النص شهادة

كلام يهطل من سماء مبتلة

علي جعفرالعلاق *

(1)

سأعترف أولاً، أن صلتي بالشعر، ومنذ البداية، كانت مصدر كدر غانم بالنسبة لي لا أتبين ملامحه بسهولة. كنت أنمو، وثمة وهم جميل يرافقني، ويلون نظرتي إلى الشعر والشعراء وصلتهما بالحياة. ورغم عبث الأيام وبطشها فإنني ما زلت أميناً على ذك الوهم الساطع الحميم: أعشقه وأتشهاه وأرفض التنازل عنه تحت أي ظرف كان.
ما زالت ذاكرتي، حتى هذه اللحظة الموحشة، مبتلة بذلك الصباح الخريفي الذي كان يغمر طفولتي وجدران المدرسة وأشجارها بالبرد واللذة والفضول. في تلك اللحظة فقط، من يوم الدراسة الأول، عرفت أن للقصيدة قائلاً من لحم وحنين وقدمين تلامسان الأرض. لقد صادف أن أحد معلمي المدرسة كان شاعراً. وصادف أن أحد التلاميذ كان يقرأ قصيدة من قصائد ذلك المعلم، وكان الفصل خريفاً.

كانت تلك القصيدة تتناثر في ذلك الهواء الصباحي الطازج. تبتل بأنفاس التلاميذ، وتلذع قلبي بطريقة لذيذة غامضة. قبل تلك اللحظة لم أكن أدرك، أنا القادم إلى المدينة من قرية مرشوشة بالماء والأسى والخرافة، أن الشاعر يمكن أن يكون إنسانا كباقي البشر: يمشي ويأكل ويتأوه. كنت أظن أن الشعر لغة فوق إنسانية، تهبط من غيب ما، ويصوغها جوقة من المجانين أو الملائكة ربما.

هكذا كانت نظرتي إلى القصيدة: كلام يهطل، غامضا، من سماء مبتلة بالفضة، أو امرأة تنبثق من جرح في الريح، وهكذا كانت نظرتي إلى الشاعر: إنسان أثيري يصعب الإمساك به. عصي على أن يكون عادياً. هل كان الأمر كذلك حقاً؟ كان الشاعر، بالنسبة لي، إنسانا كرسته الطبيعة لمهمة خارقة: أن ينطق الكون بالحلم ويملأ اليباس بالرأفة.
وكان ثمة سؤال يشتعل رنينه الرمادي في العظم والروح: هل يمن أن تتجاور، في الشاعر نفسه الحلم والوشاية؟ طفولة اللغة والنوايا السوداء؟ الأسى العظيم والدجل؟ كرامة الروح والابتذال؟

كانت هذه النظرة، وما تزال، نسيج ذلك الوهم الذي يرافقني. فالشاعر عندي، أعصى حلق الله على النفاق والمساومة، هل كنت أؤمن، وفي وقت مبكر، أن الشاعر هو من ينطبق عليه وصف غوتييه ليشلر: شاعر حتى في طريقة تقليم أظافره؟ ربما.

(2)

إن إيماني لا نهاية له بأن الشعر قوه خفية آسرة، تدفعني إلى الاكتمال الصعب. وأن القصيدة هي ذلك الملاذ الذي أشيده دائما من بقاياي النائحة لأحتمي به، ثانية، من القبح والكذب والتشتت. وكم كنت مدينا لهذا الإيمان الكاسح، فقد كان يدرأ عني الكثير من الأذى الذي يحاول أن يحاصر قصائدي، ويقمع نيرانها الجريحة. لم أكن أحفل أبداً، رغم تاريخ من الفقر الكريم والوحشة الهائلة، بولائم الجن وتمتمات السحرة. لم احفل بالغنى الرخيص والشعراء الذين كانوا ينحتون قصائدهم حسب الحجوم والأيام والمناسبات.

ثمة غيوم مغردة في الروح كانت تحجب عني ضجيجهم اللامع وغرورهم المعشوش. وحين كانت مباهجهم العابرة تزداد ارتفاعا كانت نشوتي لا حدود لها وأنا أفرغ من قصيدة جديدة: صياد مفتون برائحة الطرائد الحرة، وهمهمة الموج. كنت أحس، بعد كل مكسب أرضي لهم، أنهم يزدادون إيغالا في التراب بينما ترتفع بي قصائدي، هكذا أحس، خفيفا مشعا، أتكاثر في الريح مأخوذا بخسائري ومفتونا بأساي العظيم.

(3)

في فترة الستينات كان ثمة جيل جديد، في كتابة القصيدة الحديثة، قد بدأ نهوضه الممض، وجيل في النقد والرواية أيضا.لم يولد هذا الجيل من رماد قديم. بل نهض من رماد ما يزال حارا، رماد خلفته وراءها خيبات عديدة وانكسارات متكررة، في السياسة والفكر والحياة.

لقد تناهبت هذا الجيل أيديولوجيات متباينة، ينهش بعضها بعضاً، وتحاول كل منها أن تأخذ حصتها من شعرائه وكتابه، وأن توزعهم على قبائل أيديولوجية. ومع أن بعض هؤلاء الشعراء كان موهوبا إلى حد واضح، إلا أن البعض الآخر كان لا يتمتع بالموهبة ذاتها. وهكذا وجد ذوو المواهب الخافتة، في تلك الأيديولوجيات والنقد المكرس لخدمتها، أجنحة يمكن أن تحلق بهم في فضاءات وهمية وسماوات لا وجود حقيقيا لها.

وحين أخذت تلك الأيديولوجيات المتضاربة تشعل نار القرابين لشعرائها، وتحيط أسماءهم وقصائدهم بالتمائم والرقي الفكرية المعلومة، كنت من الشعراء الذين لم يتلفت النقد الأيديولوجي أو النفعي إلى أنينهم الصافي.

