يتوق الشعراء الى التأزم مثلما يتوقون الى الحلم، فتراهم قلقون متذمرون، حياري، حزانى.. فهل هم كذلك عندما يتحاورون مع ذواتهم بعيداً عن رقيب القصيدة؟ هل يشعر الشاعر بزهو قدره كشاعر، أم لا يبارحه الندم كونه شاعراً! واذا شعر بالندم من كونه شاعرا، مثلما ينتابه الندم من قصائده الأولي، هل بمقدوره ركل الشعر وعدم العودة اليه؟
(ألف باء) جمعت هذه الأسئلة في سؤال (هل تشعر بالندم كونك شاعرا)؟
وجهته لعدد من الشعراء في الوطن العربي فكانت هذه الحصيلة:
قاسم حداد: في مهب الشعر
الشاعر البحريني قاسم حداد استل إجابته بما يشبه التساؤل فقال: ليس لكوني شاعراً (إذا صح ذلك) ولكن لأنني لم أكن شاعراً أكثر مما كنت.
هذه هي المسألة بالنسبة لي. فكون المرء في مهب الشعر منذ تفتح حسه الأول، ومنذ تفجر وعيه الأول، فهذه نعمة يتوجب علينا الصلاة لأننا كنا عرضة لها. المشكلة هي أن الإنسان لا يمتلك حواس وقدرات أكثر من غيره لكي يتميز بالشعرية. كل ما في الأمر هو أن شهوة تغيير الكون عنده أكثر استحواذا (وادعاء في بعض الأحيان) من غيره الذين سوف يلجأون للتعبير عن هذه الشهوة بأساليب وأدوات مختلفة.
يوماً بعد يوم يكتشف المرء أن مهمة الشاعر ليست نزهة، كما يتوهم الآخرون.
على العكس، فمع تقدم العمر والتجربة والكتابة يصبح الشعر هو جحيم لا فكاك منه.
وهو النعمة ذاتها التي سوف يحسدنا عليها من هم خارج الجحيم والجنة. ربما لأن الحياة لا طعم لها خارج الجحيم والجنة.
بهذا المعنى، ليس من الحكمة الشعور بالندم لكون المرء شاعراً. على الأقل لأن هذا (أعني كونك شاعراً) لا يحدث في العمر مرتين.
بالنسبة لي، بمعزل عن الجحيم والجنة، أحب أن أعتبر الشعر هو الحصن الذي يصد عني كل سلطات العالم، ويمنحني بضعفه الرهيف، القوة التي تستعصي على الوصف. كما أن الشعر هو حريتي الوحيدة والأخيرة في هذه الحياة. لقد تعلمت من الشعر بأنه يكفي. فالشعر جميل وجدير ويكفي.
سأشعر بالندم حقاً، لو أنني لم أتمكن من صداقة الشعر بهذه الطريقة الحميمة.
حجازي: الحالة المادية أبعدته عن الشعر
وقال الشاعر المصري احمد عبد المعطي حجازي انه لم يندم أبدا علي كونه شاعرا ولكن هناك أسباب دفعته الى الابتعاد ولو مؤقتا عن الشعر منها الحالة المادية والتي دفعته الى قبول كتابة عمود يومي بالأهرام حقق له نوعا من الانتشار وتوصيل فكره الى الناس ونتيجة انغماسه في العمل الصحفي وجد ان العمر يتقدم به وبالتالي فلقد تولد لديه شعور ان ما يستطيع ان يحققه خلال السنوات المقبلة لا يوازي ما حققه في الماضي ورغم كل ذلك فانه يتمني ان يتوفر له الوقت للتفرغ للشعر والذي يمثل عشقه الأول.
نور الدين صمود: شاعر أم لاعب كرة!
ويقول الشاعر التونسي نور الدين صمود قد يحس الشاعر في لحظة من اللحظات بأنه مهضوم الجانب وبأن ما يكتبه لا يحظي بالتقدير الواسع العريض الذي يأمله وبأن مطربا متوسطا مثلا أشهر منه ويقبل الناس علي حفلاته ويلقى أضعاف ما يلقاه من الشهرة والإقبال، ولكن هذا وأمثاله لا يجعله يندم علي انه سلك درب الشعر وافني عمره في كتابته ودراسته وانه كان عليه ان يصبح مغنيا أو لاعب كرة ذائع الصيت.. الخ فــ(كل ميسر لما خلق له).
