فاروق يوسف

مؤيد نعمةبموت الرسام العراقي الساخر مؤيد نعمة (مولود عام 1951)، يكون فن الكاريكاتير العربي قد فقد واحدا من أهم بناته ومبدعيه القلة، الذين وهبوا ضحكة التشفي فيه معنى الفعل المقاوم وارتقوا بالسخرية إلى مصاف القول المحرم.

كان نعمة ومنذ بداياته المبكرة أواسط سبعينيات القرن الماضي قد مثل بظهوره انحرافا عن المعنى الذي كان سائدا عن فن الكاريكاتير، حيث اللقطة الساخرة التي تتبعها ضحكة عابرة، ليذهب كل شيء بعدها إلي النسيان بعد أن تطوي الصحف المضجرة. نجح نعمة في خلق معنى مغاير، معنى يشبهه إلي حد كبير: رقة ممزوجة بصرامة صامتة وموقفا تأمليا أنيقا لا يخفي تهديده بالتمرد والعصيان والأنفة. لقد نجا باليومي العابر من الإهمال وارتفع به الى مستوى الحقيقة الصلبة والفصيحة التي يمكن استعادتها بصفتها شهادة عن حيرة الإنسان في مواجهة العالم ورغبته في تغييره. لم يكن فنه تعليقا علي أزمات صغيرة طارئة، ولم يكن ليهمه أن يكون موجودا حيث المشكلات التي تطلق صراخا عاليا، كان دأبه الفلسفي يشده إلى مواقع شديدة القرب من الروح البشرية غير أنها في الوقت عينه لا تحضر إلا ملتبسة، غاصة بالكثير من الغموض، كما هو حال العلاقة الاجتماعية، التاريخية بين الرجل والمرأة، هذا الموضوع الذي خصه الرسام بجزء كبير من اهتمامه، حتى أن رسومه في هذا الموضوع بامكانها لو جمعت أن تشكل مادة لمجلد كبير، سيكون مدعاة لتأمل شعري في مسألة لا تتقيد بأسرارها الداخلية حسب، بل هي أيضا فضاء مفتوح لكل تأويل. لم يكن مؤيد نعمة في ذلك استمرارا لمن سبقه من الرسامين العراقيين في هذا المجال، بل يمكن القول أنه كان الوسيط المتفرد ما بين تجربتي الفرنسي فولون والعربي ناجي العلي. اغتراب فولون وألم العلي في مزيج كوني شفاف، يدهش برفعته وانحيازه لكل ما هو حميمي وساحر في تجربة الفرد. لم تكن رسومه لتلهينا بالتفكير في ما مضي بل أنها تزودنا بمتعة الاحتفاء بما هو آت.
أخرج مؤيد نعمة الكاريكاتير من منطقة التأمل السلبي إلي فضاء النقد المواجه والمباشر. كان هناك دائما ما يدعونا إلى تأخير الانصياع إلي الفكرة الأولى الميسرة، على الرغم من اليسر المتمهل الذي تميزت به خطوطه، وهو موضوع تقني حقق من خلاله الفنان تفرده الأسلوبي. رسومه كانت نوعا من الرؤى التي يتطلب الإنصات إليها بداهة خيال لا تتقيد بالواقعي والعملي والمطلوب البرهنة علي صحته وذهابه الدقيق إلى الهدف. هناك عذاب هو التعبير الأمثل عن نزهة شعرية في مساحات مكتظة بالأسئلة والعلامات الشاردة تنقله تلك الرسوم مثل العدوى لتضمن استغراقها في سعتها، التي هي ليست سعة ما يقال، بل سعة ما يمكن قوله، خارج الرسم ومن خلاله على حد سواء. الرسم هنا ليس وسيلة للتنفيس عن احتقان في جهة ما بل لتكريس السؤال بصفته علامة فارقة، تضع الطريق في مواجهة المتاهة. رسوم مؤيد كانت تشقي الناظرين إليها، ذلك لأنها كانت تلهمهم ضياعا من نوع استثنائي، نوع تستجيب له الأرواح الضالة التي لم يعد يرضيها التفسير الواقعي لوجودها. بهذا المعني فان الضحكات التي كان البعض متخصصا في استخراجها من رسومه لم تكن لتعوض الخسائر الروحية بقدر ما تذكر بها، لتستأنف البحث في خفاياها وتفكيك أسرارها. كان مؤيد نعمة عراف خراب متأصل ورسول فراق.
تقنيا كانت خطوطه خشنة وحادة وجارحة، زاهدة ومتعففة عن التفاصيل وأحيانا منزعجة إلى درجة الضيق، لا تصف ولا ترغب في أن تكون موضوعا للوصف والملاحظة. فهي لم تكن وعاء للموضوع، ذلك لأنها كانت تجر الموضوع مثل ذبيحة متخيلة. لم يكن مؤيد نفسه طري التفكير، كما هو حال عبد الرحيم ياسر، رسام الكاريكاتير العراقي، الذي يستحق هو الآخر مكانة عالمية، بل كان في حقيقته خشنا، لا تسعده الاحتمالات ولا الذهاب و الإياب اللذان ترافقهما انتهاكات عرضية. كما لو أنه لم يكن ليسعد بالرسم لذاته، كما لو أن الرسم كان يقف بينه وبين مراده المتأخر. رسومه هي تلخيصات حارة وحارقة وآنية لكل ما يمكن أن يكون محتملا. لم تكن لديه عناية متحذلقة بالشخصيات، لإجمال خارجي يفرض اهتماما بصورة العيش، أو يتستر على غواية من نوع ما، دائما كانت هناك الفكرة المطعونة من جهة واقعيتها، وهي فكرة خيال يصل إلى الحقيقة بطريقة حدسية، مثلما يحدث في الشعر تماما. كان مؤيد نعمة يذهب مباشرة إلي ضالته، حيث لا تشكل الواقعة التي يصورها إلا مصباحا يزيح بنوره عتمة الأشياء التي هي فواصل ضرورية في رحلة كل فرد في اتجاه حقيقته. مباشرة نعمة التقنية هذه لم تنقذ رسومه من الغموض، بل بالعكس زادتها غموضا، ذلك لأنها مضت بها في اتجاه الحافات، حيث القليل هو الذي يقال. وكانت رسوم مؤيد نعمة لا تحتمل الكلام الذي لا يعد بالفراغ الذي يليه.