كان الضجيج يعلو، وكان ثمة غبار يتكاثف ليحجب عن نهار الحياة أجزاء هامة من المشهد الشعري الصاعد في العراق آنذاك. كثيرة هي الأصوات الشعرية الصافية التي كانت ترش، غالبا، بالنسيان والنميمة. أسماء كانت تسعى بشغف عميق لتأسيس منحى مالي داخلي يعتمد الرؤيا بديلا عن الموضوع، والبوح عوضا عن المباشرة.

وهكذا كان الأيديولوجيات، في الوطن العربي كله تقريبا وفي العراق خاصة، تمارس نوعا من الردع الفكري والجمالي، وتضع أمام القصيدة الحديثة قائمة من الوظائف والمهام الأيديولوجية التي يتوجب على الشاعر الحديث إنجازها.
ليست الحداثة الشعرية، بالنسبة للأيديولوجيا، تجسيدا فنيا راقيا لموقف المبدع من الحياة أوالكون. ولم يكن الشعر، بالنسبة لها، طريقة خاصة في القول أو إنزياحا بارعا عما هو شائع وعام في طرق التعبير عن الأشياء والبشر والمواقف. كانت ترى أن فهم الشعر، على هذا النحو، تخريب للغة وتحويل لها عن دورها النفعي في خدمة المشاحنات الأيديولوجية وحماسها المجلجل. وهو إفساد، بالنتيجة، للمتلقي نفسه، هذا الملتقى الذي يراد له أن يجد في النص الشعري الحديث ما كان يجده، في النصوص التقليدية المعتادة، من تمجيد للأفكار المهيمنة.

كنا نكتب الشعر، في الغالب، على ضوء مغاير لهذه المواصفات: قصائد تخالف الشائع ومخيلة شديدة الدفء والطراوة. وكانت مجموعاتنا الشعرية الأولى تجسيدا لما كنا نصبوا إليه من أفق تحاول أن يكون مختلفاً. وضمن هذا المناخ، كان ديواني الأول ( لاشيء يحدث...لا أحد يجيء) الذي صدر في بيروت عام 1973 محاولة للتعبير عن افتتان باللغة لا حدود له، ومسعى للعودة بها إلى بكارتها الأولى، لتكون كما وصفها فوزي كريم آنذاك، أكثر براءة وأشد بدائية. وكان ذلك الديوان، أيضا، جنوحاً متطرفاً إلى التعبير بالصور بهاجس سريالي ملح. لقد حاولت أن أسعى، من البداية، إلى قصيدة مائية، كثيفة، ملمومة. ولغة خاصة لا تتسع للهذر والتفاصيل والغناء الحماسي، ولا تنحني تحت موضوعها بل تغدو، هي ذاتها، موضوعا أو حالة أو مناخا. كنت أسعى إلى كتابة شعر جديد جدة صادمة للحواس كما يقول محمد شكري وهو يتحدث عن ديواني الثاني "وطن لطيور الماء".

هكذا كانت محاولاتنا، بينما كان النقد في معظمه يندفع بحمى الأيديولوجيات المتضادة، محاولا الإعلاء من "وظيفة" القصيدة أو "دلالتها" أو "معناها" دون اعتبار، في الغالب، للجهد الجمالي والتركيبي الذي يرتفع بها إلى مستوى النص الشعري المحكم.

كان على الشعر، أو أدب الحداثة عموما، بالنسبة لهذا النقد أن يكون وظيفيا نفعيا طيعا. وكان عليه، أيضاً، أن لا يعول على أية قيمة ذاتية. بل يستمد تأثيره من أشياء تقع خارج النص: التبشير الأيديولوجي والتحريض الاجتماعي. وحين لا تعبر حركة الحداثة تعبيرا مباشرا عن الانسجام والتجانس والمطابقة فإنها، بمنظور الأيديولوجيات السائدة، تخريب لذائقة الجماهير واستهانة بمستقبلها. وهي، أيضا، انحراف بالشعر عن وظيفته الموروثة: أن يعظ، ويتغنى، ويقنع، ويمجد.
لا قيمة، إذن، للنص الشعري في ذاته بل في ما ينعكس فيه أو عليه: القصيدة، بالنسبة لهذا النقد السائد، مرآة لا جمال لمائها الفضي الماكر إلا بقدر ما تعكس من أشياء أو أفكار أو مواقف. ووسط مطاحن الأيديولوجيات وضجيجها العالي كادت تضيع أصوات شعرية متوهجة. لم يجد النقد الأيديولوجي لديها تحقيقا لمطالبه، فالشعر الذي نكتبه شجي، قلق، متشائل. لذلك انصرف هذا النقد إلى العناية بشعر من نمط آخر. وهو في معظمه يطفح باليقين والبهجة المهرجانية والفراديس الموهومة.

وبدوافع مختلفة كان النقد التقليدي يضيق من حرية القصيدة ويمعن في مطاردتها، لقد كان نقدا مشلولا لا يستطيع الارتفاع إلى فضاء القصيدة أو الإمساك بمواطن الرهافة والجمال فيها. وهكذا غطى الإنشاد على القراءة، والضجة على التأمل، والهتاف على الأنين.

(4)

جيلا من الشعراء كنا، نسعى إلى أفق هادئ مجرح. نحنو على أنفسنا ونغترف من تصدعاتها الباهرة مادة لقصائد لا تتسع للفرح الزائف أو المخاتلة. ونتنزع من أجسادنا المهمومة ومن قلقنا الإنساني الضاج لغة لا تخون ولا ترائى.
ولدنا، هكذا، في عراء باذخ، لا سند لنا إلا مجدنا الوحيد: حزننا وقصائدها. عراة إلا من الأسى والطفولة، دونما منصب، أو ثروة، أو قبيلة باطشة.

