الرياح البنية: تأثيث ذاكرة النور

عبد الحق ميفراني
(المغرب)

حسن نجمي صدر في طبعة ثانية كتاب الرياح البنية للشاعر حسن نجمي والتشكيلي محمد قاسمي، وهو عمل مشترك، أعادت من خلاله منشورات مرسم تمثل تجربة إبداعية متميزة جعلت الشعر واللوحة أفقهما الفعلي لإعادة تأثيث لحظة الخراب التي خلفتها صدمة الحرب بما هي لحظة مرجعية لفعل الكتابة لغة ومادة .
الطبعة الثانية من الرياح البنية جاءت شبيهة بكراس مفتوح علي تخطيطات حبرية وتخطيطات شعرية، وبين التخطيط الجمالي والأفق الإبداعي يتحاور الشكلان كي يوفقا أثر الخراب الفعلي علي الذات ويشيدا في حوارهما المفتوح علي البياض مجازات السواد بين مجسمات وكائنات هلامية وكينونة القصيدة في التئام التشظي .
نجد بمقدمة الرياح البنية رسالة افتتاحية للشاعر حسن نجمي موجهة للتشكيلي محمد قاسمي الرسالة الموسومة ب شعر يستأنف الحرب الأخرى تحدد إطارا مرجعيا لبنية الصد من خلال الحوار المفتوح بين الشعر والتشكيل، تعيد الذات المبدعة استئناف حربها المجازية. حرب لا تحتاج لدوي المدافع، ولا لصواريخ عابرة للقارات، ولا لخبث الساسة، حرب تتويج القيم الأصيلة والنبيلة. حيث يندس الشاعر بقصيدته الي الحياة، ويخط التشكيلي ما تبقي من بهاء السريرة والجسد لونا ولغة الشكل. كي يقاوم المبدع لحظة العزلة التي يستشعرها، حين تستأنف الحرب القذرة تقعيد منطقها البشع في الإذلال .
ولعل التمسك بالذاكرة الرمزية الخصبة باستعاداتها الدلالية كفيل بمقاومة هذا الخراب الزاحف اتجاه زوايا الضوء، في الرسالة الجوابية للتشكيلي /الرحل الحاضر محمد قاسمي تأكيد لبلاغة قراءة اللحظة/الآنية للحرب، بما هي لحظة عابرة في اتجاه تسييد سلطتها الرمزية، يؤكد الفنان القاسمي"لم أتمكن من إحداث فضاء عازل بيني وبين الحدث"/ص16. لكن ما يدهشنا في الرسالتين معا /العتبة لكتاب الرياح البنية هو هذا التمثل المجازي البليغ للحظة، من خلال خلق حالة استقراء داخلية كل منهما يخلق أداته ونافذته للإطلالة علي الخراب، فالشاعر حسن نجمي يشير لليد المثقلة بوحدتها والنص الشعري عبور تحرري وانعتاق، فيما يؤشر التشكيلي محمد قاسمي علي أن جسده تحول الي عين، بل يؤكد فيما يشبه التصريح: أنا عين"/ص22 .

وبين العين واليد تمتد لغة الحواس الي تخطيط ما روضه الجسد، في لحظة انفجار مدوية تستعير الرؤى كي يحتفي النص واللوحة بالضفة الأخرى للجسد"/ص8. لاحتفاء بالصور، وهي الصور التي سكنت الشاعر وهو يعيد كتابة الخراب عبر نصه المتشظي والذي يحتفي بالألم، هذا رغم الاعتراف والإقرار أن حدث الحرب بحمولته الايديولوجية، والنفسية، والمجازية، قد فاجأ كيان النص، وكيان البياض، وهو ما جعل الشاعر يساءل التشكيلي : ما حال اللون؟ /ص12. وبعيدا عن نقط التقاطع الممكنة بين السياقين، يشير التشكيلي فيما يشبه البوح :

عودت .. وربيت جسدي علي تلقي الأشياء في سخونتها، قتامتها وعنفها /ص16 .

وهو ما يجعل الفنان محمد قاسمي ينجز تخطيطات حبرية كمذكرات سريعة انفعالية لحالة الفتك والدمار هذه التخطيطات الأولية، هي التي تحولت لسلسلة أعمال ذاكرة النور إن تقنيات ورشة الكتابة الحبرية والصباغية هنا تتقاطع في سياقات ما تحدثهما من منجز هو هنا الرياح البنية .
يحتفي نص الشاعر حسن نجمي بالصور (صور الوجوه والملامح والأمكنة التي هناك في الضفة الأخرى لجسده)/ص8. وهذا الاحتفاء الجواني يتشكل وفق حدث الألم العظيم الذي يتشذر رؤى وصيغ تركيبية وخطوطا للكتابة، بينما تخطيطات التشكيلي محمد قاسمي تحولت لسلسلة أعمال كنوع من التحلل وتجاوز الكارثة/ حالة الشك والدمار، لكن يتقاطعان معا في قدرتهما التغلب علي حدث ثقيل بفعل الكتابة :

بالحبر، باللون بالدم سنقاوم الانهيارات القادمة /ص14 .

هذا ليس صوت مفرد، إنه مفرد بصيغة الجمع كإرشاد مباشر وصريح علي قدرة المبدع إعادة ترميم الذاكرة من الخراب، وشحنها بقيم أخري كي يمتد الأفق صريحا محملا بالحياة والأمل لأن الحرب :

تسقط الجسور في النهر
ولا تسقط جسور الكلمات (ص38)

وتصطبغ كلمات النص الشعري بدلالات لونية، في حوار صريح بين الحبر واللون ولغة الدم المؤثث للمشهد :

الأحمر يتسلل من ذاكرتي
والأسود يأتي من السماء المجاورة
الرمادي نبحث عن اسمه /ص96 .

إن الحبر واللون هنا الجدار الواقي للعزلة ، وهما ذاكرة الضوء والنور ليصدا ما يخلفه الخراب علي الروح، وليعيدا تشكيل المكان الذي جاءت الطائرات لمحوه"/ص86، وسواء فعل المحو، أو الخراب أو الدم...جميعهم يشكلون نسق الصورة كما هي في اللحظة، وما تلبت أن تنفجر شظايا لون أو تركيب لغوي، وهنا ملمح سلطة الكتابة بما هي محو لفعل المحو، لكنه محو مصقول بإرادة الصد -ولما لا- فعل المقاومة ضد هذا الانهيار الهائل الذي يزحف علي هذه الذات الحاضرة هنا الآن ..
الرياح البنية عمل إبداعي يمزج ثنايا قصيدة الشاعر حسن نجمي، وتخطيطات صباغية للتشكيلي والمبدع محمد القاسمي، وهي تجربة يخصها الناقد عبدالعزيز بومسهولي بميسم أنها أول عمل تشكيلي شعري متكامل يضحي فيه كل عنصر من العناصر الفنية الإبداعية أساسيا لا يقبل الانفصام أو الخضوع فهناك علاقة حميمية تجمع بين الشعري والتشكيلي"، الفنان محمد القاسمي الذي رحل عنا في وقت كنا لا زلنا نتلمس معه إشراقة نور الذاكرة، إعادة إصدار هذا الكتاب تحية إليه، وإصرار علي حضوره المجازي الدائم، حضور الشاعر الآن، في وقت لا زالت الحرب مستمرة ، فماذا تغير؟
الرياح البنية تستأنف حربها الأخرى كي نندس في ذاكرة النور الذي هيأتها، حتى نقاوم هذا الزمن العربي المريب، في وقت أضعنا فيه حتى بوصلة المسير...يبدو أن كل شيء تغير!! تغير فعلا .

القدس العربي
2006/04/28