احمد بزون
(لبنان)

قضية زائفة آمنة النَّصيري ناقدة وفنانة تشكيلية يمنية. أستاذة في فلسفة الجمال بجامعة صنعاء. شاركت في العديد من المعارض والفعاليات التشكيلية المحلية والعربية والدولية. ترأست تحرير مجلة (تشكيل)، وهي واحدة من مؤسسي محترف صنعاء. أقامت أكثر من عشرة معارض فردية إلى جانب العديد من المعارض المشتركة. التقيناها في بيروت وكان معها هذا الحوار.

بصفتك ناقدة متابعة للفن التشكيلي، كيف تتطلعين إلى المشهد التشكيلي اليمني بالمقارنة مع المشهد التشكيلي العربي؟

؟ المشهد التشكيلي اليمني حتى اليوم يصعب أن نعتبره حركة تشكيلية بالمعنى الصحيح. أعتقد أن هناك تجارب تشكيلية مميزة على المستوى الفردي.
التشكيل يتعثر في اليمن، خصوصاً في السنوات الأخيرة، نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي، وأوضاع الفنانين صعبة للغاية. هناك محاولات للاستمرار والتغلب ربما على الصعوبات الاقتصادية. أعتبر أن تأسيس محترف صنعاء واحدة من تلك المحاولات، خصوصاً أننا نحن الأربعة المؤسسين للمحترف: طلال نجار، ريما قاسم، مظهر نزار وأنا، نشكل مجموعة تنتمي إلى الثمانينيات، ونحن الجيل الذي استطاع احتواء الكثير من الأجيال الشابة.
الفكرة الأخرى أن وزارة الثقافة قامت بمسألة مهمة العام الماضي، وهي افتتاح مجموعة من بيوت الفن في المحافظات، وتوفير الدعم المالي لهذه البيوت وللفنانين الشباب.

محترف يمني

كأنك تعتبرين أن هناك محترفاً يمنياً بالمعنى الفني الصحيح. أشك في ذلك.

؟ ربما معظم التجارب التشكيلية اليمنية الفردية تحاول أن تتخذ أسلوبها الخاص، لكن قلة اكتسبت ملامحها لأن عمر التشكيل في اليمن قصير (أقل من 40 عاماً). نجد كل فنان يحاول أن يجرب في كل الاتجاهات، ولهذا السبب تظهر عند الجميع ما يمكن أن نسميها الانتقالات الأسلوبية، أي غياب الخط الواضح.
هناك أيضاً اتجاه نحو إعادة صوغ الموروث البصري المحلي، عسى أن تتولد من ذلك هوية للتجربة المحلية، إلا ان هذا، من وجهة نظري، يضع عديدين في مأزق استلاب التراث. بالإضافة إلى ذلك أعتقد أن تدهور الوضع الاقتصادي يؤدي إلى توجه متعمد نحو الموتيفات الشعبية والمحلية بغية إرضاء المقتني الأجنبي.
ومثل هذه التجارب بالطبع لا يمكن أن تشكل محترفاً متميزاً، إلا أن الاستثناءات تبقى موجودة.

تتحدثين عن مقتنٍ أجنبي. هل هو المستهلك الوحيد للفن التشكيلي في اليمن؟

؟ القليل من المؤسسات الرسمية هي التي تشتري من الفنانين. ليس عندنا مقتنٍ محلي. المجتمع اليمني مجتمع إقطاعي بطبيعته السابقة، وهو لا يزال يحمل هذه السمة، على أن الأثرياء عندنا ليسوا أرستقراطيين بالمعنى المتعارف عليه. وبالتالي لا تقاليد أرستقراطية لدى هذه الطبقة في تعاطيها مع الفن، فهي تتجه نحو الاستهلاك السلعي. فالثري قد يشتري سيارة ب70 ألف دولار، ولا يشتري لوحة بدولار واحد.
أعتقد أيضاً أن طبيعة الثقافة اليمنية تقليدية محافظة بالمعنى السلبي ومغلقة تتقبل الحداثة على مضض. ولهذا تصبح مشكلة الفنان حتى مع النخبة. أكثر من يرتاد المعارض في اليمن هم الأجانب العاملون في السفارات والمنظمات الدولية المختلفة. لهذا معظم النتاج يذهب إلى الخارج.

تبعاً لهذه الظروف الصعبة، كيف يمكن أن ترسمي لنا خريطة توزع الفنانين اليمنيين على الاتجاهات الفنية؟

؟ أسكن وسط صنعاء القديمة. أعتبر أن في ذلك صورة رمزية، إذ وسط هذا العالم التقليدي جداً نشتغل، في المحترف، أساليب مختلفة. حتى الحلقات التي نعقدها كل يوم خميس نناقش فيها حالتنا مع الخارج.
إذا أردنا تصنيف الفنانين اليمنيين نرى أن الغالبية لا تزال تصغي لاشتراطات الفنون التقليدية الكلاسيكية. أشعر، في كثير من الأحيان، بأن قضية الهوية زائفة، لأن فكرة الثقافة الإنسانية بشكل عام لا يمكن أن نجغرفها على أسس مناطقية أو سياسية. جميعنا نعلم أن العري الذي أحدث ثورات الفن في بداية القرن العشرين، استمد مقومات التغيير من فنون الشرق، بما فيها الفنون الإسلامية. ولهذا أرى أن دعوات الهوية غير مجدية، لأن كل التجارب التي اتجهت لاستهلاك الموروث المحلي انطلقت من منطق الفن الغربي المعاصر، بل كان فيها أحياناً افتعال في طرح الموضوعات، فجاءت فجة للغاية.

هل وصل أحد الفنانين اليمنيين، برأيك، إلى نتيجة ما في اعتماده على التراث العربي واليمني، أم أن هذا الباب يبقى مسدوداً؟

؟ لا أستطيع أن أجزم بوجود تجارب نجحت في استلهام الإرث البصري الفني في اليمن وإن كنت معجبة بالحلول البصرية التي يتوصل إليها مؤخراً الفنان طلال النجار. قد تشعر بلون التربة ونكهة اليمن دونما استهلاك للمفردات المباشرة.

اهتم الفنانون السوريون بالعمارة الدمشقية واستلهموها في العديد من أعمالهم الفنية. إلى أي مدى أثر التراث المعماري اليمني العريق بالفن الحديث؟

؟ تمثلت تجارب الفنان المرحوم عبد اللطيف الربيع بصياغة مشهد المدينة اليمنية وعلاقة الكائن بالبناءات. حكيم العاقل في جزء من تجاربه أيضاً اشتغل على الواجهات في العمارة التقليدية.

التجريبية أو ما يسمى بالفن المستقبلي أو التجهيز أو إلى ما هنالك من فنون جديدة، تتخطى اللوحة كتقليد فني... لماذا لا تجد مكاناً لها في التشكيل اليمني؟

؟ هناك حذر شديد في اليمن من الخروج على السائد والتقليدي في اللوحة. تختفي تماماً في اليمن التجارب الفراغية والبنائية والمفاهيمية التي تلغي اللوحة بصورتها التقليدية. ربما لأن الفنان يدرك أن مثل هذه الفنون لا تزال مخاطرة كونها لا تجد لها جمهوراً. اللوحة التقليدية لا تزال مغامرة في ممارسة اليمن، فكيف يكون تخطي اللوحة.
صوفية لا تشكيلية

من يتنقل بسرعة بين مراحل تجربتك الفنية يلاحظ ذلك القلق الأسلوبي. لماذا هذا القفز من مرحلة إلى أخرى بسرعة؟

؟ في مرحلة من المراحل اشتغلت في الحفر مثل العديد من الفنانين الأوروبيين، أي أن طرحي كان عادياً، لكن بعد فترة بدأت أسأل نفسي أين أنا من هذه التجارب؟ هل القضية إنتاج ما هو متداول في المعارض الغربية، حتى إذا ما عرضت في الخارج لا أشعر بالدونية ولا أضيع وسط الجموع المتشابهة. كنت أشعر بأنني لست مغرمة بتقنيات الحفر وإنما أحب اللون، إلا أنني لست أكاديمية في هذا الجانب.
مرة واحدة قررت أن أشتغل على اللون وأن أشتغل به من دون حذلقة. في هذه المرحلة بدأت تجربتي تلقى الاهتمام.


