فيصل سلطان
(لبنان)

لوحة فلافيا"وجوه"، المعرض الجديد لفلافيا قدسي في صالة "اسباس اس دي" (سنتر داغر، جادة شارل حلو، المرفأ) يؤكد من خلال 25 لوحة اكريليك، قدرة هذه الفنانة الشابة على اختراق تيارات الواقعية الجديدة بأسلوبها المتميز في التشخيص. فهي تعيد الاعتبار الى التقاليد الأكاديمية، حين تجمع بين رمزية الجلسات والحالات الإنسانية وخواء الأمكنة، فتنحاز الى الايهامات المقبلة من فن خداع البصر وأسلوب المانييريزم الذي يقوم على المبالغة في إبراز عناصر الرسم والتصوير الكلاسيكي بتكلف متعمد.

الاستلقاء داخل الخواء

تعتمد فلافيا قدسي، رغم كونها فنانة عصامية، على المفاهيم الأكاديمية بأمانة مفرطة. تسجل أدق التفاصيل المحسوسة في جلسات الموديل للوصول الى فضاء الحقائق الحية، كحاضر مستمر. تنطلق من جمالية الإيهام البصري الذي يوحي للمشاهد أنه أمام شيء حقيقي ورائع ومحيّر وغامض ومثير للالتباس بواقعيته الفوتوغرافية. هذا الأسلوب القديم - الحديث، استخدمه جيوتو في عصر النهضة. ويروى عنه انه كان لا يزال تلميذا في محترف شيمابو عندما رسم ذبابة على انف احد الشخصيات مازحا، الى درجة ان أستاذه اعتقد إنها ذبابة حقيقية وأراد إبعادها. وما لبث هذا الأسلوب ان تطور نحو المزيد من إثارة اللبس. فقد قام العديد من الفنانين الكلاسيكيين منذ القرن السادس عشر باختراق المنظور المألوف عبر التركيز على ما سمّي الخيالي، لإظهار الاندماج الحي بين الجسد وفضائه المتخيل، فراجت في تجارب القرن العشرين رسوم الوهم البصري على الجدران كما لو إنها مسرح داخل مسرح.

على هذا الأساس تستعيد فلافيا قدسي تلك الخاصية وتجعل خلفيات لوحاتها ذات مساحات تحمل مواصفات الجدار. انه الحائط بكل ما يكتنفه من خربشات وزيوح عفوية وآثار للزمن من تعرية وتآكل. لكنه يحافظ على أناقته كخلفية مناسبة للوضعيات المتنوعة التي يتخذها الموديل سواء كان رجلا أو امرأة، في حالات الوقوف أو الجلوس أو الاضطجاع أو النوم، كما لو ان الرسامة تُلبس نماذجها ألبسة الوحدة التي تشع منها الذكريات. النظرات ثابتة والوجوه واجمة والشعر يتناثر ويطير في الهواء بينما يخيم على اللوحة سكون الانطواء والخوف والغربة.

سكون الانطواء.
سكون الانطواء.

يغيب الكادر الخارجي في اللوحة فلا يبقى سوى الفراغ الداخلي - الجدار الذي يطبع بوحشته جلسات الموديل. تحاول تركيب موضوعات في فضاء افتراضي قائم على الفراغ والزوايا الحادة والفتحات الداخلية الأفقية (رفوف، خط الأرض ومكعبات)، وهذه العناصر تظهر أيضا في رسمها للطبيعة الجامدة (التفاح، الموز والرمان).
تعتمد فلافيا قدسي على التصوير الفوتوغرافي بعد اختيار عناصرها، ثم ترسم الموديل - الفوتو، وغالبا ما تكون موديلاتها من أصدقائها وصديقاتها. تحاول استنطاق وجوههم وأجسادهم الى أعلى درجات المبالغة، لتبرز توترات عروق اليد وأشكال نتوء العضلات والعظام، تماما كما تتبع حركات ثنايا الأقمشة والتواءاتها، لتُظهر إحساسها بالعمق الوجداني للظلال.
فاللعب على النور جزء لا يتجزأ من لعبة الوهم البصري، ودقة المنظور الذي يدور في فلك البعدين. البعد الحقيقي المنقول فوتوغرافياً والبعد المتخيّل الذي يتم أحياؤه بإحساس قوي وجارف في جنوحه المثمر نحو التضخيم وإبراز عيوب الجسد والحركة المشهدية الممسرحة. تنطلق دائما من نقطة حيوية تثيرها حركة اليدين أو اليد الواحدة، حركة الانطواء على الذات وحركة الالتفاف على الحقائق الجديدة،

سجن أم طبيعة "ميتة"؟!
سجن أم طبيعة "ميتة"؟!