ألقيت سؤالكم على ابنتي فقالت لي: (ما هذا السؤال العجيب! أيعقل ان يسأل موهوب: هل هو نادم علي ان الله وهبه هذه الموهبة؟).
وهنا قفزت الى ذهني أسراب من الأثرياء الذين لم نحسدهم علي أموالهم الطائلة ولم نزاحمهم فيها فإذا بهم يحسدوننا علي فقرنا وعلي شعرنا ويحاولون ان يزاحمونا في ميدان الشعر الذي أدركوا (بحساباتهم) انه يكسبهم الخلود وانه يضمن لهم حسن الذكر بعد رحيلهم، لان أموالهم لا يمكن ان يحملوها معهم الى القبر وان ورثتهم سيحولونها الى حساباتهم، ولكن الشعر لا يمكن ان ينسب الى غير صاحبه ومالكه الأصلي حتى بعد موته ولا شك انهم أدركوا ان الجوائز التي قدمها الملوك والأمراء الى الشعراء الذين مدحوهم لم تعد غير ذكري بينما مدائح الشعراء قد ظلت خالدة علي مر الأيام.
وقديما قيل: (ذهبت جوائز هرم ابن سنان وبقيت أشعار زهير بن أبي سلمي فيه) ولا ريب ان شعر المتنبي في خلود ذكر سيف الدولة لا ينكر فقد كان أميرا لدولة صغيرة في حلب هي الآن جزء من سوريا الحالية التي هي جزء من سوريا الكبرى أو الشام الشامل.. وقد كان محمود بن سبكتكين يملك معظم العالم العربي الحالي ولكنه لم يظفر بشاعر عملاق مثل المتنبي الذي خلد حتى من هجاه مثل كافور الإخشيدي الذي ملك مصر بالحيلة والدهاء، ورغم أني لست من أنصار شعر المدح إلا أنني من المؤمنين بجدوى الشعر وبحب الناس له من الموهوبين الحقيقيين والساعين الى التفوق فيه حتى ممن يشتري الشعر من الموهوبين الفقراء.
وهنا اذكر ــ للنادمين علي انهم كانوا شعراء ــ كلمة خاطب بها الإمام علي كرم الله وجهه شيعته المتخاذلة أمام مناوئيهم: (فواعجبا من جد هؤلاء في باطلهم وفشلكم عن حقكم..) والشعر قدري المحتوم فكيف اندم علي قدري أو اهرب منه؟! إذن أنا منذ البداية اعرف ان جمهور الشعر قليل وان الشعر لا يمكن ان يجلب لصاحبه الثروات الطائلة.. وان نقاد الشعر وحساد الشعراء أكثر من الزحافات والعلل.
وبعد هذا الجواب أخذت ابحث عمن يمكن ان أتمنى ان أكن اذا لم أكن شاعرا.. فاستعرضت طائفة من المهام فوجدت ان أصحابها يتمنون ان يكونوا شعراء.. فتمسكت بالشعر وان تمنيت ان أكون رساما، ولي في الرسم موهبة لم اعمل علي تنميتها، الا أني قنعت بالرسم بالكلمات.
جمال الدين حشاد
(تونس)
هل يمكن اعتبار الندم في سؤالك هذا مادة أو نتيجة لكلام يمكن تصنيفه حالة قصوى لهذا الصراع، الشعر هذا الكائن الجميل اغرب ما فيه هز أثماره بالجسد الشاعر، الجسد الذات ليكون في الأخير حالة اكتمال لهذا الجسد الواقع، الجسد المرفوع، الجسد الحدث..
الشعر هو العنصر الأمثل، العنصر النفسي، الذاتي والاجتماعي والإنساني في حياتي ليلخص ترجمة للواقع الذي أعيشه بواسطة المفردة كجزء من الجسد النص والفكرة التي تعتبر في حد ذاتها النتيجة لحالتي الاغتراب الروحي والانصهار داخل الحدث الاجتماعي والسياسي في ارقي صوره. فهل يمكن بعد كل هذا الجمال والكلام والصراع والبياض ان اندم يوما أو لحظة واحدة لدخولي الى عالم الشعر كمادة لتفسير هذا الجمال ونتيجة لاكتمال حالة الوعي.
