سميرة عوض
(الأردن)

عمان ـ القدس العربي

الجالوس'ثلاثون عاما في الرسم'، كان هذا عنوان معرض للفنان محمد الجالوس وحفل توقيع لكتاب عن التجربة حمل العنوان ذاته، صادر عن 'دار الأديب للنشر'، كتب له الدراسة النقدية والتقديم الشاعر والناقد العراقي المقيم في السويد فاروق يوسف، والكتاب يضم كافة المراحل الفنية التي مر بها الفنان منذ عام 1980 وحتى الآن، وهو مجلد من القطع الكبير. في هذا المعرض الذي افتتحه في غاليري بنك القاهرة عمان في العاصمة الأردنية كمال البكري مدير عام بنك القاهرة عمان، بحضورعدد كبير من الفنانين والكتاب وجمهور الفن، يقدم الجالوس مجموعة جديدة من الأعمال الفنية تأتي في سياق البحث الفني في الوجوه والخامات أنجزها ما بين عامي 2008 و2010. 'القدس العربي' حاورت الفنان الجالوس لمناسبة معرضه الذي يتواصل حتى 20 تشرين الأول ( اكتوبر).

الجالوس: رحلتي مع اللون

* ما الذي تعنيه احتفالية 'ثلاثون عاما في الرسم' بالنسبة إلى الفنان الجالوس؟

- هي رحلتي مع اللون، وهي- احتفالي بلوحاتي الحاضرة، أو تلك التي غابت وتوزعت على جدران كثيرة، التي أعرفها، أو التي لا أعرفها، ثلاثون عاما من البحث عن سر الشكل والخط، وهي رحلة شاقة لم تمنحني اليقين يوما حول ما رسمت، بل ظلت خلال تلك السنوات تؤرق بحثي وتدفعني إلى الشك. وأقولها صادقا، أنني انقلبت كثيرا على مواصيل منجزي البصري، ليس لأنني لا أحبه بل لأنني أخذت على نفسي أن لا أقدسه وان أنظر إليه دائما بعين المرتاب، الأمر الذي سلحني بشجاعة التجريب، فالتجريب هنا لم يكن برغبة التغيير بل في شكل ضاع، أو مادة لم أكشف أسرارها، وبذلك فان احتفالية وتوقيع كتاب 'ثلاثون عاما في الرسم' هي نهاية مرحلة فيما رسمت، وبداية غابة جديدة من أسئلة ستظل تلح عليّ ولوحة لم ابلغها بعد.

* اشتمل الكتاب المنجز بالمناسبة على معظم أعمالك الفنية.. بما فيها الجداريات... أي أهمية تضفيها أرشفة لوحاتك بالنسبة إلى نقاد الفن التشكيلي؟

- بتقديري أهمية أي كتاب للفنان هي مهمة مزدوجة بالنسبة إلى الفنان يكون قد وثق مرحلة، او مراحل من عمله الفني، ليجعلها فيما بعد تلهث وراءه وهو يركض بعيدا عنها للأجمل منها أو الأنضج. أما بالنسبة إلى النقاد فالكتاب يضيق المسافة بين نص نقدي وقراءة متأنية من جهة، وتجربة سينظر إليها الناقد كما لو أنه يراقب كومة من نجوم معلقة في سماء كتاب أو حجرة قادرة على القبض عليها، والسيطرة على مشهدها.
الكتاب بالنسبة إلي لوحة متعددة الوجوه وسطر خشن يذكرني بشكي الدائم ويقلب أمامي صفحة كنت تواقا إلى قلبها والبدء من حيث انتهت. في الكتاب خليط من أحلامي ورؤاي وبحثي الذي أرقني، وبه عشت عمري، بحلوه ومره.

