(تفتح نوافذ الفراق في معرضها الجديد في لندن)

حسام الدين محمد
(لندن)

hala_alkhalifaبمعجزة تشبه فعل الفراشة الخارجة من شرنقة تقوم هلا آل خليفة بتحويل آلام الأحمر وفجيعة الأسود الى أمل من تفاعلات الاكريليك وحرائق الحلاج وقاسم حداد والأجساد التي تحنّ وتذوب شوقا الى فردوس مفقود.

نوافذ الفراق، معرض هلا آل خليفة معرض مبهج عن مواضعات الوحشة والانفصال. لوحات بديعة تتوهج مثل ورود الجوري التي تعانقها الأشواك معلنة الطاقة النورانية الكبيرة للفن التي تقطّر الألم فيتحول اكسيرا.

في احد لوحاتها المعنونة فجيعة نر أجسادا لا تكتمل تفاصيلها تدير ظهورها إلينا متطامنة تحت كرسي مبقع بالدم يغطيها الكلام الذي ينتهي بتحوّله الى خربشات سوداء.

تتكرر هذه الموضوعة في اغلب الأعمال حيث الأجساد المرتمية وحلكة السواد التي تعانق الأحمر بحيث تفيض الألوان الى حواف اللوحة كأنها تريد أن تبقع المشاهدين فتحمّلهم جزء من الوزر أو تسألهم حل لغز التابو الذي يقفل الدائرة فيصبح العرف جاهلية جديدة.

في لوحة بعنوان رائحة الجنة، متوقعين بهذا العنوان الخروج من اللعنة نتموج مع الأزرق وصولا للأخضر لكننا نصطدم مجددا بالأجساد المتراكمة عل بعضها. أجساد خائفة مشوهة متباعدة رغم التصاقها.

وحتى اللجوء للوحدة الصغر للاجتماع في لوحة العائلة مع ألوانها الحارة ولكن الغامضة نصل مجددا الى تضامن أجساد خائفة تخبئ وجوها فيما الكلام يغطي أجسادها ويطفو ليقول ويقول ويقول لعلّ أحدا يسمع! لا أريد الحديث عن قصتي الشخصية تبدأ هلا حديثي معها، هناك حالة تمسنا جميعا كعرب، فكلنا نحمل جزء من هذا الهاجس كبشر نعيش في هذا المجتمع. نحنّ للوطن والعائلة والصداقات والأشخاص ولكن لظروف ما صاروا بعيدين وهذا هو الانفصال الذي أتكلم عنه.

بدأت هلا آل خليفة بتعلم الرسم بعمر 10 سنوات عل يد مدرّسة اسبانية علّمتها لمدة 5 سنوات أصول الرسم الكلاسيكي والتعامل مع الألوان الزيتية الصعبة. شجّع الأهل هلا عل إكمال دراستها الفنية ولم يمانعوا. اخذوا الأمر بكل جدية وهو أمر رائع.

مع تخرج هلا من الثانوية عام 92 أقامت معرضين لصالح أعمال خيرية في البحرين، وفوجئت بتشجيع كبير من الأهل ومن الفنانين الكبار في البحرين.

النقلة من المنامة الى بوسطن، حيث ذهبت للدراسات العليا كانت كبيرة فمن مجتمع تقليدي عربي مسلم الى الوسط الطلابي المنفتح في أمريكا شعرت هلا كأنها وسط مجانين تقول: عالم لم أتعود عليه. كانت تجربة جميلة. لم أكن اعرف التعبير والكلام. فيما كان الوسط الذي وصلت إليه منطلقا ومنفتحا عل أفكار من كل صوب.

عودتها الى البحرين ترافقت مع معرض جديد لها وانضمامها الى هيئة تدريس جامعة البحرين رفقة مدرسي فن وفنانين بحرينيين مثل سامية انجنير واحمد باقر والفنان التشكيلي العراقي رافع الناصري. أعلّق عل ذكر رافع بالقول انه شاخ فتقول: رافع الناصري لا يكبر !

ويبدو أن تأثير الفنانين العراقيين كبير عل هلا فعندما سألتها عن من تحب إضافة الى رافع قالت: ضياء العزاوي He is a king ويبدو أن المحبة الشخصية للفنان عامل كبير في تأثر هلا به فهي تذكر بتول الفكيكي وفريال الأعظمي.ثم تعيد ذكر احمد باقر وسامية انجنير عندها خط مختلف جدا وأعمالها ناتجة عن أشياء شخصية مثلي، وتضيف إليهما عبدالرحيم شريف فنان بحريني كبير. عنده عداوات كثيرة ومثل غيره من الفنانين البعض لا يحب أعماله ولكنني أحبها كثيرا.

