أسعد عرابي
(سوريا/باريس)

أنطوني تابييسما هو الجديد في معرض أنطوني تابييس الذي يستقبله حالياً أوتيل دي زار في ليون؟
الجديد هو الفرصة التحليلية المعمق لدراسة نصف قرن من التأثيرات البالغة التي تركها هذا العملاق الإسباني بعد بيكاسو. أي منذ بداية ظهور تجريداته العدمية الموشومة بإشارات الصلب والضرب والتي ترسم إحباطات ما بعد الحرب العالمية الثانية. تجمعت أثمن هذه الدراسات في كراس المعرض الذي رافق التظاهرة (باللغتين الفرنسية والانكليزية). وأعيد مراجعة بعض نصوصه في أبرز المجلات المختصة. هو ما يستحق التوقف لأنه يكشف التحولات الأساسية التي قضت على «التجريد الغنائي» وعلى مركزية باريس.
وهو ما يفسر المواصفات النخبوية التي عنونت مرحلة الثمانينات التي اختص بها المعرض والتي تعتمد على اختلاط المواد والملصقات المتباعدة في مختبر جداري ينحت السطح بدلاً من صباغته.
نكتشف علاقة لوحاته بالحت الكيماوي – السيميائي المستقى من تضاريس رسوم جدران كهوف «التاميرا» الإسبانية. هي التي ترجع الى ما قبل التاريخ والتي كان يتأملها في شبابه.
يقول الفنان نفسه انه عندما يصوّر حفرة في جدار لوحته لا يقلد الحفرة الطبيعية وإنما يستعيد طقوس الخدش السادي، بما يحمله هذا الفعل من تراجيدية «قطلانية» سليلة الألوان الترابية التي بشّر بها بيكاسو وساورا، لم تتجاوز ألوان لوحاته أبداً التراوح بين الأسود والأبيض، الزهري والأحمر، والألوان الكابية للملصقات المعفّرة بالتراب وبرادة الرخام وتفاعلاتها الحرة.
هي ألوان صخور «الفريسكات» الموغرة في القدم، استعار من رسوم الأسلاف الأبدية طريقة توقيعهم ببصمة اليد أو القدم وذلك ببخ الألوان حول شكلها العضوي، ثم استعاض عنها بتوقيع الحرفين الأولين من اسمه وكنيته: «A وT». يندمجان كإشارة عدمية في تكوين اللوحة الى جانب إشارات الإعدام والتشطيب والحز والقلع والإلغاء. تكشف لوحاته فراغاً رحباً مقفراً، لا يخلو من صمت الوحشة.

لا يمسخ تصويره الجسد البشري بطريقة تعبيرية (كما عند بيكاسو ودوبوفي) بل يفضّل لصق البقايا المبتورة من الجسد المعذب، مثل بقايا الدم والشعر أو الأعضاء المتفسخة. هي التي تتحمل ذاكرة الحروب وعذابات القديسين ورفاتهم وضماداتهم التي طواها تصوير العصور الوسطى. من دون أن ننسى تعريجه على الجدران والبوابات الأندلسية المتهالكة. وتوازيه مع الاتجاهات الكونية المتطرفة مثل الـ «آربوفيرا» في روما.
يستنزف تابييس الطاقة المأسوية في خشونة المواد، وفجاجتها الاستفزازية. فعندما يصوّر على الورق يختار مادته ذات الحبيبات المتوحشة البكر بمواصفاتها اللمسية – الحسية. وقد يستبدلها بصفائح النحاس ليحزّها بأظافره، أو بالسكين، أو الأسيد.
لعله الشاهد الأصدق على مصائبية ومومائية عصر ما بعد الحرب الثانية، والعويل المكبوت في اللوحة. بما أنه يتوخى الالتصاق بالزمان الراهن والمكان بطريقة وجودية منسلخة عن الماضي والمستقبل فهو أبعد ما يكون عن أي بُعد أخلاقي أو «ايديولوجي» (بعكس بيكاسو)، ممثلاً بتبشيره «الفن الآخر»، والثورة على ثورة التكعيبية والتجريدية اللونية.

الحياة - 09/01/2007