نص حدق مليا في لوحتي

*لماذا خلا الكتاب من الحوارات، وكان من الممكن أن تضيء التجربة؟

- اللوحة هي حواري الذي أريد مع مشاهدي وقارئ تجربتي. ربما أكون مخطئا أن النص البصري يكون كافيا لقول الفنان، وأن الكلام على هامش اللون، والشكل يثقل رحلة الوصول ويحيطها بما ليس فيها، ربما، وعليه فقد كتب لهذا المجلد، الناقد والشاعر فاروق يوسف نصا أعتبره من أهم ما كتب عني. أبصر ما في داخلي وحدق مليا في لوحتي ومرجعياتها وهو نص لم يحتف ويقرأ اللوحة فقط، بل قرأ تاريخي وعلاقتي بالعمل الفني، إنه نص مدهش لكاتب يخلص للتشكيل، ويرى بوضوح.

الوجه تميمة اللوحة

* كم عدد اللوحات المعروضة؟ ولماذا جلها مقتصر على عرضك لـ 'وجوه'؟

- هناك عشرات اللوحات في هذه التجربة المعروضة في غاليري بنك القاهرة عمان، هناك بقايا وجوه، والوجه هنا على خلاف المعارض السابقة، تميمة اللوحة، هو وحدة شكلية لا تقول فحواها الاجتماعية بقدر ما تكمل متعة البصر وإثارة الأسئلة والإجابات معا.

نحن سجناء مربعاتنا

* أي فلسفة يحملها تكرار الوجه البشري في أعمالك؟

- أرسم الوجوه منذ الثمانينيات، وهي كما قلت في أكثر من مكان، وجوها عرفت، ملامح من أحب، حتى وان أغرقت بالتجريد، وهي رهينة المربع، تماما نحن سجناء مربعاتنا كل له مساحته المغلقة، إنه عالم اليوم الذي يمنحنا القليل من الهواء والكثير من الغموض، ويدفعنا إلى حافة الجنون.
هذه فلسفتي في رسم الوجه، وقد بدأت في هذا المعرض أحيلها إلى مساحات متجاورة تقول أكثر من الوجه، سواء في التقنية، أو الشكل.

البحث عن كنز اللون

* ماذا بعد هذه المسيرة الحافلة بعشرات المعارض ومئات اللوحات؟

- الرسم، والحياة، والبحث الدائم عن كنز اللوحة، وكنز اللون.

قالوا عن التجربة..

حظيت تجربة الجالوس بالعديد من الدراسات النقدية، وتناولتها بالدرس والنقد العديد من القامات الابداعية العربية.
يصف الناقد فاروق يوسف في مقدمة الكتاب 'ثلاثون عاما من الرسم' بقوله:
'إن تجربة هذا الرسام هي مجموعة خبراته التقنية والفكرية المتراكمة، وهي خبرات مستلهمة من سعي شخصي، كان يهدف بالدرجة الأساس إلى تجريد الرسم من طابعه العمومي'.