ضياء العزاوي كان موجودا في افتتاح المعرض وعلّق عل موضوعة الكرسي الموجودة في أكثر من لوحة عند هلا قائلا أن هذا كرسي السلطة والقيود. أريد أن أراه في لوحة مترين بمترين. ترد هلا عل ذلك في العمل المعاصر كل شخص له تفسيره. بالنسبة لي كانت الفكرة الرئيسية شيئا عاطفيا يمثل المكان والشخص الغائب .

لا يصعب عل متلقي أعمال هلا ملاحظة الرغبة المتفجرة عندها للتعبير فهي تستخدم كل إمكانيات سطح اللوحة من التجسيد الى حدّة الألوان وصولا للكتابة، كأن ما تريد قوله يفيض عن اللوحة أحيانا الى حوافها ويكاد يخرج منها. تقول هلا: البرواز يخنقني، وتتابع بلهجتها البحرينية المحببة الودّ ودّي أن ارسم عل الحائط مباشرة وان اكسر الحدود. تكملة اللوحة عل الأطراف تعطيني سعادة. ودّي امشي يمين وشمال. أود للون أن يتسرب ويفيض.

في الكتابة عل الأجساد تلتجئ هلا الى شاعرين حبيبين إليها: قاسم حداد والحلاج، (كلماتهما تحزّ في نفسي تقول مؤكدة) كما أنها أحيانا تضيف تداعياتها الخاصة في تكرار يشبه التعزيم السحري والطقس التكراري الذي يستعيد الزمن أو الأشخاص الضائعين.

تفسيرها لذلك هو أن لديها رغبة في تغطية الأجساد بالكلام. احد لوحاتها عنوانها كلمات عل جلد، وهي تر أن كل واحد يحمل كلمات مختلفة عن الآخر تغطي. لا أحب أن أرى الأجساد دون نقش أو كلام عليهم .

تجاربها السابقة قدمت أجسادا عارية يغطيها الحجاب فيتسلل النظر الى الداخل. الحجاب ستار من كلمات. كأنني أغطي روحي بالكلمات . لكن هذا يبدو لعبا أمام ما فعلته مرة عندما أحضرت قماش كفن ابيض وكتبت عليه كلماتها وأفكارها. عواطفي وهمومي كلها طلعت عل القماش. لفيت نفسي فيه وأخذت صورا لي بداخله. قسوت عل روحي ثم اكتشفت إنني خرجت منه فقصصت القماش وعملت منه لوحات، وهكذا انتهت التجربة وولدت من جديد .

في شرحها المؤثر لهذه التجربة انتبهت الى طاقة كبيرة في هلا تعطي أعمالها مذاقا خاصا، فكل الغضب والألم والقسوة والبشاعة التي يستشعرها المشاهد للوحات تتحوّل بطريقة ، كمعجزة خروج الحياة من الموت، والجنين من كفنه اللحمي الى أعمال جميلة، فيخرج الحرير من دودة الفجيعة التي تقرض الحياة لكنها لا تستطيع القضاء عليها. تستعذب هلا هذا التعبير وتشرحه قائلة: عندما ارسم لوحة فيها معاناة شخصية عندما أطبقها عل اللوحة فإنني اخفف وطأة الألم واشفّفه. هذا شيء طبيعي فيّ. لم أتعمده فهو أسلوبي. أنا متفائلة . أحاول أن تكون اللوحة شفافة لأستمتع بالعمل ولا اؤذي المتلقي .

لا اعرف كيف كانت أعمال هلا قبل محنتها الأخيرة لأقارنها بمعرضها هذا ولا ادري أن كانت ألوانها بهذه الحدة والقوة وشخصياتها بهذا الحزن والغضب، تذكرت يفاعتي وصباي وغضبي الخاص الذي حفر طريقا في السياسة والأدب. سألت هلا أن كان هناك نوع من النقد السياسي في أعمالها الأخيرة وان كان لهذا علاقة بكونها من العائلة المالكة في البحرين، فقالت: لا علاقة لاسمي بما تقول وأعمالي غير مشغولة بقضايا سياسية. يمكنك أن تعتبرها قضايا اجتماعية أو إنسانية فاغلب الشخوص في لوحاتي من النساء اللواتي هن بشكل أو بآخر وجوه لي.

لمئات من السنين كان الكثيرون من الخيميائيين يحاولون تحويل المعادن الخسيسة الى ذهب دون فائدة. في اعتقادي أن هلا آل خليفة ـ مثل اغلب الفنانين الحقيقيين ـ استطاعت بفنّها وفذاذة علاقتها بالحياة أن تحلّ لغز الخيمياء فتحوّل حديد الألم الى ذهب الفن.

المعرض مستمر حاليا في:
Fiumano Gallery
Connaught Street
London W2 2AY

القدس العربي
21/07/2008


إقرأ أيضاً:-