النص

شهادة

علي الدميني*

يمكن لي أن أفتح الشباك الآن على سنوات العمر ولكن يلزمني الكثير من الوقت والكثير من العباءات السوداء لأقيم الحداد عليها.

أما إذا اضطررت للإنصاف، فسأستدرك بالقول أنها لم تكن خاوية إلى ذلك الحد ولكنها كانت ملأى بأجنحة الأحلام المنكسرة والمتع المجهضة والحكايات الكبرى المتكئة على كراسي لا مقاعد لها.

أطل الآن من نافذة البيت فأرى سماء تلبس شفافية السحاب وخضرة الأشجار العالية التي تبتسم كلما نظرت إليها. إنها صورة واضحة إلى حدود الألفة ولكن شباك العمر يتماوج كليل امرئ القيس، ولا يتبقى منه سوى الضباب الذي يتفتح في الذاكرة وهو يحيط بالقرى الجنوبية في بلادنا ليغمرها بحنان رطب ويخنقها بإطفاء مصابيح النهار والليل معاً.

كان أبي كلما ألمت به ضائقة من تقلبات الأحوال يتكئ على مقعده الصخري ويستند إلى جدار صغير أمام بيتنا المطل من أعالي الجبال على الأودية ونثار القرى، فيرفع صوته غناءً شجياً مخضباً بالأسى وتباريح الوجع الدفين ليغني:

( لا بد لك من ردة الله يا تهامة
تنجلي عنك الغمامة
ويكون ويكون)،

ثم يتبعها بأنّة حارقة، وكنت أفاجأ بهذا الصوت العذب لأبي ذلك الأب الدقيق في تفاصيل حياته والصارم في كل شيء.. فأنسى ملامحه وأدخل في رهبة الصوت والغناء لألامس أولى بدايات العلاقة بين تفتح الطفولة على الشعر والغناء، وارتباط الشعر بحالات الوجد والتنفيس عن ثقل المخبوء، في الأعماق.

في القرى الجنوبية المعزولة آنذاك - التي عرفها بعضكم وعرفنا الكثيرين من مجايليكم على سفوح جبالها من الأطباء والمعلمين والفنيين والتي استلهم من عوالمها إبراهيم نصر الله رواية "براري الحمى" - يأخذ الشعر الشعبي موقعه الجوهري في منظومة الإرث الثقافي فيختص المبدعون بقول الشعر ويختص الجمهور بحفظه وإشاعته وإعادة صناعة ما فقدته الذاكرة منه ليشترك الطرفان في خلق جمالية المتعة والتواصل إلى درجة أنه باستطاعة كل فرد فيها - رجلاً كان أو امرأة - صنع قصيدة صغيرة تعبر عن الحالات الوجدانية الكبرى كالموت والولادة.
تلك القرى - في عتمتها - ما زالت تحضر كلما يحضر الحنين إلى البدايات وإلى شهوات الصبي المقموعة وإلى ذاكرة الشعر البدوية، وحيت أستذكر بداية طعنة الشعر الأولى أبحث في الذاكرة عن تفاصيل يوم شتوي تقاسمته الأمطار والضباب جاءتنا فيه خالتي، ونحن نتحلّق حول النار في وسط المجلس ونكرع فناجين الزنجبيل، فجلست وثيابها تقطر من مطر شديد. قالت : - موجهة حديثها لأبي - روى لنا اليوم عمي الشاعر حميد المحضري قصيدة عن شاعر تهامي، وقد تحداني في فهم الرد، أما البدع فقد فهمته.
تطلّعت في وجه أبي وقالت اسمع القصيدة يا غرم الله:

يا هلّ بن دق
يا هلّ بن دق
ذا صبّ حوبه
ذا صبّ حوبه

توقّفت قليلاً ثم أردفَتْ بالقول أن الشاعر الآخر قد رد على الجزء/البدع بقوله:

يا هل بندق         يا هل بندق
ذا صبحوا به         ذا صبحوا به

ضحك والدي منتشياً بالنص وبمتعة تفسير جناس كلماته فأطلق ذائقتي الأولى على عتبات الجمال التي تطل من أغصان اللغة.

اشتعلت المخيلة في حقل يستمد شعريته من جناس القافية الّلدنة التي تتيحها اللهجة الشعبية خارج شبكات النحو والصرف وكان مخيال الشاعر الشعبي الذي يتوسط دائرة (العرضه) منشداً على البديهة قصائده ومطولاته - يفتنني ويعدني بأمجاد قريبة وضخمة..
وحين ظننتني قد تمكنت من عدة القصيدة دوّنت مطوّلتي وقرأتها على والدي، الذي استمع إليّ بحيادية ما زلت أتذكّرها وحين أكملت إلقاءها أمامه قال لي : هذا الكلام "ما هوب سمين" - وهذا مصطلحه النقدي للتمييز بين جيد القول ورديئه - وأكمل : ثم أنك لم تحفظ قصيدتك بعد فكيف ستلقيها أمام الناس؟
والدي لم يكن شاعراً ولكنه كان متذوقاً متميزاً وحافظاً لبعض أجود ما يقال، غير أنه في ذلك اليوم أجهض أولى الأحلام وهيأني باكراً لاستقبال المزيد، فتوقفت عن مشاغبة القصيدة الشعبية ذات المرقى الصعب عليَ منذ ذلك اليوم وحتى الساعة، بيد أنني ورغم الهزيمة قد احتفظت في ذاكرتي بشيء غير يسير من افتتاني بالشعر الشعبي، ما لبث فيما بعد أن تسلل إلى بعض نصوصي التركيبية سواء مما أنشأته ضمن سياق القصيدة أو أخذته عن غيري كشكل من أشكال تداخل النصوص.