فاروق يوسف: لا يشبه أحدا من الرسامين

ويتابع يوسف: 'الجالوس ورسومه في مكان، فيما الرسم في الأردن في مكان آخر. لا يشبه أحدا من الرسامين ولا يشبهه أحد منهم. حكايته مع الرسم هي ذاتها حكايته مع ذاته المتمردة والذاهبة إلى تشظيها بين خيارات متعددة. لم يتخذ من الرسم وسيلة للوصف أو الشرح أو المباهاة، كان لديه دائما ما يقوله مختلفا، لكن بطريقة حساسة لا تستثني الجمال من توق التحرر من أيقونيته'.
وكما يبدو لي ـ يتابع يوسف - فان الرسام لم يسع إلى ترويض انفعاله المتحرر من كل شرط بقدر ما سعى إلى تحويل ذلك الانفعال إلى سلوك يومي مباشر.
أسلوب عيش داخل الرسم حول الرسام إلى ذلك الاستثناء الذي صاره، نزعته الجمالية المتشددة جعلته لا ينصت إلا إلى الأصوات التي تشكل جزءاً من إيقاع لا يزال غامضا، ولم يتخذ بعد هيئته التي تمكن البصر من الإمساك به. الوفاء لتلك النزعة تجسد في امتزاج يد الرسام بمادته، حيث كان الرسم يصدر عن فعل الرسم لذاته. جماليات تنعم بحيويتها التي هي الملهمة في الوقت عينه. لقد ارتبط الأسلوب الشخصي ( وهو تعبير مجازي ليس إلا) لدى الجلوس بمستوى تحرره من ذاته الاجتماعية والثقافية وامتزاجه بما يتطلبه فعل الرسم من تخل عن العالم الخارجي. يدخل الرسام إلى اللوحة البيضاء ليقيم هناك. ينغمس في اضطراب الأصباغ لينسى ما يمكن أن تتركه تلك الاصباغ من إيحاءات رمزية.
ويعتقد يوسف 'أن النسيان ضرورة للرسم. سوف نعود حفاة إلى الماضي. عراة مثلما كنا فيه تماما. يزيح الجالوس عن سطح لوحته كل أوهام الماضي. يعيد ذلك السطح إلى الحاضر. في الخمسين من عمره ( ولد عام 1960) لا يزال يشعر أن في إمكانه أن يتماهى مع ذلك الطفل الذي يتسلقه. طفل المخيم الذي لا يود سوى أن يرى ما الذي يقع خلف السياج. يمكنني أن أقف بإجلال أمام تلك اللحظة. نتسلق معا سلما طويلا لنرى العالم. يجد الجالوس أن رسومه تعينه على إحباط كل محاولة لإيقاف الزمن. يتبع أثر عصا الأعمى وهي تطرق أرضا لم تتعرف عليها قدماه من قبل. ( أرسم لترى) ليست سوى نصيحة مغرضة. لكنها في حالة الجالوس تكاد تكون واقعا. هذا الرسام لا يرسم ما يراه'.

طلال معلا: الدهشة المتولدة من الوجوه

أما الناقد والفنان العربي طلال معلا فيقول: 'ان لكل وجه من هذه الوجوه مأزقه ومحنته، أحلامه ورؤاه وشروطه وأسراره، وإذا كانت هذه الوجوه بتعددها تحمل مسارات وعي المبدع من جهة، فإنها بلا شك تحمل وعي الرائي والناقد والمحاور، لمعاني الدهشة المتولدة من كون هذه الوجوه، بوابات تنقلنا إلى مجالات أبعد مما نتوقعه، أو نحاول الوصول إليه، عبر ديمومة العلاقة بين الميلاد والفناء، البذرة المدفونة والثمرة التي تمنح الحياة'.

محمد أبو زريق: فنان تحكمه نزعة التجريب

كما جاء في دراسة بقلم الناقد والفنان الأردني محمد أبو زريق تضمنها كتيب المعرض 'إن جرأة الجالوس هنا في تلك المعالجات التي كسا بها وجوهه وأجساده، في محاولة منه لإبعادنا عن التعاطف الساذج معها، وبدلا من ذلك، فقد أقحمنا على النظر إليها ككائنات تعيش غربتها وعزلتها، وتزيل بعضا من أقنعتنا التي ألفناها أو نفرنا منها في سرنا، وأكثر من ذلك أوصلنا إلى احترام أسرارها ومحاورتها، إنها كائنات حقيقية تعيش بيننا، ولكننا لم نكن نراها، بل وتشاركنا خياراتنا رغما عنا، وهي بالتالي دعوة للرؤية والرؤى'.

