بعد عقود من التحولات التي طرأت على خطابه

صفاء ذياب (العراق)

XXXXXXXXXX

مرَّ التشكيل العراقي بمراحل كثيرة وتحولات في بنية اللوحة وخطابها، يمكن تلمُّس ذلك بمن يعدّ مؤسس التشكيل العراقي الحديث الفنان عبد القادر الرسَّام مروراً بجواد سليم وفائق حسن وغيرهما من الفنانين الروّاد وصولاً إلى الفنان مؤيد الراوي والفنان شاكر حسن آل سعيد، الذي تغير على يديه الخطاب التشكيلي لدخول المعرفي في لوحته على حساب الفني، ومن ثمَّ محمد مهر الدين وسعدي الكعبي وحتى الجيل الجديد من التشكيليين..

هؤلاء الفنانين كان لهم تلاميذ حاولوا بدورهم تقديم ما يمكن أن يغير من مفهوم اللوحة من خلال الأفكار والمواد المستخدمة، فضلاً عن الوعي بالأعمال المغايرة التي ربما استندت في معظمها إلى المدارس الأوروبية، لكنها قدمت خطابها بمحمولات محلية بالدرجة الأساس.

فعلى مدى عقود طويلة من عمر التشكيل العراقي كانت الخطابات تتغير بحسب المرحلة الثقافية والسياسية، فما الذي اختلف في الخطاب التشكيلي العراقي بعد عام 2003؟ وكيف تغيرت بنية اللوحة التشكيلية وتكويناتها؟
فرص العرض
التشكيل العراقي ما يزال؛ والحديث هنا عن أوضاعه داخل العراق، يعيش في حال أقرب ما تكون إلى الرّكود، وضعف المستوى، إلإ في القليل من تجارب بعض فنانيه- حسب ما يرى الفنان هاشم تايه مضيفاً: ما يزال التشكيل يحافظ، بروح صنم، على تياراته الفنيّة التي ورثها من ماضي تجاربه. لم يكفّ عن نزوعه في تقليد ما يتلقاه، من هنا، أو هناك. وهذا الأمر نابع، كما يبدو، من عدم شعور عدد كبير من فنانينا بأهمية مشاريعهم الفنيّة، والإحساس بالمسؤولية إزاء ضرورات تطويرها. ولا ينفصل ذلك عن حالات الإحباط واليأس التي عانى منها معظمهم أيّام الديكتاتوريّة، ودفعت بفنانين يمتلكون تجارب فنيّة مهمّة إلى مغادرة العراق، ما أفقر المشهد التشكيليّ، وأضعف مستوياته. وسواءً اعترفنا، أم لم نعترف بحقيقة أن فاعلية الفن التشكيليّ واغتناءه مرتبطان، للأسف، بضرورة وجود سوق لتداول أعمال الفن، وتوفر فرص لاقتنائها، وذلك مرتبط، قطعاً، بازدهار الحياة العامة، ووجود طبقة متوسطة ميسورة تقدّر الفن، وتقبل على شراء أعماله، ما يشجّع الفنانين على الاحتراف والتنافس وتجويد التجارب. وهذه الحقيقة غائبة في وضعنا الحالي، وآثارها منعكسة في فتور المشهد التشكيليّ، رغم صخب ما يجري حواليه، وفي قلّة المعارض الفنيّة.

ويتحدث تايه عن التشكيل في مدينة البصرة، قائلاً إنها لم تُقدَّم، هذا العام، إلاّ ثلاثة معارض شخصيّة بعضها بمستوى متواضع، ولم يحضرها إلاّ جمهور محدود… مبيناً أن ما أصاب الفن التشكيليّ، داخل العراق، بعد عام 2003 من تطوّر، أو اختلاف عن ماضي تجاربه، ويظنه ما يزال طفيفاً، يمكن مطالعة بعض آثاره في بعض التجارب التي تجاوزت تنفيذ الأعمال بالمواد والخامات التقليديّة المعروفة، وأعادتْ النظر بمفهوم الفن، وطبيعته، وظهر ذلك في تجارب الفن التركيبيّ، والفنّ الجاهز، والفن الفكري (المفاهيمي)، وفنّ الفيديو آرت باعتباره فنّاً بَصَريّاً. ولا ينفصل ذلك، طبعاً، عن معالجة هذه التجارب بعض المواضيع الملتهبة على الساحة العراقيّة السّاخنة، كما لا ينفصل عن اتساع العين العراقيّة، وتوفرها على فرص حقيقية لرؤية شاشة العالم العريضة وما ينطبع عليها من صور ومشاهد، وهو لم يمكن متوفراً لهذه العين قبل عام 2003.
بين الاغتراب والتقنيات
ولأن الفنان يرى ويستشعر ما لا يراه الآخرون، فإنه بالتأكيد يستطيع التعبير عن الهواجس والأفكار الخفية والانطباعات التي قد لا يستطيع البعض التعبير عنها، لذا فإن التعبير عن الفوضى والقبح الذي بدا واضحاً في المشهد التشكيلي العراقي بعد عام 2003، ولأن الحركة التشكيلية والفن التشكيلي في العراق تأثرا بشكل مباشر بتلك الظروف الصعبة وبكل تلك الفوضى شأنه شأن كل مفاصل وأشكال ومظاهر الحياة الأخرى، من وجهة نظر الفنان عمار بن حاتم، الذي يشير إلى أن تدهور الوضع الأمني وحدوث الاقتتال الطائفي وسيطرة الجهات المتشددة والمتطرفة على مفاصل الحياة، أو وقوع بعض المناطق تحت سيطرة وسطوة الجماعات الإرهابية التي تعدّ الفن من المحظورات، حسب فكرها التكفيري، وانحسار عدد القاعات الفنية التي كانت بالعشرات قبل الاحتلال والتي أصبحت تعد على الأصابع وتدهور الحالة المعاشية للفنان وعدم دعم الحكومة للحركة الفنية، وغيرها من الظروف، أدت الى هجرة الكثير من الفنانين إلى خارج العراق.
ويوجز بن حاتم اختلاف الخطاب التشكيلي بأنه كان من ناحية التعبير عن فكرة الاغتراب والحنين إلى الوطن والمقارنة بين صورتين أو فترتين تمثلان الموت والحياة بالنسبة للحضارة وبين انتقاد الواقع وشتم كل ما هو طارئ وقبيح ودخيل على المشهد العراقي مثل، الاحتلال والطائفية والجهل وتدمير الآثار وكل القبح المستشري في جسد الوطن، وقد اختلفت الأساليب أيضاً بانفتاح الحدود والفضاءات واطلاع الفنانين أكثر على تجارب أكبر ساهمت في تطوير مخيلة الفنان وأساليبه وطرق تعبيره.

