النص شهادة

شهادة
الشعر والحرب
شهادة شخصية

عبده وازن*

أود أن أستهلّ شهادتي الشعرية هذه بما أسمّيه صدمة الحرب عليّ أنا الذي أنتمي إلى جيل شعري نشأ في مناخ المأساة الأهلية وعانى وكابد ما لم يعانه ويكابده أيّ جيل آخر. ومعظم شعراء جيلنا، جيل الثمانينات، كانوا أقرب إلى الشهود الصامتين على ما يجري. أقول بصراحة إننا نشأنا في معظمنا محذوفين وربما مهمّشين ليس لأننا لم نلتزم القضايا الكبيرة بل لأنّ الحرب كانت أقوى منا ولأنّها سبقتنا في عنفها وضراوتها، وعوض أن نكون من صانعيها كنا من ضحاياها. وإن لم يُتح لنا أن نناضل أسوةً برفاقنا المتمرّدين فإننا لم نتخلّ حينذاك عن مقولتيْ ماركس ورامبو الشهيرتين: تبديل العالم وتغيير الحياة، ولم يكن جمْعنا بين المقولتين هاتين إلا دليلاً على أن نضالنا لم يكن واقعياً إلا مقدار ما كان حلمياً. وبين الواقع والحلم شرعْنا نبني عالماً آخر وحياة أخرى.
اسمحوا لي أن أرجع إلى الوراء قليلاً، إلى بدايات أليمة انبثقت في جو عابق بالرماد والكآبة والخوف...
أذكر أنني، خلال العامين الأوّلين من الحرب، وكنت بدأت للتوّ دراستي الجامعية جمعت بِضْعَ قصائد في كتاب مثير وسلبيّ جداً. كانت تلك، قصائد البدايات في ما تعني من ارتباك وحيرة، وما لبثت من ثمّ أن مزقتها لتبقى منها عناوينها فقط، وبعض ما نُشِرَ منها في الصحف. والموقف السلبي المتطرف في سلبيّته قد يكون عادياً في نظر البعض ولا سيّما أولئك المتحدّرين من سلالة نيتشه، إلا أنّه كان لي أشبه بالقرار الصعب الذي أعلنتُه في تلك السنوات، سنوات اليفاع والمرارة والقلق. والآن إذ أستعيده، أتذكر حال (الانقطاع) التي آلت بنا الحرب إليها: الانقطاع عن براءة الطفولة وهناءة الماضي.
وجدت في اندلاع الحرب ما يشبه سقوط عالمٍ بكامله، عالم الصفاء الداخلي، عالم البهجة النقية، عالم الطمأنينة الحقة. ولم أستطع أن أعبِّر عن ذينك السقوط والانقطاع إلا في المواجهة والتمرد والعصيان.
صدمة الحرب حرّكت فينا - أقول فينا ولا أقول فيّ تبعاً لحجم الخراب الروحي الذي حلّ بي وصعُبَ عليّ أن أكابده وحدي- صدمة الحرب إذن حرّكت فيّ كل الأحاسيس الدفينة والهواجس الراقدة في اللاوعي وكل العنف الصامت الذي لا يُسمع له أي ضوضاء. كان عليّ أن أواصل ما كنتُ بدأتُه بعفوية، أي كتابة نثر هو الشعرُ عينه، ولكن في مقاربة أخرى مأسوية وعابثة وربما منحرفة بعض الانحراف في معناه الجميل. كنت خرجت للتوّ من قراءة عيون الشعر الحديث، وكذلك عيون النصوص الجريئة، وغدوت مصاباً بعدوى الهتك الشامل: اللغوي والميتافيزيقي وبدوت في أحيان كأنني أهجس ما أكتب متدمراً في الكتابة ومُدمراً حدودها. وكنت كما لو مسّني بعض الكدر مشفوعاً ببعض الخوف وبعض الهذيان والشك. ولا أذكر أنني قلقت مثلما قلقت في تلك الأيام التي كنّا نجاور فيها الموت منعزلين ووحيدين: كان الموت من حولنا كلّ يوم، السماء قاتمة كانت والرجاء كامداً وليس سوى هاوية مشرّعة على هاوية!
ربّما لأنني عجزت عن أن أكون مناضلاً في حرب لا يمكن وصفها إلا بالأهليّة لبنانياً وعربياً، ولأنني رفضت أن أكون ضحيّة سهلة شعرت أنني غائب بل مغيّب تماماً عن الحياة التي ما عادت تشبه الحياة أو عاجز عن عيشها. ولكن لم أكن يومذاك بريئاً: كان القلق يستبدّ بي ويجعلني على شفير انتحار (وهميّ) وعلى منحدر اكتئاب ظلّ يصحبني فترة طويلة. وفي داخل الحصار المأسويّ لم أكتب عن الحرب إلا بعض ما تيسر من النثر الذي يُسمّى موضوعياً. ولكن في نصوصي الشعرية كان لا بد أن يلتمع أثر الحرب بل نارها الخفية والدم اللامرئي الذي سال والرماد المرّ. وفي الحقيقة (حديقة الحواس) الكتاب الذي لم يُقرأ كما يجب - وهو أصلاً كتاب خاص وقاسٍ وفيه الكثير من الثنائيات - رمزت إلى آثار الحرب في الهجس الدموي الذي قاد الراوي إلى تخيّل جسد امرأته مشبعاً بالجروح ونازفاً باستمرار.
