أحمد عبدالمعطي حجازي:

ملاقاة الشاعر العربي أحمد عبدالمعطي حجازي ليست أمراً سهلاً، والحوار معه لا بد أن يتماس مع ضفاف أخرى، لذلك خاتلته حينا وناورته حينا آخر وركبت الحوار بحيث يذهب بنا خيط الحديث إلى مبتدأ ومنتهى، والى هدف وغاية. في جلسة في فندق “رادسون” في الشارقة وفي ضوء الصباح الربيعي كان حجازي يتحدث بصوت موقع وموزون وبحركات منتشية بذاتها وبإحساس طاغ بالشباب والفتوة وهو السبعيني الذي لم تحطمه المدن التي بلا قلب إلى مراثي للزمن الجميل حتى تأملاته الذاهبة إلى اختلاجاته الخاصة وهو يتحدث عن كائنات مملكة الليل. لقد صاح في وقت من الأوقات “لم يبق إلا الاعتراف” لكنه تقدم وهجم، عاد وتحصن، قسا على جيل جديد من الشعراء الشباب ثم عاد كي يجعل القسوة سوط محبة وحرصاً وتشبثا بالشعر والقصيدة اللذين يذهبان إلى الناس ويتجولان في الأسواق. يحب أن يقول عن نفسه بالتقطيع العروضي ذاته للجملة: الحياة عندي مقدمة علي أي شيء آخر. هنا مناوشة له:

* في بداية هذا الحوار، تطرق ذهني فكرة تتصل بموضوع الكتابة والزمن، ولذلك اسمح لي أن أطرح عليك السؤال التالي: ما معنى أن تكون شاعراً في السبعين من العمر؟ أتكلم هنا عن حماسة الكتابة وعن جمرة الشعر، هل لا تزال متقدة كما كانت أم تلبسها تعب السنين؟

- لقد أثرت بسؤالك في نفسي جملة أشياء دفعة واحدة، أولها انه برغم تعدد اهتماماتي وبالرغم من أنني اكتب غير الشعر، أكتب المقالة مثلا، وأكتب الدراسة، لكن الشعر يظل هو أهم شيء في حياتي وهو جوهر تجربتي، وأحس الآن بضرورة وجوده أكثر من أي وقت مضى، والغريب أني في الوقت الذي قلَّ فيه إنتاجي الشعري من الوجهة الكمية، أصبحت حاجتي للشعر فيه ملحة، ولا أتحدث هنا عن حاجة فردية بالمعنى المحدود للحاجة، وإنما أتحدث عن دور والذي لا أتمثله اجتماعيا فقط، وإنما أتمثله كيانيا، بمعنى آخر، لا أرى لي وجوداً خارج الشعر.
من ناحية أخرى أنظر إلى تجربتي وأنا في السبعين فأشعر بالرضا، أولا لأني ما زلت موجودا كشاعر وأنا في السبعين على الرغم من تباعد فرص الإنتاج، لكن قارئ الشعر وناقد الشعر ما زال يجد وجودي ماثلا. أي أني ما زلت موجودا كشاعر.

* بمعنى انك تعتقد أن قصيدتك لا تزال تؤثر في الأجيال الشعرية اللاحقة وكصوت خفي في هذه النصوص؟

- مؤكد إن وجودي الشعري مازال حاضرا كصوت خفي لدى بعض الشعراء، ومن هؤلاء الشعراء، مصريون وشعراء فلسطينيون، وشعراء، ربما لا أعرفهم في بلاد أخرى وفي أقطار أخرى، استفادوا من عملي وبدرجات مختلفة، هناك الاستفادة الظاهرة وهناك كما ذكرت أنت وكما عبرت، ذلك الصوت الخفي، هناك ما هو محسوس في شعر هؤلاء الشعراء.

