الوجودية ودخولي في عوالم الفلسفة الحديثة. وكانت كل مرحلة تقودني إلى أخرى.. وكغيري شغفت بالعدمية والدادائية والسريالية ثم البنيوية واللسانيات وغيرها من الحركات التي تجعلك تزداد فوضى وبوهيمية. كانت هناك بالإضافة إلى ذلك بصمات تركت أثارا عميقة في النفس وأسئلة لن تلق الجواب أبدا.. تلك البصمات تتمثل في قصائد سان جون بيرس وبودلير ورامبو وت. س. إليوت وأراغون وجاك بيرك وايف بونفوا وفي فلسفة باشلار وأناشيد مالدورور الوحشية للوتريامون وفي نصوص شكسبير المسرحيةـ عليّ هنا أن أشكر جبرا ابراهيم جبرا على مشروعه الكبير في الترجمةـ.
كانت هناك أيضاً الكتب المقدسة التي أشير لها هنا باعتبارها كانت أساسية في تعميق معرفتي وفي بلبلة أفكاري وشحذها وفي تطوير إمكانياتي اللغوية ونموي الروحي.

لقد كتبت الكثير الذي رفضت فيما بعد وضعه في كتاب وقد اخترت القليل منه ليشكل كتابي الأول "مساء الجنة". وما بين "مساء الجنة" و "منازل الجلنار" ظهرت الكثير من التحديات على صعيد قناعاتي الشخصية ومساءلاتي لنصي وللعالم. ولكنني في أكثر من عشرين سنة أصدرت أربع دواوين فقط وديواني الخامس قد نشر الكترونياً في موقع جهة الشعر ولم يصدر في كتاب بعد. والسبب لا يعود لأنني لا أكتب وإنما لأنني قاسية بشكل لا يوصف مع نصوصي ولأنني في كل مرة أتساءل ترى لمن أكتب ولماذا؟

علاقتي به:

الحب هو أجمل ما يحدث لنا في الحياة..والتأكيد على هذا الأمر في هذا اللقاء الخاص هو محاولة أمينة للنظر بدقة وجوهرية للعناصر الأساسية التي تشكل علامات فارقة في حياتنا. والحب هو ما يجعلنا نكتب أجمل ما لدينا سواء كان في حالات سعادتنا أو ألمنا.. أرجو أن يكون الحب في حياتي قد جعل كتابتي أجمل. 

الموسيقى:

أعتبر الموسيقى واحدة من العناصر التي جعلت حياتي وكتابتي أكثر رأفة وربما أكثر خصوصية. ولو كان بإمكاني لكنت شرحت بالضبط الكلام الكثير الذي أستطيع سماعه فيها ولكن يكفيني أنني أمتلك الخيار في وضع الأسطوانات التي أحب في أي وقت والاستماع إلى أصوات الأرواح الخفية التي تنبعث من تلك الآلات. لست أبالغ إذا قلت أنني كتبت معظم قصائدي وأنا أستمع إلى الموسيقى والأوبرا بالذات ولم يكن سماعي لها بهدف الرفاهية ولكنني كنت أستظل تحت سماءها وكانت حاضرة بين حروف القصائد وفي فراغات الأسطر. كانت تتبعني حيثما ذهبت وكانت تسهب في منحي الهواء الذي أحتاجه لا للتنفس و إنما لتقليب صفحات المخيلة ومنحها الغموض الأنيق، الغموض الشبيه بجمالياتها ذاتها. وحين يكون علي أن أسافر فإن الشيء الوحيد الذي يجعلني أبتهج خلسة هو أنني سأكون في الفضاء وسأكون قريبة أكثر من أصوات الملائكة التي أراها فقط في الموسيقى وفي أصوات المغنيين الأوبراليين.

الصمت:

مثلما كانت الموسيقى رفيقة رحلة الكتابة كان الصمت كذلك يجعلها تهدأ وتدخل في سكينة البرك العميقة. لا أستطيع الكتابة وحولي الآخرون. ولا بد أن أبدأ الكتابة وحدي حيث يمكنني أن أسمع صوت الصمت والأصداء البعيدة لحركة الأشياء جيداً وكأنها تهتز أمامي قبل أن تغيب أو تتبدد.
ولكي أستعيد الصمت يكفي أن أتذكر مشهد عالق في الذاكرة للسباحة تحت الماء حيث لا شيء سوى صوتك الداخلي أو الصمت الأبدي.

