لكن المشكلة في معاداة الفن والثقافة

راشد عيسى
(سوريا)

أسعد عرابييعرض الفنان التشكيلي أسعد عرابي في العاشر من الشهر الجاري في بيروت، بعد معارض في دمشق خصص أحدها لدمشق المكان، وآخر لموضوع الطبيعة الصامتة. لكنه يذهب اليوم إلى موضوعة أخرى، يشكل العري ملمحاً أساسياً فيها، غير أن الفنان ينفي أن يكون «العاري» موضوعاً للوحاته، كما ينفي أن يكون موضوع معرضه اليوم في بيروت، أياً كان موضوعه، طارئاً وجديداً، مشدداً على أنه نوع من نبش موضوعات قديمة لم تستنفد. يفضل عرابي القول إن لوحاته الجديدة «استمرار طبيعي، بل استرجاع لبعض اللوحات في الستينيات والسبعينيات». لكن ما حكاية رفض مطابع سورية خاصة طباعة كاتالوغ يحتوي على أعماله الأخيرة؟ «السفير» التقت الفنان في دمشق، وكان هذا الحوار:

كيف تفسر رفض المطابع في سوريا طبع كتابك الذي احتوى على لوحات عارية سيضمها معرضك المقبل في بيروت؟

^ أولاً ليس العاري هو موضوع لوحاتي، وإنما هي مرحلة متمفصلة تماماً مع ماضي تجربتي خلال نصف قرن، بدليل أنني كتبت في مقدمة المعرض عن لوحات قديمة منذ الستينيات والسبعينيات تحمل الموضوع نفسه، وهو بدقة أكبر موضوع الداخل والخارج في أساطير دمشق. هنالك لوحات رسمتها في أوائل السبعينيات تصور الداخل الحسيّ، الغرق باللذة الجسدية في البيوتات الشامية، التي تتناقض مع الأقنعة التي ترتديها النسوة أنفسهن في الخارج. إنها ببساطة شاهد تخيلي، غبطوي، وجدي، لوني، أقرب إلى التجريد منه إلى الموضوع، وأقرب إلى التنزيه منه إلى التشبيه، لأن أساس اللوحة لديّ الابتداء من التناقضات التي أعيشها في الواقع اليومي، ثم تصعيد هذا الموضوع بطريقة معراجية، روحية، حتى ليبدو الاستغراق في صوفية اللون متناقضاً حتى مع الموضوع. بمعنى آخر إن الموضوع الاستفزازي لدي ما هو إلا مدخل لعالم من الموسيقى اللونية والغبطة التشكيلية، فليس الموضوع مهماً أبداً ضمن هذا العالم التجريدي، فقد يكون حدسية داخلية للارتباط بواقع الشرق وتناقضاته في المدينة القديمة.
هو ما يقودنا إلى الشق الثاني من السؤال، وهو أن التبلّد الفني والعداوة تجاه الفنون المعروفة بمصطلحها العالمي «الفاندالية» تتجاوز حدود التعصب لتنال من كل ما هو ثقافة، لقد شهدنا في مصر الدعوة الثالثة لتهذيب «ألف ليلة وليلة»، أي أن أجدادنا الذين كتبوا شعبياً «ألف ليلة وليلة» أردنا تهذيبهم بما ينسجم مع تخلفنا العقلي، هكذا يصبح من المحرم على دارس التراث العربي الإسلامي أن يقرأ «ألف ليلة» كما كانت تقرأ بشكل مشاع في كافة المدن الإسلامية. سأعطيك مثالاً أشد توضيحاً؛ كانت المجتمعات الحضرية الإسلامية والعربية خاصة دمشق والقاهرة، تمارس شعبياً عادة تشكيلية، ذوقية بالمفهوم الصوفي، هي ما يعرف عند العموم بخيمة كركوز، وهي جزء من تاريخ عريق فني لخيال الظل، أو ظل الخيال كما يذكره أبو نواس، كان بطل هذه البابات، كما يقول ابن دانيال، هو العضو المذكر الذي تتمركز حوله عبثية السخرية المطلقة من السلطة والقمع الفكري. لذلك لم ينته أمر هذا الفن في الستينيات إلا لأسباب سياسية. ما أود قوله، كواحد من أشد المختصين في الفن الإسلامي إخلاصاً لروح التراث، إن موجز الأصولية المتصاعدة يوماً بعد يوم ما هو في الأساس إلا نتيجة التبلّد الذوقي، بالمعنى الذي يشير إليه ابن عربي، وبالتالي معاداة الفنون والثقافة بشكل عام، باعتبارها جميعها أدوات تكفيرية، تتناقض مع كل ما كتبه مفتي الديار المصرية محمد عبده، ولم يبق بعد منع طباعة كتابي عن المعرض سوى تكفير محمد عبده نفسه.
من المؤسف، ومن الواجب الاستدراك، بأن هذه الحادثة ليست فريدة: قبل أسبوع فقط تحالف هؤلاء الطباعيون ضد طباعة كاتالوغ (الفنان التشكيلي) عز الدين شموط، ولم يُطبع إلا بضغط من الشركة الراعية للمعرض. هذا يعني أن الظاهرة ليست خاصة بمعرضي، علماً أن لوحات معرضي تلك عرضت في التلفزيون، من دون استغراب أو إثارة للحساسية العامة. أي أن منع طباعة الكاتالوغ تم بناء على مناخ قد يكون أصولياً، حتى لا أتهم أحداً، ومناقضاً للقوانين التي سمحت بعرض اللوحات في التلفزيون.