لم يبق من القرى إلا ذاكرة الضباب التي تنسحب على ما تراكم بعدها، وأظنني ولدت في صباح شتائي مضبّب بعد سنوات قليلة من بواكير نيران قصيدة التفعيلة التي حدثنا عنها مدرس الرسم في المرحلة المتوسطة.
كان مدرسنا الفلسطيني - الذي فارق وطنه بعد النكبة - مفعماً بالأمل ومجنوناً بالشعر والألوان، وأذكر أنه طلب منا في إحدى حصص الرسم أن نقف دقيقة حداداً في ذكرى الوطن المغتصب وبعد أن دخلنا طقساً لم نألفه قط بدأ يحدثنا عن مسارات النهوض القومي من رماد اليأس في كافة الاتجاهات وأشار إلى الثورة الشعرية التي أحدثتها قصيدة الشعر الحر كدلالة على تجديد روح الأمة ونهوضها، ثم انتقل إلى موضوع الرسم وطلب منا تصميم بطاقة معايدة، رسمنا في قلبها خارطة فلسطين وفي أعلاها كتبنا بخط عريض كلمة "عائدون".
لا أعرف الآن في أي منفى أو معزل من معازل السلام يقيم ((سميح العزة)) ولكنني أعرف أنه ألقى في ضميري الثقافي معنى يعز عليّ نسيانه مهما تطابقت غيوم الأزمنة الثكلى كما بذر في قلبي حلم مرحلة النهوض القومي وتطلعاته الكبرى عبر تجلياته العديدة التي كانت "الناصرية" أبرز علاماته.

ليس من وقود للشعر أعظم من تجارب الحب الصامت بين طرفين لا يجرؤ أي منهما على البوح به فيغدو ناراً لا يخفف من حرقتها إلا إعلان حالة العصيان على التقاليد وهو ما لا طاقة لي على احتمال تبعاته فما كان للعواصف الوجدانية إلا مركب البوح الشعري والتقيد بشروطه.

تعددت حالات الحب والفتيات يكبرن على عجل فيتزوجن ويتركن لي طعنات الفقد والحنين وكتابة الشعر العمودي، ولكنني، في كل تجربة كتابية، كنت أجدني خارجاً من مخاض القصيدة بكثير من الطيش وقليل من الإبداع وبإحساس يشبه انكسار اللذة يدفعني للاعتراف بأن ما يعتلج في داخلي لا يمكن تمثله شعرياً وفق ضوابط العمود الشعري.

لم أطلع في المرحلة الإعدادية في قرى الجنوب إلا على تجارب قليلة وفقيرة من قصيدة التفعيلة لم تستهو ذائقتي أو تستفز حساسية التمثل أو التقليد، فبقيت في البرزخ الذي صاحبني في رحلتي إلى مدينة جدة، حيث انتقلت لدراسة المرحلة الثانوية، وهنا وفي مناخ أفضل تعرفت على بعض نماذج قصيدة التفعيلة في الصحف وعبر برامج الإذاعات فوجدتني أخطو خطواتي الأولى للتعبير عن لحظة تاريخية شخصية وموضوعية، تجلت فيها مفارقات الحب والنكسة واجتمعت عبرها معاناة الفشل العاطفي والهزيمة الحزيرانية، ليدفعني ذلك الصخب والعنف في الطريق إلى حسم خيار كتابة شعر التفعيلة رؤية وتعبيراً، وحينها تلمّست علاقة الشعر بالتطهير وقدرته على خلق المعادل التعبيري الممكن لموازاة فداحة الهزائم ومفارقات الأزمنة.

ما زلت أطل من النافذة على سيرة لا أملك اختيار موقع نظري في ضبابها العصي على ما أريد، ولكن ما استخلصه من مخالسة الرؤيا إلى تمثلاتها يزيدني يقيناً بصواب جدل العلاقة الخاصة بين البناء الفوقي وواقعه الشامل تزامنياً وتاريخياً.

