سميرة عوض
(الأردن)

إبراهيم نصراللهأين تنتهي المسافة بين الصورة الفوتوغرافية واللوحة التشكيلية..! بل قل أين تبدأ! في معرض نصر الله 'تحت شمسين' والمقام حاليا في غاليري 'دار الأندى' في جبل اللويبدة، أعرق جبال العاصمة الأردنية.إبراهيم نصرالله 'يرى ما لا نرى'، قالت إحدى الحاضرات المندهشات بجماليات 'فوتوغرافيات نصر الله التشكيلية'، وأظن أسمها وفاء، أخبرتني باسمها، حين أثنيت على جملتها.احتشد التشكيليون في معرض نصرالله، أبدوا دهشتهم بتفاصيل اللوحات، وتشكيلتها اللونية، وزوايا التقاطاتها، التي بدت أقرب إلى اللوحة التجريدية منها إلى 'الفوتغراف'، وقال بعضهم: لماذا نرسم؟ بعد الآن علينا التوجه للتصوير!. أما صاحب المعرض إبراهيم نصرالله، فلم يعد يذكر من أين استرق لوحاته، بعد أن أمتلك 'اللحظة' بعين 'كاميرا قلبه'، وإن ظل يحرسها، بعيدا عن عين شموسها التي أتاحت له اغتيال المسافة بين الصورة واللوحة.ويرى نصر الله، الذي أصدر خلال الثلاثين سنة الماضية 14 ديوانا و14 رواية، أنه منذ معرضه 'مشاهد من سيرة عين/ دارة الفنون- عمان 1995م'، و'تحت شمسين/ دارة الفنون- عمان 2004م'، وتلاهما 'حياة البحر الميت/ كوريا 2004'، 'ومعرضه الحالي يحمل وللمرة الثانية اسم 'تحت شمسين' هو الرابع، ويضم أكثر من أربعين صورة، وهو يسعى لرصد القيم الجمالية في الفضاءات البصرية بعين ثالثة، ملغيا المسافة بين التصوير الضوئي والفن التشكيلي بعين 'ثالثة' تسرق 'الضوء' وتحبسه في 'اللوحة'.

ونصر الله الذي يقول 'ان المصادفة وحدها كانت وراء تنظيم معارضه الفوتوغرافية السابقة'، ويؤكد 'أن السعي وراء صورة جميلة لم يكن أبداً ينتمي إلى مجال المصادفة'، وهو الذي شارك مطلع تسعينيات القرن الماضي بمعرض 'كتّاب يرسمون' مع الكاتبين جمال ناجي وفاروق وادي، يقدم في معرضه الجديد، مجموعة من اللوحات الفوتوغرافية التي تغتني بالتشكيل، وهي صور لتفاصيل صغيرة اقتنصها نصرالله خلال زياراته المختلفة لاماكن تحت شمسنا 'العربية'، وتحت 'شمسهم' في الجانب الآخر العالم، تناغم الألوان واختلافها، التكوينات اللونية، اصطياد فواصل الظل والضوء، التفاصيل الدقيقة، البحث عن المختلف والآسر، تنوع الموضوعات، فمن الأماكن برها وبحرها، ومن الأحياء طيورها وأشجارها وخيولها، لوحات توزعتها قاعات 'دار الأندى' الثلاث، فبدا كل جدار من جدران القاعات يزدهي 'بما يحمل' من لوحات، كانت اقرب إلى اللوحات التشكيلية -وشخصيا- بهرتني- لوحات الخيول والتي بدت مؤثرة ومعبرة، وكأنما 'الخيل' تبوح بما في أعماقها.
'...ولكن صورة واحدة لم تلتقط بعد ستغير المشهد'، هكذا يختتم إبراهيم نصرالله كلمته على 'بروشور معرضه'، وفيه يقول: 'كلما أقمت معرضا، اعتقدت أنه الأخير.
وكلما التقطت صورة اعتقدت أنها الأولى..'.
وزاد 'على جدران منزلي كانت تتجمع تلك الصور التي كنت ألتقطها بين حين وآخر، لكنني لم أتصور يوما أنها تسير دون أن أدري، نحو قاعات العرض. ثلاثة معارض قبل هذا، كانت المصادفة وحدها وراء تنظيمها، ولم يكن هذا المعرض بعيدا عن جمال تلك المصادفة.
لكن الذي لم ينتم إلى المصادفة أبدا هو هذا السعي وراء صورة جميلة.
فأن تلتقط صورة، يعني أنك تحملها معك، وأن يغدو ذلك المشهد الذي رأيتَ حاضرا باستمرار، والأهم من هذا كله، أن تتعلم مع كل صورة أن ترى أفضل من قبل.
ولهذا، فإن لعدسة الكاميرا أكثر من دَيْن عليّ. لقد علمتني أن أرى ما لم أكن أراه، ويوما بعد يوما أصبحت عيني الثالثة.
هناك أشياء كثيرة يمكن أن يعبِّر عنها كاتب بالكلمات، لكن القلم، أو الكمبيوتر، ليسا صالحين دائما للتعبير عن كل شيء، فحين نختار الوسيلة، نكون في الحقيقة نبحث عما تحققه لنا هذه الوسيلة.
ويضيف نصرالله 'بالقلم تكتب قصيدتك أو روايتك، وبقدميك تؤلف رقصتك، وبصرختك غضبك، وبعودك موسيقاك، بالميكروسكوب ترى الخلايا وبالتلسكوب المجرات..

