النص

شهادة

شهادة

خيري منصور*

في القرن الماضي، أعني قبل بضعة أعوام، مضيت إلى مساء مماثل، منعماً بشهوة نووية لتغيير العالم، كنت قد فرغت للتو من قراءة ما كتبه ميلر عن رامبو.. بل عن الشاعر الأسير في المحارة القاسية.
قال.. عليه لكي يسمع الناس صوته أن يحتاز صوتاً يطفو على صوت انفجار كوني، وما أن بدأت بقراءة القصيدة الأولى، حتى قاطعني صوت دراجة نارية كانت تجأر في الشارع، ولأسباب لا أعرفها.. استمر صوتها يعلو على صوتي عدة دقائق، فطويت كتابي وسخرت من كلا الاثنين ميلر وتوأمه، وحين كتبت سيرتي بعنوان صبي الأسرار، أدهشني أن معظم من يكتبون شهاداتهم عن إبداعهم، أو حتى سيرتهم الذاتية، يعيدون إنتاج البواكير بما يليق وشيخوخة محكمة، فالأرعن يصبح واعظاً بامتياز والعليل يتداوى، حيث تقترض ذاكرته من خياله، وليس العكس.
هكذا تشكل لدي بمرور الوقت وعي مضاد، للكتابة باعتبارهما تصحيحاً للعالم، وتورطاً لا يخلو من مناقبية باهظة، فنحن نولد على تخوم عدة ميتات دفعة واحدة.

ومن نجا بجسده لا بد أن روحه مثخنة بالجراح، ولعلّ هذا ما يفسر العصاب الذي يسري في كتب السيرة، والشهادات التعويضية التي تسدد مديونات الطفولة ولا تشهد على بؤسها.
لقد كانت القراءة بحد ذاتها بالنسبة لي تجربة في الكتابة أيضاً، وحين استوقفتني عبارة لجورج شتاينر عن الكتب التي تغيرنا، عدت معه إلى مسخ كافكا فجفلت أمام المرآة، وأحسست بجرح نرجسي بالغ في صميم تكويني الجنسي وأنا أقرأ معه بروست.

أما بقرة نيتشة، وفن المضغ والاجترار، فهي صدمة القراءة قدر تخارجها مع التلقي السالب والاستهلاكي للمعرفة.
هكذا.. وجدت نفسي طوال عامٍ، منهمكاً في كتابة تجربة مكرسة للقراءة باعتبارها لقاحاً باسلاً ضد نوستالجيا البدء من صفر الخليقة فلم أكن أول من غنى، ولا أول من أحب ولا أول من كتب، ولأنني مسبوق بهذه السلاسل من جبال المعرفة، وكلابها، وأنهارها ومحيطاتها فإن العزلة تصبح في حالة كهذه أحد المصدات ضد صواعق القطعنة أو تحويل الامتثالية من ظاهرة تاريخية إلى قدر ميتافيزيقي.

على أني أعترف بأن الكتابة في درجة الغليان وليس في درجة الصفر كما يقول بارت، ليست حبراً يسري في أوانٍ مستطرقة.

فالشعر له أقارب فقراء، وله جيران أيضاً، وأحياناً، يفيض عن موسيقاه، فيندفع بجنون إلى براري النثر المفترى عليه؛ باعتباره حسب أدبيات مدرسية واستاتيكية نقيض الشعر..
ذات مساء.. كنت قد أوشكت على الانتهاء من مسرحية إسبانية لكاسونا بعنوان سيد الغجر، حيث الموت يحل في صبية جميلة وطيبة تراقص أطفال القرية عند الغروب على شاطئ البحر.

وشاءت المصادفة الأشد تماسكاً في منطقها الشعري من أي قانون، أن يرتطم رأس ابني وهو في الثالثة من عمره بمروحة السقف، وبلغ رذاذ الدم غلاف كاسونا، وأدركت على الفور أن تلك الصبية قد وثبت من كتاب، وراقصت طفلي.
منذ ذلك المساء، وأنا أحاول إلغاء واو العطف بين الشاعر والعالمِ، وبين الحقيقة والخيال، تماماً مثلما كتب جيرالدي مجلداً شعرياً ليمحو فاصلة بينة وبين من يحب.

