بجنون المبدعة حتى الرمق الأخير

(الرسامة المكسيكية فريدا كاهلو "سوبر ستار" في مئويتها الأولى)

كوليت مرشليان
(لبنان)

يحتفل المكسيك بمئوية ولادة الرسامة التشكيلية فريدا كاهلو التي تعتبر اليوم واحدة من أبرز فنانات القرن العشرين. وقد تركت مجموعة لوحات ضخمة يُشار إليها على أنها تحمل من مضامين وإيحاءات ما يدعو الى جدل أوسع بين النقّاد حول تمايز أعمالها. وهذا ما حصل منذ أن بدأت هذه الفنانة ترسم وهي في سن المراهقة. وقد افتُتح في مكسيكو المعرض التكريمي الوطني في متحف الفنون الجميلة الذي يضم أجمل لوحاتها وأراده المصممون صاخباً يضج بعالمها المرتسم في 354 قطعة من بينها 65 لوحة زيتية ضخمة، 54 رسماً بالحبر الصيني أو القلم، 11 مائية و5 نقوش، الى وثائق خاصة غير منشورة ومخطوطات لها ومجموعة رسائل كبيرة وصور فوتوغرافية لم تنشر بعد في الصحافة. ويعتبر هذا المعرض هو الأشمل منذ رحيل كاهلو. وقد ساهمت 69 مؤسسة خاصة ومنظمات فنية في دعم المعرض.

يتبع منظموه تقسيماً موضوعياً يبرز مسار الفنانة المبدعة التي ساهمت في وضع أسس جديدة للوحة التشكيلية متخطية كل العوائق الاجتماعية والنفسية والجسدية للوصول الى هدفها. وفي المقابل، تجري في القسم الخاص بالندوات من "قصر الفنون الجميلة" في مكسيكو سلسلة محاضرات وطاولات مستديرة حول فنها وإبداعها، وشارك أكثر من 40 مثقفاً وناقداً أدبياً في وضع كاتالوغ المعرض الذي جاء تكريمياً وكأنه سيرة الفنانة كاهلو ولسان حال عبقريتها.

يستمر المعرض "فريدا كاهلو: 1907 ـ 2007 ـ التكريم الوطني" حتى 19 آب المقبل ومن المتوقع أن يشهد نسبة هائلة من الزوار لما يحمله الشعب المكسيكي من محبة وتقدير لهذه المرأة المبدعة التي جعلت آلامها النفسية والجسدية وقوداً وناراً تؤجج موهبتها وحبها للعطاء وإبداعها.

حين تقول فريدا كاهلو في المكسيك، فهناك أكثر من تعريف أو تسمية لهذه المرأة ـ المبدعة، فيُقال: "فريدا الموهبة الفذّة"، أو "فريدا المرأة الصلبة"، أو "فريدا حبيبة الرسام الشهير دييغو ريييرا"، أو "فريدا الكسيحة الصلبة التي تغلّبت على إعاقتها الموقتة بالإبداع"، وأيضاً إنها "فريدا المزدوجة" تماماً مثل لوحتها الشهيرة التي تحمل هذا العنوان. ومن يرغب بالتعرف أكثر الى هذه الشخصية التي دخلت عالم "النجومية" اليوم وبعد أكثر من خمسين عاماً على رحيلها يتعرف عليها بشكل كامل عبر معرض "قصر الفنون الجميلة" في مكسيكو، عبر رسائلها ومخطوطاتها ورسومها ولوحاتها الرائعة التي تضج بالألوان القوية والصاخبة والدافئة مثل شمس المكسيك: فاللوحات بمعظمها قد تمّ استقدامها من متاحف العالم، من "متحف سان فرانسيسكو" و"متحف لوس أنجلس" و"متحف ناغويا" إضافة الى مجموعات خاصة أهمها مجموعات "ديترويت" و"ميامي"، وحتى اليوم لم يكن يجرؤ أحد على إدخال لوحات كاهلو الخاصة به الى المكسيك منذ أن أعلنت البلاد أعمال هذه المبدعة "ثروة وطنية" خوفاً من وضع اليد عليها والإمساك بها، لكن يبدو أن ثمة اتفاقاً رسمياً جعل المخاوف تتبدّد.

منذ رحيل فريدا عن العالم، وكلما أمعن النقّاد والدارسون في أعمالها، وقعوا أكثر في سحرها ولغزها حتى صار موقعها في رأس القائمة الخاصة لمبدعي القرن العشرين.