غير أنّ المأساة التي عشتها وعاشها سواي لم تُطفئ نهائياً جذوة الضوء السماويّ الذي كثيراً ما شغفت به في ماضيَّ غير القريب. ورحت خلال الحب أتوهّم المصالحة مع العالم الذي انهار أمام عينيّ والمصالحة مع عالم المثل الذي ظللت ألجأ إليه في أشدّ لحظاتي جحوداً - وهي كما يعبّر المفكّر الفرنسي باسكال اللحظات الأشدّ اقتراباً من حقيقة الإيمان - إلا أنّ المصالحة لم تتمّ إلا في نبذ اليقين الأعمى والحفاظ على الشكّ المحيي. في بعض قصائدي الأخيرة استعدت تباعاً ألوان فردوس مفقود وروائح جنّة كانت يوماً ثم توارت عنّا أو فقدناها. رحت أستعيد (التذكار) بحسب تعبير أفلاطون الذي كانت النفس تدركه قبل أن تولد، بل تلك الصورة التي طُبِعَ بها الإنسان حين خُلق وما عتم أن فقدها أو أضاعها أو تخلّى عنها. غدا العالم أمام عينيّ ذكرى عالم وغدا الوجه ذكرى وجه. أما الذي حصل فنمّ عن خللٍ ما: بين المثال الجميل بل البهيّ والمفقود وصورته المعكوسة هوّةٌ لا تُحدّ وفي ظلمتها يكمن كلّ الألم، كل الخوف، كل اليأس.
إلا أن النزعة الميتافيزيقية التي ترهقني في حياتي الأدبية والشخصية لم تكن وليدة الانقياد الأعمى أو السيرورة الهادرة، بل هي سليلة الشك الدائم الذي لا تخبو ناره. ورحت أنجرف في جحيم الجسد بحثاً عن سمائه وفي نار الرغبات بحثاً عن نسيم الروح. وكان الجسد فيَّ هو البداية والنهاية، كان الجسد هو الروح في أبهى تجلّياتها. وهكذا انفتح الشعر على البعد الأروسي فإذا الأروسية كما يعبّر أوكتافيو باث شعر جسدي والشعر أروسية لفظية.
ولا عجب أن أنتمي إلى (لبنان الشاعر) لبنان العربي طبعاً الذي بُشر به في مطلع القرن ولكن من غير أن تحضر روح الجمال لديّ حضورها الربيعي الدائم. فالطبيعة مثلا لم أرها إلا (صامتة) وإن نطقت، فإنما لتخبر عن حالة فردوسية مفقودة يُحرقني الحنين إليها دوماً، حنيني كإنسان خبر معنى السقوط في الألم والفقد والنقصان. وإن كنت أنتمي إلى الحداثة فهي الحداثة اللاهية، الحداثة النضرة والشغوفة، حداثة رامبو ولوتريامون وجورج تراكل، هؤلاء الفتية الثلاثة الذين خرّبوا القواعد من غير أن يدروا وبنوا القواعد الجديدة من خلال ما خرّبوا ومن غير أن يدروا أيضاً. ولا أعلم لماذا ارتبطت الحداثة الشعرية في نظري بحالٍ من الفتوّة: لم يمضِ على رامبو بضعة أعوام حتى اكتشف لغته وحين اكتشفها صمت صمته المريع. في صمته هذا تعلمتُ الكثير وأدركت لماذا ظلّ يتردد في أذنيه حتى أيامه الأخيرة صدى (الله أكبر) الذي طالما تناهى إليه في أرض الإسلام وقد عاش فيها ردحاً. إلا أنني لم أستطع طبعاً أن أتحاشى ثورات الحداثة الشعرية التي راحت تندلع فيما بعد خالقةً لغات جديدة ومناخات. ولئن أضحى الشعر اليوم صنيعاً ثقافياً بامتياز وصنيعاً لغوياً وروحياً أو ميتافيزيقياً فإنني يصعب عليّ أن أدلّ على الآثار التي تركها فينا بعض الشعراء اللبنانيين والعرب والأجانب وكذلك بعض الكتب الشعرية الأم، على أنّ الشعر كان وسيظل ذاك النشاط السري الذي نمارسه ونحن نيام مثلما نمارسه في يقظتنا. إنه سرنا الذي كلما لمسنا ضوءه جهلناه وكلما نعمنا بدفئه ظمئنا إليه. إنه السر الذي جعل أورفيوس في الأسطورة الإغريقية يسحر الآلهة بموسيقاه وشعره ويعاندهم من ثمّ سارقاً تلك اللحظة الأبدية وفاقداً حيالها كل الوعود السعيدة. وأعتقد أن هذا هو سر الشاعر أن يعصي الآلهة ويخطف منهم بريق ألوهيتهم ولو للحظات. تُرى ألم يقل رينه شار الشاعر الكبير ان الأبدية ليست أطول أبداً من الحياة؟