وحين تحضر رحلتي من قرى الجنوب إلى الظهران في شرق المملكة عام 68 م لدراسة الهندسة في كلية البترول والمعادن، سوف لن تنام في طيات الذاكرة تفاصيل تلك الرحلة عبر الصحراء من الطائف حتى سواحل الخليج العربي. لقد عبرتها بالسيارة لكنها عبرتني وأيقظت في وجداني مخيال الشعراء الذين تنقلوا في هذه الأمكنة عبر سهوبها وكثبانها وهضابها وأسكنوها روحاً خلّدها ديوان العرب فتأسست في تلك الرحلة ذاكرة الحنين لطفولة رعي الغنم ومراقبة النجوم في الليالي الصافية التي عشتها صغيراً لتمزج بذاكرة قصيدة الصحراء أو صحراء القصيدة القاسية والحنونة المفرطة في العرى والمغرقة في غموض التوقع والتي تفتح أمامك أرجاءها وتقصي عنك أسرارها. إنها أبدٌ يتبدى وارتحال يتكرر، تلك هي صحرائي التي لا يحجبها ضباب نافذتي اليوم ولا شباك قريتي بالأمس رأيتني فيها أرافق امرأ القيس، وابن الفجاءة وطرفة ابن العبد والأعشى، والشنفرة، والسُلَيك، وأمضي بنفس اللحظات الشعرية والوجودية التي عاشوها.

المكان هنا ليس المكان المتخيل أو الحيّز الثقافي الموجود بالإمكان، وإنما هو وجود بالقوة تلبّسني وشغل حيّزه بحنان، واستدعى محمول الذاكرة الشعرية البدوية وصيّره لوحة جدارية واسعة تتقاطع مع منطق تكوينها ذاكرتي الشعرية فيما بعد.

في الظهران كان المكان مؤثثاً بشكل جيد لإعداد مهندس ولكن الشعر يجيد المخاتلة فيستبدل كتاب الكيمياء بديوان شعر، وكتاب الرياضيات بمجلة أدبية، أو جريدة (ولعلي أستذكر مجلة "أفكار" الأردنية أيام محمود سيف الإيراني، ومجلة "البيان" الكويتية، وثقافة مجلة "الأسبوع العربي" أيام فاروق البقيلي)، وكنت أجيد المراوغة فأجمع بين الألداء في السنوات الأولى بنجاح، لكن اللعبة استشكلت عليّ في السنتين الأخيرتين حتى أقسم الشعر أن ينتقم من الهندسة بعد التخرج.
كان المناخ في الكلية منسجماً في ظاهره إلا أنني تعرفت على قلق بواطنه، وبعد أن كان الوعي متشظياً فكرياً واجتماعياً وإبداعياً، أصبح الآن يبلور ركائزه الأولى ليحل الشعر كقاسم مشترك بين الحب والوطن، والوعي والعروبة، والالتزام والهموم المرحلية.
نشرت قصائدي ابتداءً من عام 70 ميلادي، وبالقرب من رواد قصيدة التفعيلة في بلادنا - العلي والقصيبي - أسهمت إلى جوار شاعرين آخرين هما سعد الحميدين وأحمد الصالح في توطين مفهوم قصيدة التفعيلة وتوسيع دائرة انتشارها وتأثيرها.

وقد بدت لي القصيدة كفاعلية ممكنة لاختراق السائد وإعلان التساؤل حول كمال المنجز، وفتح الأبواب العلنية لتأسيس ذائقة جديدة تؤدي دور المفاعيل الثقافية والاجتماعية الأخرى الغائبة في وسط يعاديها ويصمها بتخريب لغة القرآن.

ولسنوات عديدة أصبحت قصيدة التفعيلة معركتي الأولى مع البنية المحافظة سجالاً وكتابة، حتى كادت أن تغدو قضية التزام وتحزّب.

ورغم الطبقات الكثيفة للذرائع الاجتماعية، فقد كانت المؤسسات الرسمية أكثر تسامحاً وسعة أفق منها، حيث أفسحت المجال في الصحافة والحياة الثقافية - في حدود ملائمة - لأساتذة الجامعات والمثقفين من إخواننا العرب في المساهمة بدورهم التنويري في نشر إبداعاتهم ومساهماتهم البحثية والنقدية.
وكان للعديد منهم دوره الهام في إقامة جسر تثاقفي مع مستجدات الإبداع ومدارس النقد الأدبي بين الداخل والخارج، وحيث فتحت الصفحات الأدبية أبوابها لفاعلية تأثير عميق نعده تأسيساً لحياتنا الثقافية المعاصرة، وللوفاء فإن الذاكرة تستحضر منهم : الدكتور أحمد زكي، وجواد الطاهر، وفواز عيد، وراضي صدوق، وسباعي عثمان، وشاكر النابلسي وعبد الرحيم نصار، وسالم النحاس، ونسيم الصمادي، والدكتور الشنطي، وراشد عيسى ومحمد القيسي - فيما بعد - وسواهم خلال فترة الستينات والسبعينات.