(مقامات اللون) عنوان عمودك في صحيفتي (الثورة) و(الثقافية)، وهو عنوان كتابك الأخير، ما يُشعر بالانتماء إلى الفن الصوفي. إلى أي حد تنتمين إلى الصوفية عملياً، علماً أن بعض اللوحات التي رأيت صوراً لها لا تنتمي إلى هذه المدرسة؟

؟ أنا مولعة بالصوفية كفلسفة، لكنني لست مصرة على إقحامها في النص البصري، لأني أعتقد أن هذا النص هو تمثيل للحالة وليس عقلنة لفلسفة ما. علاقتي بالصوفية تأتي نتيجة كوني أستاذة فلسفة. وهذه المفردات الصوفية ليست غريبة عن عالمي واشتغالاتي النظرية، خصوصاً أن أطروحتي للدكتوراه اشتملت، في جانب منها، على دراسة الفكر الصوفي وعلاقته بالإبداع.

نسمع الكثير عن أعمال تشكيلية صوفية لكننا لا نقتنع حتى بالقليل منها. كيف تحددين سمات اللوحة الصوفية العربية المعاصرة؟

؟ أعتبر أن كل التجارب العربية المعاصرة التي تمثلت الفكر الصوفي لم تنجح على الإطلاق في طرح مشروع رؤيوي صوفي تشكيلي. أستطيع كفنانة على سبيل المثال القول إنني أتمثل علاقة صوفية مع العالم المحيط. لكنني لست مضطرة إلى أن أجسد هذا في النص. الصوفية تكون هنا مجالاً للتأمل، لكننا غير مضطرين لإقحامها في الحل البصري. أرى أن تجارب العرب التي حولت المفهوم الصوفي إلى صورة، لو وُضعت في أي معرض غربي، لما فرقنا بينها وبين نتاج تشكيلي غربي معاصر يستلهم بعض المفردات الإسلامية أو العربية. أحياناً أشعر بأن هذا المشروع فشل وابتذل.

لماذا تدّعين الصوفية في لوحاتك أو يدّعيها النقاد إذاً؟

؟ أنا لا أدّعي الصوفية في لوحاتي. لكن أجزم بوجود علاقة أو شعور صوفي تجاه الأشياء، ولدي طرح نظري دائماً حول المحتوى في عملي. هذا يؤدي إلى خلط النقاد بين الصورة التي يرونها حلاً صوفياً وبين الموضوع. مثلما يلتبس مفهوم الطفولة في أعمالي وأعتقد أن حدة الألوان وتناقضاتها أحياناً إلى جانب المسحة التعبيرية هي التي تلتبس على قارئ النص، إلا أن فنون الأطفال تختلف عما أنتج وإن كنت أتمنى أن أرسم بروح الطفل. حتى التجارب التشكيلية العالمية المتأثرة بفنون الأطفال مغايرة لطبيعة أعمالي.

انتقالات سريعة

أستغرب أن تكوني لا تزالين تعملين على الرمزية في لوحاتك، وأنت تعلمين أن الرمزية كمدرسة بادت.

؟ عمري الفني ليس طويلاً كما تتخيل. انتقالاتي كانت سريعة ولا زلت فنانة شابة. أقصد أن الناس يتحدثون وكأن عمري الفني قد سمح لي بتجاوز هذه المراحل. قبل 15 سنة بالضبط بدأت أعرف الحياة. أنا خرجت من المجتمع اليمني وعشت في القاهرة، ثم عشت في موسكو 10 سنوات. هذه كلها كانت مراحل بحث لا مراحل إنتاج. أنا صادقة مع نفسي.
في البداية كانت هناك سذاجة في الطرح، ومباشرة في التعبير، وتركيز على البعد الاجتماعي والمسائل النسوية. ولهذا أنا لا أنكر وجود تعثر في السنوات الأولى من تجربتي، فهي كانت مرحلة اكتشاف الذات.

كيف يمكن النهوض بالحركة التشكيلية اليمنية برأيك؟

؟ التطور مرهون بالاستقرار الاقتصادي وبتغير طبيعة الذائقة اليمنية. وتقليص سلطة المنظومة الثقافية التقليدية عن طريق فتح أبواب اليمن وتحديث الحياة اليمنية، ووضع برامج جادة تتبنى الأنشطة والفعاليات والبناء التحتي لمثل هذه الفنون.

السفير- 2005/06/25