أما عن التحولات التي طرأت على اللوحة التشكيلية، فبحسب بن حاتم، أن التطور التقني ساهم ببطء في تطور اللوحة أو ولادة أساليب جديدة في العمل الفني إلا بشكل قليل، لكن ما بعد عام 2003 وانفتاح الفضاءات والآفاق ولسهولة التواصل وتقريب المسافات والاطلاع على التجارب ظهرت أعمال فنية جديدة بأساليب حديثة وأفكار جديدة، و»الفن العراقي بدأ الآن باستعادة عافيته، على الرغم من الظروف السيئة التي تحيط بالمشهد التشكيلي بصورة خاصة وبالمشهد العراقي بصورة عامة، وأنه سيعود إلى الواجهة بقوة في يوم ما». مضيفاً أنه ما يمكن إيجازه هو أن الرسم الآن أصبح خجولاً إزاء ما يحدث من قبح، ويجب التعبير عن الفن والجمال بأساليب جديدة توظف الفن بأسلوب فني ذكي يراعي وصول الفكرة إلى المتلقي وبطرق عصرية، من دون إلغاء لقوالب الفن الأساسية ولمدارسه العظيمة التي كبرنا وتتلمذنا على يدي مؤسسيها وروادها.

الفنون العالمية الآن صارت تبحث عن لغة مشتركة لغة جمالية مبسطة يمتزج فيها الكثير من الفنون البصرية وحتى السمعية منها، وهذا ما نبحث عنه الآن، «صرت أرى الآن تجارب عراقية تنافس العالمية، وصرت أتأمل وأطمح أن أرى الفن العراقي يتصدر المشهد الفني العالمي وهذا اليوم باعتقادي ليس ببعيد لإيماني بمقدرة وعمق الفنان العراقي».
فنانون منتحلون
غير أننا لا يمكن أن نعد مقارنةً بين منجز الفن التشكيلي العراقي إبان الثمانينيات والتسعينيات وما أنتجه ذلك الجيل المثابر من خطاب جمالي ومتغيرات شكلية، وبين ما يجري الآن من تسويق لأعمال فنية، سنضع أنفسنا في مقارنة غير عادلة، هذا من وجهة نظر الناقد التشكيلي خضير الزيدي، فقد انحسر الفن الجاد وقضيته، وبدت منظومة الأعمال الفنية، بعد عام 2003 أكثر تردياً، وأعمق انتكاسةً، أمام أنظار المتلقي، الأمر عائد لخلل في بنية المجتمع. وغياب النقد الموضوعي، فانحسار قاعات الفن وغياب الجماعات الفنية مشاريعها التي تمتلك اتجاهاً معرفياً حيال ما تذهب إليه يبدو من الأسباب لو أردنا المقارنة بين «جماعة الأربعة» في منتصف الثمانينيات مع ما يحدث اليوم أيضاً الترويج لأسماء لا تمتلك فهماً للفن عملت عليه الصحافة المقروءة والمجاملات المجانية. لكن الزيدي يشير إلى أن المختلف في الفن التشكيلي بعد كل هذه الأسباب النظر إلى قدسية الفن الذي نشاهده بمعنى أنك لن تجد فناً ملتزماً بمعيارية ومراقبة العلاقة بين الواقع وما يحمله من انكسارات، وبين ما تتلمسه فوق قماشة اللوحة، الأمر الأكثر حساسية هنا غياب قواعد الفن، فثمة حلقة مفقودة في تحقيق نجاح العمل لتحقيق الموازنة، إضافة إلى وجود أشكال ودوال موجودة على السطح التصويري تبدو لنا غير محكمة ودقيقة تتخلى عن ظهـــورها السينميائي حتى في قياسات العمل، هناك انفلات من أشكال مختلفة لا رابط بينها ماذا يعني لنا هذا؟ إنهم هواة والفن التشكيلي لم يكن قضيتهم، ولو كان ذلك لهم لما اكتشفنا أن الغالب منهم مقلدون ولصوص، وهذا ما حدث حينما أشرتُ لبعضهم إنه اللعب غير المنضبط وفقدان المهارة مع الرسم وغياب الوعي الحقيقي لمعطيات الفن التشكيلي.. ومع هذا لا يغيب عنا حضور أسماء فاعلة أنتجت خطابها البصري بمعيارية وتناسق جمالي و»أحب أن الفت أنظارك لما قدمته نادية فليح وعقيل خريف ومجموعة من المبدعين في معرض مشترك غيروا وجهة الرسم، لتكون مساهمة جادة لمفاهيم العمل، لكنني لا أخفيك شعوري أنا محبط حينما أجد الفن الآن في تردي وتشابه وتقارب أساليب».
