التشكيلي سعد علي في معرضه الجديد المحبة في مدينة الليمون

عدنان حسين أحمد
(العراق/ فالنسيا)

سعد علي أقام الفنان التشكيلي سعد علي معرضه الشخصي الجديد تحت عنوان المحبة في مدينة الليمون للفترة من 29 آذار (مارس) ولغاية 15 نيسان (أبريل) 2005 في صالة el castellano arte في مدينة فالنسيا الأسبانية. وقد ضمَ معرضه الجديد 28 عملاً فنياً نفذها علي ألواح الأبواب والنوافذ الخشبية الجاهزة كما هو دأبه في المعارض السابقة، عالجت موضوعة الليمون بوصفها ثمرة من ثمار الجنة، التي تذكرنا بموضوعه الأثير حراس بوابة الجنة ، وما تنطوي عليه الجنة الكائنة خلف البوابة الرئيسية من أشجار وفواكه عجيبة قد لا تخطر ببال أحد، إضافة إلى 20 تخطيطاً بقلم الرصاص تناولت موضوعه الأزلي المحبة والتي تفضي بنا إلى واحدة من ثيماته الأساسية التي انقطع إليها منذ زمن طويل، وهي أبواب الفرج والمحبة .
ان ما يميز هذا المعرض عن معارضه السابقة هو دخول مفردة تشكيلية جديدة وهي الليمون وربما يكون قد استخدمها بشكل عابر وسريع سابقاً، لكنه ركز عليها في هذا المعرض بحيث أنها دخلت في أغلب لوحات المعرض الزيتية كلها. وإذا حاولنا البحث في التفاصيل الدقيقة لهذا المعرض فسنجد أن موضوعة المحبة مشتقة من ألف ليلة وليلة هذا المحور الذي اشتغل عليه أيضاً، وطوره، وأضاف إليه العديد من الرموز والدلالات الجديدة. ومع ذلك فقد ظلت لوحته متمركزة حول ثنائيته الأثيرة لديه الرجل والمرأة من دون أن يهمل العذال، والمتلصصين الذين يسترقون السمع من الأبواب المواربة، وحافات النوافذ لهمسات العشاق الغارقين في الوجد، والسابحين في النشوة.

اللهاث وراء الفردوس المفقود

إذا أردنا أن نفلسف أبعاد التجربة الفنية لسعد علي بما تنطوي عليه من مضامين فكرية فان الفنان يسعي لأن يخلد أعماله في بصر وبصيرة متلقيه علي حد سواء، وكأنه يقول ببساطة شديدة: أنا لا أريد أن أموت وأن انهماكه اليومي في العمل طوال ساعات النهار هو دليل علي مقارعته المستمرة لليأس، والضجر، والاسترخاء. ولكن السؤال المهم الذي يؤرق ذهن الفنان سعد علي هو: لماذا يسعي الإنسان بشكل محموم للعودة إلى الجنة بعد أن طرده الله منها، ونفاه إلى الأرض؟ وهذا السؤال سيتناسل إلي أسئلة أخُر من بينها: هل أن الأرض هي منفيً حقيقي، ودار عذاب؟ وهل تحيل إلى مكان يقترن بالسأم، واليأس، والعبث؟ وهل أن جنة عدْن علي الأرض هي بديل للفردوس السماوي الذي نتوق له جميعاً، أو نحاول أن نكتشفه، ونتعرف عليه في الأقل؟ ومنْ هو رضوان هذا الحارس الأمين الذي يقف عند باب الجنة المتخيلة.
هذه الباب أو البوابة الكبيرة التي تفصل بين الخارج المعروف، والمكتشف، والداخل المجهول، والغامض هي لعبة سعد علي الفنية. هذا الكائن الذي يثير أسئلة كثيرة مؤرقة لعل أشدها جرأة هو سؤاله المستتر خلف صيغة التشكك المستفسرة: هل دمر الله الفردوس السماوي بعد أن طرد آدم من الجنة؟ أو هل هناك جنة للجميع؟ أم أن كل واحد منا قادر علي أن يصنع جنته الخاصة به كما يعتقد سعد علي؟ هل أن الجنة صندوق عجائب نحمله معنا طوال رحلة الحياة الفانية، ويضيع هذا الصندوق أو يفقد قيمته ما أن يموت الإنسان، ثم يواري الثري؟ مذ وُلد الإنسان علي الأرض كانت هناك جنة متخيلة تراكمت حولها القصص والحكايات، ونمت وتطورت حتى بلغت مرحلة الأساطير والخرافات التي لم تنجُ من المبالغة. فرسم الإنسان علي هواه شكل النساء، وطعم الفواكه، وأنهار العسل والخمر والحليب. صور فيها من البراءة والفنتزة والخيلاء الشيء الكثير. ولأن سعد علي هو فنان تشخيصي بامتياز، ومتأثر بالواقعية البغدادية. وبأسلوب جواد سليم وما انطوي عليه من مؤثرات أوروبية أخري، فقد كانت أعماله الثمانية والعشرين تدور في فلك التشخيصية التي تقترب من المذهب التعبيري الذي يستثمر بعض المبالغات الشكلانية التي تُخرِج عمله الفني من إطار التشخيصية الواقعية، وتنقله أحياناً إلى حافات التجريد بحيث أن أحد النقاد وصف أعماله الفنية بأنها نصف تجريدية وهو محق في ذلك تماماً، لأن سعد علي يتلاعب بتفاصيل الفيكر، كاسراً الأشكال النمطية المتعارف عليها، ومُعيداً بناءها علي وفق الانفعال الآني الذي يصور المشاعر الحقيقية للشخصيات المتخيلة التي نقلها من ذاكرته البصرية، مُجسداً إياها علي ملمس القماشة. وبالرغم من اسم هذا المعرض هو المحبة في مدينة الليمون إلا مضامين لوحاته تتعلق بعدن المُضاعة، والفردوس الذي بات مفقوداً علي أرض الواقع، لكنه يظل مقترناً بالحلم الفردي لكل إنسان.
اذاً، فكل هذه اللوحات الزيتية التي تتناول موضوعة مدينة الليمون ما هي إلا احتفاء بالحياة الدنيوية بعد أن ارتكب آدم الخطيئة وأكل التفاحة من الشجرة المحرمة التي كانت السبب الأول والأخير وراء طرده من الجنة، مع ذلك فنحن نأكل التفاح، ونقترف الخطيئة ذاتها كل يوم غير آبهين بالعقوبات المؤجلة. علي وفق هذا التصور يجب أن نحلل القيمة الفكرية والجمالية لأعمال سعد علي الفنية من دون أن نهمل الأبعاد الثقافية، والدينية، والأسطورية.