ويرى أبو زريق أن الجالوس 'ظل يجرب من دافع الشك الديكارتي الذي ينفي الوثوقية والسكون ويسعى إلى الحركة والبحث عن الجديد بل إن ارتجال الأساليب والانقلاب عليها قد قاد الجالوس إلى التفرد، لتعزف الوجوه مرارة تحققها، وتنحت صمتها على أبصارنا، باعتبارها حقائق لحظية نعايشها في كل موقع، ومصائر شكل مجموعتها الإيقاعي، رمزاً لسرد تصوغه اللوحة بطاقة الحياة... إنها المشاعر المكثفة القادرة على بث البصيرة وعدالة التجدد، وكما تحتل الحياة مساحة اللوحة، فإن وجهاً آخر يبرز مشيراً إلى الموت، بمحمولاته الرمزية وثيماته العاطفية، بحيث تمتزج الرؤية المركزة لوجوه الجالوس بمختلف عناصر بنائها وتكويناتها، القماش واللون والمعاجين والمساحيق والمعادن المسحوقة، وكل ما يمكن البصر من تجاوز الملامس وسطح العمل الفني، للوصول إلى انبعاث متجدد تظهر فيه الرؤية من قوة الفناء، لتبدأ الإنطاق من وجوم العيون إلى خصب الاستمرار'.

ويؤكد ابو زريق المطل عن قرب على تجربة الجالوس أن 'الجالوس ظل طوال تجربة تمتد لأكثر من ثلاثين عاما مسكونا بالتجديد والبحث وقد صرح بهذه الخصيصة عندما قال: - رغم قناعتي بأن الفن المعاصر لم يبقِ للفنان إلا مساحة ضيقة للاختراع والتفرد، إذ ليس هناك من جديد أمام الفنان المعاصر غير روحِهِ التي يثبُ بها ومخزونِه البصري، وخامةٍ ربما يستعيرها من بقايا الطبيعة يحمل بها مقترحه التشكيلي إلى عين المشاهد'. ويخلص أبو زريق إلى القول أن 'الجالوس فنان تحكمه نزعة التجريب، ولا يرتكن إلى منجز تشكيلي محدد وموصوف، لذلك فهو دائم البحث عن أساليب وتقنيات وخامات، كما أنه دائم البحث عن الجديد، وليس لديه من ثوابت أو مقدسات في العمل الفني، ولكنه مخلص لفنه ولذاته، وهذا أعطاه حرية الاصطفاف مع ذاته وفنه، دونما استجداء لحالة فنية مسبقة، ودونما ارتهان إلى قيم ذات أبعاد محددة ومفروضة من خارج العمل الفني'.

عن الفنان محمد الجالوس

يواصل الفنان محمد الجالوس بهذا المعرض وضمن هذه الفترة الزمنية التي قاربت على الثلاثين عاما في الرسم، تقديم أعمال تأتي في سياق بحثه الطويل والقديم في الخامات ومعاجين الورق والمواد المختلفة، وهو الفنان المجرب الذي رسم الأعمال الواقعية وأعمال الرسم المائي التي أنجزها، بين خمس سنوات وأخرى، تلك التي حققت حضورا ونجاحا كبيرين، خصوصا في تناوله للمدن الأردنية والفلسطينية ذات البعد التراثي والمعماري المميز من مدينة الفحيص ثم السلط إلى القدس ونابلس في العام 2008.

يشار إلى أن الفنان الجالوس أقام أكثر من ثلاثين معرض شخصيا وعرضت أعماله في أكثر من عاصمة ومدينة داخل وخارج الأردن وفي أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب مشاركته النشطة والواسعة في العديد من المعارض الدولية وورشات العمل في مختلف دول العالم، إلى فوزه في العام 2002 بالجائزة الأولى في بينالي طهران الثاني للفن في العالم الإسلامي، وهي المسابقة التي اعتبرت بداية مهمة لفوز الأعمال الفنية العربية في بيناليات ذات سمعة عالمية ومنافسة قوية.
والجالوس مواليد عام 1960، درس الفن في معهد الفنون الجميلة في عمان بين عامي 1979-1981 وحصل على بكالوريوس في إدارة الأعمال من الجامعة الأردنية إلى جانب ترؤسه رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين بين عامي 2003 ـ 2004 وعضويته في أكثر من لجنة تحكيم فنية داخل وخارج الأردن وعضويته الدائمة في اللجنة العليا الدولية لمهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية في تونس وانجازه للعديد من الجداريات الفينة في الأردن والخارج.

القدس العربي
2010-09-23