بيقين قاطع أجزم أن المشهد الشعري إبّان مرحلة الستينات والسبعينات قد شكّل أرضية حساسية الذائقة الجديدة التي استمدت بؤر مرتكزاتها الفكرية والجمالية من المشهد الشعري ذاته، ودليلي على ذلك خاص بواقع ساحتنا الثقافية في المملكة التي ظهر فيها شعراء شكلوا سياقاً منسجماً في الرؤية والتعبير خلال السبعينات والثمانينات تأسيساً على قراءاتهم لمنجز تجربة الشعر في البلاد العربية الأخرى حتى غدت أصواتهم جزءاً من التيار الشعري العربي العام.

وفي سنوات الجامعة قرأت تجارب العديدين من شعراء قصيدة التفعيلة من السياب إلى البياتي وتأثرت كثيراً بمحمود درويش ونزار قباني في بادئ الأمر، غير أنني انحزت فيما بعد إلى سعدي يوسف. ولقد أنفقت زمناً طويلاً وجهداً في القراءة لتجاوز تأثير درويش ونزار لأن صوت كل منهما يفضح المتلبس به منذ العتبات الأولى، فيما تدشن تجربة سعدي بتنويعاتها المختلفة أبواباً للآخرين لاقتفاء أثره والتأسيس على فتوحاته.

وهذا الشاعر الكبير كثير التجريب متعدد الطرائق التعبيرية منفتح في قصائده التركيبية على الأصوات المختلفة (الشعر الشعبي، مقاطع عمودية، مقاطع نثرية، تعابير يومية) انتقال متمكن بين البحور، غنائية شفافة وقدرة على هضم الأفكار والشعارات والمصطلحات السياسية وجعلها عناصر منسجمة مع شعرية النص، ولعله أهم الشعراء الذين التفتوا إلى اليومي والمهمل والعابر وأبرزهم في الاشتغال على قصيدة اللفتة الصغيرة، واللمحة المتأملة - لانفتاحه على الشعر العالمي - وترجمته لبعض دواوين الشعراء، حيث أسهم بشعره وترجماته في استحثاث ظهور حساسية جديدة أصبحت الآن أرضاً خصبة لكتاب قصيدة النثر. ولكل هذا أصبح "معجز سعدي" مرجعيتي الشعرية لفترة من الزمن، وأصبح لزاماً عليّ إلغاء نشر ديواني الأول في 74 م وإخفاء قصائده لأن أصوات درويش ونزار كانت تترصدني في مقاطعه.

لقد تعلمت من سعدي جماليات التعددية والتجاور، مثلما تعلمت منه ومن غيره نحو القصيدة التركيبية واستدعاء مخيال الذاكرة الشعرية أمكنة ومفردات وأشخاصا، وأصبحت هذه العناصر قواسم مشتركة في تشكيل نصي الشعري، لكنني لم (أتعلم) منهم غزارة الإنتاج، لأسباب عديدة لعل أهمها الانشغالات المتشعبة والمتناقضة التي عملت عليها خلال حياتي فلم أنجز سوى ثلاثة دواوين بعد تجاوز تجربة الديوان الأول المجهّضة. وقد تأخر نشر أولها ((رياح المواقع)) حتى عام 87م، فيما نشرت الثاني ((بياض الأزمنة)) في عام 95م، وقد نشر الثالث ((بأجنحتها تدق أجراس النافذة)) عام 99م.


لست وصياً على أحد أو نائباً عن آخر، لأعيد الهيبة "لأيديولوجيا" التقدمية التي أصبح الحديث عنها اليوم مشوشاً وقريباً من حدي الطعن أو النسيان، أما في تجربتي فقد كانت باباً مشرعاً على استلهام عناصر وأسس النهضة، ومكونات الحداثة، وأفقاً لتغيير ميزان النظر إلى الأصل والنهاية والتركيبة والمسار نحو الغاية الحلمية التي تنشد إرساء مثالات العدالة الاجتماعية، والمساواة، وحرية الإنسان و"أن نسير على الأرض دون انحناء" كما يقول الشاعر السعودي محمد العلي.

ولعل خصوصية التعاطي مع تلك الأيديولوجيا تثاقفاً وممارسة ومغامرة في وسط اجتماعي ومؤسسي محافظ مُشبع بالسلطة جعل منها افتتاناً سرياً بالجوهر والحلم، وزهداً طُهرانياً يفترق عما يصطرع عليه الآخرون أحزاباً وجماعات من مغانم علنية في الدول الأخرى.

من أعماله الشعرية: رياح المواقع 1987، بياض الأزمنة، بأجنحتها تدق أجراس النافذة، وله رواية بعنوان: الغيمة الرصاصية.