سؤال لا بد أن يباغت أمثالي في سياق كهذا تمحى فيه الحدود داخل تضاريس الكتابة، بين الشعر والنثر بمختلف أنماطه، قدر تعلق الظاهرة بي، فإن من يتصور الناس أنهم أقارب الشعر الفقراء، يحلون في صرحه العالي، ويملأون أروقته بالضجيج الحالي.
ولست أميل إلى أن الشعر حيد يحل في أنماط أخرى من الإبداع يتحول إلى بقع قرمزية تنضح الرماد المجاور، إنه إذ يتصلب بالواقع، يضيف إلى الوعي شحنة التاريخ.
لهذا، تردى كثير من شعرنا العربي المعاصر بسبب اقتصار البناء على أكواخ من طين رخو لا يرفده الوعي التاريخي المطابق، بل يسعى إلى تجريده وعي مفارق، يتغذى من رحم التخييل.


في كتاب لي بعنوان أبواب ومرايا - حداثة الشعر والفلسفة، كنت أقف في المسافة الحرجة، بين الباب والمرآة..
الباب يفضي إلى داخل أو خارج، بينما المرآة تصدّ، بل أكثر من ذلك إن المرايا تضاعف عدد الناظرين إليها، وقد يتورطون بهذه الرياضيات المتعالية، فيصدقون.
بعكس الخارجية والداخلية من الأبواب، حيث الآخرون بكامل كينونتهم، وحيث البشر والحيوان والنبات والعناصر ليست مجرد ضمائر للغائب.
وكان هنري لوفيفر، قد علمني ما لم يكن سهلاً تعلمه من سواه، حين وضع في كتابه عن الحداثة أقواساً حول (نا) في كل كلمة وردت بها كلمة حداثتنا، ليوحي لقرائه بأنه يتحدث عن حداثة بعينها في سياق محدد، خصوصاً وأنه يعرف بأن بيان موت الحداثة في ألمانيا مثلاً، نشر عام 1815م.

نعم، لن أبتكر بداية تليق بأشواقٍ صيغت من صلب الرحم، فنحن جيل لم يولد حتى هذا المساء بما يكفي لأن يصبح ابناً أو حفيداً لأحد.
إننا نبتكر آباء من هذا اليُتم المزمن، وأحياناً نبتكر أمهات من نشارة الخشب، أو سلاف الزيتون.
قصيدتي الأولى

أصدر الشاعر خيري منصور عددا من الأعمال الشعرية والنثرية من بينها: لا مراثي للنائم الجميل، ظلال، التيه وخنجر يسرق شكل البلاد، غزلان الدم، الكتابة بالقدمين، وسيرة (صبي الأسرار) كما أصدر (الكف والمخرز) دراسة في الأدب الفلسطيني بعد عام 1967 في الضفة والقطاع. أبواب ومرايا في حداثة الشعر، تجارب في القراءة.

النص

7 قصائد

قبل الأوان

سوف أوقن يوماً بأن الذي
ضاعَ .. ضيعْتُهُ للأبدْ
وسأوقن حتماً بأني أخطأت باب الدخول
فالشكوك القديمة كانت كفيض الجسدْ
والتردد .. كان ابتداء القبول
كان حبلاً يحزّ الخطى .. من مَسَدْ
وذئاباً تسّدً منافذ كل الحقول
سوف أوقن يوماً بأن الذي
ضاع ضيعتُهُ للأبد
وإن الذي (ما يزال) .. يزولْ
سمّه أنت ما شئت
لكن هذا الندم
حلّ قبل الأوان ..
وقبل الأوان انفطم
سمّه (كان) .. أو (مات)
أو مزقته الوعول
سمّه جسداً أو ولد
سَمِّه ظبيةً أو بلد
سَمِّه موجةً أو زَبَدْ
سمِّه لحظةً أو أبدْ

***

سَمِّهِ أنت ما شئت ...
لكن هذا الندم ..
حلّ قبل الأوان ..
وقبل الأوان انعدمْ

قصيدة

كرتان من الثلج تنزلقانْ
فجأةً في ثيابي
أتحسسُ صدري
وأقفزُ نحو الشبابيك أغلقها
ثم أوصدُ بابي

***

كرتانِ من الثلجِ أم جمرتان
تلسعان دمي ...
أأنا من نسيتُ الشبابيك مُشرعةً في غيابي
أأنا مَنْ يكوّر ثلجاً .. وَجَمْراً أدحرجُه في ثيابي
أأنا .. من جرحتُ يديَّ
وأدميتُ وجهي بنابي ..