بداياتها

متمرّدة، جميلة، شغوفة، مناضلة، محبة حتى الولع، مبدعة حتى الرمق الأخير، كلها صفات قيلت وتُقال بالفنانة فريدا كاهلو التي جعلت الخط واللون سلاحيها الفعالين في مواجهة العالم.

ولدت فريدا أو ماغدالينا كارمن فريدا كاهلو كالديرون في 6 تموز 1907 في "البيت الأزرق" الذي صار متحفاً اليوم وسط شارع شعبي في منطقة كويوا كان في جنوب المكسيك وهي الإبنة الثالثة بين أربع فتيات لماتيلد وغييرمو كاهلو. كانت والدتها رسّامة ساهمت في مرحلة السوريالية وأصداء تلك المرحلة في المكسيك وهي من أصل ألماني، أما والدها فكان يعمل في التصوير الفوتوغرافي وهو من أصل هندي.

تأثرت فريدا كثيراً بأصولها المتشعّبة وهي نبشت منذ صغرها جذور عائلة والدها ووالدتها وخلّدت الجميع في لوحة ضخمة بعد حين عنوانها: "أجدادي، والداي وأنا" حيث تسرد بالتفاصيل الدقيقة مهن الجميع وارتباطاتهم بجذورهم، واللوحة أشبه بشجرة فنية للعائلة، وقد رسمت أجدادها من أصل هندي ومكسيكي على اتصال بالأرض وأجدادها من أصل ألماني على اتصال بالمحيطات.
حين بلغت فريدا الثامنة أصيبت بشلل الأطفال الذي جعل رجلها اليمنى تضعف وتبدو متأخرة عن اليسرى ما جعل مشيتها غير متوازنة، وكانت تعاني عدم تقبّل رفاقها لوضعها. عام 1922، التقت فريدا المراهقة الرسّام الشهير دييغو ريييرا الذي جاء لينفذ قطعة "فريسك" و"موزاييك" جدار مدرستها. كانت ترغب في دراسة الطب وتهوى الرسم والفنون على أنواعها بشغف، وكان إلهامها بالرسم كبيراً نسبة الى سنها، غير أن مرافقتها لوالدها في عمله جعلها تعشق الصورة والخط واللون، فسحرها الرسّام دييغو وهو يعمل على جدار المدرسة وصرّحت يومها لزميلتها في الدراسة: "سيكون هذا رجلي وأرغب في أن أنجب منه ابناً: فالعبقري بنظري أهم من الأمير الساحر"... يومها لم تكن تعلم بما يخبئه القدر لها في حب وشغف ومن ألم وعذاب.

عام 1925، وهي في الثامنة عشرة، كانت في طريق العودة الى منزلها، حين صدمها باص ضخم تعرّض لحادث كبير، فلَقي العديد حتفهم، أما فريدا فكانت إصاباتها رهيبة: في العمود الفقري والحوض والرجلين، ما جعلها تلازم فراشها أكثر من سنة، أولاً في المستشفى لمدة شهر، ثم في منزلها. وتقول فريدا عن هذه الحادثة أنها رسمت لها كل قدرها: على سرير الآلام اكتشفت فريدا موهبتها واهتم والدها بأن يزودها كل أدوات الرسم وجعل سريرها محترفها الذي صارت تطل منه تحفاً ملهمة تجوب العالم اليوم على أنها من أروع إبداعات هذا القرن. كذلك على سرير الألم هذا تقرر لفريدا مصيرها، فإصاباتها جعلتها تفشل بعد سنوات بالإنجاب. فهي بعد أن تعافت، أحبت دييغو وعاشت معه الحب حتى الشغف وتزوّجته لكنها لم تتمكن من الإنجاب ما جعل إحساسها بالحزن والفراغ يكبر ويتحوّل شيئاً فشيئاً إبداعات وعطاءات فنية نادرة.

أولى لوحات فريدا كاهلو كان وجهها الذي كانت تراه في مرآة ضخمة ثبّتها والدها فوق سريرها لتتمكن من رؤية نفسها، وحتى اليوم تُعتبر مجموعة البوتريهات أو الرسوم الذاتية التي نفذتها في تلك الحقبة من أجمل لوحاتها.