* هل هذا التأثير ناجم عن كونك تمثل موقفا في الشعر وتجربة مخصوصة أم لاعتبارات أخرى خارج دائرة الكتابة والإبداع؟

- إن هذا الموقع ناجم باعتباري كنت أمثل تجربة في الشعر، لكن هناك دائما الموقف الفكري والسياسي والموقف الأخلاقي. أي هناك ما يمثله الشاعر بشعره في ميادين لها علاقة بمجتمعه وبالحياة الإنسانية وصلته بالآخرين وبدوره في حياة الناس. وهناك أيضا ما يمثله الشاعر بشعره في إطار البيئة التي يعيش فيها وخارج هذه البيئة، في إطار العصر الذي يعيش فيه وخارج هذا العصر أيضا.
وفي ظني، وأنا في السبعين أستطيع أن أقول، انه عندما أتصل بالجمهور الذي يستمع إلي أو الذي يأتي لكي يسمعني وأقرأ ما يكتب عني، أجد هذا الذي ذكرته، أي أني قادر على أن اشعر بالرضا عن تجربتي الماضية، وإن كنت أتمنى الاستمرار وأن أواصل العمل في استكمال هذه التجربة.

* لا شك في أن لأحمد عبدالمعطي حجازي رغبة قوية في أن يكون حاضراً في الأزمنة المقبلة، ما هو العمر الافتراضي الذي تتصوره لنصوصك؟ فإذا كانت قصيدة عمرو بن كلثوم لا تزال حاضرة معنا و إذا كانت نصوص ت.س إليوت وغيره من الشعراء لا تزال تكتسب صفة الديمومة والحضور، فكيف تتصور مصير قصيدتك في الزمن الآتي؟ أقصد الحديث عن مستقبل الشعر.

- إن العمر الافتراضي لأي شاعر، هو عمر الإنتاج الشعري، ويتحدد في الغالب ما بين العشرين أو ما تحتها بقليل والأربعين أو ما بعدها بقليل.
وهذه العشرين سنة تبقى مرحلة إنتاج وفير وعطاء خصب، إننا هنا نتحدث عن معدلات رياضية وعن المتوسط ولا نتحدث عن الفلتات أو الاستثناءات، وهذا الكلام ينطبق على شاعر مثل بودلير، وينطبق بتضييق أكثر على رامبو، ولكن عندما نتحدث عن فيكتور هوغو مثلا أو نتحدث عن أراغون أو غوته، فسنجد أن هؤلاء قد امتد عمرهم الفني طويلاً، وكانوا في منتهى الخصب ولم يكفوا عن العطاء والإضافة، وقدموا إضافات نوعية بعد أن تجاوزوا السبعين. وفي ظني، هذا حدث مع غوته ومع فيكتور هوغو الذي ظل شابا حتى عاد من منفاه وقد تجاوز الثمانين.وباختصار، أستطيع أن أتصور انه لي ما يقرب من عشرين قصيدة يمكن أن تعيش فترة طويلة وأحب طبعا، أن تعيش هذه القصائد قرونا أو آلافاً من السنوات، لأن هناك قصائد عاشت آلاف السنوات.

* ولكن، لنعد إلى هذه المسألة، أنت ذكرت عمرو بن كلثوم، هل تعتقد حقا إن قصيدته استطاعت أن تعيش لأنها قصيدة جيدة؟ أنا لا أرى ذلك، أنا اعتقد إن عمرو بن كلثوم استفاد جدا من كونه جاهليا، أي من كونه مصدر اللغة وتحديدا لكونه ينتمي لمادة اعتبرت مصدر اللغة والتي تكاد تكون المصدر الوحيد لوجود أمة؟

إننا عندما نتحدث عن العروبة فنحن نتحدث قبل كل شيء عن ثقافة مشتركة، وهذه الثقافة المشتركة حينما نتحدث عنها، نتحدث قبل كل شيء عن “أدب” أي عن ثقافة لغوية، وعندما نبحث عن مصدر لهذه الثقافة اللغوية، نجد هذا المصدر في القرآن الكريم وفي الشعر الجاهلي. والشعر الجاهلي ليس مجرد مصدر ولكنه مصدر حتى للقرآن الكريم، هكذا ترى إن الموضوع لم يرتبط فقط بالثقافة وإنما بالدين. لذلك اعتقد أن الشعراء الجاهليين عامة قد استفادوا من هذا التاريخ ومن تطورات التاريخ العربي. وأذهب أكثر من ذلك لأقول، لو أن العرب ظلوا يتطورون في الحدود التي تتطور فيها كل امة داخل حدودها (أي داخل الجزيرة، ولم يتح لهم أن يفتحوا العالم كما فعلوا، فهل كانت قصيدة عمرو بن كلثوم ستعيش؟ هذا سؤال مهم. أنا أتصور إذن إن حياة النص مرهونة بعدة شروط وقبل كل شيء أن يمثل النص تجربة إنسانية تستطيع أن تتجاوز زمنه إلى زمن آخر في داخل الحدود القومية نفسها، ولا شك في أن العرب الآن الذين يعيشون في الجزيرة يختلفون عن العرب الذين كانوا يعيشون في العصر الجاهلي، ومطلوب من هذا النص أن يلبي احتياجاتهم وان يلمس وجدانهم وان يروا أنفسهم فيه كبشر أولا، وبشر لهم هويات وسمات خاصة ثانيا.

* ارتباطاً بما قلت، إذا فوِّضت مثلا بإنتاج “منتخبات” للشعر العربي الحديث ومنحت هذه السلطة، فمن سيكون معك في هذه الانطولوجيا ومن سيكون خارجها، على مدى قرن من تاريخ الشعرية العربية؟

- من المؤكد أني سوف اختار لكل الشعراء الذين نعتبرهم شعراء. هناك قدر من الاتفاق على من هو الشاعر ومن هو غيره، وأنا سأستبعد، طبعا، غيره، ثم أنظر إلى الشاعر المتفق على انه شاعر.

* هل بحكم الإجماع أم لشيء آخر؟

- لا، ليس بحكم الإجماع ولكن لأنه شاعر بدليل الإجماع. ولأنني لا أريد أن اذكر أسماء ليس بسبب ترددي في ذكرها أو عدم رغبتي في ذلك، ولكن لأنني لا أستطيع أن احصر الأسماء، وأخشى أن أذكر أسماء وأسقط أسماء أخرى، أحبها.
وهناك أيضا الاختيار الواسع والاختيار الضيق. عندما تختار اختيارا واسعا لتمثل به الحركة الشعرية فهذا شيء، وعندما تختار اختيارا ضيقا لتلبي به حاجة شخصية شيء آخر، وبالتالي لكل شروطه، ولا بد أن يختلف الاختيار الأول عن الاختيار الثاني.

* داخل هذه المنتخبات هل أنت تجاوز، استمرارية، بديل، أم واسطة عقد؟

- شخصياً اعتقد، أن لي شعراً يستطيع القارئ عندما يقرأه أن يقول هذا شعر عبدالمعطي حجازي، إذن لي لغة شعرية بصرف النظر عن مكاني في الأجيال المختلفة أو في الشعراء المختلفين، وتأتي بعد ذلك علاقتي بمن حولي، شعراء جيلي أو شعراء الجيل الذي سبقني والجيل الذي تلاني، وفي ظني، فأنا لست انقطاعا وإنما أنا طور جديد من أطوار الشعراء الذين سبقوني، ليسوا شعراء جيلي بالذات، وإنما الشعر العربي بشكل عام.
فإذا كان صحيحا أني طور لمن سبقني من شعراء، فلا شك أني اصل كذلك بالقياس إلى من تلاني، وهذا واضح جدا عندما تنظر إلى شعر شاعر مهم مثل أمل دنقل فسوف تجد الأمر كذلك.

* منظورك الشعري هو قَلْب للكوجيتو الديكارتي، لقد ظللت تردد قاعدتك المخترعة: أنا أفكر إذن أنت موجود. هل يعني أن القصيدة يجب أن تذهب إلى الناس وان تكون معهم ملتزمة بقضاياهم؟

- أنا اعتقد بأن القصيدة يجب أن تكون مع الناس وان تذهب إليهم دون أن تتخلى عن أن تكون قصيدة وان تتخلى عن نفسها، يجب على الشعر أن يكون وفيا للآخرين دون أن يتخلى عن نفسه، ودون أن يخون نفسه. والذين يظنون إن الوفاء للشعر. يقتضي خيانة الآخرين مخطئون، والذين يظنون إن الوفاء للحياة والواقع يغفر خيانة الشعر هؤلاء أيضا مخطئون. انظر مثلا، هل ترى في شعر الشعراء الفرنسيين الكبار شيئا يمكن أن يكون لا مبالاة بالحياة أو لا مبالاة بالشعر أنا لا أرى ذلك، إني أستطيع أن اسقط ولست خاسرا كثيرا من التجارب الشكلية السخيفة، هؤلاء الذين يتحدثون عن “الليتريزم” والشعر الحروفي ويبالغون في الشعر الآلي الميكانيكي للتجارب السوريالية التي كان يقوم بها السورياليون وهم يعبثون. إن أعظم ديسنوس هي القصائد التي قدم فيها تجارب إنسانية وأعظم قصائد روني شار هي الخبرة التي عاد بها إلى الأشكال الشعرية الكلاسيكية والى ما قبل ذلك.

* هل هذا هو معنى كوجيتو عبدالمعطي حجازي؟

- نعم هو ذا، أنا أقف مع نفسي إذن أنا أقف مع الآخرين.

* أكدت دائما على إن التحولات والفظائع يجب أن تتم بسلاسة، لكن جاء بعد جيل شعري وطالب بضرورة قتل الأب بأبعاده الرمزية، وأنت احد هؤلاء “الآباء”، ألا يفزعك ذلك، ألا يؤثر في وجود أزمة حوار وتواصل بين الأجيال الإبداعية؟

-أنا اتفق مع الذين يدعون إلى قتل الأب، لكن بشرط أن نمتلك ما نستطيع به أن نقتله، لأننا لو امتلكنا أسلحة قتلة لأثبتنا وجوده ونحن نقتله لأن وجود الأب لن يتحقق إلا بالاستمرار فينا، بأن نوجد، وإلا كيف يوجد الأب؟ فالأب مرحلة، جيل، عصر، نظرة للحياة، لكي يبقى ويستمر لا بد أن نبقى نحن ونستمر، أي لا بد أن نتمكن من تجاوزه، وان تكون لنا أدوات التجاوز.
إن مشكلة الأجيال الراهنة التي تتحدث عن قتل الأب لا تمتلك أدوات التجاوز، إنهم يصيحون ويرفعون الشعار ولا يفعلون، والدليل على ذلك، إنهم لم يفشلوا فقط في قتل الأب، بل فشلوا حتى في قتل الجد، ففي حياتنا الآن نعود إلى الأسلاف الموتى ونحيي الرمم ونتقمصها.

* هذا التجاوز يحتاج إلى برنامج دقيق، ما هي مفرداته؟ وهل العرب مؤهلون اليوم للعب هذا الدور؟

- إننا إذا أخذنا في الاعتبار أننا عرب وإننا ورثة تواريخ وثقافات عظيمة، متعددة ومتنوعة ومتفاعلة وقادرة على أن تمدنا وتمثل امتداداً وتاريخاً متصلاً، فإننا نستطيع أن نفعل ذلك. فلو لم يكن لنا تاريخ قديم سابق مشترك وغير مشترك، ولم يكن لنا ماض تراثي استطعنا به أن نتفاعل وان نواصل حياتنا وان نقبل الجديد الذي أتى به العرب والمسلمون وان نعطي هذا الجديد ما اخترناه من تاريخنا السابق بحيث مثلنا في العصور الوسطى أعلى مرحلة من مراحل البشرية.. إذا تمثلنا كل هذا فنستطيع أن نقول: نحن جديرون بأن تكون لنا تجربة متميزة في العصر الحديث، لا ذلك التميز الذي يعني العزلة ولا ذلك التميز الذي يعني الارتباط بالقديم والتشبث به، ولكن ذلك التميز الذي يعني المشاركة الفعالة. وفي هذا نحن مطالبون بأن ننظر في تراثنا الماضي وفي تجربتنا الحديثة نظرة نقدية، ولا بد أن نراجع ما فعلناه خلال المائتي عام الماضية بعيدا عن التاريخ الرسمي.

* لكن ذلك يتطلب جرأة ثقافية وهي غير موجودة الآن؟

- إنها غير موجودة عند المثقف العربي لأن السلطة العربية أفسدت المثقف العربي. إن المثقف الأوروبي لم يستطع أن يؤدي دوره كما أداه، بداية من عصر النهضة حتى الآن، من برونو وجاليلي حتى تصل إلى سارتر مرورا بفولتير، إلا بإفساح مجال من الحرية له.

* إن هذا لا يرتبط فقط بشرطي الحرية والديمقراطية، ولكن بتطور اجتماعي على نحو خاص حين تنشأ طبقة جديدة خارج السلطة، لها مثقفوها، وهي المرشحة لصنع المستقبل، إنها الطبقة البرجوازية بمؤسساتها المختلفة.

إني أتحدث هنا عن فكرة المثقف المستقل الذي يعتبر ملكا، وبعد ذلك يستمر هذا التطور فتنشأ المسارح الحرة المستقلة عن الدولة وتنشأ دور النشر الحرة وتنشأ الصحف الحرة واستوديوهات السينما الحرة وتنشأ الطبقة الاجتماعية وتستطيع أن تمول المثقف عن طريق الشراء، الآن، لا.
هذا حدث في مصر في فترة وجيزة بين أواسط القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين، فظهرت الصحف والمسارح، وكان الفنانون ينشئون فرقا وحدهم قبل أن تسعى الدولة لإنشاء فرق قومية، لقد كانت هناك مسارح نجيب الريحاني وجورج ابيض ومسرح رمسيس، ونشأت السينما المصرية ودور النشر المختلفة.
الآن، إن المثقف العربي في كل البلاد العربية مضطر لأن يكون موظفا، لأننا لم ننجح إلى حد الآن في خلق طبقة بورجوازية، ما لدينا هو سكان مدن وسكان أرياف لا غير.

* مرحلة باريس تجربة مهمة وأساسية في حياتك كمثقف عربي، ففيها وثقت الصلات بالثقافة الأوروبية وعشت تماسات امتدت لحوالي 87 سنة، هل تعتقد إن مثقف بلاد المهجر قادر على محاورة الآخر وتصحيح الصورة السلبية للإنسان العربي؟ أم انه مندمج سلبيا وحشري؟

- كجواب أولي، أقول إن المثقف العربي في المهجر يمكن أن يسهم ايجابيا في التعريف بالثقافة العربية ذلك أن مرحلة باريس التي عشتها قد كانت مرحلة مهمة في تاريخ الثقافة العربية الحديثة، فمعظم الأعمال التي ترجمت من الأدب العربي الحديث إلى اللغة الفرنسية ترجمت في تلك الفترة في السبعينات والثمانينات والتسعينات. وقبل ذلك كان المستعربون الفرنسيون يترجمون الأدب القديم والفكر القديم ويهتمون بابن عربي وبالشعر الجاهلي وكانوا يهتمون أيضا بالمجتمع العربي وتطوراته وبالطوائف، وبالتشكيلات القومية التي يتألف منها، وترجموا بعض ما أنتجه طه حسين وما أنتجه توفيق الحكيم. لكن الترجمة للأجيال الجديدة من شعري أنا ومن شعر البياتي ومن شعر السياب ودرويش وادونيس وسوى هؤلاء، وفي الترجمة من روايات صنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني وإبراهيم عبدالمجيد وغيرهم، هذا كله حدث في السبعينات.
ومعهد العالم العربي ظهرت فكرته أيضا في السبعينات وتحقق في أوائل الثمانينات. إن هذا الاحتكاك الذي تم بين المثقفين وأوروبا من أمثال محمود أمين العالم، وعبدا للطيف اللعبي وجمال الدين بن الشيخ واركون وجورج طرابيشي وادونيس ودرويش، كانت تجربة جد مهمة ولم تكن طرفا سلبيا في كل هذا، لقد كنا فاعلين، ومنذ أن ذهبت إلى باريس اندمجت مباشرة في السياق الثقافي. لقد ذهبت إلى باريس في مارس/آذار 1974 وكتب الطاهر بن جلون عني مقالته الشهيرة في “اللوموند” “باريس بعين حجازي” ثم كتب عني في “ليمانتي”، وبعد ذلك دعيت إلى جامعة باريس ثمانية حتى أحاور طلاب الدراسات العربية حول تجربتي الشعرية، من خلال جمال الدين بن الشيخ الذي كان يرأس الشعبة في ذلك الوقت. في نهاية هذا اللقاء عرض علي جمال الدين بن الشيخ أن ادرس الشعر العربي بداية من العام الجامعي المقبل.
وقد مكثت في هذه الجامعة حتى سنة، 1990 خلال ذلك كانت هناك علاقاتي الأدبية: علاقتي بجاك بيرك الذي واظبت على حضور درسه في الكوليج دو فرانس حيث حاضر عن طه حسين وبلاغة القرآن الكريم، علاقتي بماكسيم ردنسون وغفيك وميشيل دوغي وشعراء مجلة “SUD” وأندريه ميجيل الذي دعاني إلى إلقاء محاضراتي عن الشعر العربي في القرن العشرين في الكوليج دو فرانس وهذه دعوة لم تتح إلا للنادرين من المثقفين العرب.
وأظن أن ما قمنا به في فرنسا قام به مثقفون آخرون في ألمانيا والولايات المتحدة وفي البلاد الاسكندنافية وهولندا. في تلك الفترة شاركت في مهرجانات دولية في اليونان وايطاليا والسويد ومدريد ووارسو وبراج، أما الآن فإن الحضور العربي شيء مؤسف، انه تفجيرات قطارات مدريد و11 سبتمبر، لذلك فاني أقول، بأنه إذا أردنا أن نتقدم فعلينا أن نعيد النظر في ماضينا وحاضرنا وان نمتن علاقتنا بالحاضر والمستقبل وبالآخرين.

* لك كتاب يتحدث عن “عروبة مصر” وهو كتاب سجالي، غير أن هذه الدعوة ليست هي وحدها الموجودة، هناك مصر الفرعونية.. هل هذه العروبة لا تزال ممكنة كدور ومركز وإشعاع؟

- ان عروبة مصر لا يستطيع احد أن ينكرها، ولكن ما هي هذه العروبة؟ من المؤكد إنها ليست العروبة التي يقدمها مثلا حزب البعث وليست هي العروبة التي تبدأ من الفتح العربي، وليست هي العروبة التي تجعل مثلي مثلا يعتقد أن النموذج البدوي هو مثله الأعلى.
يجب أن نعتبر إن العروبة جامعة تضم مختلفين، وهذا الاختلاف ليس خلافا أو شقاقا، وإنما هو تنوع وتعدد، وهو مرشح لأن يكتمل بعضه ببعض ولا يكتمل بعضه إلا ببعض، إن مصر لا تستطيع أن تعيش منعزلة عن باقي الأقطار العربية.
إن العروبة قبل كل شيء، ثقافة مشتركة ومصير مشترك ونطمع الآن في ألا ننظر إلى العروبة كما لو كانت استعادة لوضع قديم لأن هذا الوضع القديم لم يكن قائما إلا في خيالنا.
ولا يوجد شيء اسمه مصر الفرعونية إلا في التاريخ القديم، وهو تاريخ ما يزال حاضرا لكن تعبر عنه مصر الراهنة العربية، ومصر التاريخ ليست كبلد نشأ بالأمس، إذ لابد من الاعتراف بقدرات مصر من اجل أن تقدم للعروبة بقدر ما لها من طاقات.