لذلك كله لم يكن لنيراننا الصافية أن تستدرج إليها قوافل النقاد المحترفين وكتبة المدائح النقدية، فهي نيران لا تخلف وراءها إلا الحبر وأنين الينابيع. للنقاد، إذن، أن يتجهوا وجهة أخرى، لا تقودهم إلى الأيديولوجية فقط، بل إلى ذلك الكمين اللامع أيضا: الامتيازات والمداهنة والكذب المربح. إن مقالة أو كتابا، في المديح النقدي، قد يفضي إلى موقع مرموق، أو وجاهة مفاجئة.

ولم تكن نار الشعر هي التي تشغل هذا النمط من النقاد. إن ما يجذبهم هو ضوء الشاعر نفسه. وفي الغالب لم يكن ذلك الضوء تابعا من داخل نصوصه الشعرية، بل يندلع، في أكثر الأحيان، من خارج النص: من مكتب، أو مسؤولية، أو نفوذ.
وربما استطاع بعض هؤلاء الشعراء، بفعل نفوذ من نوع ما، أن يؤثروا في تشكيل معايير القيم الأدبية وسلم المستويات، حيث يوزع السمت أو النسيان على شعراء بعينهم، ويعاد بناء ذاكرة أخرى للنقد لا تحتضن إلا أسماء معينة، ولا تتسع إلا لقبائل من نمط خاص.

وشيئا فشيئا تنتهك الذاكرة النقدية، ويجتاحها نسيان منتفع أو لئيم. ويضيق فضاء القصيدة، وتؤسس ملامح ظالمة للحياة الثقافية والشعرية.

قد يبدو المشهد الشعري، العربي، لامعا وصخابا، لكنه لا يتمتع، في الغالب، إلا بعافية مصطنعة حيث يدب الدجل والغبار والنميمة الثقافية. وعندما تفرغ الحياة الإبداعية من فتوتها الجياشة، ويختار بعض المبدعين، اضطرارا، نصيبهم الشاق من الصمت أو الموت أو النسيان، يسارع كتبة المدائح النقدية ليجعلوا من تلك الحالة الطارئة واقعا موضوعيا، ومن غياب الحرية، في وطننا العربي، قانونا يحكم الحياة، والشعر، والأخلاق. وهكذا ينبثق من هذا الخلل أفق كالح يصبح فيه الشعر وجاهة أو مظلة أو امتيازا. وتنطفئ حرائق اللغة وتوقها المعذب إلى الحلم والحرية والمغامرة. ثم يتحول الكثير من الشعراء إلى قطعان مهمومة يحكمها الذعر والنفاق والتماثل، وتنكسر في نفوس المبدعين، طفولتهم، وفوضاهم الراقية.

(5)

تبدأ القصيدة، لدي، دون تخطيط، أو تصميم مسبق، هكذا همهمة جسدية وروحية تظل، على الدوام، عصية على التحديد، عشبة من دخان اللغة، ورعدة ذات إيقاع خاص تتصاعدان متشابكتين من بين الأنقاض. ولست، قادرا، لحظتها على تمييز ما يحصل في تلك البئر الفياضة بالضوء الغائم، والمباهج المنكسرة، كل شيء يبدأ مشوشا، مرتبكا، لكنه يظل، مع ذلك، لذيذا، يحفز الحواس باستمرار ويغذيها باللهب، والتصدعات والتمتمة.

لا أقوى، عادة على الفرز بين اللغة والإيقاع، فهما يندفعان سوية: يتقاطعان تارة وينسجمان في هبوبها تارة أخرى. وأظل مسكونا بهذه الهمهمة، ممتلئا بدخانها العالي، وهو يهطل على الروح والجسد لفترة قد تطول وقد تقصر. حتى أجد نفسي في اشتباك لا أتبين أطرافه بسهولة، جسد ينز لغة، وإيقاع مؤلم لم يعثر على لغته بعد. في هذه الحيرة الوارفة، تتجمع فلول الإيقاع، وتتلبد الروح باللغة شيئا فشيئا.

وكما تقبل غيوم الخريف الأولى، أو ينبثق رعد على حافة أفق بعيد، هكذا تماما، تقبل القصيدة متأججة غامضة، لا ملامح لها، تدفعني أمامها مثل ليل كاسح، ويستمر هطولها الكثيف: سيل هائج لا أتبين اتجاهه تماما، يوقظ في طريقه آلاف الطيور والمآتم، والأنهار الخرساء.
وما إن ينتهي هذا الاشتباك، حتى تبدأ ملامح النص بالاتضاح، فجر يطل مرتبكا على قرى مهدمة، وذكريات تتوهج باستمرار، وجوه لم أعد اعرفها لكثرة ما تراكم بيني وبينها من غياب كثيف. الكتابة، عندي، حالة من الكدر الروحي، والعناء الجسدي. تجربة شديدة المرارة، وقد تكون بدايتها أكثر مراحلها أذى ووعورة. فكم هو شاق وممض البيت الأول من القصيدة، أو الأبيات الأولى منها. إنها فترة من التهيب والخوف اللذين لا أدري سببا لهما. أهو غموض ما أنا مقبل عليه؟ ربما. فالقصيدة تتمرد على صاحبها منذ البدء، تتخذ طريقا أخرى تماما، حتى تبدو، في النهاية، قصيدة عن موضوع خر، أو فكرة لا تمت إلى الفكرة التي توهمتها أول مرة. مع أني كما قلت لا أضع تخطيطا للقصيدة التي أسعى إلى كتابتها.
وحين تأخذ قصيدتي طريقها إلى النشر، لا يعني ذلك اكتمالها النهائي، فاكتمال القصيدة بالنسبة إلي، عمل يناقض آدمية الشاعر، تلك الآدمية المفعمة بالندم المهلك والإحساس بالنقص. أينا يملك القدرة على الاكتمال؟ بل أينا يملك الجرأة على قول ذلك؟
ولهذا السبب، كثيرا ما تتعرض القصيدة لدي إلى التآكل أو النمو، كان كيتس يقول إن قصيدته جزء منه، وهي عرضة للتغيير باستمرار، وأنا أطارد قصيدتي باستمرار محاولا أن أقربها من ذلك الوهم الجميل، أو الاكتمال الصعب. قد لا تصل بعض قصائدي إلى شكلها النهائي إطلاقا، فهي في القراءة قد لا تكون ذاتها مطبوعة في الجريدة، وهي في الجريدة أو المجلة غيرها في الديوان، أو على الأصح ليست هي تماما. قد يطال التغيير عنوان القصيدة فقط، وقد يشمل عناصر جوهرية في دلالتها، أو نسيجها اللغوي. أذكر مرة أن الدكتور سلمان الواسطي، وهو مترجم بارز، وأستاذ مرموق في الأدب الإنجليزي، ترجم قصيدة لي بعنوان "دخان الشجر" كانت منشورة في مجلة الأديب المعاصر، ونشر الترجمة في مجلة كلكامش، الصادرة عن دار المأمون. وحين ظهرت القصيدة في مجموعتي "فاكهة الماضي"، كانت نصا يكاد يكون جديدا مقارنة بالترجمة وكم أحسست بحرج إزاء الأستاذ الواسطي، فقد ظن البعض أن ترجمته بعيدة عن القصيدة وهم لا يعلمون قصيدتي هي التي كانت بعيدة عن ترجمته، فهي نص يختلف، إلى حد واضح، عن ذلك الذي قام بترجمته الواسطي باقتدار ورهافة عاليين.