نضالها الفني والسياسي الثوري

ليس مستغرباً أن تكون فريدا قد انخرطت في شبابها في المعترك السياسي والنضالي فهي تقول عن نفسها: "ولدت في "الحقبة الزابّاتية" أو حقبة الثوري زاباتا الشهير"... وذلك ترك أثراً في روحها وسعياً الى الحرية والعدالة.
عام 1928، انخرطت في صفوف الحزب الشيوعي المكسيكي، وسعت سنوات طويلة، من ناحية ثانية، الى تحسين أحوال المرأة المكسيكية الاجتماعية ورفضت على الملء واقع نساء بلادها، ومنذ سن المراهقة قررت "عدم سلوك طريق نساء بلادها اللواتي عانين الفقر والجهل والحرمان"، واختارت لنفسها "العلم والسفر والحرية واللذة والحب والفن"... التقت دييغو مجدداً وأعجب بأعمالها أشد إعجاب واعتبر منذ بداياتها أنها ستكون فنانة المكسيك: في 21 آب 1929، تزوّجت الفنان "الجداري" الشهير دييغو ريييرا وكان يكبرها بـ21 عاماً. سكنا في مكسيكو في محترف ضخم عمل فيه الإثنان، وكانت فريدا في قمة سعادتها، غير أنها سرعان ما اكتشفت خيانة دييغو المتكررة لها وهي كرّست هذه السنوات الأولى التي تسميها "سنوات حبها العميق" بلوحة "فريدا ودييغو" الرائعة التي استوحتها من صورة زواجهما التقليدية. وسافرت مع زوجها الى أميركا وتحديداً الى سان فرانسيسكو...
عام 1930، أجهضت للمرة الأولى، وعلمت من طبيبها الخاص أنها غير قادرة على الإنجاب، بسبب حادثة الباص السابقة، إلاّ أنها حملت للمرة الثانية وتعرّضت لمشاكل صحية طارئة جعلتها تجهض للمرة الثانية، وعلى فراشها في "مستشفى هنري فورد" رسمت رائعتها "السرير الطائر" حيث هي في اللوحة على سرير المستشفى ويطير من بطنها جنين صغير هو على صورة دييغو: "انه الطفل الذي كنت سأهديه لدييغو..." فخلدته في لوحة رائعة.
بعد هذه الحادثة، صارت فريدا ترسم حزنها وايضاً قرفها من حياتها في أميركا، كانت ترغب في العودة الى المكسيك لكن دييغو، على عكسها، فتنته أميركا وأراد البقاء فيها.

في تلك المرحلة، رسمت فريدا "رسم ذاتي على الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة" كما رسمت "ثوبي معلق هناك"....

بعد العودة من أميركا، سكنت في مكسيسكو ورسمت كثيراً، لكن خيانات دييغو جعلتها تترك منزلها واختفت فترة طويلة أعلنت فيها عن خيانتها له علناً "علّ ذلك يداوي جراحها"...

فريدا وتروتسكي...

عام 1927، وتحديداً في 9 كانون الثاني من ذلك العام، استقبل الثنائي دييغو وفريدا ليون تروتسكي وزوجته في "منزلهما الأزرق" وكان عنوان المرحلة "اللجوء السياسي" وعنوانها "الحب المجنون". فقد أُغرمت فريدا بليون تروتسكي وانتهت هذه المغامرة العاطفية برحيله عنها بعد أشهر قليلة وخلدت حبها له بلوحة "رسم ذاتي مهدى الى ليون تروتسكي" حيث رسمت وجهها: انه وجهي في أجمل يوم من عمري"... أما تروتسكي فقد قُتل بعد عامين.
حتى ذلك الحين، لم تكن فريدا قد قدمت أعمالها بعد في معرض فردي وخاص بها، لكن ذلك حصل بعد لقائها الشاعر اندريه بروتون الذي قدم الى المكسيك مع جاكليم لامبا ونزلا في "المنزل الأزرق" أيضا لفترة قصيرة. أعجب بروتون بجنون بأعمال فريدا وقال عنها: أنها قنبلة ملفوفة بشريط زينة ملون".
وعمل بروتون على تنظيم معرض لها وكان ذلك في تشرين الأول 1938 في "غاليري جوليان ليي" ، وتوالت بعدها المعارض ما بين أميركا وباريس. عام 1940، وكانت قد أصيبت بوعكة صحية عالجها على أثرها الدكتور ايلوبيسر في سان فرنسيسكو، فأهدته لوحة عنوانها: "رسم ذاتي مهدى الى د. ايلوييسر"، في تلك المرحلة، كان قد وقع الطلاق بينها وبين دييغو. لكن هذا الأخير لحق بها الى سان فرانسيسكو وبعد أشهر من التودد لها، وقعت من جديد تحت سحره وتزوجا مجدداً، وعاشا في البيت الأزرق" من جديد، ذاك البيت الذي ورثته عن والدها بعد موته في تلك السنة، والذي أبصرت فيه النور والذي هو اليوم "متحف فريدا كاهلو".