***

كيف فاجأني البردُ
وانتفضَ القلبُ في عزِّ آبِ .. ؟؟

قصيدة قلقة

عائداً كان للتوّ مِنْ حفلةٍ
دارَ فيها حوارٌ عن
الطقْس
والسوق
والليل في مدنِ العالم الحرّ
قالت له امرأةُ نزِقَة
- نحن يا سيدي نقتلُ الوقتَ بالوقتِ
والليلَ بالليلِ
فلنرقص الآنَ ..
دارت على قدمٍ ..
رقصت وحدها
صفقّوا ..
وهوت فوق مقعدها مُرْهقة

***

عائداً كان للتوّ من حفلة ..
يتحسس حول استدارة ياقتهِ عَرَقهْ
عندما أشعل الضوء في الغرفة الضيقةْ
وتمدّد فوق السّرير غفا
أيقظت روحه همسةُ امرأةٍ نَزِقةْ
كان شيءٌ يوزع في كل زاويةٍ عَبَقهْ
قام بدّل أثوابه
وانتهتْ ليلة قلقةْ

شاتيلا

سألت نجمةٌ ... غيمةً
عن صبيٍّ ذبيحْ
سال خيطٌ من الدم نحو الضريح
سألتَ غيمة ثانية
فَدَنَتْ
وبكَتْ في بيوت الصّفيحْ
كانت الشمس خَلْفَ السماء ملثمةً
والهواء جريحْ

***

سألتْ نجمةٌ نفسها
عندما أبصرت تحتها
ألف طفلٍ ذبيح
لِم مازالتُ واقفة ....
والفضاء فسيح ؟؟
ومضت فوق صمتِ البلادِ تصيح ….

اللوحة

امرأةٌ وحصانٌ مكسورْ
يقفانِ على الحائط
الساعةُ واقفة خلفهما
ولكنَّ الوقتَ يدور

***

انحنت المرأةُ في الصورة
أمْسكَت الساق المكسورة
الساعة .. دقَّتْ .. دَقَّت
فَزَّ الرسام المخمور
قَلبَ الصورة ...
فتوقفت الساعةُ ثانيةً ...
واستَوَت المرأةُ ترقبُ في السقفِ حصاناً
يعدو /
وأصابع تركضُ مذعورة !!!

عندما يحلم البحر ...

السَّماءُ تهيّئ من زرقةٍ فائضة
للصبّية شالاً
وللبحر عينين يبصرها،
حين تحلمُ أنَّ السرير
... يميلُ على الموجِ
يرتاحُ فوق شراشفِهِ
نورسٌ مِنْ حريرْ
كلُّ شيءٍ بهذا المساءِ
يكابدُ ما فاضَ مِنْ لونِهِ
كل شيء بهذا المساء غريقْ
آنَ لامرأةٍ
نسيتْ في المرايا اشتعالاً
وفي البحرِ شالاً
وفوق الشراشِفِ ثوباً أنيقْ
آنَ لامرأةٍ
خبأتْ في النعاسِ قرنفلتينِ
وبين الوسائد هذا الرّحيقْ
آنَ أنْ تستفيقْ
لِتعيدَ إلى البحرِ
ما يجعلُ البَحْرَ بَحراً
وإلى الليل ما يجعلُ الليل ليْلاً
وإلى رجلٍ موحشِ الروحِ
دفء الصديقْ
آنَ لامرأةٍ
من رحيق السماوات
أن تستفيقْ

الحديقة

شجر
وحدهُ ...
كالنوافير يصعد .. يهبط
لا يتعبُ
شجرٌ ... وحده يلعبُ
حين تسقط أثمارُهُ
وحدها
يكتبُ:
آه مَنْ جعل الغصنَ هذا العصا
آهِ مَنْ أنبتَ الشوك في جسدِ الليلِ
من سَنَّ ناباً لهذا الحصى؟
آهِ من جعلَ البُلبُل الطفلَ من خوفِهِ
يَنعبُ ... ؟
مقعد …
وحده
مثل أرملةٍ ضجرة
ساعةً: يتذكرُ تلميذةً جلست خائفة
ساعة يرتضي أن يحدّق في زرقةِ الأفقِ
أو يتأمل فأساً تحوم على شجرة
رجلٌ ...
وحده
يتذكر ليلاً بعيداً ورائحة عطرة
رشحت من ثيابِ الصديقة
عندما ركضنا تحت أمسيةٍ ممطرة ..
شجرٌ ...
مقعدٌ ...
رجلٌ ... وصديقة
يبحثون معاً في المدينةِ
عن أثرٍ للحديقة ...@