لقد كانت الأيدلوجيا في لحظتها التاريخية تلك، ومكانها الخاص بي، فضاء لحرية التساؤل الذاتي والجمعي، وإجابات على تشوّف ظامئ أضحت فيه مطراً يسح على التربة العطشى في صحرائي التي عشقتها فأورثتني إيجابية القلق الذي يغدو في الفضاء المغلق قريناً للامتلاء بقناعة أو تفاصيل خارطة، ويأخذ هيئته كيدٍ، تدل على الطريق.
كان عام 74م، بدءاً لمخاض تجربة حياتية وتثقيفية وإبداعية حسم الشعر فيها صراعه مع عدوه اللدود، حيث عملت مهندساً في أرامكو في عمل لا هندسة فيه واجتهدت في تصفية صوتي الشعري من آثار أساتذته، وبدأت بتأثيث المعنى بالسفر إلى عواصم الثقافة العربية من بغداد إلى القاهرة والبحث عن مصادره الفكرية في مظلتها فكف الشعر عن احتكار أحادية مرجعية المضامين النهضوية وبقي مضماراً للتجليات والمكاشفة.
وفي ذلك العام أيضاً، أشرفت على تحرير ملحق جريدة "اليوم" الأدبي المعروف باسم ((المربد)) وحتى عام 1981م، حيث كان واحداً من الملحقات الأدبية المتميزة في تلك الفترة، بانفتاحه على الثقافة الجديدة والهم الاجتماعي للأدب، والانحياز لقصيدة التفعيلة وتشجيع بواكير قصيدة النثر في بلادنا.

وكان لا بد لتبلور الرؤية الفكرية في خضم مرحلة الطفرة المادية التي عاشتها بلادنا والتي صاحبها فرز اجتماعي وثقافي حاد، من الذهاب في البحث عن أفق آخر حتى الأقاصي - حيث ((أدخلتني "يد الله" في التجربة)) بحسب أمل دنقل. وأن يتجدد مفهوم الالتزام والممارسة الحركية، وأن يتم دفع الضريبة أيضاً.

أتكون هي الأيدلوجيا التي فعلت كل ذلك؟
ربما، لكن الأمر مضى ضمن حتمياته ومتطلباته المرحلية سواء كان استجابة لحركتها أم تصادياً مع معطيات الواقع، وسواءً رضينا من الغنيمة بالإياب، أم خرجنا من التجربة بالهزائم. ولعل رايتي الوحيدة "الغيمة الرصاصية" التي أصدرتها عام 1998م، تتقاطع في بعض أجزائها مع تفاصيل تلك التجربة وتداعياتها الأخرى.

وبعد تجربة خاصة وعنيفة مررت بها طيلة عام 82م، لم يعد ممكناً إشرافي على ملحق جريدة اليوم أو سواه من الأنشطة الأدبية، فحمدت للظروف القاسية "رحمتها" حيث تفرغت من عناء نشاطين لهما صبغة الالتزام. وقد كانا - رغم المتعة - يستنزفان وقتي، فتخلصت من تراث الهندسة نهائياً وأخلصت للعمل في البنك ومتعة التجوال بين كتبي، لردم بعض الفجوات المعرفية بمتابعة ما أمكن الاطلاع عليه من مطر النتاجات الأدبية، إبداعاً ونقداً، وخاصة بعد انشغال ساحتنا الثقافية في المملكة في أواسط الثمانينات بسيل من ا لمدارس النقدية الجديدة من البنيوية إلى التقويضية، وظهور ملامح الصراع بين حساسية أدبية تستمد مرتكزاتها من الحداثة إلى حساسية مغايرة تنتمي إلى ما بعد الحداثة والذي تجلى بشكل سافر في وقائع السجال ما بين شعر التفعيلة وقصيدة النثر.

وما دمت قد بلغت في حديثي - الذي أردته قصيراً فانفرط - إلى تماس الصراع بين هاتين الحساسيتين، فإنني أود الإشارة إلى تمايز دلالي - لديّ - يفرق بينهما في واقع شعرنا العربي المعاصر بمعزل عن المطابقة مع أصولهما في الغرب، كما أود التنبيه إلى أن هذا التوصيف لا يراد له أن يكون حكم قيمة وإنما هو تحديد إجرائي للتمييز بين المرجعيتين.

وبالرغم من تعددية معاني الحداثة وما بعدها إلا أنني سأصف الشعر المنتمي للحداثة بقدر انحياز رؤيته إلى العقلانية، والحرية، وقيم العدالة الاجتماعية، والمساواة، والانتصار للتقدم والرفع من مكانة المرأة. وفي الجانب الآخر أصف الشعر المنتمي دلالياً لحساسية ما بعد الحداثة بقدر ما تعلنه بنيته النصية من علامات التشظي والتشتيت والمجاورة وموت المعنى وغياب بوصلة الرؤية الاجتماعية، ولذا فإن هذا التوصيف سيشمل شعراً من قصائد التفعيلة مثلما يطال شعراً من قصيدة النثر، حيث تغدو قصائد الماغوط وفوزية أبو خالد نصوصاً حداثية رغم انتمائها لفضاء قصيدة النثر.

ولعل عدم القدرة على التعاطي مع حاضرنا العربي المأزوم - بإعادة إنتاج آليات استبداديته - والمصاحب اليوم لانهيار المشاريع الكبرى - أو الحكايات الكبرى بحسب "ليوتار" -، وبروز ظاهرة العولمة التكنولوجية والاقتصادية وطغيان آليات الاستتباع السياسي والثقافي، وهو ما يدفع الكثيرين من مبدعينا إلى الإيغال في الفرار من كتابة الأمل إلى كتابة الصمت كاحتجاج مهذب ضد اقتيادنا إلى جحيم لم نختر طريقه ولم نُستشر في إمكانية صنع بدائله - وإن انغمسنا في أمل المحاولة حتى الرُكب - طيلة نصف قرن.
هكذا أطل على سنوات لم يبق منها إلا الوشم في ظاهر القلب، حيث يتماوج المكان، وتتلامع - كقناديل تحت المطر - أزقة القرية الحجرية وطرقاتها المتعرجة نحو الوديان السحيقة التي كنا نناجيها في مواسم البذار والحصاد ونحنو علينا في تشققات تربتها حين يغيب الغيث، وهكذا تغيم طفولة القرى لتفسح المكان لمخيال الصحراء والبحر وشوارع المدنية.

والحق أن المكان بالنسبة لي عالم ملتبس لا يشفيني منه الحنين إلى القرية وعالمها، ولا الالتقاء بالمدنية ومستجداتها، ولا الاكتفاء بالصحراء ولذعة بداوتها المفقودة، ولكنه - في ظل ما يتماوج من إحساس به قد تجاوز موضوعية الظاهرة المكانية - أي كونها ظاهرة هندسية - ليحل مكانها ديناميكيته الخاصة بحسب "باشلار". ولذا تنهض بدلاً عن المكان ذاكرته التي أصبحت معي استعادة لثقافة بدوية الصحراء الشعرية، وحنيناً صوفياً إلى بقايا صور القرى المنسية، ومراوحة سكونية بين معايشة حداثة المدن المؤجلة والاستمتاع بخدماتها الاستهلاكية الما بعد حداثية المتوفرة.

وإذا جاز لي الحكم، فإنني أعدّ هذا ا لتشتيت الوجداني المترحل موقفاً إنسانياً وإيغالاً عاطفياً مفارقاً للتعصب بكافة أشكاله سواءً للمنطقة، أو المكان المحدد، أو الوطن أو لتحزب أعمى ضد الآخر، وأرى في ذلك ((الترحل)) سيماء بحث دائم عن أمكنة فاضلة لمّا تخلق بعد، لذا تتشكل صوري الشعرية كبديل متخيل له، أو كتأجيل للقبض على حميمية لذعة عناق المكان المؤمل استنطاقه.

تلك هي الأرض التي تنفتح أمام تعددية بنية الشعر عندي وعدم انحيازها للشفوي - المقموع في طفولتي - ضد المكتوب، ولا انتصارها لتشكيل شعري بحد ذاته ضد آخر، لذا تتجاوز في تجربتي كل الأشكال.
لست من هواة قتل الآباء، ولا وأد الأبناء، ولذا كنت في صراعي مع أصنام قصيدة العمود أسعى أولاً لتثبيت حق القصيدة التفعيلة في الوجود وحق الشعر على شعراء العمود أن يطوروا تجاربهم مثلما فعل البردوني ونزار مثلاً لتتواءم مع مستجدات لغة العصر. وفي نفس الأفق سعيت إلى ترسيخ الذائقة لتقبل قصيدة النثر إبداعاً وتبشيراً، مثلما استمتع الآن بقصيدة الشعر الشعبي الحديث الذي يقوم على مرجعية مكتوبة منفتحة على اللهجة المحكية العامة للشارع العربي، إذ أن الأصل عندي في الإبداع هو الحرية.

من أجل أن يبقى الشعر ((كروح تتفتح شكلاً)) - بحسب "باشلار" - علينا أن نستقبل أجمل ما تبشر به مفاهيم ما بعد الحداثة من افتتانها بإشاعة مناخ التعددية وحق الاختلاف، وأن نحِلّ فضيلة المنافسة في موقع المصادرة والإقصاء، حيث ينبغي تكريس المنبر الشعري كفضاء مفتوح لقصيدة عمودية معاصرة أرسى أسسها الأخطل الصغير، وسليمان العيسى، ودشن مدائن حداثتها نزار قباني والبردوني، وأن يكون أكثر تهيؤاً لتطوير معمار قصيدة التفعيلة فيما يبدعه درويش وسعدي يوسف وشوقي بزيع، بشكل خاص، وقاسم حداد ومحمد العلي ومحمد الثبيتي في أعمالهم الأخيرة، وأن يتسع المنبر ذاته لدهشة نافورة صورة قصيدة النثر المخترقة للسائد فيما يبدعه الماغوط، وأنسي الحاج، وعباس بيضون، وعبده وازن، وفوزية أبو خالد، وإبراهيم الحسين وغيرهم.

وحين تتم استعادة صراع حساسية شعرية تنتج معمار القصيدة العمودية المتمرسة خلف مرجعية الذائقة التقليدية ضد أخرى تشكل فضاء قصيدة التفعيلة خلال الستينات والسبعينات فإن الصراع لم يكن شعرياً وحسب ولكنه كان في أعماقه ثقافياً يطال الخصوصية والهوية ولذة الأعياد. وحين ارتبطت قصيدة التفعيلة في اشتغالها على تشكيل بنية النص باستمرارية إيقاع التفعيلة وبإعادة إنتاج فاعلية رموز الحضارة والثقافة وتاريخ الأمة، فقد شغلت موقعها الشاغر سلفاً في الوجدان الجمعي العربي وفي ضميره وذائقته الجديدة، وبذلك تم حسم الصراع حول مشروعية حضورها في المشهد الشعري، منذ السبعينات، لا على أنقاض القصيدة العمودية وإنما إلى جوارها.
والحق أن قصيدة التفعيلة قد نجحت إلى حد كبير في تمثل طموحاتها دلالياً أنها لم تبلغه جمالياً حيث نراها اليوم ومنذ أواخر الثمانينات قد اقتربت من نفق النمطية الواضحة في الإحالة المرجعية والقاموس والرموز وبؤر الاستلهام وصيغ بناء الجملة الشعرية.

والحق أيضاً أن هذا التعميم يطال تجربتي الشعرية مثلما يصدق على شعر الكثرة من شعراء التفعيلة!.
واليوم تتجلى ملامح صراع آخر بين حساسية التفعيلة بمحمولاتها الحداثية وبين حساسية تجربة قصيدة النثر بتجلياتها الما بعد حداثية. وإذا كانت الموسيقى هي عنصر التفريق الحاسم بين الشكلين فإن الفارق الجمالي المتمثل في بلاعة تشكيل الصورة (انزياحاً وتفتيق مجاز، وزاوية نظر للأشياء، وبناءً للجملة الشعرية) يميل لصالح قصيدة النثر، ويؤهلها للقبض على ذرى طموح قصيدة التفعيلة التي حلمت بإنجاز نسق شعري على غير سابق مثال، لكنها لم تبلغه بعد.

إن قصيدة النثر تؤسس لشعرية المدينة الكونية وسيادة الثقافة المكتوبة على الشفوية، فيما تتمثل مفهوم القطيعة مع التراث الشعري العربي بإطراحها الموسيقي وتأثيث الحساسية الجديدة بمرجعية مغايرة تجد أصولها في ثقافة الغرب بامتياز، وتمضي هانئة بنقش القصائد على أعشاش العزلة النائية.
وهنا يطل السؤال التالي برأسه قائلاً : ما موقع الذاكرة الشعرية العربية والقارئ المهتم المسكون بها، وأين ملامح الخصوصية وسحنة الهوية التي سيرثها الأحفاد ما دامت قصيدة النثر قد غدت درساً شعرياً في ممارسة القطيعة وتغييب ضمير الهوية.

وللتحايل على السؤال من خلال تجربتي وطموحي، أقرر:-

أولاً :- أن هذا سؤال ثقافة وليس سؤالاً عن الشعر، ولذا فالزمن هو الذي سيحسم أمر صيرورة الذائقة وتحديد عناصر ثباتها ومتغيراتها.

ثانياً :- أعدّ نفسي من ربع قرن من المهتمين بقصيدة النثر كقارئ ومن الذين لا يأنفون مزاحمتها في الساحة الشعرية، والأهم من ذلك هو إيماني العملي بحق مبدعيها في الوجود! وإعجابي بدور المتميزين منهم في إنجاز تجربة غنية ومدهشة تُعدُّ إضافة حقيقية لسياق حركة الشعر العربية.

ثالثاً :- أما حين أنظر للسؤال في صيغته كسؤال ثقافة فإنني أجزم بأن دائرة المتلقين ستتقلص حتى تبلغ حدود منتجيها فقط، وحين أنظر إلى احتمال أن تكون هذه التجربة هي صورة مستقبل الشعر العربي، فإنني أرى بحنان إلى ذاكرة الشعر العربي وهي تنشج أمامي.

ولذلك، وحيث لا يمكن للإنسان أن يحرث غير أرضه، أجدني بعد أن استنفذت انتماءاتي السياسية، منتمياً لقصيدة التفعيلة وها إنني منذ سنين أعمل كمن يتملّى جزءاً من الفضاء العالي الناهض أمام شباكي، لكنني كلما نظرت إلى الأسفل وجدت نفس الحائط يكرر صورته بأشكال مختلفة ويعزلني عما خلفه. لقد ألفته حتى غدا تمثالاً من شجر العائلة، ويبدو أنه لا خيار لي إلا بهدمه أو فتح ثقب صغير فيه لكي تكتمل رؤياي.
هكذا أنظر إلى حساسية شعرية راكمت كمها وكادت أن تستنفذ ما أدركته من كيف، وكان علي أن أبحث عني في تشكيل حساسية أخرى لعل مخيالها البعيد قد خط حروفه الأولى في بعض قصائد ديواني الأخير ((بأجنحتها تدق أجراس النافذة)).