*حصل على الدكتوراه في النقد والأدب الحديث من جامعة إكستر في بريطانيا، عام 1984. عمل رئيس تحرير لمجلة الأقلام ومجلة الثقافة الأجنبية العراقيتين، من أعماله الشعرية: لا شيء يحدث00لا أحد يجيء 1973، وطن لطيور الماء، شجر العائلة، فاكهة الماضي، أيام آدم، ممالك ضائعة. ومن كتبه النقدية: مملكة الغجر، دماء القصيدة الحديثة، في حداثة النص الشعري، الشعر والتلقي.

(6)

القصيدة لغة قبل كل شيء، ولغتها هي التي توصلنا إلى عناصرها الأخرى. في الشعر تكون اللغة هدف الشاعر الأول ومأثرته الكبرى، ولذلك نتحدث عن لغة السياب، ولغة أدونيس، ولغة محمود درويش، وآخرين. ولا أعني باللغة هنا، مفردات الشاعر، التي يكثر معدل ترددها أو تكرارها في قصائده، لا أعني معجمه الشعري فقط، بل شمائله اللغوية وعاداته في بناء العبارة، وقدرته على تحويل الجملة اللغوية إلى جملة شعرية، أي القدرة على تليين القاعدة اللغوية السائدة، وتكييفها تكييفا شعريا. لا بمعنى إلحاق الأذى بها، واختلاق المعاذير للإساءة إليها، بل ما أعنيه شيء آخر تماما.هو: الإصغاء، لهاجس الشعر لا لمنطق اللغة، الهاجس والمنطق في اشتباك لا يهدأ، المنطق يسعى في المقام الأول إلى الصحة اللغوية، والصرامة، والشيوع، أما الهاجس فيدفع إلى العدول عن الشائع، المكرور، إلى الأقل شيوعا والأكثر مفاجأة. في اتباع النمط الشائع في بناء الجملة انصياع مطلق للقاعدة في أكثر وجوهها تزمتا، أما الكشف عن جوازات هذه القاعدة واستثناءاتها أو احتمالاتها الأقل شيوعا فكشف عن المخبوء وغير المتوقع من مدخرات اللغة من الليونة والتكيف. لماذا كان بيت المتنبي التالي مثيرا للاهتمام:
جللاً، كما بي، فليك التبريح
أغذاء ذا الرشأ الأغن الشيح

هل كان له ذات الوقع لو سار على الدرب الشائع لبناء الجملة المكونة من كان واسمها وخبرها.
وقد نما لدي إحساس منذ البداية بأن على أن أنأى بلغتي عن المألوفية، والشيوع، مؤمنا إيمانا قاسيا، أن على الشاعر أن يكشف عما وراء أحطاب اللغة من خضرة مخزنة، وعما وراء رمادها من انهار فوارة. كنت أعنى في الكثير من قصائدي، عناية خاصة بالعلاقات اللغوية. لقد صار من البديهي جدا، أن الكلمة، في حد ذاتها، لا تشتمل على أي إثارة شعرية. صحيح أن كلمات مثل امرأة، بلدوزر، غيمة، برميل، وردة، مقصلة، كلمات ذات حظوظ متفاوتة من الإيحاء. فالبون شاسع مثلا بين المرأة والبلدوزر، وبين المقصلة والوردة، لكن هذا الإيحاء، كما أرى، لا يعود إلى شعرية هذه الكلمة أو نثرية تلك، بل يعود إلى قوة الذاكرة وما تدخره من ثقافة وأعراف وعادات تتباين من حضارة إلى أخرى. إن قوة الشعر هي التي تحول هذه الكلمات إلى كلمات دون ذاكرة، أي تضعها من جديد، في سياق آخر، يفجر فيها إيحاءات جديدة لم نألفها، والعلاقات التي أعنيها لا تتوقف عند العناصر الأساسية للجملة، بل تمتد إلى ضواحيها ايضا. تلك الضواحي التي يمكن أن يتفجر منها الكثير من الرذاذ والهزات واللطائف. كنت أنتبه على سبيل المثال إلى وظيفة الصفة في الجملة الشعرية، قد تجهز على العبارة، وتطفئ ما فيها من إثارة كامنة، أما إذا انزاحت تلك الصفة عن مكانها المتوقع، واحتلت مكانا مفاجئا، فإنها تربك عاداتنا اللغوية، وتقلب توقعاتنا الراسخة رأساً على عقب.
ما زلت أذكر، وأنا في بداياتي الأولى، كيف توقفت أمام بيت لنزار قباني:
يا شعرها على يدي شلال ضوء أسود

مندهشاً من وصفه الضوء بالسوداء قبل أن تصبح هذه المخالفة من بلاغة القصيدة الحديثة وصورها النمطية الشائعة، وقبل أن أكتشف أن المتنبي كان سباقاً إلى ذلك في بيته عن كافور الأخشيدي.