الظلال:

عندما لا يكون أمامك ما تستغيث به تأتي الظلال بقاماتها العالية وتبدأ في تلطيخ الجدران حولك بحبرها الشفيف.. أنت وحدك تراها وتلاعبها مثلما تشاء وأنت وحدك من تكتب عنها وهي تصغي لك أو تبقى بجوارك أكثر من الآخرين .

القراءة:

من بين كل القراءات تأتي القراءة الرواية في مقدمة أولى الخيارات التي تجعلني أكثر سعادة كوني ما زلت أحيا وكوني ما زلت قادرة على التمتع بالمزيد من القراءة في هذا الفن الإبداعي الرائع.. كلما قرأت رواية جميلة ازددت غيرة وهربت للقصيدة كي أخمد مشاعر الحسد تلك. وكلما بدأت كتاباً جديدا شعرت أنني أدخل مدينة جديدة مليئة بالسحرة.. وأنني كي أخرج منها آمنة عليّ فك غموضها ولكن كلما فككت غموض واحدة وقعت في حبها أكثر وأكثر.

الرحيل:

كان الانفصال الجغرافي عن الإمارات والابتعاد للدراسة ما يقارب الست سنوات أكبر عامل في تغيير وجه تجربتي الحياتية والإبداعية وهو الذي منحني الفرصة لأن أقرأ ذاتي وأن أقبل الثقافة الأخرى وأن أحترم ثقافتي وهويتي وإنسانيتي أيضاً. لقد شعرت بإنسانيتي وأنا في الخارج وشعرت بإنسانية الأشياء وحتى الجماد منها عندما تعلمت اللغة الثانية واكتشفت طعم الحرية بعد ذلك. وأقصد حرية الاختيار والتعرف على تفاصيل الثقافة الأخرى من داخلها وبواسطة لغتها مباشرة. إن أجمل متعة للمرء هي السير في المكتبات الضخمة وانتقاء ما يريد من العناوين في أي شأن من شؤون الحياة دون أن تكون قد امتدت إليها قبلك يد الشرطة الثقافية أو يكون قد خربشها قلم الرقيب. وأجمل متعة أن يكون بإمكانك أن ترى الأشجار وهي تغير ثيابها أربع مرات في العام وأن تضحك لك الأطيار وأنت خارج من بيتك وأن يستقبلك المطر أو الثلج بنفس الخفة التي يستقبلك بها الهواء. وعندما تشتد الوحدة فهناك الكتابة التي تنتظرك وهناك البكاء الذي يكون له طعم آخر.. طعم يذكرك من جديد بإنسانيتك. وستلقى هناك أيضاً بعض الأصدقاء الذين قد يشاغبونك أو يهجرونك ولكنك في النهاية تعرف أن كل ذلك يحدث بشكل مؤقت وأن حزنك هو مؤقت أيضاً.
لقد تعلمت في الرحيل محبة المعرفة بكل أشكالها وألوانها وأصبح عدم وجود الشعر لا يعني سوى وجود شيء آخر يستحوذ على الاهتمام لأنه جميل أو يدعو للجمال بصورة أو أخرى. لقد مرت سنوات طويلة لم أقرأ فيها الكثير من الشعر لكنني أيضاً لم أتوقف عن قراءات أخرى جعلتني أُقبل على الشعر من منظور مفارق.

الأشجار:

تقول لي ابنتي عندما تريد مشاغبتي: أحياناً أشعر أنك تحبين أشجارك أكثر منا.
كيف أستطيع العيش بدونها وكيف أكتب وهي ليست هناك.. كيف يمكنني أن أتذكر قصائد الحب وقد كتبت كل واحدة منها وأنا أتأملها أو أستعيد ذكرى كانت هي تحتل جلها.

الموت:

لا شيء يشبهه ولقد دخل حياتي كالصاعقة وبدون استئذان أو إشارات تجعلني استعد لكارثته. والموت يحدث كل يوم ولكن ذلك الشعور بالفقد هو ما يكسر كبرياءك ويسحق ثقتك بنفسك. أن تشعر أنك أصبحت في مهب الأحزان وأن أطرافك قد بترت أو أن قلبك قد اقتلع من مكانه.
عندما تحبون شخصاً ما أخبروه كم أنتم تحبونه لأنكم لو فقدتموه فستتألمون وتسخطون ولن يجعلكم الندم تخلدون للنوم أبداً.

طرحت هذه الشهادة في أسرة الأدباء و الكتاب في البحرين- الأسبوع الماضي.