الحروفية التعويذية

من الواضح أن المزاج الذي اعترض على طباعة كتابك، وكتاب شموط، هو نفسه الذي فرض غياب هذه اللوحات عن صالات العرض؟

^ جميل أن تشير إلى المزاج، وليس إلى نصوص فقهية مكتوبة، لأن مزاج التشكيك والنميمة هو الذي يسيء إلى الفن يومياً، من قبل أشخاص يغطون عورة تبلّدهم الذهني بعصبية التمسك بأهداب الدين. جرى معي شخصياً أكثر من مرة أن بعض هذه اللوحات التي اقتُنيت من مواطنين عاديين كان يعيدها الزوج، لأن زوجته لا تطيق أن تنام في غرفة فيها لوحات لكائنات حية. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنني كرست لهذا الموضوع أكثر من دراسة تخصصية وحتى فقهية حول وهم التحريم لأعيد الأمور إلى نصابها، دراسة تثبت من دون أدنى شك أن التصوير في الإسلام حلال، وكذلك تصوير الكائنات الحية، وما تغييبه عن الجوامع إلا بهدف عدم انشغال المؤمن بشخصانية الصور.

كيف أثّر هذا المزاج في خلق توجهات جديدة في اللوحة السورية، العربية والإسلامية؟

^ جميل أن تتحدث من جديد عن المزاج، أي الموقف الباطني غير المعلن من التصوير التشخيصي، سواء أكان عارياً أم لابساً. بلا شك هناك تيارات كاملة نشأت نتيجة لهذا اللغط وهذا الالتباس، أقصد بالذات القسم الأعظم من تيار الحروفية الذي غيّب التشخيص من جدران الذواقة. لنتخيل أنه في عام 1964 كان تاريخ أول معرض نسائي في جدة لصفية بن زقر، يكاد يكون معرض أسبق منه للرضوي، هو بداية الحداثة في مدرسة جدة الزاهية في التصوير. لنتخيل ابتداء من الثمانينيات والتسعينيات، ومع صعود موجة المعاداة للفنون نقتصر على أبرز الصالات ومسوّقي اللوحات على الحروفية التعويذية التي لا يعرف أصحابها حتى أصول الخط.
وما تشير إليه أنت في هذا المزاج تحوّل إلى نميمة اجتماعية حجبت من صور الإعلام والصحافة نسبياً تجارب بالغة الأصالة لأنها تحتوي على شيء من التعري، لنتصور مثلاً تغييب فنان أصيل مثل فائق دحدوح، مقترفاً ذنباً مزمناً هو عشقه للأنثى، كأن الفنان (الأخلاقي) من الضروري إخصاؤه جنسياً حتى يتماشى مع التخلف الثقافي العام.

ابتداع طائر آخر

هل تنطوي تجربتك في معرضك البيروتي المقبل على مغامرة؟

^ الواقع أن اتفاقي مع «غاليري أيام» دفعني في أغلب الأحيان إلى نبش موضوعات قديمة لم أستنفدها أو استثمرها حتى النهاية، هو ما يفسر العودة إلى الدمشقيات ولكن بقالب جديد. جمعت أغلب نماذج هذه الأعمال الذاكراتية في كتابي «شهادة لوحة»، الذي أصدرته «أيام» بمناسبة معرضي الأول. عندما تراجع الكتاب ستعثر على لوحات من فترة الستينيات تكاد تكون موجودة في معرض اليوم. لم يعترض أحد في حينها، لا من قريب ولا من بعيد، إذاً اللوحات الجديدة هي استمرار طبيعي، بل استرجاع لبعض اللوحات في الستينيات والسبعينيات. موضوع الخطّابة مثلاً (الخطابة بجانب فتاة عارية) منجز في الستينيات. إذاً الاعتراض هو تخلف عن نصف قرن من التصوير. وأكثر من ذلك؛ هناك لوحات موجودة في المعرض منجزة من السبعينيات، أي أنه لا يوجد أدنى تحوّل أسلوبي في عملي، فلا أجد أي مخاطرة أو تهور أو انعطاف في عملي الراهن. المتابع لتجربتي السابقة والحاضرة يجد أن هناك دوماً القوة التعبيرية، والجانب الأدائي أشد حضوراً بنسبة كبيرة في الموضوع. ورغم أنه موضوع عريق لدي فإن من يجد فيه درجة من الاستفزاز سرعان ما ينساها إذا كان ذواقاً لسلوك الفرشاة، وللتزامنات اللونية وللبلاغة التشكيلية والحزن الداخلي والقوة التعبيرية في الشكل، فالقدم لدي في اللوحة ليست أداة إغراء، بل صوت فكري ووجودي ووجدي.. أنا أرى باختصار أن رفض طباعة كاتالوغ المعرض وما يحمله من قمع فكري، ما هو إلا بسبب التخلف الثقافي وتردّيه العام.

