(معرض استعادي لماتيس في مركز بومبيدو بباريس)

إعداد: يقظان التقي

ماتيسأنها مناخات ماتيس التعبيرية وما بعد الانطباعية التي شكلت سباقاً فنياً في المانيا منذ العام 1910 يتجاوز الانطباعية والانطباعات المرئية إلى تلك التجارب الصورية في طريقة وأخرى والاحساس أكثر بالحياة وما يسجله وجه الانسان والحركة الايمائية الذي تشغله الأشياء والمكان والاشكال اكانت ثانوية أو رئيسية.
ماتيس سيشغل معرضاً كبيراً في مركز بومبيدو في العاصمة الفرنسية باريس وباطار جديد غير محدد التعريف هو الذي نشأ في سباقات تعبيرية ويرى اليه الآن محركاً لمناخات وتحولات مرئية باضافات تعبيرية مهمة اعقبت تأثيراته الأولى بكورو ومانيه ومونيه وبسارو وسيزان وغوغان وسوار...

مزاج كامل من الهدوء وجمالية التكوين وكل شيء جميل في موضعه وهندسته الخلفية المصممة بأشكال مختلفة وسيطرة على النغمات اللونية والتدرج المتناغم في النور وانسياباته بين القمة والضوء وتدرجاته في جدلية حادة لتضاد الألوان بين الأحمر والأسود والأزرق والأبيض في طول اللون وتوازناته التاليفية. ما يختلف عند ماتيس ازاء اساتذته ومجامليه هو الرسم بهدوء ولذة ومزاج ويشبه ترف عاطفي في أعمال على مستوى من المنهجية وهندسة قواعد الانطباعية التعبيرية الجديدة.
هدوء ما قبل النغمة اللونية وما بعدها وشغل اكثر على هندسة التاليف اللوني ومنح الألوان ضوءها وظلها وتضاداتها المحكمة لذلك الهدوء البناء واستخدام الوسائل التشكيلية والتفاصيل في الأشياء للتعبير عن مزاج فني هادئ وجميل.
في لوحاته المعروضة في مركز بومبيدو كل شيء، النظام، الكمال، الترف، الهدوء واللذة، ما يحيل اعماله لشاعريتها البسيطة إلى حقل تصويري يفوق المشهد البسيط نفسه إلى عالم فني متألق وبشحنة عاطفية واستثمار اللون بشرائطه كافة وبصيغه ومساحاته المستطيلة في الغالب إلى مساحات لونية منبسطة بفضاء واسع وبضوء كبير في الرسم.

هذا المناخ الهادئ الذي تمكن من جمع خصائص ما بعد الانطباعية هو الذي سيطلق لاحقاً مع اندريه ديران الرسم الوحوشي واستثمار اللون إلى الأقصى على سطح اللوحة في الاعلى والأسفل والخلف والأمام وبمستويات مسطحة تماماً متآلفة بين سطح اللوحة واطار من الفضاء هو الأوسع والأكثر حرية او تحرراً لونياً من وظائف زخرفية أخرى.

المعرض يعود إلى بدايات الوحوشية في العام 1905 مع لوحات الغواش الشهيرة التي صنفت تحت اسم الرسم "الوحوشي" واقترنت باسلوب عرف بالجيل الأحدث عهداً حينها في فترة زمنية مستمرة في تاريخ الفن.
ماتيس جديد يظهر على صفحات "لوفيغارو" واستاذ حقق ريادة فنية بتأليفات حالمة" الحلم" (1940) الحلم الذي آمن به ماتيس وعالج به مشاكله وتحدى اساتذته في البحث عن اسلوب جديد ولغة جديدة لاثبات موهبة استمرت بفضل ذلك التناغم اللوني ككل.
ماتيس لم ينسخ الطبيعة، استعرض منها المشهدية الواقعية وشحنها بمجموعة من العناصر، ورسمها كما لو انه امام موديل انتهى بمنهجية داخلية ومتفجرة لونياً ومبتهجة كأزهار المارغريت البيضاء (1939). ماتيس التجريبي لدرجة الدوران في الرقص (1912) هو عكس بيكاسو تماماً والمدافع الجدي عن الفرح في الرسم، فاكهة الفصول الضوئية مثل ليمونة او برتقالة، يكتب أبولينير في 1918 عن ماتيس. في الامكان رؤية هذا الاتجاه نحو الهدوء والغبطة في اكبر لوحة رسمها ماتيس "بهجة الحياة" بين عامي 1905 1906 وبقياس كبير حيث يتساوى فيها الفرح مع السكون والمخيلة الوحشية مع البراءة والخطوط البسيطة بايقاعات متناغمة موسيقية.

هو ماتيس يحظى معرضه في باريس بحماسة كبيرة، من روسيا ينظر اليه كنبي التوازن والتناغم اللوني ، من أميركا رسومه واحدة من المقتنيات الأكثر جاذبية لدى الطبقة البرجوازية في نيويورك وله موقعه المختار جيداً في فيلادلفيا. ومقارنة بفنانين كبار امثال ميرو بيكاسو وشاغال وآخرين. ماتيس بنظراته الجامدة ويبقى رسام المساحات والمستطيلات والضوء.