تفضح الشمس كما ذرت الشمس
بشمس منيرة سوداء
إضافة إلى دور الصفة في الجملة، فإن العلاقة التي تربط بين عناصر العطف النسقي، يمكن أن توفر، للنص، هذه الهزة المفاجئة. وقد يبدو الأمر، في البداية، وكأنه لعب باللغة أو معها. في قصيدتي "حرس لنوم الحبيبة" مثلاً، يرد هذا المقطع:
أغني حولَ سيدتي،
وأحرس نومَها المائي، أفتح جمرَها
يأتي المساكين، الغزالات، العصافير النحيفة، خشنة في البردْ
تجاورني، وتترك فوقَ قمصاني
حصىً، أو وحشةً، أو وردْ
ما كنت أعلم تماماً لماذا يبعث في ترتيب البيت الأخير إحساساً بالنشوة. أهو التنويع في عربات هذه القاطرة اللغوية: حصى، وحشة، ورد؟ أم هو المزج بين الجامد، والحي، بين الممعن في لطفه والممعن في قسوته؟ أم هو التجاور بين المجرد والمحسوس.

(7)

ما زال الوزن، في شعرنا الحديث، يلعب دوراً في بناء النص وتكثيف دلالته من جهة وتعميق إحساسنا به من جهة أخرى. إن الوزن الشعري لدى السياب أو أدونيس أو محمود درويش يؤجج من حيوية نصوصهم، ويدفع بها إلى أقصى قدراتها على التأثير في هذه الحالة، لا تكون الموسيقى دربكة أو عرساً شعبياً يأخذنا أو يأخذ الشاعر بعيداً عن بؤرة النص، أو يلهينا بعد أن ألهى كاتب القصيدة أولاً عما يشتمل عليه النص من فداحة أو شجن، حتى نجد أنفسنا، مندفعين مع تيار طربي صاخب، بعيداً عن أرض القصيدة وعالمها المزدحم بالدلالات والرؤى المجرحة.
وقد كانت الموسيقى في النص الذي أكتبه، وما تزال، حاضرة حضوراً أساسياً. إنني وبسبب طفولة مفعمة بإيقاع القصيدة العمودية، كانت قصائدي، وفي المراحل الأولى خاصة، مفتونة بالإيقاع، الذي يتهدل عليها، غائماً أو شفيفاً، حتى أحس أحياناً أنها تبتل بنغم خاص، يتسرب بين ثناياها، ويملأ كل فجوة فيها، غير أن هذا الافتنان بالإيقاع أخذ يرتبط تدريجياً بوظيفة النص ككل. لا أجد فاصلاً، كما أشرت، بين اللغة وماء الإيقاع: ماءان كثيفان ينهمران من الجهات كلها، فيسري دبيبها في كل شيء، في جسد اللغة، وأدغال المعنى، في حركة الروح وشراسة المخيلة، الكون والناس والحجارة. أحاول ألا تكون موسيقى القصيدة ضجة، بل دبيباً، فضجيج الخارج كثيراً ما يحجب عن قلوبنا أنين الغرقى، وعويل الدماء في عروقهم

(8)

يرتبط الشعر بالطبيعة ارتباطاً قديماً، فرحلة الكائن البشري من الطبيعة إلى الثقافة لا تعني استبعادا الطبيعة وأشيائها ورموزها من عالم الشعر. صحيح أن هذا التحول يعني، من جملة ما يعني، مفارقة الإنسان لبساطة عيشه الأول وانتقاله إلى مستوى حياتي أكثر تطوراً، وبراعة، وتعقيداً. لكن هذا التطور الإنساني وضع الطبيعة، في صلتها بالإنسان، في مستوى أشد ثراء. فدفعت الثقافة بالطبيعة بعيداً عن حياة الشاعر المادية، لكنها جعلتها أكثر تعلقاً بتجربته الروحية. فصارت تشكيلة من الرموز والصور، التي تكتسب دلالة فردوسية كبيرة، فهي حلم آدم الضائع تارة، وطفولته الأولى تارة أخرى، وهي أيضاً، فراديسه التي لا يكف عن التلفت إليها نادما، أو يائسا، أو مستاء. وهكذا فقدت الطبيعة، قشرتها الخارجية، وسال خزينها الرمزي بغزارة موجعة: لقد كانت واقعا ماثلا، فغدت رمزا. منذ أن أحس الجبل بالهرم، ورعدة الموت، وفقد صلادته وتوحشه أمام ابن خفاجة، ومنذ أن امتلأت الغابة رأفة وانكسارا في شعر جبران وأبي ماضي، وصارت ملتقى للموت بالحياة في شعر السياب وغيره من شعراء الحداثة المرموقين.