* عرفت الكتابة مرة بأنها وعظ، لكنه وعظ ليس كما يفعله رجال الآداب أو البوليس أو رجل الدين، نريد أن نتكلم عن وظيفة الأدب ووظيفة الكاتب، ما ماهية هذه الوظيفة؟

- الكاتب قبل كل شيء، سواء أكان ناثراً أم شاعراً، فهو يذكر الإنسان بإنسانيته وبأن له عقلا وخيالا وعواطف وذكريات وأحلاماً وانه لا يعيش وحده بل يعيش مع آخرين يشاركونه هذه اللغة، ويعيش ضمن تراث نقلته هذه اللغة، هذا هو الكاتب، ولذلك فإنه ليس واعظاً لأن الواعظ يريد أن يذكر الإنسان بأنه ليس إنسانا أو بأن عليه ألا يكون إنسانا، أي عليه أن يرقى فوق نفسه.

* الشاعر عبدالمعطي حجازي بدأت معارضا وانتهيت في كرسي الشعر في المجلس الأعلى للثقافة، هل البداية من المفروض أن تؤدي إلى مثل هذه النهاية؟ أريد أن أتكلم عن علاقة المثقف والمؤسسة.

- في ظني، ليس هناك نشاز، البداية منطقية والنهاية منطقية أيضا، المسألة تتعلق في عمومها بنوع  من المصالحة، فأحيانا يتنازل المثقف حتى يقترب من المؤسسة، وأحيانا أخرى، تتنازل المؤسسة حتى تقترب من المثقف، وأحيانا عديدة يتنازل الطرفان حتى يقترب كل منهما من الآخر.
ووصولي إلى المجلس الأعلى للثقافة لم يكن تنازلا مني قط، ولو كان الأمر تنازلا لسعيت إلى ما هو أبعد بكثير! إن هذا الوصول لم يضف لي شيئاً، وهناك أماكن تضيف لها من يعمل فيها وأماكن تضاف إليهم.
إن المجلس الأعلى للثقافة هو مؤسسة رفيعة ونشيطة والفضل في هذا يعود إلى د. جابر عصفور الأمين العام، لكني أقدم للمجلس الأعلى ما أستطيع أن اقدمه لأني أريد أن اخدم الثقافة المصرية، ولقد انتفعت شخصيا كثيرا بالآخرين، الذين وقفوا إلى جانبي والذين نشروا لي والذين أشادوا بي واحتضونني واحتفلوا بي. والمهم عندي أني لم أسع ولم استثمر عملي الثقافي استثمارا ماديا حتى الآن.
وأريد أن أتحدث عن شيء آخر، وهو تحولات المعارض وتحولات اللامنتمي شئت أم أبيت، فإن هذا اللامنتمي يصل إلى مرحلة إذا واصل تطوره يصبح فيها كلاسيكيا، إن اضافاته الأولى التي كانت جديدة في زمن لا تظل جديدة بعد خمسين سنة، وإنما يحاول أن يستوعب هذه الإضافات ويحولها إلى خبرة مشتركة، أي يتحول عمله الثقافي إلى أساس من أسس الثقافة العامة، بمعنى يتحول إلى كلاسيك. إن أي شاعر لم يبدأ بداية خارج النص إلا وانتهى داخل النص كما يقال، إن مصير الشاعر أو الكاتب أو المفكر هو المؤسسة لكن ليس المؤسسة القديمة، فطه حسين الذي بدأ بالشعر الجاهلي ينتهي وزيراً للمعارف، لأنه استطاع أن يفرض منهجه.

جريدة الخليج ـ حاوره: حكيم عنكر