ثنائية المتن والهامش

في أغلب لوحات سعد علي المرسومة علي الأبواب والشبابيك، أو أي لوح خشبي آخر لخزانة ملابس أو طاولة طعام وما إلى ذلك فثمة متن بمثابة المركز الذي يحتوي ثيمة اللوحة، إضافة إلى هامش يؤطرها، وكأنه يعمل علي وفق آلية رسم صورة داخل صورة وبكلمات أدق لوحة داخل لوحة ، وغالباً ما تكون اللوحة الداخلية أو أساس العمل الفني وجوهره مكوَنة من رجل وامرأة، كما في لوحة جماليات الحلم أو ليلة لا تنطفئ و لذة صامتة وعيون متلصصة وفي بعض الأحيان نري هناك أكثر من شخصين عندما يتعلق بالأمر بوجود وصيفة كما في لوحة استرخاء ولذة . ولو تمعنا في اللوحات آنفة الذكر لاكتشفنا أن بنيتها الداخلية لم تتغير كثيراً، فالعيون بيضوية، واسعة، تحمل قدراً كبيراً من البراءة، والحميمية، والحب الطافح، ولا وجود للسخرية، أو التهكم، أو الشك في نظراتها، كما أن الخطوط، طرية، متمعجة، رشيقة، تذكرنا بتخطيط الأسكيتشات المنفذة بشكل خاطف، وسريع، لكنها تنطوي علي مرونة، وحرفية عالية. ولو خرجنا من هذه اللوحة الداخلية إلى الإطار لوجدنا ذات الوجوه المتلصصة التي تسترق السمع لحديث العشاق. وهذه الشخصيات غالباً ما تؤثث المكان، وتستنطقه في الوقت ذاته. المناخ العام لهذه اللوحات هو الأحمر المحروق الذي يوحي للناظر بنضوج الأفكار التي تدور في عقول هذه الشخصيات الحالمة بملامسة عالم فردوسي أفضل، وأجمل، وأكثر هدوءاً من عالمنا الأرضي. كما تبدو هذه الأعمال الفنية كلها وكأنها مُنارة بضوء داخلي ينبعث من الشخصيات ذاتها، ومن الفضاء المعماري لهذه الأعمال التي يتسيد فيها طابع الديكور، والنقش، والزخرفة التي يمكن تلمسها في القصور العباسية المترفة التي تحيلنا إلى ألف ليلة وليلة . وهذا اللون الأحمر هو ليس لوناً دموياً علي الإطلاق، وإنما هو لون التوهج والسطوع الداخلي للإنسان في ذروة وجده، وعشقه، وتجلياته الذهنية. وعلي رغم الترف الذي تغرق فيه هذه الشخصيات السعيدة إلا أنها لا تمثل إلا الجزء البسيط من عوالم الجنة المُتَخيلة، بل هي رموز وإشارات أولية للعالم الفردوسي الذي يتوق له كل واحد منا. لا أدري كم هو حدود إفادة سعد علي من جياكوميتي أو سواه من الذين كانوا يوظفون المادة الجاهزة باب، شباك، طاولة خشبية... الخ ، في أعمالهم الفنية، ولكن الذي أعرفه جيداً أن سعد علي يشحن هذه الباب أو النافذة بمدلولات كبيرة تحمل دائماً معاني الانفتاح علي عوالم حُلمية غير مطروقة أو مُستكشَفة من قبل. ثمة لوحتان تشذان عن قاعدة المتن والهامش في هذا المعرض، وهما جزيرة العشق و طيور الجنة ، اذ لا وجدود لبنية الهامش في هذين العملين الفنيين. والمدقق جيداً في لوحة جزيرة العشق سيكتشف أن هناك مقاربة مضمونية وشكلانية غير مستنسخة بينها وبين قصة حي بن يقظان ، وربما تحيلنا الغزالة، و طيور هذه الجزيرة النائية، وأشجارها الوارفة إلى الجزيرة التي وطأها حي بن يقظان ولكنه أضفي عليها قصة الحب المشتعلة بين هذين العاشقين المتوحدين