ثم حركة التفاصيل في مناخات الغرابة والألم والتحدي والانعتاق. إذ ان دقة الاشياء المرسومة تجعلنا نكتشف من جديد أهمية أسلوب فلافيا قدسي، التي ترسم من دون دراسة فنية أكاديمية، وهذا ما يعجز الأكاديميون المعاصرون من جيلها على رسمه. تمتلك عينا صادقة وروحا شعرية تتسرب الى عالم الداخل أو ما يسمّى الشيئية الجديدة التي تعكس خواء الفراغ والملل وصدى الأمكنة الرمادية ذات اللمعان الفضي وما تنطوي عليه من خربشات وتوترات.

ثمة تلك النظرة الانتقادية الخفية إزاء غياب القيم الإنسانية. فالكلاب تعوي والأشخاص ينامون أو يجلسون في الخواء كأنهم ضحايا الحروب والعنف والجوع والفراغ واللامبالاة. الممثل إنسان ممسوح الوجه في كهفه المغلق يتشرب الصمت حاملا بيده أقنعة وجوه في حالات الضحك والبكاء والألم، كأنه يدعونا للتفرج على حالات الانسان المجهول في هاوية قدره. إما المرأة الواقفة من الخلف فشبه عارية. ترفع بيديها الستارة التي تغطي الجزء السفلي من جسدها، كأنها تنشرها على المساحة، التي تمتد من ظاهر البارافان الى خلفه.

الستار والبارفان وصمت
الستار والبارفان وصمت الوقوف في عري الجسد

تخاطب فلافيا قدسي الأمكنة الخاوية الآتية من العصور الحجرية الحديثة، كالعيش داخل مربعات صغيرة أو الاستلقاء داخل رفوف شبيهة بغرف السجون. فالقيم اللونية لديها تأتي دائما من الخواء، من الفراغ الرمادي أو البني المحروق أو الأبيض أو الأحمر الناري أو الأصفر، كما لو أنها تتوغل في شتى معاني الحياة، حلوها ومرها، آملة اقتناص الحالة المسرحية للواقع، من خلال لعبة المليء والفارغ. تختار الزوايا الصعبة، الزوايا المريرة التي لا تلامس حركة الجزئيات قدر ما تلامس حركة العواطف، أي إنها تحاول الوصول الى تسجيل وحدة المكان والزمان والحركة في ملامستها لإثارة الأوهام والقيم الفنية.

تنظم الرسامة العناصر وتبالغ في ترتيبها وإبراز أشكالها وأجزائها، لتقطف الهواء العاصف أو الصمت أو الصرخة التي تظل تراوح في شكلانيتها بين ما هو واقعي طبيعي وواقعي متكلف، كما لو أنها تبحث عن وهم ابدي، حين تنظر الى داخل الشيء الى عمق نوافذ الروح. تخترق الظروف المختلفة والجلسات والوقفات الممسرحة التي تكون في الوقت نفسه واقعية وغير واقعية، إنسانية سطحية عادية وغير عادية، تجمعها أمامنا وتصورها كما لو أنها حدث استثنائي على عتبة مسرح اللوحة، حيث السكون هو وقار الرغبات وهو الطاقة الروحانية للهروب من العالم. الجدار والموديل والملابس كلها تعكس الإضاءة الميتافيزيقية الساطعة للبحث عن الحقيقة. صحيح ان هذه الإضاءة ساطعة غير أنها مجهولة الوجهة أحيانا، وهي قوية أو خافتة الى ان تضمحل كالهمس على الجدران. لكن القماش اللامع يتشربها ويطويها.
لوحات فلافيا قدسي متعطشة دوما الى الضوء. الى الوهم بفضاء أرحب وافق أوسع. تؤمن بوجود نور غريب يمكن ان يساعد فجأة في الخروج من الكهوف التقليدية حتى عندما تبدو الأحلام والآمال كأنها ستتحطم الى الأبد.

النهار الثقافي- 12 أكتوبر 2003

قوة الواقع وقوة الداخل

أحمد بزون
(لبنان)

معرض فلافيا
معرض فلافيا قدسي في
(إسباس SD)

لا يمكن إلا أن نرى في معرض فلافيا قدسي مغامرة خطرة وحساسة، إذ هو المعرض الفردي الأول الذي تخوضه، بعد ثلاث جوائز من متحف سرسق على أعمال شاركت بها في معارضه السنوية.

وجه المخاطرة في العرض ان تجمع الفنانة بين التشخيص الواقعي ذي المناحي الكلاسيكية أحيانا وأجواء حداثية تكسر اللوحة المسطحة في وقت واحد ولوحة واحدة. فهي تقدم مجموعة من الأشخاص، تدقق في وجوههم وأجسامهم وأثوابهم، فتصور التفاصيل والملامح، بل تركز على الملامح كونها تنحو بالتشخيص الى تعبيرية قوية وأحيانا محتدمة ومتسلطة وعنيفة.

لا شك في ان الجمع بين مدرستين أو اتجاهين في لوحة واحدة ممكن في هذه المرحلة التي انتهى فيها الصفاء المدرسي، وباتت المدارس كلها مطروحة في الطريق، وعلى الفنان الاستفادة منها، إلا ان الفنانة قدسي، في لوحاتها، لا تداخل أو تقدم تلك <<الخلطة>> الفنية التي يعتمدها العديد من الفنانين، بل تعمد الى استخدام الواقعية التشخيصية الى جانب التجريد مثلا، أي تقدم قامات أشخاصها، بكل جدية النقل عن موديل، وسط مساحة تجريدية تشبه الى حد بعيد مساحات لوحة الجدار أو تجريدات ذاكرة الجدار، وتستبدل أحيانا الأشخاص، في لوحات اصغر، فتضع تفاحا أو موزا أو رمانا وأجاصا أو أي شيء آخر، بتدقيق وتلميع وإجادة تقنية لإصابة تفاصيل الألوان والإضاءة. تضع رسم الفاكهة داخل حجرة تحضر في سطح اللوحة، تلك التي تنفلش على مساحتها حركة ألوان تجريدية.

في مهب الريح

وهي عندما تشخص لا تجمد الصورة أو تحولها الى ما يشبه الصورة الفوتوغرافية، وإنما تأخذها نحو تعبيرية صادمة ومفاجئة ومؤثرة، كأن تقدم فتاة بشعر كثير منفوش، أو أشخاصا بشعر في مهب الريح معرض فلافيا أو رجلا وامرأة ممددين على رفين فوق بعضهما، أو امرأة تحمل سكينا بيدها وملامح العنف على وجهها، أو المرأة نصف عارية خلف البارافان، أو أخرى تجلس حائرة قلقة في ممر ضيق.

تعزل فلافيا قدسي أشخاصها وتجعلهم وسط موج تعبيري حزين، ينتظرون مصيرا مجهولا، وهم قابعون في أماكنهم، كأنهم فيها منذ زمن طويل ومستمرون على هذه الحال الى زمن أطول. تعزل مثلا الامرأة التي تحمل السكين فتظهر من دون ان يظهر المطبخ خلفها، فقط تظهر مساحة ملعوبة بالتجريد الجداري.

العزلة تلك التي تتعمدها الفنانة تبدو شاعرية وسط إيقاع المدى المحيط بها، بل إن إشاعة هذا الجو التجريدي حول واقعية الأشخاص التي تبدو مفرطة أحيانا، تخلي المكان للشخص (أو الكلي في إحدى اللوحات) أو حبة الفاكهة، فتزيد من حضور الشكل الواقعي، وتزيد من سلطته في اللوحة، ومن بروزه ووضوح حركته. على ان استخدام هذا الضد التجريدي يبرز قوة الضد الواقعي على هدي قول الشاعر و<<الضد يظهر حُسنه الضد>>.

حالات إنسانية

معرض فلافيا ونتطلع الى بعض اللوحات فنجد الفنانة مستغرقة جدا في إبراز التفاصيل، الى درجة تقارب فيها أسلوب الواقعية التفوقية، إذ نشاهد في القدم الشرايين والأوردة، من دون ان يكون المعرض مستغرقا في هذا الأسلوب إلا في مساحات ضيقة. وعلى الأرجح ان الفنانة في بعض المساحات تجتهد في إبراز قدرتها التقنية وقوتها في التشريح، وربما نشوتها في إجادة الشبه.

في المعرض نحن أمام حالات إنسانية تطوع فيها الفنانة أشخاصها وموديلاتها لتمثل حالتها هي، أو هي تجعل تعبيرية الوجوه وحركات الأجساد تنطلق من داخل أكثر مما تظهر حالة الأشخاص الخارجية، أو حالة أشخاص خارجين عنها.
تقدم لنا قدسي لوحات تجعل من حجمها الجداري وتعبيريتها القوية المميزة، التي لا تخلو من العنف المنظم والحزن العميق والتقنية اللونية اللافتة، مما يضاعف التأثير في المشاهد، وينبه الى تجربة حاضرة وبارزة.

السفير- 2003/10/11