المشكلة إذاً معاداة للفن والثقافة، وبسبب بهيمية الذوق العام ودهمائيته. هو ما يذكّرني بما جرى في بيروت قبل ثلاث سنوات عندما منعت مشاهد من باليه موريس بيجار، لأن الراقصين كانوا عراة الصدر، وأحب أن أذكر بأن بيجار أعظم راقص باليه في العالم، وأقرب صديق للحضارة العربية الإسلامية، بدليل أن قطعته الموسيقية الراقصة تضمنت مقاطع لأم كلثوم والسنباطي. نحن اليوم إزاء مشكلة أساسية هي الوصاية الثقافية للأصوليين على تراثنا الثقافي نفسه.

هل كان هنالك آلية معينة في الاشتغال على لوحاتك الجديدة؟ هل استعنت بامرأة، موديل مثلاً؟

^ إذا كنت تقصد رسم الجسد بالذات، فمن عادتي منذ بدأت مهنة التصوير أن أعتمد إما على النموذج الحي أو على الوثيقة المصورة، وحتى أحياناً على المرآة، لأني أعتبر كل هذه المصادر ما هي إلا ذريعة تستحوذ عليها في النتيجة ذوقية الأداء ووسائطه التعبيرية. كثيراً ما يغلب على السطح سلوك الفرشاة، العلاقات اللونية، نحت السطح تباين كثافة في العجائن، لأن البصر مثل السمع لا يقلد صوت العصفور أو شكله، وإنما يبتدع طائراً آخر، أقرب إلى العنقاء الصوفية. فكل ما في اللوحة (وحتى يطمئن المتعصبون) ما هو إلا ذريعة تجريدية تنزيهية تكره التشبيه، مثل الفن الإسلامي قاطبة، وخلال 14 قرناً.

من الواضح أن التشكيليين السوريين يشكون غياب النموذج الحي، الموديل العاري من المرسم...

^ الواقع أنني لا أعاني أي مشكلة في هذا الخصوص، فعندما درست في كلية الفنون في الستينيات كان هنالك على الأقل أربعة نماذج عارية، ثم كانت لي دائماً فرص في محترفي لأن أستقدم نموذجاً حياً، ازدادت هذه الفرصة مع دراستي في باريس في البوزار واختلاطي بالأوساط الفنية، ومع سهولة الرسم عن النماذج الحية العارية، سواء داخل الجامعة أو بشكل مأجور خارجها. أحب أن أنوّه بهذه المناسبة إلى متانة الزملاء الذين تهيأ لهم رسم النموذج الحي العاري في القاهرة أو في سواها. متانة في الرسم غابت نسبياً مع غياب النموذج الحي عن كليات الفنون في العالم العربي، بما فيها دمشق.
لن نجد اليوم رساماً بمتانة ومعرفة نذير نبعة في التشريح البشري، والجيل الذي قبله مثل ناظم الجعفري، هذا يعني أن الحساسية المفتعلة من الرسم على النماذج الحية العارية أدى إلى ارتباك في معرفة التشريح، لأن أغلب من يرسمون الإنسان اليوم يعتمدون على النقل، سواء عن نماذج الفوتو، أو عن رسوم منجزة سابقاً بأساليب أخرى.

ترفق معرضك القادم ببيان، هل تجد ذلك ضرورياً؟ ماذا تريد أن تقول؟

^ أنا من الفنانين الذي لا يفصلون الموهبة المخبرية، أو النشاط في المحترف عن الديناميكية الذهنية أو الفكرية أو الثقافية، شأني هو شأن أغلب الفنانين في أوروبا، خاصة الذين شكّلوا مفاصل الفن المعاصر، من أمثال كاندنسكي وبول كليه وفازاريلي، وكل الاتجاه المسمى بالمفاهيمية اليوم. كل هذا يثبت أن النشاط الفني ليس نشاطاً حيادياً أو أمياً أو مفصولاً عن الفكر، لأن هذه الأمية حكر على أغلب الفنانين العرب، لذلك فإن أي لوحة لا تملك أرضية فكرية تقع في الاستهلاك والأسلبة والتنميط فهي صالحة للبيع وليست صالحة للمعرفة الحدسية. لذلك نجد أن أغلب الفنانين الذين يلهثون خلف المادة ينمطون أسلوبهم ويستقيلون من الفكر وأعبائه، بل إن بعضهم يفاخر في ذلك في وسائل الإعلام. إن أي بيان يرافق أي معرض يرفع درجة احتدامه الفكري، تماماً كما هي بيانات التيارات التي صنعت تاريخ الفن، ولا زالت حتى اليوم سلوكاً نخبوياً شمولياً يقرّب المشاهد من ألغاز اللوحة من دون أن يفككها، لأن الكتابة الجمالية أو الفكرية توازي أو تقارب قول ما لا يقال إلا بالخط واللون ولا تحل محله.

(دمشق)