ولكي يجدد المرء تكوين ذائقته عليه أن يتعرى من جديد، ولكن، ولأن المرء لا يولد مرتين، فإن عليه البحث عن نسق يحفظ للخبرة موقعها، وللعورة ما يسترها، فيم عليه أن يتيح للعين رؤية ما خلف حائط الجيران وتجاوز ما كدسته فتنة الألف وعطالة الاعتياد.

ومع احترامي لما يستمتع به العموديون في قصائدهم من جماليات الزوجات المعمرات، ومع حدبي على ما يحتمله شعراء قصيدة نثر ما بعد الحداثة من طيش عشيقات يرين العالم مفتتاً ويجعلن من انفعال الشاعر به مفتتاً هو الآخر، فإنني أرضى بمساكنة قصيدة التفعيلة كحبيبة معاصرة لم تستنفذ شبابها بعد.

وإذ أقف بدون جدار يسندني سوى ثقتي بأن الغد يعد بأكثر مما يومض به الأمس، وبأن الاشتغال على خبرة تراكمت يحملني على القول بأن تجربة قصيدة التفعيلة هي خياري الشعري، لأنها شرفة مفتوحة على كل الأمداء وفضاء منفتح على منجز الذاكرة الشعرية العربية فيما يخص الموسيقى وعلى شمولية الرؤيا وخيار التحديث، وإشراك المتلقي في العملية الإبداعية، كما أنها تتسع لتهضم كل الأشكال الأخرى داخل تركيبتها البانورامية المرنة.
وبعد...

وبرغم أن الحداد ما زال يليق بإلكترا، وبحيفا، وبالأصدقاء، وبي، حيث تموج العتمة حول هزيمة السياسي وانكسار الثقافي وتواضع حصاد عشب الشعر وسنابل الشعرية، إلا أن عيناً صغيرة، تدّعي الإبصار، ما زالت مسكونة في قلبي بكهانة الضمير وودع العرافة وبهاء وجوه الحبيبات، وذاكرة شعر الصحراء، و "كرت" المعايدة الفلسطيني، وما برحت تخاتل ضباب المخيلة وغبش اليقين.

النص

علي الدميني

كان وأختها

الزمان الذي كان لي خاشعاً
كان يضحك مثلي،
                        ويمشي ورائي.
والزمان الذي صرته راكعاً
يتقدّمني في الزيارات،
                        يلبس ثوبي،
                        ويشرب كوبي،
                        وحين يرى أصدقائي:
                        يقبّلهم واحداً واحداً
                        ثم يلعنهم واحداًواحداً
ثم يبكي بكائي!

الأصدقاء

هؤلاء الذين يربّون قطعانهم في حشائش ذاكرتي
هؤلاء الذين يقيمون تحت لساني موائدهمْ،
                       كالهواء الأخيرْ.
مرةً أستعير لهم فرح امرأةٍ في الجريدة
                       تبكي عليّ،
مرَةً أُطلق السهم نحوي،
                       فأخشى عليهم جنون الصبيّ،
ومراراً أغسلهم بالحدائق كي يتركوا جثتي في المياهْ،
                        عارياً كقميصٍ بلا شفتينْ،
                        نائماً في رفاتي كما أشتهي،
                        سابحاً في صفاتي كما ينبغي،
                        وأتوّجني سيداً وأميرْ،
                                 …
                                 …
                                 ولكِنْ!
كيف لي أن أرى - دون قطعانهم - سترتي،
                        فوق عرشي الضرير!

بلاد

أصبُّ وجه البلاد الصحو فاتحةً
فيرقص الحجر الصافي يدا بيدِ

النار مائي
ووهم الوصل مائدتي،
والأسودان ذراعاي التي خلَعَت
غصن الزمان على مشتاقة الجسدِ

شُبّهت في غسق الرؤيا بفاكهةٍ
شوكية اللون تفاحية الولدِ

لعبتُ بالطين، بيتي من رخام أبي
وخلوتي من تواشيحٍ "بذي عنبٍ"
عنقاء تقطفني من غيمة الزبدِ

ما كنت أعشق ضلع الليل حين سجى
لكنه يوم غاب اشتقت للأرقِ
والريح رمح اشتهاءاتي وخاتمتي
والنهر مرثيتي العظمى
فيا عجبي
لساحلين يقودانِ إِلى الغرقِ

فتّانة الجرح إِنا راحلان إِلى
أعمارنا
وقميص الشمس ثوب غدي
فوضى الغمامة أجسادٌ وأنت بها
قوسٌ
                        يوردّني القاصي
                                        ولم أردِ

هات السحابة منديلاً نلمّ به
أيامنا وحنين الماء للبَرد،
والبحر أولّه ماء المجاز فماً
وآخر الحزن في صحرائه،
وكمن
أخنى عليّ ولم أخنِ على لُبدِ

هل هذه ساعةٌ
أم هذه بلدي
قلوصها فضّةٌ في راحتي،
وأنا

زُوّجتُ أنثى
              فلم تعقر
                        ولم تلدِ.