كتابة على الكتابة، أو عنها، وسؤال على الأسئلة، أو حولها: هل يمكن للشاعر أن يقرأ قصيدته- نصه- كما لو لم يكن هو كاتبه ومنتجه؟ وهل يمكنه الخروج من فضاء قصيدته ليراها من مكان آخر غير المكان الذي كتبها فيه؟ وكيف سيرى هذه القصيدة في مثل هذه الحال، حال كونه مجرد متلقٍّ لنص لا ينتمي إليه؟
لماذا أفكر بهذه الأسئلة الآن؟
أفكر في الشاعر قارئا لنصوصه، أفكر به متلقيا آخر من المتلقين، متلقيا مختلفا، ناقدا لتجربته ونصوصه من داخلها، ومتذوقا قادما من الثقافة التي أنتجت هذه التجربة وهذه النصوص. فالقراءة هنا مهمة للوقوف على ملامح هذا العالم الذي أنتجه الشاعر، سواء كان هذا العالم متمثلا في نص بعينه أموفي تجربة متكاملة.
أفكر في هذا كله، بعد صدور مجموعتي الجديدة “الطفل إذ يمضي”، لأفكر بسؤال العلاقة بين الشاعر ونصوصه، من زاوية إنتاجها أولا، ومن وجهة نظر تتعلق بطريقة ونتائج انتقال هذه النصوص إلى المتلقي، وكيفية التلقي بالنسبة إلى أصناف المتلقين، ولأسأل كيف تبدو صورة الشاعر لدى المتلقي عبر النصوص؟ وإلى أي حد يمكن لهذه النصوص أن تمثل ذات الشاعر وتتطابق معها، أم أن ثمة مسافة بين الشاعر ونصه؟ تتعلق المسألة عندي أيضا بنمط من القراءة ينهض على تربة المحرمات والممنوعات، وهو نمط بائس يحصر القارئ في زاوية أو قفص لا يخرج منه، وهذا النمط من القراءة سائد ومهيمن في مجتمعات التخلف والسلفية الدينية والاجتماعية والفكرية. فهذه السلفيات تحصر قراءتها للعالم كله في إطار ضيق لا يتسع حتى لنملة. هي تقرأ النص الإبداعي مثلا كما لو كان فتوى شرعية، لأنها تقرأ كل ما تقرأ بالعين الفقهية أو الدينية، فلا ترى فارقا بين نص إبداعي يوظف مفردات الدين والعقيدة، وآخر يهاجم هذه المفردات أو يسعى إلى تحقيرها.
يقول جدنا أبو العلاء المعري مدافعا عن جدنا المتنبي وتبرئة له مما ألحق به من اتهامات بشأن معتقداته “وإذا رُجع إلى الحقائق فنطق اللسان لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان، لأن العالم مجبول على الكذب والنفاق، ويحتمل أن يظهر الرجل تدينا وإنما يجعل ذلك تزينا، يريد أن يصل به إلى ثناء أو غرض من أغراض الخالية أم الفناء، ولعله قد ذهب جماعة هم في الظاهر متعبدون وفي ما بطن ملحدون”. هذا نموذج لقراءة مختلفة. قراءة تتأول النصوص ولا تجعلها تقول ما لا تريد قوله. قراءة تفصل بين النص ومنتجه، وتنظر في النص بعيدا عن الفكرة المسبقة، وتنظر في المفردات والشيفرات والرموز بانفتاح كامل.
وإذا كان صحيحا قول إدوارد سعيد إنه ليس ثمة نص بريء، وقول البعض إنه ليست ثمة قراءة بريئة، فإن هذا وذاك مدعاة للقبول بعدد كبير من القراءات للنص الإبداعي. فالنص ليس بريئا لأنه يقوم على أساسات تمزج العقل بالخيال، ولذلك فقراءته تتطلب عقلا وخيالا غير عاديين.
يقرأ الشاعر نصه فيتعرف إلى ذاته أو ينكرها، ويتعرف إلى العالم كما يفهمه هو. ففي نص الشاعر لا تحضر ذاته فقط، بل يحضر العالم كله. لكنه عالم الشاعر بالتأكيد، وليس العالم الواقعي، بل هو الواقع مقنعا. حتى ذات الشاعر فهي لا تحضر هنا إلا من خلال قناع ما يفصل هذه الذات عن حقيقتها، أو يضع مسافة بين الذاتين.. ذات الشاعر كما هي في الواقع وذاته التي يسعى إلى إظهارها في نصه. وهو بلا شك يرغب في الارتقاء بهذه الذات والسمو بها من خلال نص يرتقي عن الواقعي في اتجاه الحلمي والمثالي. ما يعني أن النص يتطلب قراءة مفتوحة على الاحتمالات والدلالات الغنية بالمعنى.