مذكرات كاهلو

عام 1942، بدأت فريدا بكتابة مذكراتها حيث حكت كل تفاصيل طفولتها وحياتها وثابرت على الكتابة حتى موتها. كذلك، في نفس العام، أي 1942، تم انتخابها عضوا في تنظيم "سيناريو من اجل الفن المكسيكي" بدعم من وزارة الشؤون الثقافية في المكسيك وعملت بجهد من اجل تنظيم المؤتمرات والمعارض ونشر الكتب...

عام 1943 بدأت تعمل في التدريس في جامعة الفنون في المكسيك، لكنها سرعان ما بدأت تعطي الدروس في محترفها حيث كان ينتقل طلابها الى هناك بسبب سوء صحتها، ومنذ تلك الفترة، تراجعت صحتها وصارت تشعر بآلام في رجلها المصابة وعمودها الفقري ما جعلها ترتدي باستمرار مشداً حديدياً، وفي تلك المرحلة، رسمت لوحة "العمود الفقري المكسور" وعلى اثر ذلك الأعراض المرضية، خضعت لعملية جراحية عام 1946، لحقتها 7 عمليات ما بين 1947 و1950. وعادت فريدا ثانية الى الرسم وهي مسمرة في سريرها.
وفي ربيع 1953، وعلى اثر اللقاء الذي جرى بينها وبين المصورة الشهيرة لولا الاريز براو، قررت هذه الأخيرة تنظيم اكبر معرض لفريدا في بلادها، لكن الأطباء منعوها من مغادرة سريرها، فما كان منها وبصراحتها المعهودة إلا ان طلبت منهم نقلها بسريرها الى افتتاح المعرض، وهذا ما حصل وشكل حضورها تظاهرة في البلاد.

عام 1954، تعرضت فريدا الى نزلة صدرية أفقدتها كل قوتها وما لبثت ان فارقت الحياة على إثرها.

وقبل رحيلها بساعات كتبت في مذكرتها الكلمات الأخيرة التالية: "أتمنى ان يكون خروجي من الحياة سعيداً.... وأتمنى عدم العودة على الإطلاق... فريدا". إلا أنها وفي لوحتها الأخيرة التي أنجزتها قبل مرضها الأخير بأسبوع رسمت وكتبت من ضمن الرسم:" يا لايدا" ما معناه "تعيش الحياة"! فهي لم تعرف السعادة إلا من خلال لوحاتها التي استمرت من بعدها وهي باقية جميعها في "المنزل الأزرق" أو المتحف الخاص بها الذي فيه سريرها، وفوق سريرها علبة صغيرة على شكل وجهها وفيها رمادها، فهي طلبت ان تحرق بعد الموت رافضة تماماً ان تبقى مسمرة وممددة في قبرها تماماً كما تمددت فوق سرير آلامها في حياتها. غير ان سرير الآلام هذا جعلها ترى الى البعيد وتتبصر الكون وذراته والحياة والموت والحب والسعادات الصغيرة والأحلام الضائعة والآمال الممكنة والمستحيلة وكل ذلك في وجهها. وحده وجهها رافقها وظل بقربها لم يخنها ، لم يخذلها، وبقي على جماله المطعّم بالملامح الهندية الأصيلة، وحده وجهها رافقها، فرسمته ورسمته الى ما لا نهاية، فكم وكم فريدا نرى في هذه الرسوم الذاتية العديدة التي تحمل كل وجوهها وكل ظروفها وكل أقدارها... فريدا كاهلو الرسامة أو فريدا كاهلو الوجه ـ الأيقونة، قديسة بآلامها، أسطورة بإرادتها الجبارة، وصورة خالدة من المكسيك الى العالم.

المستقبل
الخميس 21 حزيران 2007