وجع تشكيلي
وفي جانب آخر، فإن المتأمل للخطاب التشكيلي العراقي المعاصر يقف حائراً أمام ظاهرة غريبة ما انفكت تلاحق روح الفن في العراق بشكل عام والتشكيلي منه على الأخص، وهو ما يصرّح به الباحث محمد عبد الله، موضحاً بأن هذه الظاهرة هي التراجع المخجل لمستوى وفاعلية المؤسسات الثقافية الفاقدة لرؤية واضحة وخطة عمل للعديد من الفعاليات الثقافية من معارض فنية وغيرها من الأنشطة، وفي ظل غياب وتغييب واضح لدورها، سببه التعقيدات والأزمات على المستوى السياسي، ونخب سياسية ليس في أي من حساباتها دور للثقافة والفن في مواجهة واقع مبتلى بالأزمات المتلاحقة، تقابلها روح المبدع العراقي الفاعلة في كل مجالات الثقافة، وحضور بهي ولافت للنظر للفنان التشكيلي العراقي عربياً وعالمياً.

وهو حضور على قدر المسؤولية، حيث وضوح الرؤية والأهداف والمشاركة الفاعلة في إنتاج الخطاب التشكيلي المعاصر والتميز فيه، وهو نابع من قراءة واعية من الفنان العراقي للواقع المعاش بكل أبعاده السياسية والاجتماعية، إذ كان للوجع العراقي الراسخ في الحروب وتركاتها حضوره الطاغي على مجمل نتاجاته، رغم إقامة العديد منهم خارج الوطن مدة طويلة من الزمن. ولم تكن اللوحة العراقية المعاصرة بعيدة عن العالمية في طروحاتها من حيث التعبير عن اغتراب الإنسان المعاصر وتهميشه وسط دوامة العنف والعولمة، وآثار ما بعد الحداثة من تقويض للعقل ومقومات الحضارة وهدم المنظومات الأيديولوجية وإشاعة العدمية واللامعنى.

لقد كان للفنان العراقي حضوره رغم كل الصعاب، أعماله تشعر المتلقي بانتماء الفنان إلى حضارات عريقة وشغف بالحياة، حاملاً الهم العراقي على كاهله متوهجا، رغم حالة العزلة التي نعيشــــها بشقيها المعنوي والمادي، ولتبقى لمسته الأصيلة واضحة متفردة، رغم اختلاف الرؤى والتنوع في الاتجاهات والأساليب الفنية المعاصرة.
تقليد الآخر
وعلى الرغم من اتفاق الكثير على المغايرة في الخطاب التشكيلي، غير أن الكاتب والناقد التشكيلي غسان حسن محمد يؤكد على أنه لم يتغير إلا ببنية ضئيلة على مستوى التجديد فكراً وموضوعاً.. فلم يزل التشكيل العراقي واقعاً ضمن حقل التقليد للآخر، من دون التأسيس والانطلاق والارتقاء بالمحلية إلى العالمية، لذا لم نر أن التشكيل العراقي لامس نبض الشارع العراقي إلا ببعض التجارب المعدودة كتجربة الفنان مؤيد محسن التي حملت همها الأيديولوجي والشعبي، فاكتملت فكراً وموضوعاً وتقانة ومهارة.. ويضيف محمد: بعد عام 1958 شهد العراق تجديداً في المجالات جميعاً، وخصوصاً الثقافية، فظهرت الجماعات الفنية، كجماعة الرواد وجماعة الانطباعيين وجماعة بغداد للفن الحديث.. أما بعد عام 2003 فلم يستقر حال الوطن وإنسانه بسبب الإرهاب والحروب، ما أدى إلى عدم الاستقرار المجتمعي والفكري والإنساني عموماً.

القدس العربي