الادهي من كل ذلك أن مؤيد نعمة كان يساري الهوى. حين تعرفت عليه منتصــــف السبعينات وكنا نــدرس ســــوية فن الفخار في بغداد، قلـت مع نفسي: أي يساري هذا؟ كان نقيضا لكل افتراض وحشي ومدمر مسبق .

فهو أنيق وناعم وهادئ وصامت وايجابي، غير أنني كنت أشعر باستمرار أن هنالك كائن ما يرافقه، كائن يراقبه، كان نعمة حريصا على أن تعبر أصابعه من خلال الطين عن شهوة عارمة في اقتناص ما لا نراه، فكانت التماثيل الشخصية التي اخترعها لعدد من المعلمين والشخصيات درس تميز جعلني أتعرف على الجانب الغامض من شخصيته. لم يثر اهتمامه نقاء الشكل الخزفي الذي كان يلهمنا طاعة الوقت بل وجد في السخرية مخرجا من الرتابة، فصار تمرده مقبولا بل وساحرا. والغريب أنه ظل وفيا لما تعلمه، كان خزافا لكن بطريقته الشخصية. وكان في الوقت نفسه رساما للأطفال. كانت رسومه تزين أغلفة مجلاتهم، كل غلاف هو بمثابة لوحة يليق بنا اليوم أن نعدها بمستقبل هو قيد التشكل أو يكاد. لقد صنعت رسومه تلك جيلا من رسامي الأطفال في العراق. ولهذا يمكنني القول أن مؤيد نعمة كان فنانا كبيرا في ما فعله بشكل مباشر وفي الأثر الذي تركه في الآخرين ليدل عليه. لقد فقدنا فنانا عالميا.