يحلم الشاعر/ المبدع أن يمتلك اللغة التي تحمل أسئلته وهواجسه، يحلم أن يقول ذاته ودواخله، أن يتواصل مع روحانياته بمثل ما ينسجم مع حسياته وحساسيته كلها. أقول يحلم لأن ما من شاعر/ مبدع يكتب ما يريد، ولو كتب ما يريد لتوقف عند نص ما وتوقف عن الكتابة، فالكتابة هي خوض المجهول لا المعلوم، وحين يعتقد الشاعر أنه يمتلك فكرة ما لبدء نصه فغالبا ما تأخذه اللغة ويأخذه الخيال إلى مناطق لم يفكر بها. لذا تظل الكثير من أسئلة الشاعر حبيسة روحه وقلبه وعقله، وتظل أسئلة القصيدة ليست هي أسئلة الشاعر.
وربما لهذا نجد من النادر أن يتعرف الشاعر إلى نصه، وكثيرا ما ينكره قبل صياح الديك، ينكره ليبتعد عنه ويذهب في اتجاه النص الآخر الذي لم يكتب بعد. وأنا لست أنكر نصا من نصوصي بالمعنى الذي يقود إلى التنكر له، فما قدمت هو جزء مني، لكن العلاقة معه لم تعد حميمة كما كانت لحظة إنتاج النص، تلك اللحظة التي ابتعدت وباتت مستحيلة، اللحظة التي حاول النص القبض عليها ولم يقبض ربما سوى على ظلالها أو شيء من ملامحها.
اللحظة الأساسية في كل نص أكتبه تتمثل في محاولة الكشف والتعبير عن عالم ما، عالم أنتمي إليه وأسعى إلى فهمه أو إلى نقده أو هجائه حتى، ولكن قد أسعى إلى مديحه أيضا، وربما كان وراء ذلك كله منطلق أساسي يتمثل في علاقتي بالواقع من جهة، وعلاقتي بالموروث الثقافي والإبداعي الإنساني كله من جهة ثانية. هذا الموروث الذي هو ملك للبشرية كلها يقف في خلفية ما يبدع المبدعون في مجالات الإبداع كافة، لكن ما يميز مبدعا عن آخر هو كيف تقوم علاقته بهذا الموروث، هل يقف أمام المبدع أم خلفه؟ وما مدى تأثيره في المبدع؟ وأية سمات يضفيها المبدع على هذا الموروث؟ وما الإضافات وعناصر التجديد في نص المبدع اليوم نسبة إلى ما أبدعه مبدعو هذا الموروث؟
أسئلة يجب أن يلتفت إليها قارئ الشعر تحديدا، هذا القارئ الذي يجب أن يكون مزودا بآليات وأدوات القراءة الذكية والمنتجة، لا القراءة السطحية. فقراءة الشعر تتطلب قارئا لا يقل ثقافة عن الشاعر الذي يكتب من خلال تجربة حياتية وثقافة نظرية معمقتين، فيحلق في سموات اللغة والصورة والفكرة والرؤى، الأمر الذي ينتج عنه نص بأبعاد ومستويات متعددة لا يجوز حصرها في سطح النص أو ما يقوله مباشرة. فكما أن الكاتب هو قارئ للعالم، فعلى القارئ أن يرتقي إلى مستوى كاتب جديد لهذا العالم الذي يقدمه له المبدع. فقراءة النص، القراءة الحقيقية للنص، هي إعادة كتابة، كتابة جديدة للنص.
التجربة والثقافة. أداتان أساسيتان في الكتابة. نعيش الحياة بعمق. ونقرأ العالم بعمق.
نعيش الألم والمعاناة والبؤس والتشرد والصعلكة، ونقرأ حكمة بوذا كما نقرأ تمرد الشنفرى يقسم جسمه في “جسوم كثيرة”. نعيش الحب برومانسية وحساسية خاصتين، ونقرأ غزوات امرئ القيس الليلية على ديار محبوبته، ومواعيد عمر بن أبي ربيعة، وقصائد حب نيرودا، ونساء نزار قباني ومحمود درويش. نقرأ الماغوط ونعيش حالة البرد التي أنتج من خلالها. برد نفساني وعاطفي واجتماعي وروحي. نقرأ أمل دنقل والسياب والبياتي ونعيش في مظاهرات الطلبة ودوائر الخليج والمنفى والموت على كرسي مخمور. نعيش سعد الله ونوس ونقرأ تاريخ الطغاة في وطن كبير وحدته رسالة النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم منذ ما يزيد على 1400 عام.