ثمة فرق كبير بين أن تكون الطبيعة، في الشعر مشهدا جذابا ولحظة غنائية عابرة، وبين أن تعمل كعنصر داخلي، يتمدد في نسيج القصيدة ودلالاتها الغائبة، بين أن تكون عباءة غنائية براقة ملقاة على النص، وبين أن تكون شاهدا على فجيعة الكون ومغزاه الكامن. وقد كان للطبيعة، في نصوصي الشعرية، حضور كبير فقد كنت ابنا لبيئة مائية بامتياز، عشت فيها طفولة مشتبكة بالطبيعة اشتباكا فريدا، أورثني ذاكرة منقوعة بالماء، حتى أن بعض النقاد وصف كتاباتي بالقصائد المائية. في تلك الطبيعة التي يتجاور فيها الموت والأنهار، الطين والأغاني، والمطر والمجاعات، تعلمت كلماتي المائية الأولى، أصغيت إلى طيور التراب، ومحنة السواقي العمياء، أصغيت إلى الريح وهي تبكي، وإلى نواح المآتم وهو يتكسر على حجر الذاكرة.

ولا شك أن الطبيعة، في قصائدي، لم تكن على مستوى واحد دائما، ففي قصائدي الأولى قد تهجم علي الطبيعة فأجد نفسي مندفعا معها، وذائبا، حد الفناء اللذيذ، في تفاصيلها. لكن ذلك الأمر لم يستمر طويلا، فقد انتقلت علاقتي بها إلى مستوى آخر هو مستوى الحوار والتلاحم، الذي يهدف إلى التوظيف، وردم الفجوة بين الذات والعام. ورغم أنني الآن أقف أمام الكون الموحش هذا بقلب يعلوه الشيب، ورغم أن الريح تدفعني يوما بعد آخر، إلى الحافة، فإن الطبيعة تكشف لي، كل يوم، عن مدخراتها العجيبة، أعني طاقتها الكبرى على أن تكون جزءا من تجسيد النص وجسديته، وأن تكون، رغم وجودها الفيزيائي الأخضر الطري، جانبا مهما من رمزيته الغائمة، وأناشيده المفعمة بالانكسارات.

(9)

ما أزال أذكر أن القرية، ذلك المكان البعيد كنجم مقفر، هي التي شكلت علاقتي الأولى بالشعر. كان والدي يعلمنا، أنا وأخوتي، القراءة والكتابة، وكان الشعر الشعبي أول ما استقبلته ذاكرتي آنذاك بعد القرآن الكريم. وبعد انتقالنا إلى بغداد، وفي نهاية المرحلة الابتدائية، كتبت أولى قصائدي العامية، وقد أذيع بعضها في برنامج كان يقدمه شاعر غنائي ذائع الصيت آنذاك يدعى زاهد محمد. لقد شغفت بالشعر الشعبي في فترة مبكرة، وكنت أتابع بإعجاب لا يوصف ما يكتبه الشاعر مظفر النواب في بداية الستينات. كانت قصائده الشعبية الشهيرة للريل وحمد، يا ريحان، سفن غيلان، ترافة وليل، فتحا شعريا جديدا في القصيدة العامية العراقية. كان إنجازه على صعيد الشعر الشعبي العراقي لا يقل عمقا عما حققه السياب على مستوى القصيدة العربية. وحين تعرفت على النواب، ذات أمسية خريفية، من عام 1963 وأهداني مجموعة من قصائده الجديدة، أدهشتني فيه شخصيته ذات التأثير الكاسح، لقد كان شاعرا ورساما، وأستاذا وممثلا، ومغنيا، وحدث ما لم يكن في الحسبان، لقد ساهم مظفر النواب في إدخالي لا إلى عالم القصيدة الشعبية، كما كنت أتوقع، بل عالم القصيدة الفصحى، وضعني أمام مفهوم جديد للشعر.

لقد مارس عدد من شعراء الحداثة كتابة القصيدة العامية، مثل سعدي يوسف، صادق الصائغ، عبد الرزاق عبد الواحد وآخرين، وكانت القصيدة العامية مدخلي أنا أيضا إلى كتابة الشعر والاقتراب من نيرانه الغامضة. لم أطل المكوث عند القصيدة العامية، غير أن شغفي بها ما زال يرافقني حتى الآن، وما زلت أجد في القصيدة التي يكتبها مظفر النواب وعريان السيد خلف وشاكر السماوي في العراق، والأبنودي في مصر، وطلال حيدر وميشيل طراد والأخوان رحباني وسعيد عقل في لبنان، شعرا بالغ الإدهاش والثراء.

وإذا كان لتلك البدايات العامية أن تترك في قصائد الشاعر، قدرا عاليا من الملموسية، والدفق الحياتي، المفعم بالحرارة، والأسى، فإن الخبرة بالكتابة العمودية، التي مارستها في مرحلة لاحقة، قد تنضج من قدرته على تطويع الجملة الشعرية، والوصول بها إلى حد من التماسك والتركيز.

(10)

كنت على صلة، منذ طفولتي، بالماء والشعر والفجيعة. لقد فتحت عيني في تلك البيئة الجنوبية التي يمتلئ هواؤها بالشجن، وتفوح حجاراتها الكالحة بأسى قديم. كانت أيام عاشوراء مآتم كونية، تملأ أيامنا بالسواد، وقلوبنا بالندم والحيرة. كنا نهرع من قرانا المتناثرة البعيدة متجهين، مع خيوط الفجر الأولى، إلى تلك الساحة الترابية الكبرى، حيث تمثل معركة كربلاء على الطبيعة، مع بزوغ الشمس. كانت رائحة الدم تختلط برائحة الفجر، وكانت النساء الندابات والخيول العائدة من المعركة دون فرسانها، مشاهد لا تفارق الذاكرة. ولا يمكن لي أن أنسى مشهد الحسين المثخن بالجراح، وهو يذبح وحيدا تحت سماء مكفهرة دامية، كان كل ذلك مشاهد تحفر في ضمائرنا وعقولنا وقلوبنا الصغيرة. وبعد أن تنتهي تلك المراسيم الكربلائية نعود مخذولين إلى قرانا البعيدة، تحت ظهيرة نائحة. لا أحد يجرؤ على الأكل أو الشرب أو البشاشة في ذلك اليوم وكم كنا ننسى أنفسنا في ذلك الخضم العاصف من المشاعر ويختلط علينا الأمر فتمتلئ ثيابنا وأفواهنا وأيدينا بدم مضيء كدم الملائكة. ويستمر هذا الشجن الكربلائي يملأ أيامنا، نحسه فائحا من الأغاني، ودخان القرى، من ترابنا الحار، وأنين أنهارها الكئيبة.

وكان للإذاعة دورها في إشاعة جو الفجيعة هذا، كان صوت عبد الزهرة الكعبي وهو يقرأ بصوته الشجي فصولا من مقتل الحسين يملأ قلوبنا وأرواحنا بأصداء ذلك المأتم المروع.

في هذه البيئة المجبولة حجارتها بالحبر والدم والماء، تفتحت ذاكرتي، ومن أيامها الطافحة بالأسى، تشبع جسدي ووجداني وقصائدي. إن نهرا من الشجن كان يندفع إلي، وما يزال، من نواح كلكامش على أنكيدو، ومن مأساة كربلاء المتجددة، ومن أنين شعب كامل تتعرض حياته وحضارته وأغانيه وأنهاره إلى الهلاك.
لا يمكن للشعر إلا أن يكون قرين المأساة، وابنها الوفي دائما، لا أظن أن الفرح لا يمكن أن يكون حافزا لكتابة شعرية حقه، فالمرح أو السعادة حياتيان، أي أن فائض الإحساس بهما لا يدفع إلا إلى الحياة، ولا يستهلك إلا بها، بينما الإحساس بالمأساة، يدفع إلى المخيلة ولا نجد العون على تحمله إلا عن طريقها فقط.

أحس، أحيانا، أن قصائدي مفتوحة دائما على ريح غائمة، لا تكف عن العويل، ريح تهب من هناك، من ذلك الماضي الممعن في جماله ودمويته، حاملة إلي رائحة أزهار سوداء، وأقمارا تطل على أنهار خربة.

(11)

منذ بداياتي الأولى، كنت حريصا على تجنب الطرق العامة. أعني الابتعاد عن أصوات الآخرين، أو تقليد تجاربهم. كنت مسكونا بهذا الهاجس إلى درجة مبالغ فيها ربما، مع أن تحقيق هدف كهذا لم يكن يسيرا علي كما أن طريقة تحقيقه لم تكن واضحة لدي تماما.


كنت أميل إلى بدر شاكر السياب، وكانت قصائده تأسرني كثيرا، وخاصة صورة الغزيرة الموحشة التي تنم عن مخيلة بالغة التفرد والحيوية، لكنني كنت أحيانا أشعر أن ما في قصائده من كثافة انفعالية تغدو، أحيانا، منهكة إلى حد كبير. أما أدونيس فكان يدهشني بجرأته اللغوية والإيقاعية، وأجد في صورة أصالة وتفردا كبيرين، إلا أن براعته العالية ومكره الشعري يطغيان أحيانا علىما تشتمل عليه قصيدته من تصدعات روحية.

ويتميز البياتي، بحيوية قصيدته. إنها مغروسة في تراب الحياة، ومنتزعة من لحمها الحي، وهي، كالحياة في تدافعها، وعباراتها اليومية التي لا تنم عن مكر شعري عال، أو مكابدة مضنية في الصقل والتشذيب حتى يبدو أحيانا وكأنه شاعر قصائد متميزة، أكثر منه شاعر عمر شعري متجانس، كالسياب أو أدونيس.

لقد وقع الكثيرون في كمائن هؤلاء الشعراء الثلاثة في فترة من حياتهم الشعرية، الكثير من دواوين سعدي يوسف الأولى، على سبيل المثال، لم تكن تستطيع الإفلات من أجواء البياتي والسياب لغة وإيقاعا وبناء. وكان الأمر مختلفا بالنسبة لشعراء جيلي والأجيال التي تلته. وقد كان الكثيرون منا مفتونين بأدونيس فتنة كبرى. ولم يستطع إلا القلة مقاومة سحره لغة وصورا وأفكارا.

لقد حاولت دائما أن أكون أنا ذاتا وكتابة، وألا يشاركني في قصيدتي أحد، أن أحنو على تجربتي لغة وإيقاعا وبنية، وأن أصونها من التشتت أو الذوبان في أحد هذه الأصوات الكبرى. مع علمي تماما أنه لأمر شاق أن تكون أنت حقا في عالم يموج بالأصوات المتشابهة، والنصوص التي تبدو أحيانا وكأنها لا تصدر عن حيرة الروح وتصدعاتها الكبرى، ولا تنم عن لغة جسدية مزدهرة، بل، عن وهم من أوهام الحداثة، أعني استثمارا لبلاغة شعرية شائعة.

(12)

إن صلتي بالقصيدة، لم تتوقف عند كتابتها فقط، بل تجاوزت ذلك ومنذ بداياتي الأولى، إلى مواجهة ما تثيره من أسئلة وما تفجره من حيرة وتأملات. وقد لعبت دراستي الأكاديمية في إنجلترا دورا أساسيا، في وضعي وجها لوجه أمام المغامرة النقدية الحديثة.

لا شك أن في إهاب كل شاعر ناقدا كامنا، إلا أن هذا الناقد بالقوة لا يفصح عن ذاته كناقد فعلي، إلا في فترات محددة تلي لحظة الاستغراق في الكتابة غالبا.