اليوم، لا أعرف، هل الأشياء تكون موجودة قبل أن نكتبها، أم توجد بعد أن نكتبها. وهل المشهد يكون موجودا قبل تصويره، أم يصبح موجودا بعد تصويره. ويحيرني أكثر، هل نكون كذوات كاتبة أو مصوِّرة موجودين، قبل أن نكتب ونصوّر، أم بعد أن نكتب ونصوِّر، لأن ما نوجده يوجدنا في الحقيقة. فكل جمال يولد، نولد معه، وكل حرف نكتبه نولد معه، لأن الصورة الجميلة تعلمنا الجمال، والكلمة الجميلة تعلمنا كيف نبحر أعمق في أفكارنا وكيف نبحث عن ذلك المهمل فينا.
كان اسم معرضي الأول (مشاهد من سيرة عين) وعنوان هذا المعرض (تحت شمسين) وبين الاسم الأول والأخير، رحلة سعيت خلالها أن أقول (أشهد أنني قد رأيت) كما قال بابلو نيرودا ذات يوم (أشهد أنني قد عشت).كم كان يمكن أن تكون عيني مظلمة، لو لم تبحث بكل ذلك الشغف عن الجمال، وكم كان يمكن أن أكون خاسرا لو عبرتُ تلك الأماكن، ولم أتوقف للحظة، لأحمل معي بعضا من جمالها.
كل صورة من هذه الصور هي اعتذار لتلك الأماكن والكائنات التي أحببتها ولم أستطع حمْلها معي، وأنا أتنقل تحت شمسنا هنا في العالم العربي، وشمس تلك البلاد البعيدة التي زرتها.
كلما أقمت معرضا، اعتقدت أنه الأخير، وكلما التقطت صورة اعتقدت أنها الأولى.. فليس هناك ما هو أجمل من أن تكون قابلا للبداية في كل مرة، لأن من يتشبث ببداية واحدة لا غير، يتشبث في الحقيقة بالنهاية الذي ظن أنها بداية.
هل سيكون هذا معرضي الأخير؟ بالتأكيد!

'ولكن صورة واحدة لم تلتقط بعد ستغير المشهد.'، هكذا يختتم إبراهيم نصرالله كلمته على 'بروشور معرضه'.
ونصر الله شاعر وروائي ولد في عمان عام 1954 لأبوين فلسطينيين أقتلعا من أرضهما عام 1948. عاش ودرس في مخيم الوحدات للاجئين الفلسطينيين وبعد تخرجه عمل مدرسا في السعودية لمدة عامين ثم عاد إلى عمان وعمل في الصحافة لمدة 18 عاما قبل أن ينتقل للعمل مديرا ثقافيا في دارة الفنون لمدة عشر سنوات.إنعكست تجربة نصرالله الحياتية في كتابته الروائية والشعرية بشكل واضح، وقد أصدر خلال الثلاثين سنة الماضية 30 مؤلفا، من بينها ست روايات تحت عنوان (الملهاة الفلسطينية).
نال نصرالله عددا من الجوائز المهمة وترجم عدد من رواياته ومختارات من أشعاره إلى لغات كثيرة، وشارك في عشرات المؤتمرات والندوات والمهرجانات الأدبية في كثير من دول العالم. ومنذ عام 2006 تفرغ للكتابة.

القدس العربي
2011-10-21