القراءة ليست قراءة كتب فقط، هي قراءة أيضاً وبأدوات مختلفة، بالسمع والشم واللمس والذوق، وبالحاسة السادسة، الهاجس. هذه القراءات كلها هي ما يعاد إنتاجه في نص إبداعي. النص الذي يقرأ العالم ويعيد كتابته مجددا هو ما أسعى إليه، ليس العالم بسطحيته بالطبع، لكن العالم الممتلئ بالتجربة والحقيقة. ولكن هل هناك حقيقة مطلقة؟ يمكن أن تكون هناك حقائق تتعلق بما يجري من حولنا، بوقائع معينة، لكن لا حقائق مطلقة في الكون، والبحث في الحقيقة المطلقة ليس عمل الشاعر حسبما أرى، بل هي عمل الفيلسوف، من دون أن يلغي هذا التداخل بين عمل الشاعر وعمل الفيلسوف.
أسعى إلى التأمل في كتاب حرائق العالم. أقرأ ملاحم النكبة الفلسطينية وصبرا وشاتيلا وسقوط مدينة الرشيد وحصار رام الله واجتياحات غزة كما أقرأ الإلياذة والأوديسة، كما أقرأ الحروب الصليبية وتاريخ ملوك الطوائف واستبداد العثمانيين وطغيان الأنظمة العربية الحاكمة. تاريخ من الدم والموت يعاد إنتاجه في صور جديدة يمكن أن تؤثث النص الشعري من خلال رؤية مختلفة عما يفعل الإعلام. هذا أحد الهموم التي تشغل نصوصي. ثمة هموم أخرى بالطبع، إنسانية ذات طابع وجودي. لكن الهم الأبرز يظل الراهن على سطح الكرة الأرضية، من حيث ما يشكله هذا الراهن على رقعة التاريخ واندغامه فيه، للوصول إلى جوهر ما حدث وما يحدث في العالم.
ما من طرح مسبق الصنع، ثمة تأمل في كل ما حولنا. ثمة غوص في وحل العالم للقبض على معالمه التي تشكل صورته. لا وجود للميتافيزيقا بصورتها المباشرة، وحين تحضر فهي تحضر في أسئلة لها علاقة بالواقع والطبيعة، لها ارتباط بالعلاقات الإنسانية والكونية. ولعلها تحضر في سياق البحث عن الذات والتساؤل عن موقع هذه الذات ودورها في العالم.
الأساس بالنسبة لي هو التجربة لا النظرية، والواقع لا الميتافيزيقا، وربما كانت المنطلقات متعددة حد ما يبدو ضياعا، لكن اعتقادي هو أن لكل تجربة منطلقات كثيرة، وإن كان هناك مركز واحد تنطلق منه وتعود إليه كمحور أساسي. المحور عندي كان ذا طبيعة سياسية في البداية، ولا تزال السياسة حاضرة، لكن لا يمكن تناولها على النحو المباشر، حيث تتم قراءة السياسة شعريا. فهي تحضر عبر الزنازين والجلادين والدم والموت، وهذه كلها مفردات تتعالق مع السياسة بقدر ما تمثل جزءا من تاريخ البشرية. لذا فهي تحضر منذ مجموعتي الأولى “احتفال الشبابيك بالعاصفة” على نحو ينطوي على سذاجة شعرية، لكن حضور هذه المفردات يأتي في مجموعتي الثانية “غبار الشخص” ويمتد إلى “الطفل إذ يمضي”.
وكذلك فأنا أعتقد بأن الشاعر/ المبدع عموما يظل يحفر طوال عمره/ تجربته في مساحة صغيرة مهما اتسعت رقعة العالم الذي يتناوله، فثمة من يحفر في أسئلة الوجود، وهناك من يحفر في سؤال البؤس البشري، وقد تنشغل شاعرة في التعبير عن مأساة الأنثى.. الخ. وثمة من يميل إلى لغة يومية، وآخر إلى مفردات ومصطلحات الصوفية المغرقة في الغموض. أنا أميل إلى لغة بسيطة لا تعقيد فيها ولا فذلكة ولا تبسيط.
ما الذي قلته في مجموعاتي الثلاث؟ هل هو ما أردت قوله؟
سؤال كبير لا أجد له جوابا سوى العودة للقول: إن سؤال القصيدة ليس هو سؤال الشاعر.