لعل الحالة (الأورفيّة) كما يُقال استناداً إلى أسطورة أورفيوس، هي التي جذبتني أكثر ما جذبتني شعرياً. فالشعر هو فعل معرفة مثلما هو فعل اختبار. وفي الشعر لا أعبر فقط بل أعرف، في الشعر أقول. وبحسب أوكتافيو باث (الشاعر لا يريد أن يقول: إنه يقول). يفتح الشعر أمامنا الطريق إلى ذاتنا: الطريق التي تقود إلى اللامكان وإلى كل الأمكنة في الحين عينه.
تُرى عن أي صورة للشاعر أبحث؟ طالما سألت نفسي هذا السؤال، وطالما عجزت عن الإجابة عليه! أهو الشاعر الرائي كي أقول مع رامبو بعدما (وصل إلى المجهول) بحسب تعبيره أيضاً: (ورأيت في أحيان ما خيّل للإنسان أنه رآه)! أم الشاعر الصوفي المستسلم على غرار الحلاج مثلاً لما يجبه من أحوال ومكابدات فينشد (أنا من أهوى)! أم تراه الشاعر المثالي الذي رغب في تغيير العالم على طريقة المتنبي فعجز ولم يبق له سوى صنيعه الشعري!
عن أي صورة للشاعر أبحث؟
عن الشاعر (الكلي العلم) كما أراده نوفاليس الشاعر الألماني مسبغاً عليه الصفة الإلهية. أم عن الشاعر الكائن الذي عُهد إليه أن يرى إلهياً كما عبّر مالارميه!
أعترف أن أجمل تعريف للشاعر - وهو ما برح يفتنني - ذلك التعريف الذي قال به أفلاطون حين جعله صنيعا أي الشعر قائماً على (الإلهام الإلهي) فإذا هو كالوجد الصوفي طريق إلى الإلهيات. وإن طرد أفلاطون من (جمهوريته) الفاضلة الشعراء فهو لم يطرد إلا الشعراء الفاسدين والدجّالين الذين ضلوا وأضلوا جمهورهم.
وإن آثر البعض أن يُضفي على الشاعر هالة الرؤيا فلأن الشاعر مهيأ لها قلباً وروحاً. الشاعر راءٍ ومعرفته هي معرفة حدسية. الشاعر وسيط بين العالم والما وراء، بين الهنا والهنالك، يعبّر عما لا يُعبّر عنه، الشاعر يحدس ويختبر ويشك ويؤمن تماماً كبعض المتصوّفة غير الدينيين أو كبعض المتصوفة الذين اعتنقوا الشك طريقاً إلى الإيمان الحق. ألم يقل الحلاج: (ما من كفر إلا وتحته إيمان)؟
إن أجمل تكريم للشاعر هو أن يتصور العرب القدامى آدم شاعراً وبالعربية، هكذا أوردته بعض الروايات في (جمهرة أشعار العرب). وبحسب إحدى الروايات أيضاً لم يتمالك بعض الملائكة عن قول الشعر عربياً صرفاً. ولا أعتقد أن أمة جعلت من آدم شاعراً مثلما فعلنا نحن العرب متوّجين الخليقة الأولى على مملكة الشعر. فالشعر لنا كعرب، كان ولا يزال لسان الحال مهما اختلفت، وبيان الهموم والشجون والرؤى، ويكفي أن تمسي اللغة التي بين يدي شاعرنا العربي ذات طابع قدسيّ ليغدو الصنيع الشعري مهيباً كل المهابة.
وختاماً - وكي لا أطيل، والكلام في الشعر لا ينتهي - أقول: الشعر هو أولاً وأخيراً فعل خلاص، ميتافيزيقياً كان أم دنيوياً، صوفياً أم مادياً. الشعر فعل خلاصنا الوحيد في عالم ليس إلا ظلاً واهياً لصورة غائبة هي الأصل والمآل. ولا أخال الشاعر إلا هذا الكائن الذي تجشّم مشقات البحث عن تلك الصورة الحقيقية الغائبة. أما الشعر فلا يكون الخلاص الوحيد إلا من كونه انتماء آخر إلى الحياة أي انتماء إلى الحياة محلوماً بها أو متحررة من ربقة المادة والتاريخ..!
ومهما قيل عن موت الشعر في عصرنا الذي فقد براءته وفطرته، فإن الشعر سيظل فعل خلاص، لا فعل مواجهة فقط، سيظلّ الشعر فعل وجودنا الحقيقي!