القدس العربي
11 ـ 12 ـ 2005

الرسام العراقي مؤيد نعمة: العراق يمتلك خصوصية "متفردة" في فن الكاريكاتير

مؤيد نعمةدخل مؤيد نعمة (1951 بغداد)، الساحة الساخنة للرسم الساخر في أيام نكسة يونيو (حزيران) 1967، برسم كاريكاتيري يمثل الرئيس الأميركي جونسون، وهو يرفع بدل شعلة تمثال الحرية الأميركي قنبلة "نابالم" كانت إسرائيل تستخدمه بوقاحة في حربها ضد العرب.
أرسل الفتى مؤيد رسمته تلك إلى المجلة البغدادية الساخرة "المتفرج"، وكم كانت دهشته كبيرة عندما وجدها تحتل مساحة الغلاف الأول من المجلة المثيرة للجدل. ولم يمض سوى عامين حتى التحق بمسغامرة اصدار المجلة الأولى للطفل العراقي "مجلتي"، وبسرعة هضم الشاب مؤيد التقنيات الخاصة جداً لهذا النوع الجديد من الرسم، ليبدع في خلق الكثير من الشخصيات الكرتونية الأخاذة.
في محترفه ببغداد، التقيت الفنان مؤيد نعمة، وتبادلت معه أطراف الحديث حول تجربته التي قادته إلى كبرى المهرجانات العالمية لرسوم كتب الأطفال، والرسم والنحت السّاخرين.
* سألته عن الخطوات اللاحقة التي تلت تلك البدايات الجريئة في رحلته الطويلة مع الرسم الساخر، فقال:
ـ في عام 1973، دعيت للرسم لجريدة "الجمهورية" البغدادية، وعندما صدرت صحيفة "طريق الشعب" بعد فترة وجيزة من ذلك التاريخ، انتقلت إليها، وبدأت برفدها بكاريكاتير سياسي يومي، وهو ما حفزني لرصد الاحداث والتفكير بأوجه معالجتها النقدية الساخرة.
ولا شك أن الالتزام بإنتاج هذا الرسم اليومي بكل ما فيه من تحد، أفضى إلى تطوير ملكتي الخاصة في ابتداع الجديد في هذا الفن رسماً، وأسلوب معالجة لعجينة الفكرة، وتحويلها عبر قناة السخرية والنقد إلى رسم كاريكاتيري نافذ.
* وماذا عن تجربتك المتميزة جداً في مجال نحت الوجوه كاريكاتيريا؟
ـ بعد أن أكملت دراستي الاكاديمية للرسم في معهد الفنون الجميلة، واصلت دراستي الفنية في اكاديمية الفنون الجميلة. وهناك اقترح عليّ الفنان اسماعيل فتاح الترك، أن أتوقف عن دراسة الرسم وأختار تخصصاً آخر لإغناء تجربتي، فاخترت الفخار الذي كان الترك يدرسه.
وكان أول وجه حققته بأسلوب النحت الفخاري "شاه إيران"، بدأت بعدها بوجوه عدد من الاساتذة الفنانين الكبار كالفنان فائق حسن وسعد شاكر وفالنتينوس وآخرين.
كان ذلك في عام 1973، وكانت تجربة مثيرة وجديدة، بل ونادرة على الصعيد العالمي. وعندما اشتركت بدورة عام 1975 من مهرجان "غابروفو" بعمل فخاري من المجموعة، أبرقت إدارة المهرجان تعرب عن أملها بموافقتي على ضم العمل إلى مجموعة المتحف الخاص بالمدينة.
وفي الفترة نفسها، خضت تجربة تجسيد الموضوع الكاريكاتيري بنحته بدلاً من رسمه، وعن تجربته الطويلة في الرسم لصحافة وكتب الأطفال، وأهم الشخصيات الكرتونية، قال:
ـ بدأت هذه التجربة مع الإعلان عن تأسيس مجلة خاصة بالطفل في بغداد عام 1969. وكان الفنان الكبير طالب مكي هو المدير الفني المشرف على تدريب الرسامين على هذا النوع الجديد من الرسم، وعلى يديه تلقيت تدريباً رائعاً، فرغم انه لم يسبق له العمل في هذا المضمار، إلا ان موهبته الخارقة أعطته قابلية عجيبة في استيعاب تقنيات هذا التخصص.
تأثرت بطالب واستوعبت دروسه المدهشة، وأصبحت في وقت قصير أحد الرسامين المعتمدين في المجلة. ومن أشهر الشخصيات التي ابتدعتها واستمرت بطولاتها على صفحات المجلة لسنين طويلة شخصية "جدو من العصر الحجري" و"عبقري ومساعده سليم" و"جحا" و"أشعب".
وعن سؤال حول ماهية الكاريكاتير، أجاب:
ـ اعتقد بأن الكاريكاتير، وخلال السنين القليلة الماضية، بدأ بأخذ طابع أكثر شمولية وإبداعاً عن ما مضى من عمر إنتاجه قبل هذا التاريخ، فالرسم الكاريكاتيري الناجح فيه فكرة وإنشاء وفيه أحاسيس الرسام وبصمته، وهو فن غير اعتيادي يشتمل على فنون عديدة في عين الوقت مثل الجرافيك والرسم والنحت، وحتى الموسيقى التي أكاد اسمعها في رسوم العديد من الفنانين، وبشكل خاص في رسوم زميلي الفنان عبد الرحيم ياسر.
ومن الملابسات التي خلقها هؤلاء الرسامون المبدعون، تجريد الكاريكاتير من صبغته القديمة كوسيلة لرواية النكتة.
ففي الكثير من الرسوم، لا يوصل الرسام مشاهد أو قارئ لوحته الكاريكاتيرية إلى بهجة الضحك، بل يضع اصبعه على الجرح وعلى مساحة من الكآبة لأنه يوسضح ابعاد حالة انسانية حدثت داخل مجتمع فيه الأذى والمأساة، وهي حالة موجودة بهذا القدر أو ذاك في كل المجتمعات.
* وما هو تقييمك لأداء زملائك من رسامي الكاريكاتير العراقيين والعرب؟
ـ اجمع عدد كبير من رسامي الكاريكاتير العرب والاجانب على تميز الرسم الكاريكاتيري في العراق وخصوصيته، بمعنى أنه لم يخرج من تحت معطف الكاريكاتير المصري مثلما حدث مع رسامي باقي الاقطار العربية.
وهنا أذكر مقال الفنان المصري محيي الدين اللبّاد، عن طريقة عملنا في العراق، الذي نشر في الصحافة القاهرية، وكان عنوانه "كاريكاتير ما عدّاش على مصر"، وقد أصاب اللبّاد في تحليله، لأننا ايضا لم نشعر بمثل هذا التأثير، ولهذا يمكن القول إن في العراق كاريكاتيراً ذا سمات مستقلة عن باقي المشتغلين بهذا الفن في العالم العربي.
أما بالنسبة للكاريكاتيريين العرب، فإن أهم التجارب وأكثرها تميزاً في اعتقادي، تتركز في مصر وسورية والجزائر.
* ما هو موقفك من التحرير "الاحتلال"؟ وكيف يمكن التعامل مع الحالة الأميركية التي يعيشها العراق؟
ـ أتوقع أن تهدأ الأمور، والحالة التي نعيشها هي افضل في كل الأحوال مما عشناه سابقا، ستكون هناك صحافة حقيقية وستكون وطنية ومستقلة مثل مفهومنا للصحافة الحرة في العالم.
* وما هو المشروع الذي تعمل على تنفيذه حاليا؟
ـ أعد رسوماً كاريكاتيرية لصحيفة عراقية ستصدر قريباً، وفي عودة إلى أعمالي النحتية ـ الفخارية الكاريكاتيرية، كلفت بعمل مجموعة تتكون من عشرة وجوه عراقية مبدعة كالسياب والجواهري وآخرين، وأعكف حالياً على تنفيذها.

أجرى الحوار : علي المندلاوي

الشرق الأوسط 4 يوليو 2003