آدم فتحي: الكتابة تصريف لفعل الندم
ويسترسل الشاعر التونسي آدم فتحي في قوله: من أول الحكم التي سمعتها طفلا وظلت تنغص علي شبابي وكهولتي ولم تغادرني أصداؤها حتى الآن، قول جدتي ذات يوم قديم وقد أحنت ظهرها علي حافة البئر العاطلة هناك قرب نخلة الغرباء: (لا تضحك كثيرا يا ولدي، فالضحك يخلف البكاء). لم تكن تعرف المسكينة أني سأرى حكمتها في المرايا منذ تلك اللحظة. مرآة كشاجم: (وكل ما غبطة الى ندم). مرآة ابن الرومي: (تنادموا كأسهم علي ندم) مرآة المعري: و(الندمان لفظ أتى من الندم)، ثم مرآة الحياة بصفة عامة، المتشظية علي امتداد الخطي والمسافات. لكأن الدائرة تكتمل وئيدا عبر الخيط الفاصل الواصل بين الطريق من الخطيئة الاولى في المسيحية والطريق الى الآخرة في الإسلام. لكأن أول درس نتعلمه علي هذه الأرض ان نندم علي كل فرح فيها وعلي كمل جرح. ان نندم علي ما جئناه من ذنب وحتى علي ما لا ذنب لنا فيه، مرور الزمن مثلا في قول ابن شيخان السالمي: (ندمت علي زمن الصبا، ندم الفرزدق في نوار). هذا اذا كنت طفلا يلهو أو شابا يحلم أو كهلا يفتح عينيه علي بداية النهايات. ولكن ماذا اذا ابتليت بالشعر وكان عليك ان تختزل في ذاتك الصغيرة هذا العالم كله، فإذا أنت وحدك واذا أنت الجميع في الوقت نفسه، أي انك كل من أشهر سيفا وكل من انغرس هذا السيف في صدره كل يد زرعت وردة وكل يد اقتلعتها، الرشاشة والأغنية، أو كما قال بودلير: (الضحية والجلاد في جسد واحد)؟ لا شك عندها انك ستكتشف معي، مثلما اكتشفت أنا منذ قولة جدتي هناك عند البئر في تلكم الأيام البعيدة، ان الكتابة ليست سوي تصريف لفعل الندم في أزمنته المختلفة. ذلك ان الندم هو القاعدة ولكن شرط الا نندم. ولعل الكتاب أو الشعراء (مع ارجاء التحقيق في دلالة هذه التسمية) أولى من غيرهم بالندم المطلق، المحض، لان هويتهم لا تخلو من خديعة ما. يقول بارط متحدثا عن نفسه إذ يكتب: (إني أتقدم رافعا قناعي). فمن من الكتاب أو الشعراء (العرب خاصة) يستطيع الاعتراف بقناعة فضلا عن الشروع في كشفه أو رفعه؟ الرجل الخير هو الذي لا يحتاج الى ان يخدع أحدا. هكذا قال روسو. مضيفا بحسرة: ولا أرى هذه الميزة الا لدي الرجل المتوحش يقصد الرجل الذي لم تروضه المدينة. فمن من الشعراء أو الكتاب اليوم، استطاع ان يختار الطريق الصعبة: ان يخوض غمار المدينة وان يظل مساويا لنفسه. ان يدخل حرب مواقع في المركز وان تحافظ روحه علي حرية الهامشي. ان يقوم بأعباء الوظيفة التي يراها دون ان يتحول الى موظف، وان يظل حرا دون ان يسقط في هامشية استعراضية أو صعلكة تنقلب بالضرورة الى نوع من الفولكلور. وبتعبير آخر: من الشعراء أو الكتاب اليوم لم يتحول الى حيوان داجن في قن ما يسمي بالساحات الثقافية سواء في مركزها أو علي هامشها؟ لا شك انهم قلة قليلة ثم ان الذنب ليس ذنب الشاعر أو الكاتب وحده، فاللغة نفسها تساهم في تأسيس حضارة الندم المزمن. ذلك ان الإنسان ما ان يدخل اللغة، أي ما ان يخرج من التوحش حتى يخرج من البراءة فلا لغة الا وهي تشير فيما تبوح به الى مسكوت عنه، ولا خطاب الا وهو يحول رغبتك الى حسرة وفعلك الى ذنب، لأنه يحول دوالك الى رهائن لدي المتلقي والمؤول. فكأن التخاطب شرح مستمر للخطاب، وتبرير واستغفار دائمين. في هذا السياق يتحول الشعر مثلا الى فرن تنصهر فيه أنواع الخطاب كلها: من السرد التذكاري الى الحلم الطوباوي، فإذا التذكر ندم علي ما حدث، واذا اليوطوبيا ندم علي ما لم يحدث بعد.
ولكنه ندم العاجزين عن المضي قدما في الخطيئة. وذاك ما يجعله ندما (شعريا) ان ندم الشعراء ليس تعبيرا عن الرغبة في التوبة بقدر ما هو تعبير عن فقدان القدرة على إتيان الذنب.
لذلك كنت أفضل ان يقال (أندم من شاعر) لا (أندم من الكسعي).
ولكن ما الذي يصل بين الشاعر والكسعي؟ ما الذي يجمع بين (مقترف) الشعر اليوم أو أمس أو غدا، وغامد بن الحارث أو محارب بين قيس، الذي قدر عليه ان يظل حبيس الذاكرة العربية بطلا للندامة؟ تري ما الفرق بين ذاك اليمني الغابر وهو يرمي عيرا في ذلك الليل القديم، فيظن انه لم يصبه فيكسر قوسه أو ربما يقطع إصبعه، ثم يصبح فإذا العير مقتول وسهمه فيه، تري ما الفرق بينه وبين الشاعر وهو يرمي ما لا يعرف، ثم وهو يكسر أقلامه أو يمزق أوراقه أسفا علي ما لا يعرف، فإذا أصبح وجد نفسه هو القتيل وسهمه فيه؟ وهو القتيل سواء انتحر مثل خليل حاوي، أو نحر مثل نجيب سرور، أم اندحر الى عصا في يد الراعي أو جلجلة في عنق القطيع؟ سدد الكسعي في اتجاه العير ويسدد الشاعر في اتجاه نفسه، لأنه يبحث عن الشعر في نفسه فتغريه بامتلاك العالم، ولا يمكن امتلاك العالم الا اذا أصبح شيئا من أشياء النفس. رمي الكسعي كي يصيب وظن انه أخطأ. ويرمي الشاعر كي يخطئ ويظن انه يصيب. ربما هنا مكمن الفرق. ولكنه فرق في الظاهر لان كلا منهما رام اعمي عليه ألا يتبين مرماه من اجل ان تتجمل الحكاية، وعليه ان يتحمل عماه كمن (يقترف) ذنبا، وعليه ان يعيش مستغفرا عن هذا (الذنب) كي يستطيع عماه ان يضيء شيئا من الطريق.
سعدية مفرح: هل أنا شاعرة؟
وتتساءل الشاعرة الكويتية سعدية مفرح هل أنا شاعرة أصلا؟!. شخصيا لا أتحقق، إن كان يهمني أن أتحقق، أو كنت أستطيع أن أتحقق، من سؤال الشعر إلا في خضم كتابة القصيدة، ولا أطمئن لمساحة الشعر داخلي إلا وأنا امضي في تلوين مساحة شعرية جديدة يمكنها أن تؤثث الفراغ، ولأن هذا نادرا ما يحدث قياسا للأزمنة اليومية التي نمارس حياتنا فيها، أجد نفسي غير متأكدة من أنني أستحق ما يمنحه الشعر لممارسيه من امتيازات استثنائية تفيض علي البشرية لتمنحها ذلك الشعور الغامض بالحياة... ذلك الشعور المراوغ بالحب... ذلك الشعور الملتبس بالقدرة علي خلق كل شيء. لا.... لست نادمة لأنني فكرت ذات يوم أن ألجأ للقصيدة باعتبارها الحل المفرط في استثنائيته لأي مشكلة استثنائية، وباعتبارها الحل الممكن لأي مشكلة ممكنة، وباعتبارها الدهشة الوحيدة التي نستطيع بناء عمارتها كلمة كلمة بل حرفا حرفا دون أن نفقد حظنا في تلقي الدهشة النهائية حال اكتمالها، وباعتبارها الغواية الأكيدة التي يمكن ان ترشد أرواحنا الطائشة.
لا لست نادمة لأنني آمنت دائما وأبدا أن القصيدة هي خلاص العالم وملاذه الأخير، ولأن الشعر حقق لي، علي المستوي الشخصي، الكثير من فرص النجاة علي هامش من واقع يومي كان يرشحني دائما للموات الأكيد ويحتفي بي قربانا مؤجلا للصمت... محض الصمت.
وإذا كان شاعر داغستان رسول حمزاتوف يقول (أيها الشعر.. أنا، لولاك، يتيم)، فانه يعني أن العالم كله سيكون يتيما لولا الشعر.
أعرف أن المرء في العادة يندم علي ما لم يفعل مما كان بإمكانه أن يفعله، أو علي ما فعل مما كان بإمكانه ألا يفعله، ولكن الشعر يتجاوز الإمكان المختار إلي إمكان قدري في معظم الحالات، ولذلك يتحول سؤال الندم إلي سؤال عبثي عندما يتماس مع مادة الشعر في هذه الحالات المعنية بالذات. أقول ذلك وأنا أمضي في يقيني الخاص بأنني لم أكن كذلك عندما أردت ولوج البوابة السحرية المفضية إلي يقين الدهشة وذهول الكلام، فقد اخترت، عندما انكشفت لي لحظة قدرية في سماء الكلمة، أن أصير (شاعرة)، وها أنذا بعد الكثير من السنوات التي انتشر فيها اسمي مؤطرا بذلك السحر الجليل الذي يمنحه الشعر للأسماء المنتشرة في فضائه، غير مهتمة أصلا باستغلال (امتياز الندم المتأخر)، الذي كان يمكن ان تمنحني إياه لحظة الاختيار النادرة ، بل إنني لا أري لسؤاله معني مهما رغم أن (الظروف) التاريخية التي تعيشها القصيدة الآن تحتم علينا أن نردد السؤال بوجوهه المختلفة. وهذا ما يجعل الشاعر في مواجهة مستمرة مع السؤال في صياغات مختلفة وتحت لافتات أكثر اختلافا. وشخصيا غالبا ما تكون إجابتي الموحدة تشير إلي رأي ذكي للشاعر أوكتافيو باث ورد في كتابه الصغير الجميل (الشعر ونهايات العصر)، و يقول فيه: (كل حديث عن الشعر يجب أن يبدأ أو ينتهي بسؤال: كم من الناس ما زالوا يقرؤون كتب القصائد؟ ومن هم هؤلاء؟)
ويري باث أن الشعر لا يلفظ أنفاسه الأخيرة ولكنه يعطي الانطباع بأنه متعب، أو انه يعاني حتى من نوع من الجدب، ورغم أن هذا الشاعر الكبير يعترف بعدم ظهور أي حركة شعرية ذات مجال واسع لمدة ثلاثين سنة، وذلك للمرة الأولي منذ المرحلة الرومانسية، إلا انه يشير في الوقت نفسه إلي أن هذا ينطبق علي الفنون الأخرى، وإلي أن هذه الظاهرة لم تمنع من ظهور شعراء وفنانين مجيدين، فكل جيل يطرح أعلامه. ولذا فإن باث ليس قلقاً علي صحة الشعر بل علي المكانة التي يحتلها في المجتمع الذي نعيش فيه. وهذا قلق لا بد أن يتشارك فيه كل الشعراء دون أن يفقدوا الأمل في تحويله إلي مجرد قلق فلسفي لا يكون بالضرورة تعبيرا عن الشعور بالانتقاص من مكانة الشعر الإنسانية التاريخية بقدر ما يكون تعبيرا عن الشعور بأهمية أن الشعر في التكوين البشري، وبأهمية أن تصير الدهشة، التي هي هوية الشعر الأولي حتى لا تكون الأخيرة، عنواناً للفيض البشري المتلاطم في بحر التكنولوجيا الحديثة.
عبد القادر الحصني
(سوريا)
ان مفخرة الشعر تكمن في أمرين الأول الوعي لهذا القدر الداخلي، والثاني مسؤوليته عن هذا الوعي بعلاقته مع الشعر.
دع الشاعر يندم دع الشاعر يندم علي كل شيء ولكن لا اعتقد بأنه يندم، قد ييأس ويتألم ويضيق، ولكنه لا يندم إلا إذا ندم الجبل علي كونه جبلا، والبحر علي انه بحرا، اذا كان للشاعر ان يندم فيمكن ان يندم علي ما فرق من مسؤوليته عن علاقة كونه شاعرا بالحياة، أي يندم علي ما صدر عنه من شعر يفتقد الى الصدق الذي يتماهى بين جوهر موهبته وتجليات تطلعاته التي يتصدي لها. علي الصعيد الشخصي أشعر بأنني في أعلي درجات في الإنسانية حين أكون شاعرا، وهو تحقق لا ابتغي شيئا بعده، وهو تحقق سعيد علي ضوء ما ينطوي عليه من مآسي وألم سعيد لأنني مجدت الحق والخير والجمال وسعيد لأنني شجبت الطاغية وسعيد لأنني مضيت الى جوهر الشعر وكتبت شعرا في مناطق هي اقرب ما تكون الى هذا الجوهر، سعيد لأنني لم أقدم في قصيدة بأية كلمة مديحا لأي حاكم أو ملك.
لا أندم إلا على البدايات
ميخائيل عيد
(سوريا)
سؤالكم جميل ومحرج.. أنا غير نادم الا علي ما نشرته قبل ان يكون في المستوي اللائق.،. ومما يخفف من ندمي هذا قول حفظته منذ صغري للأديب الكبير الراحل ميخائيل نعيمة فحواه: (أنا راض عن كل ما حدث لي لأنه جعلني أصير أنا). ثم ان عملية النضج مسألة لا نهاية لها... فما نراه مميزا اليوم قد نراه غدا اقل من عادي.. وأما الندم علي ان يكون المرء شاعرا فهذا ما لم يخطر لي في بال.. والمسألة عندي هي: هل أصبحت شاعرا حقا؟
ان طرحي السؤال علي نفسي يؤكد شكي بما نشرت، كما يؤكد تطلعي الى الأحسن.. وقد يكون هذا الرضا عما نحن عليه من نعم الطبيعة.. وقد قيل: كل إنسان يرضي بما قسم له من عقل وموهبة.. مع ان الناس لا يرضون عما قسم لهم من مال وجاه وسواه.
واذا كنت اغبط كائنا ما من الكائنات فانا اغبط الشعراء الشعراء.
فاروق جويدة: اندم لو لم أكن شاعرا
ويقول الشاعر المصري فاروق جويدة لست نادما علي كوني شاعرا بالعكس فإنني إن لم أكن شاعرا لوددت أن أكون شاعرا فالشعر هو الجمال بكل معانيه وهو الرومانسية في أجمل صورها وهو روح تلك الأمة وضميرها فكيف اندم وأنا أمارس هذا الدور بالعكس فان كتابة الشعر يمثل بالنسبة لي متعه لا تضاهيها متعة وخاصة اذا وجدت لهذا الشعر صدي في نفوس القراء.
الشاعر فاروق شوشه
فيقول لم اندم يوما علي كوني شاعرا بل بالعكس فإنني فخور بهذا لان الشاعر في حد ذاته يعد قيمة كبيرة للمجتمع وهو يشكل الرصيد الثقافي والوجداني لتلك الأمة.
جميلة الماجري: حال الشعر
وتقول الشاعرة التونسية جميلة الماجري إن ما آل اليه الشعر من حال وهو بريء له أسباب وأهمها ظهور فنون صرفت الجماهير عن الشعر أو تقاسمتها معه معتمدة وسائل تأثير ضوئية سمعية ومرئية وسهلة والنفس البشرية ميالة الى المجهود الأدني.
وللشعراء ايضا والمتطفلين علي الشعر وادعيائه دور في انصراف الجمهور عن الشعر بالنصوص الممسوخة والتي ضيعت وسائل نفاذها الى المتلقي والتأثير فيه.
مما يجعلني أقول ان الشعراء في حاجة الى وقفة ومراجعة لأنفسهم والبحث في وسائل جديدة تجعلهم يستردون مكانتهم والي التفكير في كيفية استقلال قنوات النقاد العصرية اقصد وسائل الاتصال وتذكر انهم يكتبون لجمهور وليس لأنفسهم.
فؤاد كحل
(سوريا)
لا يمكن ان يندم من يمكن ان يكون شاعرا، فالسعادة الكبرى ان تمنع الشاعر الطبيعة الموهبة له بهذا الشكل وان يعبر عن نبضات قلبه ووجدانه، وان يقول (لا) في وجه العالم، وان يتخذ موقفا من خلال موقف جمالي، هذا الموقف الجمالي الذي اتسم به الإنسان منفصلا أو متساميا عن الكائنات كافة في هذا العالم، فانا شخصيا اعتز بأنني ولدت شاعرا، ولكنني اذا كنت اندم فاندم لما يتناسب مع النسبة التي لم استطع ان أحققها في الشعرية في تجربتي الشعرية، أما كل ما نجحت به فهو يؤهلني لان أقول أني سعيد لكوني خلقت شاعرا، الشعر هو الجمرة التي يحملها الشاعر تجاه هذا العالم وهو البحث عن الجمال وعن المطلق وعن الحياة العظيمة.. وما يؤلمني أنني لم استطع ولا استطيع ان أحقق ما اطمح اليه من مستوي جمالي تتطلبه القصيدة الشعرية ويتطلبه الحكم الشعري لان هناك دائما لدي الشاعر الذي يحترم نفسه ما يحسه بأنه لم يستطع ان يعبر عنه، ولا اعتقد بان شاعرا أتى الى هذا العالم واستطاع ان يعبر عن كامل مكنونه.
وبالتالي فانا مسرور جدا لكوني خلقت مشروع شاعر وأرجو من تجربتي متابعتي للكتابة الشعرية وللقصيدة ان أحقق ذلك الأفق الذي اطمح اليه، ولكنني لو ولدت مرة ثانية لرجوت ان أولد شاعرا مرة ثانية والشعر وسام وهو جوهر الإنسان.
حسان عطوان: قصة ومغزى
الشاعر حسان عطوان عبر عن رأيه لقصة رواها لنا عندما كان عضواً في المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب بدمشق:
قبل عشر سنوات عندما كنت في اتحاد الكتاب العرب كنت أدهش بذلك الشاعر أو ذاك وما يزيد الدهشة ان تري الآن عشرات الشعراء الذين يتقدمون للانتساب الى جمعية الشعر، وتري نتاجاتهم الشعرية فبعضهم طبع مجموعة شعرية وبعضهم طبع العشرات منها وقد لا تصدق ان قلت لك بان عدد أعضاء جميعة الشعر في اتحاد الكتاب العرب الآن 400 شاعر هذا غير (الفراطة) المرشحين ليكونوا أعضاء في المستقبل القريب.
في مجلس اتحاد الكتاب العرب عقدنا جلسة اختلفنا فيها علي إيجاد الدواوين الشعرية التي يريد أصحابها طباعتها علي حسابهم. الشاعر شوقي بغدادي لا يمانع في طبع أي ديوان حتى وان كان مستوي الشعر فيه رديئا ولكن نخبة من الشعراء في المجلس قلنا في وقتها لا..
الديوان حتى وان كانت طباعته علي نفقة صاحبه لا يطبع اذا كان مستوي الشعر هابطا وإلا فعلى الشعر السلام لأننا نكون بذلك ساهمنا في تخريب ذوق الناس ولكن الغرابة ان يكون رد (شوقي بغدادي) علي الذين قالوا له لا (وما دخلكم انتم في منع من يريد طباعة ديوان الشعر علي حسابه، فمهما كان مستواه الإبداعي من حقه ان يطبع ديواناً مثله مثل غيره).
أتساءل هل هذا كلام؟ انظر الآن العملة الرديئة طردت العملة الجيدة من السوق وشاءت الأحوال ان يتهافت علي المنابر والمغانم ما دامت الحكومات حولت الشعر الى ديكور والشعراء الى ديكور واتحادات الكتاب العرب تسترضي إرضاء وتشتري ذلك الزعيم لاعتبارات لا علاقة لها بالشعر ليس سوي الحفاظ علي الكراسي والمباهج الأخرى، واختلط الحابل بالنابل والنتيجة كما تراها في هذه المهرجانات المنتشرة علي جسم الوطن العربي أما وضع الشعراء الحقيقيين فوضعهم (آه يا زمن الشعراء).
أما على الصعيد الشخصي فانا لست نادما على كوني شاعرا ولكن اشعر بالأسف على تردي الحالة الشعرية التي وصلت إليها وأنا أربأ بنفسي ان أكون في هذا المستنقع.
شارك في التحقيق:
أمستردام: عدنان حسين احمد
دمشق: منذر الشوفي
تونس: شمس الدين العوني
القاهرة: مصطفي عمارة
جريدة (الزمان) --- العدد 1501 --- التاريخ 2003 - 5 - 11