وكثيرا ما كنت أسأل عن طبيعة هذا التجاور القلق ومغزاه في الذات الواحدة، وكي أكون صادقا، فإن هذا الشرخ لم يكن مبعثا للراحة في يوم ما. إنه مولد للأسئلة المكدرة دائما، فاجتماع هاتين الملكتين يمثل، كما يقول رينيه ويليك، وجها من وجوه الصراع الداخلي بين الغريزة والعقل. وهكذا يجد الشاعر الناقد نفسه ملتقى حركتين متضادتين في ذات الوقت، حركة تتجه إلى الآخر، وحركة تتجه إلى الذات، نشاط يركب ويبني ويحلم ويهيم، وآخر يفكك ويحلل ويستقصي وهو في منتهى صحوه الحسي والمعرفي.

وقد كنت أقول على الدوام إنني أسعى إلى أن أظل شاعرا يكسب النقد لا ناقدا يمارس كتابة الشعر. ولم أكن أخلو من ذلك التوجس المقلق جراء هذا النشاط المزدوج في طبيعته ووسائله. ثمة خوف مكتوم يملأ عظامي كلها: أن تفلت خيوط ذلك التوازن المرتبك الذي يحكم العلاقة بين هاتين اللحظتين المختلفتين، الشعر والنقد.

كنت أخشى أن تجني إحداهما على الأخرى، إن تضخم الذات الناقدة قد يحول قصائد الشاعر إلى كتابة عقلانية، تعج بالأفكار فتضمر فيها حرقة الجسد، ووهج الحلم، وفي الحالة الأخرى قد يتحول النقد الذي يكتبه الشاعر، إلى انطباعات تأثرية سائبة، لا يحدها منهج، ولا يمنع انفلاتها قوة المعرفة أو قوة الأداء.

لذلك كنت ألوذ دائما بالماء هربا من اليابسة، كنت ألجأ إلى ماء النصوص ولغتها الفياضة محتميا بها من يباس البحث، أتحصن بغيم المخيلة وضبابها المفعم بالإيحاءات، لكي لا تتفتت كثافة النار أو تخبو وردتها الساطعة.

النص

علي جعفر العلاّق

نار الرعاة

أوقدوا النارَ
يا رعاةُ، سريرُ الليلِ ثلجٌ.
ووحشةٌ،
لا مرايا العشبِ
تحمى نعاسَنا، لا اليمامُ

ورقُ النومِ لم يعدْ
مثلما كان وديعاً:
هل القصائدُ
رملٌ؟

هل دمُ الوردِ
قشرةٌ،
أم رخامُ؟

تلك نارُ الرعاة، أي نبيذٍ
مزجَ العشب بالأسى؟
أي ريحٍ
حملت خوفهم إليَّ..؟

جسورُ الروحِ تذوى
كوردةٍ تتلوى:
لا المصابيحُ،
لا الندى،
لا الكلامُ..

رماد الأناشيد

فاطمةْ
وردة في رمادِ المغنّى،
وشمس قصائدهِ
            الغائمةْ،
جسدٌ
ضائعٌ في رماد
الأناشيدِ، مشتعلٌ
بين أعشابها..

جسدى صائمٌ
عن شراستهِ، أم قبائلُ
في جسدي صائمةْ؟
فاطمةْ
منذ عشرينَ
قرناً أطاردها
                أخضرَ القلبِ
                مشتعلَ الشفتينْ،
                أتناثر في الريحِ:
لا شيء
في الريح غير الصدى،
وبكاء اليدين..

هي يجئُ بها الوهمُ
من آخر الوهمِ؟ تأتى بها الريحُ
من آخر الريحِ ثانيةً؟

ذا دخانُ القصائد يخضرُّ
والشعراءُ يعودونَ
من شعرهم
                مطفئينْ
خمرةٌ، أم حنينْ؟
ذا رمادُ الأغاني، وذاكَ
اشتعالُ بساتينها العارمةْ،
فمتى ستطلّ
          على يأسهم
                      فاطمةْ؟

يبدأ الحلْم ثانيةً
بالضجيج: القصائدُ أتربةٌ
              وقطيعٌ يئنُّ من اليأسِ،
              أين أناشيدُنا؟
              فضَةٌ فظةٌ،

وعصافيرُ من حجرٍ

يبدأ الحلْم ثانيةً:
          شعراء نظيفونَ
          كالعشب، يندفعونَ
          مع الليلِ:
- ها نحنُ
عشاقكِ اليائسونْ
فلتطلّي على يأسنا،
حركي رملَ أجراسنا،
نحن عشاقكِ اليائسونْ
أيقظي
ضوء نيراننا
الغائمةْ..
. . . . . . . .
. . . . . . . .

وتنحلُّ..
تنحلُّ..
تنحلُّ..
في الريحِ ثانيةً
                ف
                    ا
          طِ
                        مَ
                              ةْ


ما الذي يجعل الموت مختلفاً؟

ربما كان في الموتِ
ما يجعلُ الموت مختلفاً
                      أيّهذا القتيلْ،

هل سأخرجُ
يدفعني حرسٌ هائجٌ
يدفعني حرسٌ هائجٌ،
أم جنونٌ جميل؟

هل أدافعُ عن حلمٍ،
أم أفرّ إلى الموتِ منّيِ،
منفلتاً
من كوابيسَ
داميةٍ، أو ظلامٍ طويلْ؟

إن في الموتِ
ما يجعلُ الموتَ مختلفاً:

          يعبر الموتُ،
          لا أحدٌ يتساءلُ، لا
          زهرةٌ تنحني..


          يعبر الموتُ،
          ذاكرةُ الكونِ مشبوبةٌ،
          والمدى
          غارقٌ بالندى،
          والعويلْ….

غير أن القتيلْ
حينَ يغربُ تمتلئُ الريحُ أسئلةً
وحنيناً
- قُتلنا،
- ونُقتل،
- قاتلنا بشعاً كانَ،
أم كان عذباً جميلْ؟

ما الذي يجعلُ الموتَ
مختلفاً، يا صديقي القتيلْ؟