ماتيسماتيس

فنان مريح غير مزعج مريح كالأريكة الوثيرة، وجهه برّاق بذكاء مثل ليمونة وشكل تحدياً كبيراً لمعاصريه، كيف للفنان ان يبقى ساكناً وهادئاً إزاء مجازر عصره وظلماته، وكل شيء مزعج لا يصلح لتحويله فناً عن نحو ما فعله بيكاسو. ماتيس الفرنسي الى اقصى البرودة، وحده سيزان اخذ شيئاً مهماً من موقع ماتيس الرائد في تلك السنوات الكبيرة جداً وهي سنوات المعارض الكبرى بين 1900 و1913 داخل وخارج فرنسا التي اظهرت تطور الرسم الحديث. تأثير سيزان ظهر واضحاً في ماتيس وديران وفلامنك وبيكاسو وبراك وديلوني وموديلياني...
معرض ماتيس يذهب بعيداً من التقليد الزمني في التدوين الزمني للوحات ويذهب بعيداً، أبعد من الكليشيات لايقاظ ماتيس جديد. هذا المعرض الاستعادي الذي يعتبر عيداً لعشاق اللوحات أو اولئك الواقفين امام فرادة المعلم. والمعرض يضم اعمالاً مختارة ومنتقاة من امهات الأعمال التي تعتبر تحفاً فنية من مجموعات خاصة تجمع للمرة الاولى من متاحف عالمية من نيويورك وموسكو ومن أصحاب مقتنيات من افراد الطبقة البرجوازية في عواصم عالمية.

ماتيسماتيس

عنوان واحد يختصر مسار المعلم ماتيس هو الثقة المعاصرة بالنفس. "كل عمل فني جديد هو دوار واغراء ولا استطيع ان ابدأ بلوحة من دون أن يكون لدي وجل ما أو خوف". ماتيس لم يولد رساماً في العام 1869 وبخلاف بيكاسو الذي رسم في مراحل طفولته.
بدأ ماتيس (1869-1954) الرسم بعد التسعينات من القرن التاسع عشر من فترة استيعاب مهم وتتلمذ من بداياته في محترف غوستاف مورو من "اليوزار" (باريس) ولم يكن على وعي تام بتأشيرات الرسم الانطباعي وما بعد الانطباعي. ولم يظهر ماتيس للجمهور فناناً طليعياً الى العام 1905 حين بلغ الخامسة الثلاثين من عمره. وكما قال لابولينير عام 1907 "لم اتجنب مطلقاً تأثير الفنانين الآخرين" ولو كنت فعلت هذا لتصورته حيناً ونقصاً في ثقتي لنفسي". في الثالثة والعشرين كان في رأسه صورة طبيب العائلة، بعيون خافتة الرؤية وبلحية مروّسة. التقى فلامنك. لم يكن متعلقاً بزيارة المتاحف ولكن خلال احدى جولاته لاحظ جاراً في الغرفة المجاورة له يمضي وقته في نسخ صور رديئة التلوين. اعجبه فأحضر علبة التلوين وبدأ في الرسم. وخلال سنة، حاول اقناع عائلته بالالتحاق بدراسات فنية في باريس. وانتهى باقناع والده بمناصرته وانطلق بعدما قال له والده "ستنتهي ميتاً من الجوع"! الخمس عشرة سنة التالية لم تكن سهلة على ماتيس الذي رسب في امتحان الدخول إلى اكاديمية الفنون الجميلة ونتيجة تدخل غوستاف مورو دخلها على اساس انه مستمع حر. الى ان قبل رسمياً بها في الثانية والاربعين (..). ماتيس لم يتزوج. ومع انه تأثر بالوحشة عند فلامنك وبالتكعيبية عند براك وبيكاسو والمستقبلية عند يالا وبوشيبوني... الا ان ذلك لم يتحول إلى واقعاً يعيق تأليف عالمه الخاص. قد يظهر ان ماتيس هو الحالم أو الأكثر قلقاً في العالم، ولكن ركن إلى الهدوء التام وجانب المغامرة. انه يشبه قليلاً الشاعر بول كلوديل. أفهم جيداً ان كل صباح يأتي بذلك الشعاع والضوء، لا استطيع ألا اليقين بالسعادة". السعادة أو الغبطة عنوان سنواته المضيئة بالنوافذ المشرعة والمفتوحة، وبذلك الضوء الناعم والسلالم العريضة والفضاءات الواسعة وتلك لهجة الحياة والترف والهدوء واللذة... معرض استعادي يجذب اليه كثيرين لفنان ترك أثراً مقيماً في المسار الفني وبطبيعته الهادئة وبموقعه الريادي الذي ساهم في تطور الرسم الحديث اجمالاً لا سيما في رسوم الأشكال غير المعقدة وبساطة شاعريته وبألوان حية خلال اربعين سنة من الرسم وعلى نحو لم ينته والعام 1954.

لا شيء ينتهي مع ماتيس... ويبقي العيد في زمن الأزمات.
[ يستمر معرض ماتيس في مركز بومبيدو من 7 آذار الجاري وإلى 18 حزيران المقبل.