* عبده وازن: من أعماله الشعرية: الغابة المقفلة عام 1982، العين والهواء، سبب آخر لليل، حديقة الحواس، أبواب النوم، سراج الفتنة كما حقق ديوان الحلاج.

النص

أبواب النوم

عبده وازن

سبات

الغيمة التي عبرت رأسه عند منحدر الليل كانت كامدة مثل ملاك، حتّى أنّها لم توقظه من سبات فاجأه على الكرسّي. وكان قبل أن يخطفه غفوه يرنو إلى السماء التي فاحت زرقتها كعطر قديم.

حين عبرت الغيمة رأسه لم تحدث ظلاًّ ولا ورداً. بلّلت عينيه المغمضتين وعلى وجهه تركت قليلاً من بياضها.

لم تزره الغيمة إلاّ لتردّ عن وجهه صدأ الانتظار الذي لا تعرفه سوى أشجار الغابة.

صدفة

من قال للزهرة أن تفيق من نوع الشجرة
وللعصفور أن ينهض من غيبوبة السماء؟
من سأل اليمامة عن عتمة ماضيها؟

لم تكن الزهرة إلاّ جرحاً غابراً
لم يكن العصفور إلاّ سهم الصباح
لم تكن اليمامة إلاّ عشبة الأرض الأولى.

غياب

هو ذا الباب الذي لم يفتحه أحد.

الزائرون الذي طرقوه كثيراً
لم يرجعوا من حديقة غيابهم.

العابرون الذين مرّوا أمامه
توارت آثارهم في الهواء.
لكن طَرقاتٍ كثيرةً ما زالت تُسمع.

هوذا الباب الذي لم يغلقه أحد
وراءه تبزغ شمس غريبة
وراءه تسطع كنوز الليل.

السماء القليلة

أولئك الذين رقدوا في العراء
كيف احتملوا برد الليل
الذي لم تضئه نجمة؟

أولئك الذين أغمضوا عيونهم
كي لا يبصروا ظلالهم تنحسر كالغيوم
كيف غافلتهم وحشة الفصول
في منتصف أعمارهم؟

هم الغرباء الذين غابوا
قبل أن يلفح البرق وجوههم
لم يحدّدوا وجهة لخطاهم
راحوا يبحثون عن أطياف
يفقدونها كلّ ليلة
في البرد القارس لسمائهم القليلة.

صحراء

لا تمحو الليل سوى زهرتِه.
الليل صحراءُ العين
خاتمُ الأنوثة.

سيكون للعين ليلها الأخير
للّيل شعاعه الأوّل.

عيناها

حيث أغمضتْ عينيها
لم تحسّ الضوء الذي
تجمّد فيهما كالملح.

أغمضت عينيها لتضيء غابتهما،
لتضمَّ الليل وشقائقه،
لتخبّىئ السماءَ التي تشيع وسعهما.

حين تراءى لها الظلّ الغريب
أغمضت عينيها لتأسره.
لكن لم تفتحهما بعد ذاك.

الحديقة والسياج

الحديقة التي أزهرت في عينيه
لم يعد يذكرها من شدّة شمسها.

الحديقة التي تفتّحت ألوانها في نومه
سرعان ما اختطفها النهار العابر.

الحديقة التي أبصرها صدفةً
كانت بلا سياج

كان هو شجرتها الوحيدة.

المحراث

الحصاد الذي ينتظرهم، هم غرباء البيادر
والحقول، ماذا يفعلون به إذا ما الشمس فاجأتهم
باكراً، إذا ما النهار سبقهم إلى واديه، إلى
المنحدرات التي لا تنتهي بأخضرها وغماماتها!

الحصاد الذي ما برج ينتظرهم، هم غرباؤه
القادرين على الذهاب أبعدَ من أحلامهم، القادرين
على انتظار الصوت الذي يدلّهم إلى الأكمة.

الحصاد الذي أينع تحت دفء نظراتهم، في ظلّ
حيرتهم، ماذا يفعلون به إذا ما فاجأهم الصباح
وهم يرتقبون النجمة التي فقدوها خلسة!

ما يفعلون بالحصاد هم غرباء البيادر والحقول،
هم الذين ما وضعوا يداً على محراث ونظروا إلى
الوراء!@