اللذين يتطلعان صوب الناظر بعيونهما السومرية الواسعة التي خرجت عن أُسها التشريحي، وتمادت عليه، وتفادت السقوط في فجاجة المبالغة الكاريكاتيرية. أما لوحة طيور الجنة فإنها تشي بالعالم الفردوسي الذي تصنعه المخيلة البشرية، وتعيش في جنباته بسعادة ورخاء. من المسلمات التي يتحدث عنها سعد علي أنه عندما يرسم الرجل والمرأة يعني الحب، وعندما يرسم الإنسان والفاكهة يعني الهدوء، وعندما يرسم الإنسان والحيوان يعني الألفة والتعايش. وهذه المسلمات تفيد في فك عناصر اللوحة ومكوناتها الأساسية. وفي لوحات أُخري من هذا المعرض، وتحديداً البيت السعيد و ملاك وقمر ، و ملاك وتفاحة ترتبك بينة المتن والهامش ففي لوحة البيت السعيد نكاد نلمس السعادة الطافحة من وجوه الشخصيات الأربع التي تمثل الأب والأم والابن والبنت، وعلي رغم جمالية التكوين، وعمق الإنشاء الذي يشي بتماسك هذه العائلة السعيدة الغارقة في النشوة الحياتية، إلا أن فيكرات الهامش، وتحديداً العاشقين المسترخيين في أسفل اللوحة يشدان الانتباه أكثر من تكوين المتن ذاته، وهذا الأمر ينطبق علي لوحة ملاك وقمر حيث يشدنا منظر الشخوص المحتفلين في الهامش، ولوحة ملاك وتفاحة حيث يجذب انتباهنا الكائن الغريب الذي يحمل رأس امرأة من جهة يمين الناظر، ورأس رجل من جهة يسار الناظر، كما يلفت انتباهنا شكل المرأتين المحيطتين بالملاك حيث تتحول أقدامهما إلى ما يشبه ذيل حورية البحر .
أما منظر الفاكهة فهي تشكل تكويناً مشتركاً في الأعمال الفنية لهذا المعرض. يؤكد الناقد الفني إسماعيل زاير بأن عدداً كبيراً من أعمال سعد علي ينطوي علي نزعة بدائيـة تكـاد تكون تبسيطية، لكنها محمولة علي ركائز هي تقنية اللون المحكمة، والتكوين الغريب وغير المعتاد، مع تلاعب بالتشريح الجسدي الذي يوصل إلى معالجة لا تخلو من فظاظة ، وأنا أرد هذه النزعة البدائية التي تحمـل طابعاً تبســـيطياً إلى أمرين أساسيين، الأول أن أغلب موضوعاته تُحيل إلى الماضي، تحاوره، وتستنطقه، وتلبس لبوسه، أما الثاني فهو مقاربته اللاشعورية لفن الرسوم التوضيحية illustrations وانغماسه في فن الزخرفة العربية والإسلامية التي تعود إلى أربعة قرن من الزمان، هذا فضلاً عن تبنيه للمذهب التعبيري الذي يحفز علي الإمساك بالانفعالات البشرية التي تشترط التلاعب بتفاصيل الشكل الخارجي الذي قد يوحي بالفظاظة التي أشار إليها الزميل الناقد إسماعيل زاير. أما التخطيطات العشرون التي نفذها سعد علي على الورق فهي تعالج برمتها موضوعاً واحداً هو المحبة وقد رسمها بخطوط، رشيقة، سريعة، متقنة، تحيلنا إلى خطوط بيكاسو، ودقتها، وسلاستها، وانسيابيتها. كما تجدر الاشارة إلى أن الفنان الهولندي الشهير فرانك بوين هو الذي علق علي هذه التخطيطات، وكتب عليها قصائد وأغانيٍ وتداعيات شخصية في أثناء تواجده في مُحتَرف سعد علي الذي كان منهمكاً في وضع اللمسات الأخيرة علي أعمال معرضه الفني الأخير.

القدس العربي
2005/5/1


أقرأ أيضاً: